جواهر الكلام - ج ٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الناصية ، مع احتمال ان يريد الجبهة ، لأنها أحد معانيها على ما عن القاموس فتخرج حينئذ عن الاستشهاد ، لكن مع ذلك كله والمسألة لا تخلو من إشكال ، لكون المتبادر من لفظ المقدم في النص والفتوى عرفا هو ما تقدم من الرأس ، وهو أوسع من الناصية ، بل عن بعضهم عن بعض معاصريه دعوى الإجماع على ذلك ، نعم الظاهر أن سطح قنة الرأس لا يدخل في شي‌ء منه فيه ، واحتمال تقييد ذلك الإطلاق بخبر الناصية قد عرفت ما فيه ، بل حمل الناصية فيه على المقدم أولى وإن كان مجازا ، أو تحمل الرواية على إرادة الاستحباب أو غير ذلك ، إلا أن الاحتياط الاقتصار على الناصية.

ويجب أن يكون المسح بنداوة الوضوء خلافا للعامة عدا مالك ، فأوجبوا المسح بماء جديد ، وهو مخالف لإطلاق الكتاب ونصوص السنة والإجماع المحصل والمنقول ، وما في بعض الروايات مما تدل بظاهره على إيجاب الاستيناف كما في‌ خبر معمر بن خلاد (١) « أيجزي الرجل مسح قدميه بفضل رأسه؟ فقال عليه‌السلام : برأسه لا ، فقلت : أبماء جديد؟ فقال : برأسه نعم » وخبر أبي بصير (٢) قلت : « أمسح بما في يدي رأسي قال : لا ، بل تضع يدك في الماء ثم تمسح » ونحوه غيره محمول على التقية أو غيرها قطعا.

ولا يجوز استيناف ماء جديد له كما في الفقيه والانتصار والمقنعة والجمل والعقود والخلاف والسرائر والإشارة والمراسم والمعتبر والقواعد والتحرير والمنتهى والإرشاد وغيرها من كتب المتقدمين والمتأخرين ، بل في الانتصار انه مما انفردت به الإمامية ، وان الشيعة توجب المسح ببلة اليد ، وفي الخلاف نسبته إلى الأكثر أولا ثم نقل الإجماع عليه ثانيا ، وفي المعتبر انه مذهب الثلاثة وأتباعهم وفتوى الأصحاب اليوم ، وفي الذكرى انه استقر إجماعنا بعد ابن الجنيد ، وفي جامع المقاصد انه استقر عليه مذهب الأصحاب ، ولا يعتد بخلاف ابن الجنيد ، فلو استأنف لم يصح قطعا ، إلى غير ذلك ممن نقل الإجماع في المقام ، بل قد يدعى تحصيله ، بل هو حاصل ، وخروج ابن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٤.

١٨١

الجنيد غير قادح ، على أن عبارته المنقولة في المختلف غير صريحة في ذلك ، قال : « إذا كان بيد المتطهر نداوة يستبقيها من غسل يديه مسح بيمينه رأسه ورجله اليمنى ، وبيده اليسرى رجله اليسرى ، ولو لم يستبق ذلك أخذ ماء جديدا لرأسه ورجليه » إذ يحتمل أن يكون سمى ما على محال الوضوء ماء جديدا ، أو يكون ذلك لشدة حر أو حرارة على القول بالاجتزاء به.

وكيف كان فيدل عليه مضافا إلى ما سمعت الوضوءات البيانية ، منها حينئذ ما في‌ حسنة زرارة بإبراهيم (١) « ومسح مقدم رأسه وظهر قدميه ببلة يساره وبقية بلة يمناه ، قال : وقال أبو جعفر عليه‌السلام : ان الله وتر يحب الوتر ، فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات ، واحدة للوجه ، واثنتان للذراعين ، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك ، وما بقي من بلة يمينك ظهر قدمك اليمنى ، وتمسح ببلة يسارك ظهر قدمك اليسرى » وما في‌ حسنة زرارة وأخيه بكير بإبراهيم بن هاشم أيضا (٢) « ثم مسح رأسه وقدميه ببلل كفه لم يحدث لهما ماء جديدا » وما في‌ خبر بكير (٣) « ثم مسح بفضل يديه رأسه ورجليه » وخبر محمد بن مسلم (٤) « ثم مسح رأسه ورجليه بما بقي في يديه » وما في‌ خبر أبي عبيدة الحذاء (٥) « ثم مسح بفضلة الندى رأسه ورجليه » وما في‌ خبر زرارة (٦) « ثم مسح ببلة ما بقي في يديه رأسه ورجليه ، ولم يعدهما في الإناء » وفي آخر (٧) « ثم مسح رأسه وقدميه الى الكعبين بفضل كفيه لم يجدد ماء » والمناقشة في الوضوء البياني قد مضى ما فيها ، لما سمعت من الرواية المرسلة المنجبرة بعمل الأصحاب ، مع ظهور مثل قول زرارة وبكير وأبي عبيدة : ( لم يجدد ماء ) ( ولم يعدهما في الإناء ) ونحو ذلك في الدلالة ، على أنهم فهموا الوجوب ، مضافا إلى‌ قوله عليه‌السلام في خبر زرارة الأول : ( وتمسح‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٨.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١٠.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١١.

١٨٢

ببلة يمناك ناصيتك ) لظهورها في الأمر وإن احتملت بعيدا غيره ، بل يدل عليه مضافا الى ذلك‌ حسنة ابن أذينة بإبراهيم (١) انه « لما أسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء أوحى الله إليه ادن يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صاد ـ الى ان قال ـ : ثم أوحى الله أن اغسل وجهك ، فإنك تنظر إلى عظمتي ، ثم اغسل ذراعيك اليمنى واليسرى فإنك تلقى بيديك كلامي ، ثم امسح رأسك بما بقي في يدك من الماء ورجليك إلى الكعبين فإني أبارك عليك وأوطؤك موطئا لم يطأه أحد غيرك » بل يدل عليه أيضا الأخبار المستفيضة (٢) الدالة على أخذ الماء من اللحية والحاجبين والأشفار عند نسيان المسح ، وفي بعضها (٣) انه « إن لم يبق من بلة وضوئك شي‌ء أعدت الوضوء » وفي آخر (٤) « من نسي مسح رأسه ثم ذكر انه لم يمسح رأسه فإن كان في لحيته بلل فليأخذ منه وليمسح رأسه ، وإن لم يكن في لحيته فلينصرف وليعد الوضوء » لكن قد يخدش الاستدلال بها بأنه قد يكون الأمر بالإعادة لفوات الموالاة بجفاف نداوة الوضوء لا لعدم جواز المسح بماء جديد ، فتأمل.

ومع ذلك كله فلم أعثر على ما يدل على قول ابن الجنيد عدا الإطلاق ، إذ ما سمعته من الروايتين السابقتين في أولى المسألة لا يقول بهما ، لمكان تضمنهما النهي عن المسح بالنداوة الباقية ، وخروج الأول عما نحن فيه ، وحملهما على ما يقول مع عدم إمكانه ليس بأولى من حملهما على التقية ، بل في الإشارة برأسه في الأولى إشارة إلى ذلك ، ودعوى أن اشتمال الأولى على المسح للرجلين ينافي ذلك يدفعها انه قد يراد بالمسح هنا هو الغسل ، لكونه يطلق عندهم على ذلك ، بل قد يشعر به كونه بماء جديد أيضا ، وربما نقل عن جملة منهم القول بالاجتزاء بالمسح لكن مسح الظهر والبطن ، نعم قد يستدل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٨.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٧.

١٨٣

له بخبر منصور (١) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمن نسي رأسه حتى قام في الصلاة قال : ينصرف ويمسح رأسه ورجليه » ومثله رواية الكناني (٢) ويقرب منهما‌ خبر أبي بصير (٣) في « رجل نسي أن يمسح رأسه فذكر وهو في الصلاة فقال : إن كان استيقن ذلك انصرف فمسح على رأسه ورجليه واستقبل الصلاة ، وإن شك فلم يدر مسح فليتناول من لحيته إن كانت مبتلة وليمسح على رأسه ، وإن كان أمامه ماء فليتناول منه فليمسح به رأسه » لكن فيه ـ مع كونها أخص من الدعوى ، واحتمالها إرادة الانصراف بمعنى قطع الصلاة والمسح ببلة الشعر أو إرادة إعادة الوضوء كما يرشد إلى ذلك جعله المسح بالماء الجديد جوابا لشرطية الشك وغير ذلك ـ لا تقاوم ما سمعته من الأدلة من السنة والإجماع.

ثم ان قضية إطلاق الكتاب والفقيه والجمل والعقود والإشارة والمراسم والسرائر والمعتبر والمنافع والقواعد والتحرير والإرشاد والدروس واللمعة وغيرها عدم وجوب كون الماسح اليد اليمنى ، كما هو صريح النفلية وظاهر شرحها وصريح كشف الغطاء ، بل في الحدائق الظاهر الاتفاق على الاستحباب ، لكن قد عرفت أن حسنة زرارة ظاهرة في الوجوب ، لقوله عليه‌السلام فيها : ( وتمسح ببلة يمناك ناصيتك ) وهو ظاهر المفيد في المقنعة وعبارة ابن الجنيد المتقدمة وما عن القاضي في المهذب ، إلا أن تقييد تلك المطلقات من الكتاب والسنة مع فتاوى الأصحاب بمجرد هذه الرواية وإن كانت نقية السند لا يخلو من إشكال ، سيما مع ظهور إعراضهم عنها حتى من مثل صاحب المدارك التي جرت عادته بالعمل بمضامين الأخبار الصحيحة وإن خالفت كلام الأصحاب ، قال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٨.

١٨٤

في المقام : « انه يستفاد من حسنة زرارة (١) ان الأولى مسح الناصية وظاهر القدم اليمنى باليد اليمنى » الى آخره فجعله أولى فلا يبعد حينئذ حمل الرواية على الاستحباب ، كما يحتمل ذلك أيضا في عبارة المفيد وابن الجنيد ، بل في الأولى أمارات على ذلك ، وإلا فاحتمال صرف إطلاق النص والفتوى إلى المسح باليد اليمنى لكونه الفرد المتعارف بعيد جدا ، نعم المتبادر من إطلاق لفظ اليد في النص والفتوى الكف ، فيكون حدها الزند كما أشار إلى ذلك الطباطبائي في منظومته ، فقال :

ولا يجوز المسح إلا في اليد

وحدها الزند إذا لم تفقد

بل مما يرشد إلى ذلك ما في بعض الأخبار المشتملة على الوضوءات البيانية كخبر الأخوين (٢) « ثم مسح رأسه وقدميه ببلل كفيه لم يحدث لهما ماء جديدا » وخبرهما الآخر (٣) « ثم مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفيه لم يجدد ماء » ولأنها هي المتعارف في المسح ، كما أن المتبادر من المسح بهما المسح بباطنها. فلا يجزي المسح بالظاهر ، ومقتضى ذلك أنه إذا تعذر المسح بالباطن لجفاف مائه لنسيان ونحوه وكانت النداوة باقية على الظاهر بحيث لا يمكن نقلها إلى باطن اليد يجب إعادة الوضوء ، لانعدام المشروط بانعدام شرطه ، نعم لو كان المسح بالباطن متعذرا لمرض أو غيره لا لجفاف ماء ونحوه أمكن الاجتزاء بالمسح بالظاهر ، إذ سقوط الوضوء من المقطوع بعدمه ، لما يفهم من الأدلة أنه لا يسقط بتعذر بعض أجزائه ، واحتمال الاجتزاء به بدون مسح في غاية البعد ، لإطلاق الأمر بالمسح في الوضوء مع تمكن الامتثال به ، وإيجاب المسح بالباطن مع التمكن منه ، فيبقى المطلق على حاله ، ولأن‌ « الميسور لا يسقط بالمعسور » (٤) و‌ « ما لا يدرك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٨ وفي المدارك ( صحيحة ) بدل ( حسنة ).

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١١.

(٤) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

١٨٥

كله لا يترك كله » (١) وللاستصحاب ونحو ذلك ، ولعله لذا قال في المدارك : « والظاهر أن محل المسح باطن اليد دون ظاهرها ، نعم لو تعذر المسح بالباطن أجزأ الظاهر قطعا » لكن الشهيد في الذكرى قال : « والظاهر أن باطن اليد أولى ، نعم لو اختص البلل بالظاهر وعسر نقله أجزأ ، ولو تعذر المسح بالكف فالأقوى جوازه بالذراع » انتهى. وقد يظهر من حكمه بالأولوية عدم إيجاب ذلك ، وعلى تقدير إرادته الوجوب فحكمه بالاجزاء فيما إذا اختص البلل بالظاهر وعسر نقله لا يخلو من إشكال ، لعدم دليل على الاجتزاء ، بل لا بد من إعادة الوضوء ، نعم لو كان ذلك متعذرا في حد ذاته لا لعدم البلل أمكن الاجتزاء به كما عرفت ، والظاهر تساوي نسبة جميع أجزاء الكف في المسح بها ، لكنه في الحدائق قال : « انهم ذكروا أن الواجب كونه بالأصابع » قلت : لم أقف على مصرح به ، ولا دليل يقتضيه ، ورواية ( يدخل إصبعه ) ونحوها لا ظهور فيها بذلك ، ولو تعذر المسح بالكف ظاهرا وباطنا لمرض ونحوه اجتزي بالمسح في الذراع لما عرفت ، وهل يجب نقل بلة اليد إليه بناء على وجوب الترتيب في نداوة الوضوء كما هو الأقوى أو لا يجب؟ وجهان ، أولهما أحوطهما ، ولو كان التعذر للجفاف ونحوه وكان لا يمكن نقل بلة الذراع إلى الكف وجب إعادة الوضوء لما تقدم ، ولعل التعذر في عبارة الشهيد السابقة يراد به الأول ، وإلا ففيه ما لا يخفى ، كما أنه لا يخفى ما في هذا الترتيب بعد أن استظهرنا من الأدلة إيجاب المسح بباطن الكف ، والاجتزاء بالمسح بغيرها عند التعذر ، فالترتيب في ذلك بأن يكون أولا ظاهر الكف ثم إذا تعذر فالذراع مثلا لم أعثر على دليل يقتضيه سوى وجوه اعتبارية لا تصلح لأن تكون مدركا للأحكام الشرعية ، وطريق الاحتياط غير خفي ، ومن المعلوم أنه يستفاد من النظر في تلك الأدلة المتقدمة إيجاب إيصال البلة إلى الممسوح بواسطة اليد ، فلا يجتزي بتقطيرها مثلا كما نص عليه بعض الأجلة.

__________________

(١) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

١٨٦

ثم انه هل يشترط جفاف الممسوح من الماء أولا؟ قيل نعم ، كما هو خيرة العلامة في بعض كتبه ناقلا له عن والده ، وقيل لا ، كما هو خيرة السرائر والمصنف في المعتبر وبعض من تأخر عنهما ، وربما ظهر من بعضهم التفصيل ، فقال بالصحة مع غلبة بلة الوضوء ، وإلا فالفساد ، ولعل مستند ( الأول ) مضافا إلى الاحتياط أن الأمر بالمسح بالبلة ينصرف إلى الأفراد الغالبة ، بل لا يصدق أنه مسح بالبلة مع امتزاجها بغيرها ، إذ لو صدق ذلك لصدق مع استئناف ماء جديد ومزجه مع بلة اليد كما يصنعه العامة ، إذ هي لا تنفك عن بلة الوضوء غالبا ، وقد عرفت بطلانه سابقا ، واحتمال الفرق بين الماءين فالأول ليس مسحا بماء جديد بخلاف الثاني تحكم ، ولأن المركب من الداخل والخارج خارج ، على أنه إن سلمنا أنه ليس مسحا بماء جديد لكنه ليس مسحا بالبلة خاصة ، مع ظهور الأدلة بالمسح بما بقي في اليد خاصة ، مع أنه لا يقطع أيضا في مثل ظاهر القدم باتصال تلك البلة من رؤوس الأصابيع إلى الكعبين ، نعم لو كان ما على الممسوح مجرد نداوة لا يتمزج شي‌ء منها ببلة الوضوء أمكن القول بالاجتزاء ، وقد يلتزم به أهل هذا القول وإن لم يصرحوا به ، وبذلك يظهر فساد قول المفصل ، إذ غلبة ما بقي في اليد على بلل الممسوح لا يدفع ما ذكرنا ، وما يتخيل من تحقق صدق المسح بالبلة حينئذ فيه أنه من المسامحات العرفية لا من الحقائق ، نعم لو كان ما على الممسوح قليل جدا بحيث لا ينافي صدق المسح بما بقي في اليد حقيقة عرفا لاستهلاكه اتجه الجواز ، ولعلهم يقولون به وإن لم يصرحوا به أيضا.

ولعل مستند ( الثاني ) إطلاق المسح الصادق في مثل المقام ، بل في السرائر أن من كان قائما بالماء وتوضأ ثم أخرج رجليه من الماء ومسح عليهما من غير أن يدخل يديه في الماء فلا حرج عليه ، لأنه ماسح بغير خلاف ، والظواهر من الآيات تقتضيه والأخبار متناولة له ، وفي المعتبر « أنه لو كان في ماء وغسل وجهه ويديه ثم مسح برأسه ورجليه جاز ، لأن يديه لم تنفك من ماء الوضوء ، ولم يضره ما كان على القدمين‌

١٨٧

من الماء » انتهى. ولأنه لا يصدق عليه في العرف أنه استأنف ماء جديدا ، بل قيل وإن حصل الجريان باجتماع البلتين ، بل ولو ببلة الممسوح منفردة عند عدم القصد إلى الغسل وان صدق اسم الغسل عليه ، ويؤيده‌ صحيحة زرارة (١) « لو أنك توضأت وجعلت موضع مسح الرجلين غسلا وأضمرت أن ذلك هو المفترض لم يكن ذلك بوضوء » الدالة على جواز غسل الممسوح لا بذلك القصد ، على أنه لو منع مثل ذلك لكان ينبغي المنع من الوضوء في موضع لا ينفك من العرق كالحمام ونحوه ، على أن المراد بالمسح بالبلة المسح مع نداوة اليد وإن لم يعلق شي‌ء منها بالممسوح ، وهو صادق وإن كان على الممسوح ماء آخر.

ولعل مستند ( التفصيل ) صدق المسح بالبلة مع غلبتها بخلاف العكس ، بل والتساوي ، والأقرب في النظر الأول وكان القول بالتفصيل يرجع اليه ، ولعله لذا نقل عن بعض نسبته إلى ظاهر الأصحاب ، واحتمال أن المجوزين للمسح مع بلل الممسوح يقولون بذلك يدفعه أن الظاهر خلافه ، بل الجميع يشترطون تأثير الممسوح بالمسح وإن لم يظهر للبصر ، وأما ما ادعاه أهل القول الثاني أخيرا من الاكتفاء بالمسح مع نداوة اليد وإن لم ينتقل أجزاء من الماسح إلى الممسوح به فممنوع كل المنع ، لكون المتبادر من إطلاق لفظ البلة ونحوها خلافه ، ولعلهم أخذوه مما في بعض الأخبار من النداوة ، وإرادة ذلك منها ممنوع أيضا ، بل لا يبعد صدق اسم الجفاف معها في المفروض ، وما ينقل عن ابن الجنيد من جواز إدخال اليد تحت الماء ومسح الرجل بها مثلا لا يوافق شيئا من الأقوال السابقة ، ولعله بنى على مذهبه من جواز المسح بماء جديد وعدم إيجاب المسح ببقية البلة ، لكنك قد عرفت أن مقتضى عبارته السابقة ليس الجواز مطلقا ، والإطالة في تحقيق حاله مع القطع ببطلانه غير لائق.

ثم أنه هل يدخل في الماء الجديد الماء الباقي في اليد بعد غسلها بطريق الغمس؟

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١٧.

١٨٨

كما إذا نوى غسلها بالمكث مثلا ، أما لو نوى غسلها بالإخراج مرتبا في القصد إلى غسل أجزائها حتى أخرجها فالظاهر أنه لا ينبغي الإشكال في كونه ليس ماء جديدا ، نعم يقع الاشكال فيما إذا نوى غسلها بالإدخال أو بالمكث ثم أخرجها ، والأقوى في النظر كونه ماء جديدا ، إذ لا يصدق بقاء شي‌ء من بلة الوضوء ، وما يقال : إن العرف شاهد على صدق بقاء البلة وإن ذلك كله غسل واحد ممنوع ، والظاهر أن المراد بما بقي في اليد انما هو بعد تمام الغسل وإن كرر مرارا يده على العضو استظهارا ، لكون الاستظهار مطلوبا شرعا وإن لم يكن واجبا ، مع أن المعلوم من علماء الأعصار في سائر الأمصار عدم تحديد ذلك ، وعدم التربص والتأمل في تمام الغسل الواجب ، بل قد يدعى أن ما يفعله زائدا على الاستظهار الشرعي لا بأس به ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

ولو جف ما على باطن يديه أو مطلقا من الظاهر والباطن على اختلاف الوجهين كما تقدم أخذ من لحيته ولو من المسترسل طولا أو عرضا أو أشفار عينيه وغيرها من محال الوضوء ، وتخصيص اللحية والأشفار بالذكر لكونها مظنة بقاء الماء ، وإلا فلا فرق بينها وبين غيرها من محال الوضوء ، بل قد يكون غيرها أولى من مسترسل اللحية ، لما عرفت من الإشكال في الدليل على استحبابه ، واحتمال القول بجواز الأخذ منه وإن لم نقل باستحباب غسله تمسكا بظواهر الأخبار في المقام وإن كان ممكنا لكنه بعيد ، لأن الظاهر منها إرادة نداوة الوضوء ، وهو لا يدخل تحتها على تقدير عدم استحباب غسله ، وما يقال : ان الماء الذي على مسترسل اللحية هو ماء غسل الوجه فهو بلل الوضوء وإن لم نقل باستحباب غسله ففيه ـ مع أنه لا يشمل جميع صور الدعوى إذ قد يغسل المسترسل بماء غير ماء الوجه ـ أن المراد من ماء الوضوء الباقي في محاله ، وإلا فلا يجتزى بالمسح بالمجتمع من ماء الوضوء في إناء ونحوه.

والحجة فيما ذكره المصنف ـ بعد ظهور الاتفاق عليه سيما بين المتأخرين وما عساه يظهر من بعض عبارات القدماء كسلار في المراسم وغيره من الخلاف في ذلك لاقتصارهم‌

١٨٩

في ذكر الواجب في الوضوء على المسح بالبلة الباقية في اليد ليس خلافا ، إذ الظاهر أن مرادهم من ذلك التعريض في رد ابن الجنيد والعامة ، ومثله ما في الانتصار ، قال : « مما انفردت به الإمامية القول بأن مسح الرأس يجب ببلة اليد ، فإن استأنف ماء جديدا لم يجز به ، حتى أنهم يقولون إذا لم يبق في اليد بلة أعاد الوضوء ـ إلى أن قال ـ : والذي يدل على صحة هذا المذهب مضافا إلى طريقه الإجماع » انتهى. فان الظاهر أن مراده بقوله ( انهم يقولون ) الى آخره نفي الماء الجديد ، ويحتمل أن يكون مرادهم بما بقي في اليد انما هو بلة الوضوء ، ولعله لما ذكرنا نسب الحكم المذكور في كشف اللثام إلى قطع الأصحاب ، بل في المعتبر في بحث الموالاة نقل الاتفاق على أن ناسي المسح يأخذ من شعر لحيته وأجفانه وإن لم يبق في يده نداوة ، بل لم أجد أحدا من المتأخرين نقل خلافا فيه من عادته التعرض لمثله ـ الأخبار المستفيضة ( منها ) مرسل خلف بن حماد عن الصادق عليه‌السلام (١) قال : قلت له : « الرجل ينسى مسح رأسه وهو في الصلاة ، قال : إن كان في لحيته بلل فليمسح به ، قلت : فان لم يكن له لحية قال يمسح من حاجبيه أو من أشفار عينيه » و ( منها ) ما رواه في‌ الفقيه مرسلا (٢) قال : قال الصادق عليه‌السلام : « إن نسيت مسح رأسك فامسح عليه وعلى رجليك من بلة وضوئك ، فان لم يكن بقي في يدك من نداوة وضوئك شي‌ء فخذ ما بقي منه في لحيتك وامسح به رأسك ورجليك ، وإن لم يكن لك لحية فخذ من حاجبيك وأشفار عينيك وامسح به رأسك ورجليك ، وإن لم يبق من بلة وضوئك شي‌ء أعدت الوضوء » وبما تضمناه من أخذ الماء من الحواجب والأشفار يقيد مفهوم‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر مالك بن أعين (٣) انه : « إن لم يكن في لحيته بلل فلينصرف وليعد الوضوء ».

لا يقال : ان ظاهر هذه الأخبار ينافي ما ذكرت من الدعويين السابقتين ، وهما أنه لا ترتيب بالنسبة إلى الأخذ من محال الوضوء بعد جفاف اليد ، وثانيهما جواز‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٨.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٧.

١٩٠

الأخذ من غير اللحية والأشفار لأنا نقول : أما ما يستفاد منها من الظهور في ترتيب الأخذ من الحواجب والأشفار بعد أن لم يكن في اللحية بلل فلم أعثر على من أفتى به من الأصحاب ، بل جميع من وقفنا على كلامه أو نقل إلينا لم يرتب ذلك ، بل قال : انه إن جف ما على اليد أخذ من اللحية والحواجب والأشفار ، كالمفيد في المقنعة والشيخ في المبسوط وابن إدريس والمصنف والعلامة والشهيد وغيرهم ، بل قد يظهر من بعضهم دعوى الإجماع عليه ، فيكون ذلك قرينة على عدم إرادة الترتيب في الخبرين ويكون تقديم اللحية لكونها أقرب مظنة لبقاء الماء فيها من غيرها ، ويرشد إلى ذلك الأمر بالأخذ من الحواجب إن لم يكن له لحية لا مع وجودها وانتفاء البلل عنها ، على أنه لو سلمنا ظهورهما في ذلك لكنك قد عرفت أن الخبرين مرسلا لا جابر لهما ، فكيف يعمل بهما في ذلك ، خصوصا مع ظهور كلمات الأصحاب في خلافهما.

وأما الدعوى الثانية وهي جواز الأخذ من غير الثلاثة فهو ـ مع تصريح بعض الأصحاب به وظهور آخر فيه أيضا كظهور الاقتصار في النص والفتوى على الثلاثة في عدم إرادة التقييد منها ، بل انما ذكرت لكونها في النص والفتوى على الثلاثة في عدم إرادة التقييد منها ، بل انما ذكرت لكونها هي مظان بقاء البلل فيها ـ يدل عليه‌ قوله عليه‌السلام في الخبر المتقدم : « إن لم يبق من بلة وضوئك شي‌ء أعدت الوضوء » فقد علق الإعادة على عدم بقاء شي‌ء من بلة الوضوء ، ودعوى إرادة البلة في المحال الثلاث ممنوعة ، فاحتمال الاختصاص بالثلاثة كاحتمال التعدي إلى خصوص بلة الوجه فقط بعيدان.

ثم ان الظاهر من عبارة المصنف هنا اشتراط الأخذ من اللحية ونحوها بجفاف اليد ، فلو أخذ مع عدمه بطل الوضوء ، كما هو الظاهر من المقنعة والسرائر والمعتبر والمنتهى والقواعد والتحرير والإرشاد والدروس والذكرى وعن المبسوط والتذكرة وغيرها ، لكنه قال في المدارك : « الظاهر أنه لا يشترط في الأخذ من هذه المواضع جفاف اليد ، بل يجوز مطلقا : والتعليق في عبارات الأصحاب مخرج مخرج الغالب » ‌

١٩١

انتهى. ومثله المنقول عن جده في المسالك والروض مستدلا عليه في الأخير باشتراك الجميع في كونه بلل الوضوء ، فلا يصدق عليه الاستئناف ، وبإطلاق‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر مالك بن أعين : « من نسي مسح رأسه ثم ذكر أنه لم يمسح فان كان في لحيته بلل فليأخذ منه ويمسح به » حيث جوز الأخذ من غير تقييد بالجفاف ، واستشكله بعض المتأخرين بمخالفته لكثير من الوضوءات البيانية ، وقوله (ع) : ( امسح بما بقي في يدك رأسك ) وقوله عليه‌السلام : ( تمسح ببلة يمناك ناصيتك ) والاشتراط المتقدم في المرسل وما في بعض الوضوءات البيانية من المسح بنداوة الوضوء فهو ـ مع كون الغالب المسح بما بقي في اليد ونحوه ـ ظاهر في إرادة النداوة الباقية فيها ، على أنه مطلق يحكم عليه غيره ، وبه تعرف ما في التمسك بإطلاق خبر مالك المتقدم ، وأما ما ذكره من خروج القيد مخرج الغالب فهو وإن كان ممكنا في مثل المرسل المتقدم لكنه بعيد في مثل عبارات الأصحاب ، وكيف مع أن المعروف فيها ان مفهوم اللقب فيها حجة فضلا عن غيره ، على أن ما ذكره احتمال لا يكتفى بمثله في بيان ماهية العبادية التوقيفية مع مخالفته الاحتياط.

لكن الإنصاف أن التأمل في عبارات الأصحاب والروايات يورث الفقيه الظن بالجواز لظهورها في إرادة المسح بما بقي عدم استئناف الماء الجديد كما هو مذهب العامة ، ومما يرشد إلى ذلك ما في المنتهى فإنه ـ بعد ان ذكر كما ذكر الأصحاب من أنه إن لم يكن في يده أخذ من لحيته ، واستدل عليه بالأخبار المتقدمة ـ قال : « ولأنه ماء الوضوء ، فأشبه ما لو كان على اليد ، إذ الاعتبار بالبقية لا بمحلها » انتهى. وهو كالصريح في عدم إرادة التقييد السابق ، وما في الوسيلة قال في تعداد واجبات الوضوء : « ومسح مقدم الرأس ببلة الوضوء » وما في الجمل والعقود ، قال : « ويمسح الرأس والرجلين ببقية نداوة الوضوء من غير استئناف ماء جديد » وما في الإشارة ، قال :

١٩٢

« أقله إصبع واحدة ببقية النداوة لا بماء يستأنف » وما في بعض عبارات المقنعة ، كقوله : « لا يستأنف للمسح ماء جديدا بل يستعمل فيه نداوة الوضوء » وما في الغنية والمهذب والكافي ، قال في الأول : « الفرض الثاني أنه لا يستأنف لمسح الرأس والرجلين ماء جديدا بدليل الإجماع المشار إليه » إلى آخره. فان اكتفاءه بذلك وعدم ذكره إيجاب أن يكون ببلة اليد كالصريح فيما ذكرنا ، ومثله ما في الثاني « ثم يرفع يده اليمنى ببلل الوضوء من غير أن يأخذ ماء جديدا » وكذا الثالث قال : « فان مسح غير الجبهة أو استأنف للمسح ماء جديدا بطل الوضوء » بل هو الذي يقضي به التدبر في عبارة الخلاف والانتصار ، فلتلاحظ. على أن ما ذكر من التعليق في كلمات الأصحاب وبعض الأخبار لا دلالة فيه على خلاف ذلك ، لأن الظاهر أن المراد منها أنه إن لم يكن في يده ماء وجب عليه أن يأخذ من لحيته أو من أشفار عينيه ، فمفهومها أنه إن لم يكن في يده بلل لا يجب أن يأخذ ، لا أنه منهي عن الأخذ.

والحاصل أن التأمل في كلمات الأصحاب والروايات يقضي بجواز الأخذ مع عدم الجفاف ، بل فيها أمارات كثيرة على إرادة ذلك لا تخفى على من لاحظها ، ولعله الأوفق بسهولة الملة ، مع أنه لم ينقل التحرز في حال المسح عن مخالطة ماء باطن اليد من غيره من محال الوضوء ، بل قد يدعى أنه لا بأس في الماء الذي على مقدمات الوضوء ، كالماء الذي يكون على الرأس مثلا مقدمة لغسل القصاص ، فإنه لم ينقل عن أحد تجفيفه حال المسح ، لكن الأولى خلافه.

ثم ليعلم أنه بناء على الاشتراط المذكور فالظاهر اختصاص الحكم بالجفاف الحاصل من النسيان ونحوه من الأعذار ، أما لو جففها اختيارا فالأقوى عدم الجواز ، لانصراف إطلاق النص والفتوى إلى الأول وإن ظهر من المحقق الثاني في جامع المقاصد جوازه عند ذكر المسح بالماء الجديد ، إلا أن الأقوى خلافه ، وكيف وقد احتمل بعضهم‌

١٩٣

اختصاص الحكم في النسياني دون غيره ، لظواهر ما سمعت من الأخبار وبعض كلمات الأصحاب ، لكنه في غاية الضعف كسابقه.

فان لم يبق نداوة في شي‌ء من محال الوضوء استأنف الوضوء بلا خلاف أجده بين المتقدمين والمتأخرين ، ولعل ابن الجنيد يوافق في خصوص المقام لا لعدم جواز المسح بالماء الجديد بل لفوات الموالاة ، وفي كشف اللثام أنه مقطوع به مروي قلت : قد سمعت ما يدل عليه من الأخبار الآمرة بالانصراف وإعادة الوضوء التي لا يقدح إرسالها بعد انجباره بفتاوى الأصحاب ، لكن ظاهرها كالفتاوى حيث يكون الاستئناف محصلا للمسح بماء الوضوء ، أما إذا لم يكن كذلك كأن يكون الجفاف لشدة حر أو حرارة أو نحوهما ولم يتمكن من حفظ نداوة الوضوء بالجلوس في مكان رطب أو إكثار الماء على آخر جزء من وضوئه فالظاهر جواز المسح بالماء الجديد ، كما في المعتبر والمنتهى والقواعد والذكرى وجامع المقاصد والمدارك وعن غيرها أيضا ، للضرورة ونفي الحرج وصدق الامتثال واختصاص وجوب المسح بالبلل بالإمكان. وفيه أن جميع ذلك لا يقضي بالانتقال الى الماء الجديد ، بل جميعها تندفع بالمسح من دون تجديد ماء ، كما لعله يظهر من العلامة في التحرير في الموالاة ، قال : « ولو جف ماء الوضوء لحرارة الهواء المفرصلة جاز البناء ، ولا يجوز استئناف ماء جديد للمسح » ونحوه ما عن نهاية الأحكام ، كما أنه تندفع أيضا بالعدول إلى التيمم ، بل هو قضية اشتراط المسح بالنداوة ، عن شمولها للمقام لظهورها في صورة الإمكان مع عدم ذكرهم مثل ذلك في مسوغات التيمم يمنع العدول اليه ، على أن التتبع بالنسبة إلى تعذر كثير من أجزاء الوضوء كما في أقطع اليدين وأقطع الرجلين ونحو ذلك يقضي بعدم سقوط الوضوء عند تعذر ذلك ، كما أن استصحاب الخطاب به وقوله عليه‌السلام : ( لا يسقط الميسور بالمعسور ) و ( ما لا يدرك كله لا يترك كله ) ونحوها قاضية به أيضا ، ولعله لجميع ذلك لم أعثر على مفت بالتيمم ، نعم ذكره بعضهم‌

١٩٤

احتمالا ، وآخر جعل الاحتياط في الجمع بينهما ، والأولى في الاحتياط الجمع بين الاحتياطات الثلاثة ، وهي المسح للاستئناف ، واستئناف الماء الجديد ، والتيمم ، واحتمال القول بوجوب الاحتياط في المقام لعدم الترجيح تحصيلا للبراءة اليقينية وإن كان ممكنا لكن قد عرفت أن الأقوى في النظر المسح من دون وجوب استئناف ، تمسكا بإطلاق ما دل على وجوب المسح فيه ، ومقتضاه جواز الأخذ من الماء الجديد ، للإطلاق المتقدم ، مع عدم شمول ما دل على المنع منه للمقام ، وأما احتمال وجوبه فقد عرفت ما فيه ، وكونه أقرب إلى المكلف به ، ونحو ذلك تعليلات اعتبارية لا تصلح لأن تكون مدركا للأحكام الشرعية ، كاحتمال إيجاب حفظ ماء الوضوء المتساقط لكونه ماء وضوء ، فتأمل جيدا والله أعلم.

والأفضل مسح الرأس مقبلا ، ويكره مدبرا على الأشبه بأصول المذهب وقواعده ، ووفاقا للسرائر والمعتبر والنافع والمنتهى والمختلف والتحرير والإرشاد والقواعد والألفية وجامع المقاصد والروضة وغيرها على اختلاف فيها لا يقدح في أصل جواز النكس ، وهو قضية إطلاق الهداية والجمل والعقود والإشارة والمراسم وغيرها ، والمنقول عن الإصباح والمبسوط وابن أبي عقيل والشهيد في البيان والمقداد في التنقيح وغيرهم ، ولعله لذا قال في الحدائق : انه المشهور ، وقيل لا يجوز النكس ، كما هو خيرة الصدوق في الفقيه والمرتضى في الانتصار والشيخين في المقنعة والخلاف وظاهر التهذيب بل صريحه ، وهو المنقول عن ظاهر النهاية وصريح الوسيلة ، واختاره الشهيد في ظاهر الدروس ، ونسبه فيها إلى الشهرة بين الأصحاب ، وفي الانتصار والذكرى إلى الأكثر ، وفي الخلاف الإجماع عليه ، وفي المختلف أن المرتضى ادعى الإجماع عليه في الانتصار ، قلت : لا دلالة في عبارته ، بل فيها ما يدل على خلاف ذلك كما لا يخفى على من لاحظها.

وأقصى ما يستدل به للأول الأصل في وجه ، وإطلاق الأمر بالمسح في الكتاب والسنة ، وإطلاق حكايته في الوضوءات البيانية ، إذ لو كان ذلك واجبا لنقله زرارة‌

١٩٥

وبكير وغيرهما ممن حكي لهم وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل حكاية غيره كالبدأة بالأعلى مثلا في الوجه ونحوه وعدم حكايته تشعر بعدم وجوبه ، ومثله في ذلك مكاتبة علي بن يقطين المشهورة (١) ، وقول الصادق عليه‌السلام في صحيح حماد ابن عثمان (٢) : « لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا » كما رواه الشيخ في المقام كذلك ، والمحقق في المعتبر ، والعلامة في المنتهى والمختلف ، والمحقق الثاني في جامع المقاصد ، والسيد في المدارك ، وكشف اللثام وصاحب الحدائق ، وعن التنقيح وصاحب الذخيرة وغيرهم ، وهو العمدة في المقام ، مع اعتضاده بما سمعت من دعوى الشهرة ، بل هي محصلة.

وأقصى ما يستند إليه للثاني ـ مضافا إلى ما سمعت من دعوى الإجماع المعتضد بالشهرة المدعاة من مثل الشهيد ونسبته إلى الأكثر منه ومن المرتضى ، وقد سمعت ما حكاه عنه في المختلف ـ أن الشغل اليقيني يستدعي البراءة اليقينية ، وهو ليس إلا في المسح مقبلا ، مع أن المحكي من الوضوءات وإن اشتملت على أنه مسح برأسه لكنه قطعا انما كان المسح مقبلا ، إذ لا إشكال في كونه راجحا ، فلا معنى لتركه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وارتكاب المرجوح ، بل الظاهر منها في حكايته أنه وضوؤه الذي لا زال يفعله ، واستمراره على المرجوح مما يقطع بعدمه ، وإلا فلو كان كذلك لوجب القول بوجوب المسح مدبرا ، وهو مخالف لإجماع المسلمين ، فحينئذ يكون المراد به المسح به مقبلا ، فيجب التأسي به ، مضافا إلى‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) : ( إن هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) على أنه الفرد الشائع الذي ينصرف الإطلاق اليه ، وبذلك تعرف الجواب عن الإطلاقات ، على أن جوازه من مذهب العامة ، والرشد في خلافهم ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١١.

١٩٦

وأما الصحيحة فمما يضعف الاحتجاج بها أنه رواه الشيخ في مقام آخر بهذا السند (١) أنه‌ « لا بأس بمسح القدمين مقبلا ومدبرا » ومن المستبعد جدا تعددها ، بل الشيخ رحمه‌الله ذكر هذه الرواية في مقام الاستدلال على عدم جواز النكس في غسل اليدين ، فقال : « أما الخبر الذي رواه‌ محمد بن يعقوب عن يونس (٢) قال : « أخبرني من رأى أبا الحسن عليه‌السلام بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب ، ومن الكعب إلى أعلى القدم » فمقصور على مسح الرجلين ، ولا يتعدى الى الرأس واليدين » ويدل على ذلك أيضا ما رواه‌ الشيخ عن حماد بن عثمان (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا » فقد أخرجها شاهدا على التوسعة في مسح القدمين ، كما ورد مثل ذلك في غيرها من‌ الأخبار (٤) أن « الأمر في مسح الرجلين موسع ، من شاء مسح مقبلا ومن شاء مسح مدبرا ، وأنه من الأمر الموسع » بل قد يظهر من ملاحظة هذه وغيرها أن الحكم مقصور على الرجلين ، بل في الوسائل باب جواز النكس في المسح ، ولم ينقل هذه الرواية فيه ، بل‌ نقل رواية أنه « لا بأس بمسح القدمين مقبلا ومدبرا » فغير بعيد أن يكون هذا التغيير من النساخ ، وما يقال : انه يتم الاستدلال برواية القدمين بالإجماع المركب ، إذ لا قائل بالتوسعة فيهما دون الرأس يدفعه أنه ظاهر الشيخ في التهذيب ، بل هو صريحه ، وما عن ظاهر النهاية التي هي متون أخبار ، بل نقل في كشف اللثام التوسعة في القدمين عن جمع لم ينقل الجواز عنهم في المقام ، كما أنه قد نصل على الجواز في القدمين في الإشارة والمراسم ، وأطلقا في المقام ، فلعلهما يخالفان أيضا ، كما هو قضية حجية مفهوم اللقب في عبارة الفقهاء ، وأنه به يثبت الوفاق والخلاف. فقد ظهر لك من ذلك كله أن القول بعدم الجواز لا يخلو من قوة وإن كان الأول أقوى ، لمكان حصول التردد من جميع ما ذكرنا ، وما شك في شرطيته‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

١٩٧

ليس شرطا عندنا سيما في مثل الوضوء ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فما ذكره المصنف من الأفضلية كما في القواعد والإرشاد بل لم أعثر على مخالف فيه صريحا ، بل يظهر من المرتضى في الانتصار أن الإمامية بين قولين الوجوب وكونه مسنونا فلعل وجهه أنه المتبادر من الأخبار ، ولحصول يقين البراءة ، والخروج من شبهة الخلاف به ، وأوامر الاحتياط وتجنب الشبهات ، على أن التسامح في الاستحباب عقلي غير محتاج إلى الدليل ، كما هو مبين في محله ، وما ذكره من الكراهة كما في السرائر والمعتبر والقواعد والتحرير وغيرها لعله لعكس ما ذكرنا في وجه الاستحباب مقبلا ، والأمر سهل ، إذ المراد بالاستحباب والكراهة أفضل أفراد الواجب وأقلية الثواب ، لما عرفت من إيجاب المسح ، والله أعلم.

وكيف كان فلو غسل موضع المسح مجتزيا به عنه لم يجز كما صرح به في المقنعة والتهذيب والسرائر والمعتبر والمنتهى والقواعد والإرشاد والدروس والذكرى وغيرها ، بل في المنتهى أنه به قال علماؤنا أجمع ، وفي الذكرى وكشف اللثام لا يجزي الغسل عن المسح عندنا ، وفي الحدائق أن هذا الحكم ثابت عندنا إجماعا فتوى ودليلا وآية ورواية ، وكأن الوجه في ذلك واضح ، لكون الغسل والمسح فرضين متغايرين في نظر الشرع ، فلا يجزي أحدهما عن الآخر ، ولأن الله تعالى أوجب الغسل في الوجه واليدين ، والمسح في الرأس والرجلين ، فمن غسل ما أمر الله بمسحه أو مسح ما أمر بغسله لم يكن ممتثلا ، لاختلافهما لغة وعرفا ، كما يشير إلى ذلك‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر محمد بن مروان (١) : « انه يأتي على الرجل ستون وسبعون سنة ما قبل الله منه صلاة ، قلت : وكيف ذاك ، قال : لأنه يغسل ما أمر الله بمسحه » بل اللغة والعرف والشرع كتابا وسنة صريحة في أن الغسل غير المسح ، وأن الآتي بالغسل في مقام الأمر بالمسح وبالعكس ليس ممتثلا كما هو واضح ، إنما الإشكال في أنهما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

١٩٨

متباينان لا يصدق أحدهما على الآخر أو بينهما عموما من وجه؟ يظهر من جملة كالمرتضى والشيخ وغيرهم من الأصحاب الأول ، وصرح بعض المتأخرين بالثاني زاعما صدق اسم الغسل والمسح في إجراء الماء بمعونة اليد ، وصدق الأول بدون الثاني في جريان الماء بنفسه مثلا ، والثاني دون الأول بما لم يكن معه جريان للماء ، وعليه ينبغي التشخيص بالنسبة إلى محل الاشتراك بالنية ، فمن كان من نيته الغسل يعد ممتثلا في مقام الأمر به كالعكس ، بل لعل النية في ابتداء الوضوء كافية ، فلا تقدح الغفلة عنده حينئذ ، وقد يشير إليه‌ صحيح زرارة (١) قال : قال عليه‌السلام لي : « لو أنك توضأت فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت أن ذلك من المفروض لم يكن ذلك بوضوء » ويراد حينئذ بقول الأصحاب أن الغسل لا يجزي عن المسح ، وما نقلوه من الإجماع عليه الغسل الذي لا يتحقق معه مسمى المسح كجريان الماء بنفسه مثلا ، أو ما كان مع إمرار اليد وكان المقصود الغسل ، وأما إذا تحقق مسمى المسح كما إذا أمر يده وكان الماء قليلا اجتزى به وإن حصل معه الجريان الذي هو مسمى الغسل ، إذ لا شك في صدق المسح حينئذ ، ولا ينافيه صدق اسم الغسل الغير المقصود معه ، بل ربما يظهر من بعضهم دعوى كون ذلك ليس غسلا وإن حصل الجريان ، والاكتفاء به في مثل الوجه واليدين من دليل خارجي لا لصدق الغسل لكن المعروف بينهم الوجه الأول أي أنه لا ينافي صدق اسم المسح صدق اسم الغسل ، ويكون التقابل في الآية حينئذ باعتبار صورتي الافتراق والتنافي بالنية والقصد ، ويراد برواية ابن مروان التعريض بالعامة الذين يكتفون بالغسل الذي لا مسح معه عن المسح ، على أنه ضعيف السند ، بل قد يؤيده مضافا الى الصدق المتقدم أنه لو وجب المسح ببلة الوضوء بشرط عدم تحقق جريان ولو ضعيفا لكان فيه من الحرج والضيق المنافيين لسهولة الملة ما لا يخفى ، بل السكوت في مقام التعليم المستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة مع غلبة تحقق الجريان في البلة الباقية في اليد مما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١٢.

١٩٩

يدل على عدمه ، إذ لم يرد لنا خبر بتجفيفها أو تقليلها أو نفض اليد أو نحو ذلك ، بل لم ينقل عن أحد من السلف مع توفر الدواعي إليه ، بل لو ورد الأمر به لنا في المسح بالبلة ، إذ لا يكاد يحصل القطع ببقاء بلة بحيث لو مسح بها لم يجر شي‌ء منها ولم ينتقل من مكان إلى مكان إلا بتجفيفها جفافا يقرب إلى اليبوسة ، ومعه ينتفي المسح بالبلة ، فلا يبعد أن ينزل كلام الأصحاب على إرادة ما ذكرنا ، وإلا كان حينئذ للبحث معهم مجال.

ومما ذكرنا ظهر لك وجه القول بالتباين ، قلت : لا ينبغي الإشكال في تباين حقيقة الغسل والمسح ، وانهما لا يجتمعان في فرد واحد أبدا كما هو ظاهر الكتاب والسنة والإجماع والعرف واللغة ، لكون الغسل عبارة عن جريان الماء على المغسول وانتقاله من جزء الى غيره سواء كان بنفسه أو بمعين من يد أو غيره ، ولعل غمس العضو في الماء منه إدخالا وإخراجا ، وكذا المكث مع التحريك ، وقد يصدق على مجرد الإصابة في أماكن خاصة ، كما في البواطن التابعة للظواهر وما تحت الجبيرة ونحوها ، والمسح على ما قيل عبارة عن جر الشي‌ء على الشي‌ء مع مماسته له مع بقائه متصلا كالماء ورطوبته ، أو مع الانفصال كالمسح باليد ونحوها وبالتراب والغبار غالبا ، وكأن إيكاله إلى العرف أولى من هذا التعريف إلا أن يراد به مطلق التصوير.

وكيف كان فما ذكروه من الفرد الذي ظنوا أنه محل اجتماع ومن جهته حكموا بالعموم والخصوص من وجه وهو ما تحقق فيه إمرار اليد مع الجريان الضعيف فهو مما لا إشكال في الاجتزاء به ، كما قضت به تلك الأدلة التي سمعتها ، وما يظهر من الانتصار من عدم الاجتزاء به لأنه أخذ في المسح أن يكون بقدر من ماء لا يحصل معه جريان في غاية الضعف ، أو يرجع إلينا بوجه من الوجوه ، لكن ذلك في الحقيقة شيئان لا شي‌ء واحد مصداق للكليين كما هو قاعدة العموم والخصوص من وجه ، بل هما فردان متغايران‌

٢٠٠