جواهر الكلام - ج ٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الأخبار (١) الدالة على الاجتزاء بغسل واحد فإنه شامل لما نوى به الخصوصية ، وفيه ـ مع أن هذا الشمول غير مطرد عندهم ، لكونه في الحيض ونحوه معركة للآراء ، وفي غيره من الأغسال المستحبة الظاهر عدم الاجتزاء كما ستسمع ـ أن دعوى الشمول ممنوعة ، لظهور‌ قوله عليه‌السلام : ( أجزأك عنها ) وقوله عليه‌السلام : ( يجزيه لهما غسل واحد ) في قصد الفعل للجميع ، مع تأيده بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لكل امرئ ما نوى » وقوله عليه‌السلام : « لا عمل إلا بنية » و « انما الأعمال بالنيات » ونحو ذلك ، وقد عرفت أن الأصل يقضي بتعدد المسببات ، فمقتضاه حينئذ الخطاب بأغسال متعددة ، فلا بد من التعيين لاشتراك الفعل بين أمور متعددة ، وقولهم لا يجب نية السبب انما هو فيما إذا اتحد ، وأقصى ما دلت عليه الأخبار انما هو الرخصة في الاجتزاء عن هذه الأغسال المتعددة بغسل واحد ، فصار الغسل الواحد يقع حينئذ على وجهين ، مجتزيا به عن الجميع ورافعا للبعض ، فلا بد للمكلف من التعيين في إيقاعه على أحد الوجهين ، فمتى أوقعه لا بقصد لم يقع لأحدهما ، ولو أوقعه لأحدهما لم يقع عن الثاني كما هو واضح ، كل ذا مع أن المتيقن في الخروج عن الأصل السابق انما هو مع قصد الجميع.

والأجود في الاستدلال عليه في خصوص الجنابة بالإجماعين المنقولين في السرائر وجامع المقاصد ، وربما يظهر من غيرهما ، وما يشعر به‌ مرسل جميل المتقدم (٢) عن أحدهما عليهما‌السلام « إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كل غسل يلزمه في ذلك اليوم » وقد يستدل بما دل (٣) على ان غسل الجنابة لا وضوء معه ، وذلك لأنه لا معنى للقول بان هذا الغسل لا يجزي عن الجنابة ، بل قد يقال : انه مخالف للإجماع ، إذ هو حدث مخاطب برفعه ، وهو يقتضي إمكانه مع أن الأمر بالاغتسال للجنابة شامل له فيقتضي الاجزاء ، وقد دلت الأدلة على ان غسل الجنابة متى تحقق لا وضوء معه ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب الجنابة.

١٢١

فهو يقتضي رفع الحدث الأصغر حينئذ ، وهو لا يمكن مع بقاء الأكبر لدخوله في ضمنه حينئذ ، فلا بد من القول بارتفاعه حينئذ تحقيقا لما دل على ذلك ، ودعوى إيجاب غسل الجنابة مؤخرا عن سائر الأغسال التزام بما لا يلتزم ، واحتمال القول بإمكان انفكاك الأصغر عن الأكبر كما يقتضيه الوضوء للحائض وغيرها مقدما على الغسل يمكن دفعه بان يقال : إن جواز تقديمه لا يقضي برفعه الأصغر ، إذ قد يكون رفعه ذلك موقوفا على حصول الغسل وإن لم يكن للغسل مدخلية في رفع الأصغر ، بل هو رافع للمانع الذي هو الحدث الأكبر وبعد رفعه يعمل المقتضي حينئذ أثره والتزام مثله في المقام بعيد عما دل على إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء ، فتأمل. فظهر لك أن القول بارتفاع الجميع فيما نوى الجنابة لا يخلو من قوة ، ولعله لما ذكرنا من الوجه الأخير لا يفرق حينئذ بين ما لم ينو عدم رفع الباقي أو نوى العدم ، ولولاه لكان الفرق متجها ، لعدم ظهور الإجماعين المتقدمين والرواية في الشمول له ، فتأمل.

أما لو نوى غيره من الحيض أو المس فالأظهر عدم الاجتزاء عن غيره كما صرح به في السرائر ، ونقله في كشف اللثام عن الشرائع واللمعة ، ومحتمل عبارتي المبسوط والجامع ، قلت : ويظهر من السرائر دعوى الإجماع عليه ، وجزم به العلامة في القواعد مع عدم ضم الوضوء ، واستشكل به معه ، وقال المصنف في المعتبر : « وإن نوت الحيض خاصة فعلى تردد ، أشبهه الاجزاء ، وفي إيجاب الوضوء معه تردد ، أشبهه أنه لا يجب » وكيف كان فهنا أمران الأول ارتفاع حدث الحيض نفسه ، والثاني إجزاؤه عن غيره ، أما الأول فربما ظهر من بعضهم عدمه ، واستشكل فيه العلامة في التذكرة ، قال ما نصه : « فان نوت الجنابة أجزأ عنهما ، وإن نوت الحيض فإشكال ينشأ من عدم ارتفاعه مع بقاء الجنابة لعدم نيتها ، ومن أنها طهارة قرنها الاستباحة ، فإن صحت فالأقرب وجوب الوضوء ، وحينئذ فالأقرب رفع حدث الجنابة لوجود المساوي في الرفع » انتهى.

١٢٢

قلت : الظاهر حصول رفع الحدث المنوي به ، وذلك لشمول ما دل على وجوبه للمقام ، وإيجابه يقضي بإمكانه ، وامتثاله يقتضي إجزاءه ، ول‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لكل امرئ ما نوى » ، و « إنما الأعمال بالنيات » وما ذكره العلامة من انه لا يرتفع مع بقاء الجنابة محل منع ، إذ هي أسباب لمسببات مستقلة ، واجتزاء الشارع بغسل واحد لها لا يقضي بتلازمها ، وعلى تقديره فليرتكب رفع الجميع حينئذ أولى ، ولعل وجه عدم الاجتزاء به عنه الأخبار الآمرة بجعله غسلا واحدا فلا يجوز التعدد ، وقضية ذلك في الفرض ، إما البطلان فيهما أو رفع الجميع لا سبيل للثاني ، لعدم ظهور دخول هذا الفرد أي المقتصر فيه على نية الحيض خاصة في مدلولها ، مع معارضتها حينئذ بغيرها ، كما تقدم سابقا فيما لو نوى الجنابة ، فتعين البطلان حينئذ ، وفيه أنه لا جابر للأخبار في خصوص ذلك ، وكون الأمر المذكور ليس بصيغته بل هو بالجملة الخبرية ، وإرادة الوجوب منها هنا محل منع لورودها في مقام تخيل المنع ، والتعبير بالأخبار الأخر بلفظ يجزي ونحوه المشعر بعدم التعيين ، كل ذا مع انه قضية الأصل السابق القاضي بكون التداخل رخصة لا عزيمة ومن ذلك كله ظهر لك الأمر الثاني ، وان الأصح فيه عدم الاجزاء مطلقا ، سواء ضم الوضوء أو لم يضم ، لما عرفته سابقا فيما لو كان المنوي الجنابة وما استجودناه في الاستدلال هناك من الإجماع المدعى سابقا والاستغناء عن الوضوء ونحو ذلك لا يتأتى هنا ، إذ ربما ادعي الإجماع هنا على العكس ، كما أنه لا يستغنى به عن الوضوء على الأصح ، نعم يمكن الاستدلال بما ذكرناه أخيرا هناك بناء على ما نقل عن المرتضى رحمه‌الله من ان غير الجنابة كالجنابة في الاستغناء عن الوضوء ، وما يقال : بأنه لو لم يكتف بغسل الحيض عن الجنابة مثلا عند اجتماعهما لم يكن لوجوب غسل الحيض فائدة أصلا ، وكان وجوده كعدمه وهو باطل ، وذلك لأن وجوب الغسلين إما بمعنى جمعهما معا أو التخيير بينهما على أن يجزي كل منهما عن الآخر أو المعتبر إجزاء أحدهما خاصة دون العكس ، والأول معلوم البطلان والثاني المطلوب ، والفرض بطلانه فتعين‌

١٢٣

الثالث ، وحينئذ فلا يكون لوجوب ذلك الآخر فائدة ، لأنه لو أتى به لم يكن مجزيا ولو أتى بغيره أجزأه عنه ، وربما قرر هذا الدليل بوجوه أخر فيه من الفساد مالا يخفى ، فان الاجتزاء به عن نفسه يكفي في فائدته ، وإجزاء غيره عنه لا يسقط ذلك ، على أن وجوبه ليس منحصرا مع الجنابة.

وذكر بعضهم في المقام أدلة واهية لا طائل في التعرض لها ، منها ما ذكر في توجيه كلام العلامة من القول بالارتفاع مع ضم الوضوء وعدمه مع العدم بأنه على تقدير الضم يكون مساويا لغسل الجنابة بخلافه مع العدم ، وفيه ان التحقيق ان الوضوء انما هو لرفع الأصغر ، فكيف يتصور فيه رفع حدث الجنابة ، وأيضا بعد فرض أن حدث الجنابة لم يرتفع بالغسل فالوضوء بمجرده لا يصلح لذلك قطعا ، وما يقال : ان الأدلة دلت على أن غسل الحيض مثلا مع الوضوء كاف في استباحة الصلاة فيه انها ظاهرة فيما لو كان المانع الحيض ، نعم ربما يتم لو قلنا ان غسل الحيض والوضوء معا رافعان للحدث أصغر وأكبر لا على التوزيع أمكن القول بالاجتزاء حينئذ ، فتأمل.

القسم الثاني (١) ان لا يكون معها جنابة ، فإن نوى الجميع أو الحدث أو الاستباحة ارتفع الجميع ، وفي نية القربة ما تقدم ولو نوى أحدها اختص به على التحقيق ، خلافا لما يظهر من بعضهم ، ويظهر لك الوجه في جميع ذلك من التأمل فيما تقدم ، ومقتضى إطلاق النص والفتوى عدم الفرق بين غسل الاستحاضة وغيرها في جميع ما تقدم من غير فرق بين غسلها للانقطاع والبرء إن أوجبناه وبين غسلها لاستباحة الصلاة ، واحتمال الفرق في الثاني لو جامع الجنابة مثلا لمكان بقاء الحدث فهو مبيح لا رافع بخلاف غسل الجنابة ضعيف ، وذلك لإمكان نية الاستباحة الجامعة لها مع أنه لا مانع من نيته رافعا مبيحا ، وأيضا فالإباحة رفع في الحقيقة عند التأمل وإن لم يكن عاما ، كل ذلك لإطلاق‌

__________________

(١) أي الثاني من القسم الأول لأنه قدس‌سره قال : ( أما الأول : فلا يخلو إما أن تكون معها جنابة أولا ).

١٢٤

الأدلة ، نعم قد يقال : بعدم الاكتفاء لو كان المنوي رفع الحدث مثلا ، فتأمل.

القسم الثاني أن تكون كلها مستحبة ، فقيل لا يجزي غسل واحد عنها مطلقا ، وقيل يجزي مطلقا وقيل بالجزاء مع نية الجميع ، أما لو اقتصر على نية البعض فلا يجزي عن غير المنوي ، ولو اقتصر على نية القربة من دون تعيين للسبب كلا أو بعضا فلا يجزي عن شي‌ء منها ، وربما فصل بعضهم بانضمام الواجب معها وعدمه ، فحكم بالتداخل في الأول بخلاف الثاني.

حجة الأول الأصل أي الظاهر المستفاد من تعدد الأوامر بالغسل ، وفيه أنه يجب الخروج عنه بما هو أقوى منه من الأخبار المعتبرة التي ستسمعها ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لكل امرئ ما نوى ، وإنما الأعمال بالنيات » ونحوها ، وأن الإطاعة والامتثال لا يحصلان إلا بقصدهما ، مع أن نية التعيين لا إشكال في شرطيتها وفي توقف الامتثال عليها ، وفيه ان جميع ذلك متجه مع عدم نية الجميع ، وأما معها فلا بل قد يكون بعض ما ذكر من أخبار النية شاهدا.

حجة الثاني صدق الامتثال وهو مبني على أصالة التداخل ، وقد عرفت ما فيه ، والأخبار ( منها ) ما رواه‌ الكليني في الحسن كالصحيح (١) عن زرارة قال عليه‌السلام : « إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والحجامة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة ، فإذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأ عنك غسل واحد ، قال : ثم قال : وكذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها » وعن الشيخ روايته في التهذيب مسندا عن أحدهما عليهما‌السلام ، ورواه ابن إدريس من كتاب حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : وكتاب حريز أصل معتمد معمول عليه ، ورواه الشيخ في الخلاف أيضا عن زرارة عن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

١٢٥

أحدهما عليهما‌السلام وفي رواية الشيخ وابن إدريس والجمعة بدل الحجامة ولعله الصواب ، وبذلك ظهر لك انه لا وجه للطعن في الرواية من جهة الإضمار ، على أن الظاهر أنه ليس قادحا سيما إذا وقع من مثل زرارة الذي عرف أنه لم يرو إلا عن الامام عليه‌السلام وأنه من أصحاب الإجماع ، وأيضا قد صرح الكليني في أول كتابه ان جميع ما فيه من الروايات الصادرة عن الصادقين عليهم‌السلام وبظهور إرادة التمثيل من الرواية ، وعدم القول بالفصل يتم الاستدلال ، وما يقال ـ : انه قد دلت على حكم المستحب حيث يكون معه واجب ، مع ظهور لفظ عليك والاجزاء في الواجب ـ فيه أنه لا يخفى أن ذكر الجنابة والحيض لا يراد منه الشرطية ، بل المقصود لو كان عليك ذلك فهو كذكر غيره ولفظ عليك والاجزاء لو سلمنا ظهورهما في ذلك لكن لا يراد منهما هنا ، لتعداد المستحب في صدرها كما هو واضح. و ( منها ) مرسلة جميل (١) عن أحدهما عليهما‌السلام أنه قال : « إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كل غسل يلزمه في ذلك اليوم » وعن الحدائق أن مثلها رواية‌ عثمان بن يزيد عن الصادق عليه‌السلام (٢) قال : « ان اغتسل بعد الفجر كفاه غسله إلى الليل في كل موضع يجب فيه الغسل ، ومن اغتسل ليلا كفاه غسله إلى طلوع الفجر » قال : « واستظهر بعض مشايخنا المتأخرين ان عثمان بن يزيد تصحيف عمر بن يزيد بقرينة رواية عذافر عنه » انتهى.

وقد يستدل عليه أيضا بالتعليل المتقدم في‌ خبر زرارة (٣) « بأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة » قلت : والاستدلال بجميع ذلك على الإطلاق محل منع ، وذلك أما الرواية الأولى فالمتيقن منها مع قصد الجميع كما ذكرناه في تداخل الواجبة بقرينة قوله عليه‌السلام : ( أجزأها ) وقوله عليه‌السلام : ( يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها )

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الإحرام ـ حديث ٤ من كتاب الحج.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١.

١٢٦

الى آخره. ولو سلمنا عدم ظهوره فهو معارض بما دل على أن ( الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ) وبأن نية التعيين يتوقف عليها صدق الامتثال ، وبأن الامتثال متوقف على قصده : وأيضا لو أخذ بهذا الإطلاق لكان التداخل فيها عزيمة لا رخصة ، وهو مخالف لظاهر‌ قوله عليه‌السلام : ( أجزأك ) ونحوه وما يقال ـ : ان الأغسال المندوبة كالوضوءات المندوبة ، فإن الوضوء بقصد غاية من الغايات مجز بالنسبة إلى غيرها فكذلك الغسل المندوبي أيضا ـ فيه أما أولا فإنه قياس ، وثانيا فالفارق موجود ، وذلك لكون المطلوب هناك شي‌ء واحد ، وهو رفع الحدث الأصغر ، فبعد فرض رفعه بقصد غاية من الغايات يجتزى به ، لعدم تصور رفعه مرة أخرى ، وأيضا فالتحقيق أن من توضأ بقصد غاية من الغايات لم يصدق عليه امتثال الأمر بالنسبة إلى غيرها ، نعم لو وقع غيرها مقارنا لذلك الوضوء أعطي ثواب إيقاع تلك الغاية على طهارة ، مثلا من توضأ بقصد قراءة القرآن ولم يخطر بباله دخول المساجد مثلا بل لم يعلم باستحباب الوضوء لها فإنه لا يعد ممتثلا بالنسبة للأمر بهذا الوضوء لهذه الغاية ، لكن لو دخله متطهرا أعطي ثواب ذلك ، لما يفهم من الأدلة من استحباب دخوله على هذا الحال وإن لم يكن بقصد الفعل له.

ثم ان ذلك كله ارتكب في مثل الوضوء لظواهر الأدلة فلا يتسرى إلى غيرها ، فما يقال ـ : ان المستحب مثلا انما هو الزيارة على غسل سواء كان ذلك الغسل لها أو لغيرها ـ لا يصغي إليه ، إذ ليس في الأدلة ما يقتضيه ، ومجرد إمكانه لا يصلح محققا لثبوته ، على أنك قد عرفت انه خروج عن محل النزاع ، ومثله ما يقال : ان المقصود من الغسل التنظيف ، وهو حاصل على كل حال ، فيكون كرفع الحدث في الوضوء وذلك لعدم ثبوته ، وعلى تقديره فهو حكمة لا يخالف لأجلها ظواهر الأدلة.

وأما مرسلة جميل فهي لا جابر لسندها في خصوص المقام ، بل الشهرة المركبة الحاصلة من نفي التداخل رأسا ، واشتراطه بنية الجميع على خلافها ، مع إشعارها‌

١٢٧

بكون الغسل للجنابة ، وظهور قوله عليه‌السلام : ( يلزمه في ذلك اليوم ) في كون المجزي عنه انما هو الواجب ، وما يقال : انه لا معنى لذلك ، لكون الأغسال الواجبة مسببات لأسباب خاصة ، ولا معنى لتقديم المسبب على السبب ، وقوله عليه‌السلام : ( يلزم ) ظاهر في التجدد ، فلا بد من حمله حينئذ على الأغسال المندوبة ، فيجتزى حينئذ بالغسل بعد طلوع الفجر عن كل ما يستحب له الغسل في ذلك اليوم وإن تجدد. وفيه ـ مع أنه أيضا يلزم منه تقديم المسبب على السبب حينئذ ـ أنه ليس أولى من جعل ذلك قرينة على إرادة الماضي من قوله عليه‌السلام : ( يلزمه في ذلك اليوم ) بل يؤيده قوله عليه‌السلام في الخبر المتقدم : ( إذا اجتمعت ) إلى آخره ، لظهورها في شرطية الاجتزاء بالاجتماع ، وهو دال بمفهومه على العدم مع عدم الاجتماع ، وهو ينافي الاجتزاء عن متجدد السبب فيها ، ومن هنا استدل بها العلامة على تداخل الأغسال الواجبة لظهور قوله عليه‌السلام : ( يلزمه ) فيه ، ومما ذكرنا يظهر لك انا وإن قلنا بالاجتزاء بغسل واحد عن الجميع مع نية ذلك إلا أنه لا بد من الاجتماع ، فلا نجتزي بالنسبة إلى المتجدد وإن نوى الاغتسال عن كل ما يستحب له الغسل في هذا اليوم من الحاضر والمتجدد. ثم انه إن سلمنا كون الرواية المذكورة في الأغسال المستحبة فمقتضى الجمع ـ بينها وبين‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) وما دل على شرطية التعيين وقصدية الامتثال ونحو ذلك ـ حملها على إرادة نية الجميع.

وأما رواية عثمان بن يزيد فهي مع الغض عن سندها يجري فيها كثير مما تقدم ، لكنها أظهر من سابقتها في إرادة الأغسال المستحبة ، كما هو مقتضى قوله عليه‌السلام فيها : ( إلى الليل ) و ( إلى طلوع الفجر ) ويحمل قوله عليه‌السلام : ( يجب ) على إرادة الثبوت ، فلا ينافي إرادة المستحب ، لكن الظاهر إرادة الماضوية ، فلا تفيد بالنسبة للمتجدد كما عرفت ، ومما ذكرنا يظهر لك ما في الاستناد إلى التعليل المتقدم ، فلا مانع‌

١٢٨

من أن يراد به ذلك أيضا ، وإذ قد عرفت بطلان القول بعدم التداخل مطلقا والقول به مطلقا كان المتعين التفصيل لكن بشرط اجتماعها دون المتجدد منها ، نعم قد يقال : انه لا يشترط نية الجميع تفصيلا ، بل يكفي النية الإجمالية في الجملة.

القسم الثالث أن يكون بعضها واجبا وبعضها مستحبا ، والأقوى الاجتزاء فيه أيضا بغسل واحد مع نية الجميع ، فهنا مقامات الأول التداخل مع الفرض المذكور ، وبه صرح المصنف في المعتبر ، ووافقه جملة من متأخري المتأخرين ، وفي ظاهر القواعد والإرشاد وصريح جامع المقاصد كما عن صريح التذكرة عدم التداخل ، لنا الإجماع المنقول في الخلاف على الاجتزاء بغسل واحد للجنابة والجمعة مع نيتهما ، وحسنة زرارة المتقدمة ومرسلة جميل وعثمان بن يزيد المتقدمة في وجه ، وهو حمل الوجوب واللزوم فيهما على ما يشمل الواجب والمستحب ، لكن فيه إشكال في خصوص خبر عثمان بن يزيد والتعليل المتقدم ( بأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة ) فما يقال : من أنه لا دليل على التداخل وليست كالأغسال الواجبة ، لأن المطلوب بها الرفع أو الاستباحة وهو أمر واحد ، بخلاف هذه ـ فيه مالا يخفى ، كالقول بأنهما مختلفان بالوجوب والندب ، وهما متضادان لا يجتمعان في محل واحد ، والشيعة متفقون على عدمه كالواجب والمحرم وإن اختلفت الجهة ، وذلك لما تقدم لك في أول البحث أن التحقيق أن المراد بالتداخل هنا انما هو الاجتزاء بفعل واحد عن الفعلين ، وليس هذا الفرد الموجود في الخارج الذي تحقق به الاجتزاء مصداقا للكليين حتى يلزم ما سمعت ، بل هو أمر خارج عنهما ، فهو من قبيل فرد لكلي آخر ، قال الشارع : اني أجتزي به عن الواجب والمندوب ، لكن لما كان مشابها في الصورة سمي بالتداخل ، وإلا فهو ليس غسل جنابة وغسل جمعة ليرد ذلك.

فان قلت : إنا نسأل عن هذا الغسل الموجود في الخارج أهو مستحب أم واجب أو مستحب وواجب ، قلت : هو حيث يقوم مقام الأغسال الواجبة ، فهو أحد فردي الواجب المخير بمعنى أن المكلف مخير بين أن يأتي بالفعلين أو بالفعل الواحد المجزي عنهما‌

١٢٩

وحيث يقوم عن الواجب والمندوب فهو مندوب محضا ، لأنه يجوز تركه لا إلى بدل ، وذلك لأنه بدله الواجب والمستحب جميعا ، ويجوز للمكلف الاقتصار على الواجب فقط ، وهو ليس بدلا عنه ، فكان يجوز تركه لا إلى بدل ، فلا يكون واجبا فينوي حينئذ بناء على اشتراط نية الوجه الندب فيه مع نية الاجتزاء به عن الجميع الواجب والندب وعلى عدم الاشتراط ينوي القربة مع نية الاجتزاء به عن الجميع ، لا يقال : انهم صرحوا بأن الندب لا يجزي عن الواجب ، بل لا يجوز أن يرد فيه دليل ، وذلك لأن الأحكام الشرعية عندنا معلومة لمصالح واقعية ، ولا ريب في تباين المصلحتين ، لأنا نقول : لا مانع من اشتمال الندب على مصلحة الواجب لكن وجد المانع من اقتضائها الوجوب ، ووجود المانع لا ينقضها ، بل هي باقية على حالها ، ويكشف عن ذلك الدليل ، نعم بعد فرض عدم الدليل عليه لا نقول به ، لعدم علمنا كيفية مصلحة الندب ، كما يشير إلى ذلك‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك » وغيره فتأمل.

وأما ما ينقل عن بعضهم ـ من دفع هذا الاشكال بعدم وجوب نية الوجه ـ ففيه مالا يخفى إذ ليس الإشكال في النية انما هو في الاجتماع في الشخصي الخارجي ، وهذا لا يرفعه ، ويظهر من بعضهم دفع هذا الإشكال بأن المراد بتداخل الواجب والمستحب تأدي إحدى الوظيفتين بفعل الأخرى ، كما تؤدى صلاة التحية بقضاء الفريضة وصوم الأيام المسنونة بقضاء الواجب ونحو ذلك ، لظهور تعلق الغرض بمجرد الماهية على أي وجه اتفق ، فيكون المقصود من غسل الجمعة مثلا غسل هذه الأعضاء على الوجه المعتبر في هذا اليوم وإن تحقق في ضمن الواجب مثل غسل الجنابة وغيره ، فلا يرد أن ذلك ممتنع لتضاد وجهي الوجوب والندب ، إذ الواقع انما هو الغسل الواجب خاصة لكن الوظيفة المسنونة تأدت به لصدق الامتثال ، ولما سمعت من الأخبار ، بل عن بعضهم التصريح أنه تحصل الوظيفة وإن لم يقصدها ، ولا مانع من إعطاء الثواب بذلك ، وله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب السواك ـ حديث ٤.

١٣٠

نظائر. وفيه أن ما ذكره ممكن في ذاته لكنه ان أراد أن ذلك مقتضى الأصل والظاهر في كل ما اجتمعت فيه الأسباب الشرعية حتى يدل الدليل على خلافه كما يقضي به تعليله بصدق الامتثال ، بل عن بعضهم التصريح به ، وبأن قولهم الأصل تعدد المسببات بتعدد الأسباب كلام خال عن التحصيل. ففيه أنه مخالف لما يظهر من كلام الأصحاب في جميع أبواب العبادات والمعاملات من البناء على تعدد المسببات بتعدد الأسباب ، وادعى بعضهم الاتفاق عليه وهو كذلك ، وكان هو المتمسك لهم في كثير من المقامات ، بل يرسلونه إرسال المسلمات ، ولم يخرجوا عنه إلا بدليل ، بل قد يطرحون في معارضته النصوص ويتركون الظواهر كما نقل عن بعضهم من إنكار التداخل في الأغسال ، مع ما سمعت من ورود الروايات ، ومخالف لما يقضي به الاستقراء في جميع أبواب الفقه من الصلاة والزكاة والحج والصيام والأيمان والنذور والديون والحدود وغيرها عدا النزر القليل المستند إلى ما جاء فيه من الدليل على اختلاف في كثير من أفراده ، ومخالف لما هو المتبادر من الاختصاص المقتضي للتعدد ، فان المفهوم من‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « إذا تكلمت في الصلاة فاسجد سجدتي السهو » أن السجود لخصوص التكلم ، وقوله عليه‌السلام : « إذا شككت بين الأربع والخمس فاسجد سجدتي السهو » أن يجب عليه سجود آخر للشك ، وإن شئت فاستوضح ذلك بمثل ما إذا قيل ان جاءك زيد فأعطه درهما ، وان سعى لك في حاجة فأعطه درهما وقد جاءك وسعى في حاجتك فإنك لا تشك في أنه يستحق بذلك درهمين ، أحدهما بمجيئه والآخر بسعيه كما هو واضح ، واستوضح في الجعالات ونحوها ، وأيضا لا إشكال في اقتضاء هذه الأسباب مسبباتها عند الافتراق فكذا عند الاجتماع لأن الدليل الدال على سببيتها متحد الدلالة ، إذ هو بعبارة واحدة شاملة للحالين ، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة عليه التي يطول الكلام بذكرها.

فان قلت : ان نية الضمائم الراجحة التي صرح الأصحاب بعدم منافاتها للعبادة‌

__________________

(١) المستدرك الباب ـ ٤ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة من كتاب الصلاة.

١٣١

كلها من هذا القبيل ، قلت : لو سلمنا لقلنا انه موقوف على الدليل أيضا ، ومقصود الأصحاب بصحتها هناك انما هو عدم منافاتها للقربة ، فلا يفسد العبادة ضمها من هذه الحيثية لا أن المقصود جواز ضمها على كل حال ، مثلا لو ضم إلى نية التقرب في الصوم الواجب إصلاح بدنه مثلا أو كسر شهوته أو نحو ذلك كان لا بأس به ، لأنه بعد أن علم أن قصد إصلاح البدن أو كسر الشهوة يتحقق على أي حال كان في الواجب وغيره جاز مثل ذلك فتأمل ، وإن أراد أن ذلك لمكان الأدلة في المقام الدالة على الاجتزاء بغسل واحد ففيه ان قصارى ما يستفاد منها الاجتزاء بغسل واحد للجميع وهو أعم من ذلك ، ومما ذكرنا سابقا بل ظاهر قوله عليه‌السلام : ( حقوق ) خلافه ، كظهور قوله عليه‌السلام ( أجزأها ) في أن ذلك رخصة ، فيفيد بقاء التعدد حينئذ ، لا يقال : ان حمل الدليل على ذلك أولى مما ذكرت ، لما فيه من بقاء الامتثال وصدق الإطاعة لتلك الأوامر ونحوها ، فإنه على ما ذكرت من المراد بالتداخل ليس فيه امتثالا لتلك الأوامر لأنا نقول : ان في كلام الأمرين مخالفة للظاهر ، أما على ما ذكرنا فلعدم تحقق الامتثال لتلك الأوامر ، ولظهور الأوامر في المطلوب العيني دون التخييري ، وأما على ما ذكره الخصم فلمخالفته لظهور التعدد المستفاد منها الذي قد عرفت أنه مجمع عليه في سائر المقامات ، ولا ريب أن مراعاة هذا الظهور أولى ، بل في الحقيقة الظهور الأول يستفاد حيث لا دليل ، لا انه مفهوم لفظ بحيث يعارض الدليل بخلاف ما ذكرنا ، وأيضا قد عرفت أن ما دل على التداخل ظاهر في التعدد هنا ، وان ذلك رخصة فيجب حينئذ الاقتصار على هذا المقدار والبقاء على مقتضاه في غيره هذا. وفي الذكرى في المقام أي فيما لو اجتمع الواجب والندب يشكل من حيث تضاد وجهي الوجوب والندب إن نواهما معا ، ووقوع عمل بغير نية ان لم ينوهما ، إلا أن يقال : نية الوجوب تستلزم نية الندب لاشتراكهما في ترجيح الفعل ، ولا يضر اعتقاد منع الترك ، بل هو مؤكد للغاية كالصلاة على جنازتي بالغ وصبي لدون ست ، بل الصلاة الواجبة.

١٣٢

ويقرب منه ما عن الشهيد الثاني قال بعد أن نقل عن جماعة من الأصحاب الاجتزاء مع نية الجميع : « ولا يخلو من إشكال لتضاد الوجه واعتبار نية السبب ، ويمكن سقوط اعتبار نية السبب هنا ودخوله تحت الوجوب ، كما في الأذكار المندوبة خلال الصلاة الواجبة والصلاة على جنازتي من زاد على الست ونقص عنها » انتهى. وفيه أن دخول العبادة المستقلة المندوبة تحت عبادة أخرى مستقلة أيضا منويا فيها الوجوب ممنوع أشد المنع ، وإن استندا في ذلك إلى الدليل رجع حينئذ إلى الإسقاط ، كما أن ما ذكر من المثال بالأذكار المندوبة خلال الصلاة الواجبة قياس مع الفارق ، أما أولا فلكون ذلك من الأجزاء لا من العبادات المستقلة ، وأما ثانيا فلأنه قد يدعى ان الفرد المشتمل على الأذكار المندوبة من جملة أفراد الواجب المخير بالنسبة إليها ، وإن جاز ترك المندوب فإنه انتقال إلى فرد آخر ، فلا ينافيه نية الوجوب حينئذ ، وأما ما ذكر من المثال بالصلاة على الجنازتين ففيه أنه إن لم يدل دليل عليه محل للإشكال أيضا ، ودعوى الدخول فيه ممنوعة ، كمنع ما ذكره الأول من أنه لا يضر اعتقاد منع الترك لأنه مؤكد ، إذ كيف لا يقدح مع كونه فصلا مميزا للفعل عن جائز الترك ، فتأمل جيدا وفي الذخيرة في دفع الاشكال ما هذا لفظه : « الأقرب أن يقال لما دل الدليل على إجزاء غسل واحد عنهما يلزم أن يقال إحدى الوظيفتين تتأتى بالأخرى بمعنى أنه يحصل له ثوابها وإن لم يكن من أفرادها حقيقة ، كما تتأدى صلاة التحية بالفريضة والصوم المستحب بالقضاء ، أو يقال : ما دل على استحباب غسل الجمعة مختص بصورة لا يحصل سبب الوجوب ، والمراد من كونه مستحبا أنه مستحب من حيث كونه غسل الجمعة مع قطع النظر عن طريان العارض المقتضي للوجوب » انتهى. وفيه أن ما ذكره أولا مخالف لمراد أصحابه ، لتصريحهم بكونه من أفراده ، وأن المراد بغسل الجمعة جريان الماء على الأعضاء قربة وإن كان في ضمن الواجب.

ثم انه مع نيتهما معا كما هو الفرض تأدية إحداهما بالأخرى إن كانت مخصوصة‌

١٣٣

فهو ترجيح بلا مرجح ، وإن كانت على الإبهام لا معنى له ، بل لا يخفى ما في كلامه الأخير بحيث لا يحتاج إلى بيان ، نعم ربما يقال في دفع أصل الإشكال : بأنه لا مانع من اجتماع الوجوب والندب في شي‌ء واحد من جهتين بمعنى أن يكون فردا لكليين أحدهما متعلق الوجوب والآخر متعلق الندب ، وذلك لاختلاف متعلقهما حقيقة ، لكن فيه أن الامتثال وقع في الشخص الموجود في الخارج وهو لا تعدد فيه ، وإن جاز ذلك هنا فليجز في الواجب والمحرم كذلك ، وهو ليس من مذهبنا ، وإن جنح إليه بعض المدققين من أصحابنا لهذه الشبهة ، وللكلام معه مقام آخر.

وقد يقال في دفع أصل الاشكال : انه نمنع التنافي في اجتماع الواجب والمندوب بمعنى اشتمال الفعل على مصلحة الواجب والندب ، إذ مصلحة الندب ليس مأخوذا في مفهومها جواز الترك حتى تنافي مصلحة الواجب ولا هو من مقتضياتها ، بل المراد ان الفعل مشتمل على مصلحة لم توصله إلى حد الإلزام به ، فجواز الترك في المندوب من أصل الأفعال فلا ينافي اشتماله على مصلحة توصله إلى حد الإلزام بالعارض ، وقول الفقهاء إن الواجب والمندوب متنافيان يراد به ما لو كان أصل الفعل موضوعا على ذلك ، أو يراد به مع ملاحظة الحيثية ، واستوضح ذلك في نية الضمائم المندوبة مع الواجب ، فإنه لا يعرف من أحد الإشكال فيها ، فيكون معنى اجتماع الواجب والمندوب حينئذ أنه قد يحصل فعل جامع للمصلحتين إحداهما مصلحة الواجب والأخرى مصلحة الندب بمعنى أنها حيث تكون منفردة لا توصل الفعل إلى حد الوجوب والإلزام فتأمل. ومما ذكرنا يظهر لك دليل القول بعدم التداخل في الفرض وجوابه.

المقام الثاني أن ينوي الجنابة ، وقيل باجزائه عنه وعن الندب ، كما في الخلاف والسرائر وعن المبسوط ، واختاره جماعة ممن تأخر عنهما ، بل قيل الظاهر أنه المشهور بل يظهر من السرائر دعوى الإجماع عليه ، وكأن مستنده إطلاق الأدلة ، بل قد يشعر به مرسلة جميل ، وجنح اليه بعض متأخري المتأخرين معللين بما سمعت من أصالة‌

١٣٤

التداخل ، أو لما يظهر من أدلة غسل الجمعة ونحوها أن المراد حصول جريان الماء على هذه الأعضاء في هذا اليوم وإن كان لرفع جنابة ، لكن في الكل نظر ، أما الإطلاق فلما تقدم سابقا ، مع أنه غير مساق لبيان ذلك ، بل هو معارض بالأصل وبمثل‌ قوله عليه‌السلام (١) : « لا عمل إلا بنية » و‌ « انما الأعمال بالنيات » (٢) و ( لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى ) (٣) ونحو ذلك ، بل قد عرفت أن التداخل رخصة لا عزيمة ، ومقتضاه جواز التعدد ، فيكون الفارق بين الغسل المجزي لواحد وبين ما يجزي للجميع النية ، لتوقف التعيين عليها ، وقصره على نية العدم بعيد ، وأما ما أشعرت به مرسلة جميل المتقدمة ففيه مع ما عرفت من عدم وضوح متنها محمولة على إرادة نية الجميع ، ومثله غيره ، والإجماع المدعى في السرائر ـ مع أنه ليس بصريح في ذلك ـ معارض بما عرفت أيضا ، كمعرفتك فساد الأصل المتقدم ، وانه ليس في الأدلة ما يقتضي كون المراد بغسل الجمعة كذلك ، بل هي ظاهرة في خلافه ، ولهذا ذهب جملة من الأصحاب منهم المصنف والفاضل والكركي في ظاهر المعتبر والقواعد والإرشاد وصريح المنتهى والتذكرة وجامع المقاصد ، وربما يشعر به غيرها ، ووافقهم عليه جملة من أساطين العصر وما قاربه كالسيد المهدي في منظومته والأستاذ المعتبر الشيخ جعفر في كشفه والآغا في شرحه على المفاتيح على ما نقل عنه إلى عدم الاجتزاء تمسكا بما سمعت ، فيبقى الاستصحاب أي استصحاب الخطاب به سالما عن المعارض ، وهو الذي يقتضيه الاحتياط بل هو الأقوى وإن كان الأول لا يخلو من وجه ، والظاهر أنه بناء على الاجتزاء بالجنابة لا فرق بينها وبين غيرها من الواجبات كغسل الحيض ونحوه ، وربما ظهر من بعضهم كابن إدريس في السرائر والفاضل الهندي وغيرهما اختصاص ذلك بالجنابة ، ولعله لما في صدر حسنة زرارة المتقدمة ، ولأن غسل الجنابة له مزية على غيره ، ولما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١٠.

(٣) سورة النجم ـ الآية ٤٠.

١٣٥

يظهر من ابن إدريس من أن العمدة في ذلك الإجماع ، لكنك خبير أنه بناء على أن منشأ الاجزاء هو كون المراد من غسل الجمعة مثلا حصول الغسل ولو في ضمن الواجب كالصوم في الأيام البيض ، أو أنه إطلاق قوله عليه‌السلام : ( إذا اجتمعت ) إلى آخره ونحوه يتجه عدم الفرق بين غسل الجنابة وغيره ، بل يؤيده قوله عليه‌السلام في آخر الرواية : ( وكذلك المرأة يجزيها ) الى آخره. فيحمل قوله عليه‌السلام ( للجنابة ) على المثال ، هذا. إلا انك قد عرفت أن الأقوى أنه لا تداخل مع عدم النية.

المقام الثالث أن ينوي غسل الجمعة من غير تعرض للجنابة ، قيل لا يجزي عن الجنابة ولا عن الجمعة ، وقيل يجزي عنهما ، وقيل يجزي عن الجمعة دون الجنابة ، وهو الأقوى ، أما إجزاؤه عن الجمعة فلأن الأمر يقتضي الإجزاء لصدق الامتثال ، وما يقال : ان المقصود منه التنظيف ، وهو لا يحصل مع بقاء الحدث في غاية الضعف ، إذ هي دعوى عارية عن الدليل ، بل قد يظهر من مشروعية غسل الإحرام للحائض خلافها ، وأما عدم إجزائه عن الجنابة فلعدم نيته كما عرفت في سائر أنواع التداخل ، والتمسك بإطلاق الأدلة أو بأن المراد من غسل الجنابة غسل هذه الأعضاء على وجه القربة بعد حدث الجنابة وإن كان في ضمن المستحب فيه من الضعف ما لا يخفى كما ظهر لك من المباحث السابقة.

نعم قد يستدل بما ينقل‌ عن الفقيه (١) أنه روى في أبواب الصوم « من جامع في أول شهر رمضان ثم نسي حتى خرج شهر رمضان ان عليه أن يغتسل ويقضي صلاته وصومه إلا أن يكون قد اغتسل للجمعة ، فإنه يقضي صلاته وصومه الى ذلك اليوم ، ولا يقضي ما بعد ذلك » مع أنه ذكر في أول كتابه أنه انما يورد فيه ما يفتي به ويحكم بصحته ويعتقد أنه حجة فيما بينه وبين ربه عز وجل ، لكن فيه أن الخروج بمجرد هذه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب من يصح صومه ـ حديث ٢ من كتاب الصوم.

١٣٦

الرواية مع عدم الجابر لها وموافقتها لبعض مذاهب العامة عما تقتضيه أصول المذهب لا يليق بالفقيه ، فما وقع ـ من بعض متأخري المتأخرين من العمل بمضمونها بل قد يظهر من بعضهم أنه موافق للقواعد ـ مما لا ينبغي أن يلتفت اليه ، وبما ذكرنا تستغني عن ذكر مستند كل من الأقوال المتقدمة ، كما أنك استغيت بعد الاطلاع على جميع ما تقدم عن التعرض لصحة ما إذا وقع الفعل بنية امتثال سبب خاص قاصدا عدم الآخر وبطلانه على الوجوه السابقة ، وإن كان الأقوى عندنا أنه يقع لما نواه فقط ، فتأمل جيدا والله أعلم بحقائق أحكامه.

وإذ قد عرفت ان الأصل يقتضي عدم التداخل مطلقا في الواجبات والمندوبات والمختلطات وجب الاقتصار فيما خالف الأصل على المتيقن أو بحكمه ، والظاهر انه هنا هو الاكتفاء بغسل واحد للجميع مع نية الجميع أو بعض الجميع كالجمع بين غسلين مثلا فقط دون الباقي. أما لو قصد التداخل كلا أو بعضا في غسل رأسه مثلا ثم أراد التفريق في باقي الأعضاء فالظاهر عدم الصحة ، وكذلك العكس ، نعم لو غسل رأسه بعدد ما عليه من الأغسال وهكذا سائر أعضائه فالأقوى في النظر الصحة ، لعدم اشتراط الموالاة ، وكذا في محل الفرض لو قصد التداخل في البعض ، كما لو كانت عليه ثلاثة أغسال ثم غسل رأسه مرتين قاصدا بالأولى الاجتزاء عن اثنين وبالثانية عن الثالث حتى ثم أعضاؤه على هذا الحال ، أما لو غسل رأسه مثلا مكررا غير معين ولا مداخل ثم قصد التداخل في البواقي فالظاهر عدم الصحة.

( الفرض الثاني )

من فروض الوضوء غسل الوجه كتابا وسنة وإجماعا ، وهو لغة على ما يظهر من بعضهم ما يواجه به ، وفي المصباح المنير انه مستقبل كل شي‌ء وشرعا بمعنى المراد الشرعي لا انه حقيقة شرعية لبعدها ، كاحتمال كون ذلك من الشارع كشف للمعنى‌

١٣٧

العرفي ، بل عن المرتضى في الناصريات انه لا خلاف في أن الوجه اسم لما يواجه به ، انما الخلاف في وجوب غسل كل ما يواجه به أم لا ، فيقتصر حينئذ على هذا المعنى في خصوص المقام ، ويرجع في غيره إلى العرف‌ وهو أوسع مما هنا أي ما بين منابت الشعر في مقدم الرأس إلى طرف الذقن بالفتح ، وهو مجمع اللحيين الذي ينحدر عنه الشعر من الجانبين ، طولا وما اشتملت عليه الإبهام بكسر الهمزة ، وهي الإصبع العظمى ، والجمع الأباهم ، والإصبع الوسطى عرضا وما خرج عن ذلك فليس من الوجه وفي المدارك ان هذا التحديد مجمع عليه بين الأصحاب ، وكأنه لأنه لم يفرق بين ما عبر به المصنف وما عبر به الأصحاب من قصاص الشعر إلى محادر شعر الذقن طولا وما دارت عليه الإبهام والوسطى عرضا ، وهو كذلك لا فرق بينهما ، فما عن الغنية حينئذ والناصريات ـ من الإجماع على هذا التحديد ، وفي المعتبر والمنتهى من أنه مذهب أهل البيت (ع) وما في الحدائق وعن الذخيرة وغيرها الظاهر انه لا خلاف فيه ـ هو الحجة على ما ذكره المصنف ، مع ما في جامع المقاصد من أن هذا التحديد مستفاد من الأخبار (١) المروية عنهم ، وما عن الذكرى انه القدر الذي غسله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنقل أهل البيت عليهم‌السلام (٢) ، مضافا إلى الصحيح على ما عن الفقيه‌ عن زرارة بن أعين (٣) أنه قال لأبي جعفر الباقر عليه‌السلام : « أخبرني عن حد الوجه الذي ينبغي أن يوضأ الذي قال الله عز وجل فقال : الوجه الذي قال الله وأمر الله عز وجل بغسله الذي لا ينبغي لأحد ان يزيد عليه ولا ينقص منه ، إن زاد عليه لم يؤجر وإن نقص منه أثم ما دارت عليه الوسطى والإبهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن ، وما جرت عليه الإصبعان مستديرا فهو من الوجه ، وما سوى ذلك فليس من الوجه ، فقال له : الصدغ من الوجه فقال لا » ورواه الكليني والشيخ أيضا في الحسن بإبراهيم بن هاشم عن زرارة أيضا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

١٣٨

( قال : قلت له : أخبرني ) الى آخره إلا انه في الكافي ( وما دارت عليه السبابة والوسطى والإبهام ) وكأن المراد بالضمير في روايتيهما الباقر عليه‌السلام كما يشهد له رواية الفقيه ، وما تضمنته رواية الكليني من ذكر السبابة مع الوسطى لم أعثر على من اعتبره سوى ما ينقل عن المبسوط والناصريات انهما ذكرا السبابة مع الوسطى في العرض ، والظاهر انه ليس خلافا في المسألة ، إذ كل ما اشتملت عليه السبابة والإبهام تشتمل عليه الوسطى والإبهام لقصرها عنها غالبا ، وحمل الواو في الرواية وكلاميهما على معنى أو فيحصل حينئذ خلاف ويكون تخييرا بين الزائد والناقص في غاية البعد ، بل لا معنى له عند التأمل ، ولذا لم ينقل عن أحد منهم الخلاف في ذلك ، ولا تعرض له متعرض ممن عادته التعرض لمثله ، وهذه الرواية هي الأصل في الباب ، وعليها بني كلام الأصحاب ، بل في المدارك انها نص في المطلوب.

وقبل الخوض في بيان كيفية دلالتها على ما ذكره الأصحاب لا بد من ذكر معاني ألفاظ وقعت في كلامهم يتوقف عليها ذلك ، ( منها ) النزعتان ، وهي تثنية نزعة بالتحريك ، وهما البياضان المكتنفان بالناصية بلا خلاف أجده كما يتفق في كثير من الناس ، وهو معنى ما في المنتهى انهما ما انحسر عنه الشعر من الرأس متصاعدا في جانبي الرأس ، و ( منها ) العذار ، وهو النابت على العظم الناتي الذي هو سمت الصماخ وما انحط إلى وتد الأذن على ما في المنتهى ، ويقرب منه ما عن التذكرة ، وفي جامع المقاصد عن الذكرى « أنه ما حاذى الأذن يتصل أعلاه بالصدغ وأسفله بالعارض » انتهى. ومثله عن المسالك والمحقق الثاني في حاشيته على النافع ، وهو يرجع إلى ما ذكر على ما ستعرفه من المراد بالصدغ والعارض ، ولذا جمع بينهما في المدارك ، فقال : هو الشعر النابت على العظم الناتي الذي يتصل أعلاه بالصدغ وأسفله بالعارض ، كما أن ما في المصباح المنير من أن عذار اللحية الشعر النازل على اللحيين يرجع إليه أيضا ، أو يكون تفسيرا بالأعم وإلا فما ذكرناه من تفسيره كأنه لا نزاع فيه في عبارات أصحابنا ، و ( منها ) العارض ، ففي المنتهى أنه‌

١٣٩

ما نزل عن حد العذار ، وهو النابت على اللحيين ، ويرجع اليه ما في الدروس من أنه الشعر المنحط عن القدر المحاذي للأذن إلى الذقن وهو مجمع اللحيين ، وإن كان في صدق العارض على القريب إلى الذقن تأمل ، فلذا قال في المدارك : أنه الشعر المنحط عن القدر المحاذي للأذن ، وفي كشف اللثام أنه ما تحت العذار من غير ذكر الانتهاء إلى الذقن ، وفي الصحاح أن عارضه الإنسان صفحتا خديه ، وقولهم فلان خفيف العارضين يراد به خفة شعر العارضين ، و ( منها ) مواضع التحذيف ، وهي الشعر بين انتهاء العذار والنزعة المتصل بشعر الرأس ، كما في المنتهى والروضة ونحوه عن التذكرة والذكرى ، بل لعله يرجع اليه ما في المدارك من أنها هي التي ينبت عليها الشعر الخفيف بين الصدغ والنزعة ، لأن منتهى العذار من الأعلى هو ابتداء الصدغ كما عرفت ، بل كأنه لا خلاف في تفسيرها بذلك ، و ( منها ) الذقن وهو مجمع اللحيين الذي ينحدر منه الشعر ويسترسل ، وكأنه لا خلاف أيضا في تفسيره بذلك ، ومثله في ذلك القصاص وهو منتهى منابت شعر الرأس ، و ( منها ) الصدغ بالضم ، والمعروف في تفسيره بين الأصحاب انه الشعر الذي بعد انتهاء العذار المحاذي الرأس الأذن ، وينزل عن رأسها قليلا ، لكن الموجود في بعض كتب اللغة انه ما بين لحظ العين إلى أصل الأذن ، ويقرب منه ما قيل ما بين الحاجب والأذن.

إذا عرفت هذا فنقول : غير خفي على الناظر في كلام الأصحاب والرواية ظهور أن المراد بقوله عليه‌السلام : « ما دارت عليه الإبهام من قصاص الشعر » الى آخره الحد الطولي الذي ذكره الأصحاب ، وبقوله عليه‌السلام : « وما جرت عليه الإصبعان » الى آخره الحد العرضي الذي ذكروه أيضا ، ولذا قال في المدارك : انها نص في المطلوب ، لكن فيه نظر من وجوه ، ( الأول ) أن التحديد الأول للطول لا يناسب التعبير بقوله عليه‌السلام : ( دارت ) إذ ليس هو من الدوران في شي‌ء ، بل قد يقال : لا حاجة إلى التقدير بالإصبعين في الحد الطولي ، بل تحديده بأنه ما كان من القصاص إلى الذقن‌

١٤٠