جواهر الكلام - ج ٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الأصحاب في غير محله وإن تبعه عليهما بعض من تأخر عنهما ، بل ربما ظهر من صاحب المدارك اختيار المقدمي ناقلا له عن العلامة في المنتهى ، ولم أجده فيه ، بل الموجود خلافه ، كما يظهر للمتصفح لكلامه فيه ، ومنه أنه جعل غسل شي‌ء من العضد مقدمة لإدخال المرفق ، كما ذكر ذلك فيما لو انقطعت يده من المرفق.

والحاصل أن التأمل في كلمات القوم يشرف الفقيه على القطع بأن مرادهم به الوجوب الأصلي ، فيدل عليه حينئذ بعد ما سمعت من الإجماعات وغيرها ظواهر الوضوءات البيانية ، ففي بعضها (١) ( وضع الماء على المرفق ) وفي آخر (٢) ( الغسل من المرفق ) وهي وإن كانت أعم من المقدمي والأصلي لكنها ظاهرة في الأخير ، وما تقدم سابقا من المناقشة في دلالتها على الوجوب قد عرفت الجواب عنه ، واشتمال بعضها على لفظ ( الذراع ) لا ينافي دخول المرفق معه ، وقد يظهر الوجوب أيضا من‌ خبر ابن عروة التميمي (٣) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن قوله تعالى ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) فقلت : هكذا ، ومسحت من ظهر كفي إلى المرفق ، فقال : ليس هكذا تنزيلها ، انما هي ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) من ( الْمَرافِقِ ) ، ثم أمرّ يده من مرفقه إلى أصابعه » بناء على أن ابتداء الغاية داخل فيها ليس كإلغائه ، ولذا نقل عمن أنكر هناك وافق هنا ، لكنه مناف لجعل ( الى ) بمعنى مع في غيره كما تقدم ، مع أنه قد يقال : المراد بالتنزيل التأويل ، كما يقال يمكن تنزيله على كذا ، فيكون مقصوده إرادة عدم الغسل منكوسا ، أو أن ( الى ) هنا بالمعنيين أو يراد بكونها بمعنى ( مع ) دخول المرفق ، فلا ينافي جعلها بمعنى من ، كما أنه لا ينافيه ما في بعض الأخبار من جعل ( إلى ) غاية للمغسول لا للغسل ، إما للقول بأن الغاية داخلة مطلقا ، أو في خصوص المقام حيث لا مفصل محسوس ، أو للحكم بالدخول هنا خاصة لما سمعت من الإجماعات وغيرها ، هذا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

١٦١

وقد يستدل على المطلوب أيضا بخبر علي بن جعفر عن أخيه موسى عليهما‌السلام (١) « سألته عن رجل قطعت يده من المرفق كيف يتوضأ؟ قال : يغسل ما بقي من عضده » لكنه موقوف على بيان معنى المرفق ، فنقول انه مجمع عظمي الذراع والعضد كما عن التذكرة ، وعن الصحاح والقاموس أنه موصل الذراع في العضد ، وفى الحدائق « المرفق كمنبر ومجلس المفصل ، وهو عبارة عن رأس عظمي الذراع والعضد كما هو المشهور أو مجمع عظمي الذراع والعضد فعلى هذا شي‌ء منه داخل في العضد وشي‌ء داخل في الذراع » انتهى. وربما ظهر من بعضهم أنه نفس المفصل ، وبالجملة هل هو طرف الساعد أو أنه طرفا الساعد والعضد يظهر من بعض الأول ، ومن آخر الثاني ، وعليه يمكن الاستدلال بالرواية على إرادة وجوب غسل ما بقي من طرف العضد لكونه من المرفق ، ويكون قوله في السؤال ( قطعت من المرفق ) إرادة بعض المرفق ، ولعله على هذا يحمل استدلاله في جامع المقاصد على الدخول الأصلي بقول الكاظم عليه‌السلام في مقطوع اليد من المرفق : ( يغسل ما بقي ) قال : « فان غسله لو وجب مقدمة لغسل اليد يسقط بسقوطه » قلت : لكن لم أعثر إلا على هذه الرواية ، وهي مشتملة على‌ قوله : ( ما بقي من عضده ) فلم يبق احتمال أن يكون القطع من المرفق على معنى إرادة بقاء المرفق ، وكان ما ذكرناه أولى من حمل الرواية على استحباب غسل العضد كما ستسمعه ، ولعله للبناء على كون المرفق طرف الساعد فقط ، أو يراد بقوله في السؤال ( قطعت من المرفق ) أي تمامه ، وهو لا يحصل إلا بقطع الطرفين معا ، فيكون المراد بقوله عليه‌السلام : ( ما بقي من عضده ) بعد قطع طرفه الذي تمام المرفق ، فتأمل. ويجب الابتداء من المرفق وإدخاله والانتهاء إلى الأصابع ، فالمراد حينئذ وجوب البدأة بالأعلى على حسب ما ذكرناه في الوجه.

ولو غسل منكوسا لم يجز كما هو صريح الجمل والمعتبر والنافع والمنتهى والتحرير والقواعد والإرشاد والمختلف والدروس وجامع المقاصد وكشف اللثام وظاهر الإشارة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

١٦٢

واللمعة وغيرها ، بل في التنقيح وكشف اللثام نسبته إلى الأكثر ، وحكاه في المختلف عن الشيخ وابني حمزة وأبي عقيل وسلار ، وقال : انه رواه ابن بابويه في كتابه ، خلافا لابن إدريس في السرائر ، فحكم بالكراهة ، وعن المرتضى في أحد قوليه ، فحكم باستحباب البدأة من المرفق ، والأصح الأول ، لكثير مما تقدم في الوجه ، بل هنا أولى ، لظهور كثير من الوضوءات البيانية فيه ، ف‌ في بعضها (١) أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أفرغه على ذراعيه من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق » بل خبر علي بن يقطين المشهور المشتمل على المعجزة كاد يكون صريحا في ذلك ، بل هو صريح ، بل قد سمعت ما في خبر ابن عروة التميمي من التصريح بذلك ، وان الآية تنزيلها واغسلوا أيديكم من المرافق ، بل قال في السرائر : انه جاء فيه بلفظ الحظر وإن حمله على الكراهة زاعما أن الحكم إذا كان شديد الكراهة يجي‌ء بلفظ الحظر ، لكنك خبير أنه لا يرتكب من دون مقتض ، والأصل والآية لا يصلحان لذلك ، أما الأول فلانقطاعه ، وأما الآية فإن جعل الغاية فيها للغسل كان مقتضاها إيجاب النكس ، وهو باطل بالإجماع ، وإن جعلت للمغسول فغايتها الإطلاق الذي يحكم عليه المقيد ، وكذا ان جعلت بمعنى مع ، بل تكون دليلا لنا إن جعلت بمعنى من ، ولا عبرة بما ينقل من الإجماع في المقام بعد تبيين خطائه بمصير الأكثر إلى خلافه ، وتقدم لك في الوجه من الكلام ماله نفع تام في المقام فلا نعيده ، فلاحظ وتأمل. ولا خلاف بل ولا إشكال في أنه يجب البدأة باليمنى بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا الى ظاهر النصوص كما ستعرف ان شاء الله.

ومن قطع بعض يديه من دون المرفق غسل ما بقي من المرفق وما معه وجوبا إجماعا منقولا في كشف اللثام ، وهو قول أهل العلم على ما في المنتهى ، قلت : وكأنه لا خلاف فيه ، ويدل عليه ـ مضافا إلى ذلك وإلى الاستصحاب وعدم سقوط الميسور بالمعسور ـ خبر رفاعة (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : « سألته عن الأقطع فقال :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

١٦٣

يغسل ما قطع منه » والحسن بإبراهيم (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن الأقطع اليد والرجل قال : يغسلهما » وخبر رفاعة (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : « سألته عن الأقطع اليد والرجل كيف يتوضأ؟ قال : يغسل ذلك المكان الذي قطع منه » والمناقشة في دلالة هذه الأخبار بإرادة غسل محل القطع ضعيفة سيما بعد فهم الأصحاب ، كالمناقشة في جريان الاستصحاب هنا بكون المكلف به انما هو غسل المجموع من حيث المجموع وكان البعض مقدمة لتحصيل الجملة وبعد تعذر الكل لم يبق مجال للاستصحاب ، وفي‌ قوله عليه‌السلام (٣) : « لا يسقط الميسور بالمعسور » بأنه لا يجري في ذي الأجزاء ، نعم هو جار في ذي الجزئيات ، وذلك لكون اليد مرادا بها خصوص المرفق إلى رؤوس الأصابع مجاز فليس من مسمى الاسم حتى يتوجه فيه الاشكال ، واحتمال إرادة اشتراط المجموعية لا يقدح في جريان الاستصحاب ، نعم قد يتجه ذلك في مسمى الاسم كالوجه مثلا للمنع من عدم جريان‌ قوله عليه‌السلام : « لا يسقط الميسور بالمعسور » سيما في خصوص المقام لمكان فتوى الأصحاب ، وأما من قطعت يده من فوق المرفق سقط الغسل إجماعا على ما في المنتهى وكشف اللثام ، لسقوط الفرض بسقوط محله ، ولا دليل على البدلية ، وما في صحيح علي بن جعفر المتقدم سابقا ومثله غيره من الأمر بغسل ما بقي من العضد بعد السؤال عن القطع من المرفق قد عرفت وجهه فيما تقدم ، وفي المنتهى بعد ذكر الصحيح أنه مخالف للإجماع ، فإن أحدا لم يوجب غسل العضد ، فيحمل على الاستحباب ، ومثله في الحكم بالاستحباب عن نهاية الاحكام والذكرى ، وقد عرفت أن ما ذكرناه سابقا أولى وهو إرادة غسل طرف العضد بناء على أن المرفق مجموع العظمين ، ويحمل قوله : ( قطعت من المرفق ) على إرادة المفصل ، فتأمل. ويحتمل تقديم ما ذكروه ترجيحا لمجازية الندب على غيره ، سيما بعد ظهور قوله عليه‌السلام : ( ما بقي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٤.

(٣) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

١٦٤

من عضده ) في تمامه ، وكان عبارة المصنف وما ماثلها كالتحرير والمعتبر ظاهرة في إرادة بقاء المرفق وحده أو معه شي‌ء من الذراع ، فيحمل قولهم ومن قطعت من المرفق على إرادة دخول المرفق في القطع ، بل ينبغي القطع به من نحو قول المصنف بعد ما مر.

فان قطعت من المرفق سقط فرض غسلها نعم قد يظهر من المنتهى أن المرفق لا يدخل فيه طرف العضد ، ويظهر من غيره خلافه ، وإلا فاحتمال إرادتهم بقاء المرفق وانما سقط الغسل عنه لكون وجوبه من المقدمة بعيد ، بل باطل لما عرفت ، مع أن كلام المصنف هنا بل والمعتبر والعلامة في التحرير كالصريح في إرادة الأول ، قال في الأخير : « ولو قطع بعض يديه وجب غسل الباقي من المرفق ، ولو قطعت من المرفق سقط فرض غسلها » إذ الحكم بإيجاب غسل المرفق أولا قرينة على دخوله في القطع ثانيا ، اللهم إلا أن يجعل ( من ) الأولى ابتدائية لكنه بعيد ، وما نقله في كشف اللثام وغيره عن المنتهى من سقوط الغسل للوجوب المقدمي لم أتحققه ، بل قال في المقام : « لو انقطعت يده من المرفق سقط غسلها لفوات محل الغسل ، وللشافعي في غسل العظم الباقي وهو طرف العضد وجهان ، أصحهما عنده الوجوب ، لأن غسل العظمين المتلاقيين من العضد والمرفق واجب ، فإذا زال أحدهما غسل الآخر ، ونحن نقول انما وجب غسل طرف العضد توصلا إلى غسل المرفق ، ومع سقوط الأصل انتفى الوجوب » انتهى. ولا دلالة فيه على ما نقلوه عنه ، بل كلامه سابقا كما هنا كاد يكون صريحا في كون غسل المرفق واجب أصلي ، نعم هو ظاهر في أن المرفق عنده طرف الساعد ، وعلى كل حال فلا ينبغي الإشكال في سقوط الغسل الزائد عن المرفق بعد قطعه لما عرفت ، بل لا أجد فيه خلافا إلا ما حكاه في المختلف عن ابن الجنيد ، أنه قال : « إذا قطعت يده من مرفقه غسل ما بقي من عضده ، إلى أن قال : الحق عندي الاستحباب ، والظاهر أن ابن الجنيد أراده » انتهى. قلت : لا يبعد إرادته الوجوب عملا بظاهر الصحيح وغيره ،

١٦٥

وبإطلاق الأخبار المتقدمة ، لكن الأقوى خلافه ، لما عرفت من الأصل والإجماع المنقول ، بل يمكن دعوى تحصيله ، ولعل ابن الجنيد يريد طرف العضد بناء منه على أنه من المرفق كما ذكرناه سابقا ، والحاصل أنه لا إشكال في وجوب غسل المرفق لو بقي وحده بناء على المختار من كون وجوبه أصليا ، أما لو لم يبق منه شي‌ء فهل يستحب غسل العضد تماما أو يجب أو يستحب غسل مخصوص محل القطع أو مسحه؟ وجوه ، وبعضها أقوال ، وقد عرفت أن القول بالاستحباب في تمام العضد لا يخلو من وجه ، لظاهر الصحيح المتقدم إلا أن الأقوى حمله على ما تقدم ، فتأمل جيدا.

ولو كان له ذراعان دون المرفق أو أصابع زائدة أو لحم نابت أو غير ذلك وجب غسل الجميع بلا خلاف أجده في ذلك ، بل في شرح الدروس الإجماع عليه على الظاهر ، وفي المدارك لا ريب في وجوب غسل ما دون المرفق كله وإن لم تتميز الزيادة ، وبه صرح في المعتبر والإرشاد والتحرير والمنتهى والمختلف والقواعد والدروس وظاهر جامع المقاصد وغيرها ، وعن المبسوط على اختلاف في الأمثلة غير قادح ، ومنه يعلم حكم جميع ذلك لو كان في الوجه ، وقد يستدل عليه بأنه من جملة أجزاء ما يجب غسله أو كالجزء ، فأشبه الثالول ، وبالأمر بالغسل من المرفق إلى رؤوس الأصابع ولم يستثن شيئا ، وبصدق اسم اليد عرفا على مجموع ذلك ، وبأنه بدل عن المحل النابت فيه ، وبان ما علاه جلد محل الفرض ، ونحو ذلك مع مراعاة الاحتياط. لكنه لا يخفى عليك ما في الجميع بالنسبة إلى بعض أفراد الدعوى.

ولو كان شي‌ء من ذلك فوق المرفق لم يجب غسله قطعا ، لأصالة البراءة مع الخروج عن محل الفرض ، ولا إشكال فيه كما في المدارك ، وهو خيرة ما سمعت من الكتب المتقدمة صريحا في بعض وظهورا في آخر ، ومقتضى الإطلاق كما صرح به بعضهم عدم الفرق بين كونها محاذية لمحل الفرض وعدمه ، خلافا لما نقل عن الشافعي من إيجاب غسل المحاذي ، وهو ضعيف ، كما أن قضية الإطلاق الأول وجوب غسل‌

١٦٦

ما كان في محل الفرض وإن تدلى على غيره أو طال حتى زاد على المحل ، ولا ينافي ذلك ما ذكره العلامة رحمه‌الله في التحرير والمنتهى من أنه « لو انقلعت جلدة من غير محل الفرض حتى تدلت في محل الفرض وجب غسلها ، وبالعكس لا يجب نافيا للخلاف في الثاني في المنتهى » لأن الظاهر أن مراده بالانقلاع انقلاعا ممتدا بحيث انكشط بعض ما في المحل معها ، أو ما في الخارج بمعنى أنه لم يبق أصلها في محل الفرض أو في غيره بخلاف ما نحن فيه ، لكنه في كشف اللثام قال : « لو لم يخرج بالانكشاط عن المحل ولكن تدلت في غيره وجب غسل ما بقي منها في المحل قطعا ، وفي الخارج المتدلي وجهان من الخروج ومن الاتحاد كالظفر الطويل » فيحتمل أن يجي‌ء مثله في المقام في الصورة الأولى ، وهي ما خرج بعض اللحم النابت فيما دون المرفق حتى تدلى في غير المحل ، لكن الأقوى وجوب غسل الجميع كما هو مقتضى الإطلاق ، والأمر سهل. ثم ان مقتضى عبارة المصنف وما ماثلها عدم الوجوب لو نبت شي‌ء من الأشياء المتقدمة من المرفق ، والأقوى الوجوب لما عرفت من عدم الفرق بينه وبين ما دونه ، وما يقال : ان العمدة ظهور الإجماع هناك ، وهو مفقود في المقام فيه أن التأمل في كلامهم سيما ما ذكروه من الأدلة يقضي بالتساوي بينهما.

ولو كان له يد زائدة وجب غسلها سواء كانت دون المرفق أو فوقه أو فيه كما صرح به في المختلف ، بل كاد يكون صريح الإرشاد أيضا كما عن التلخيص ومحتمل التذكرة ، ويظهر من آخرين إيجاب غسل اليد إن كانت دون المرفق أو اشتبهت بالأصلية للتساوي في البطش والمقدار ونحو ذلك ، أما إذا علم زيادتها وكانت فوق المرفق سقط غسلها ، واختاره في القواعد والتحرير والمنتهى والدروس وظاهر جامع المقاصد ، وأطلق في المعتبر كما عن المبسوط عدم وجوب غسل اليد فوق المرفق ويمكن إرادتهما المتميزة لإطلاق اسم الزيادة عليها في المعتبر ، مع احتمال أن يريد بها الزيادة في أصل الخلقة ، حجة الأول ـ مضافا إلى موافقته‌

١٦٧

للاحتياط ـ صدق اسم اليد بدليل تقسيمها إلى الأصلية والزائدة ، فيشملها قوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) (١) وبالأولى إذا لم تكن متميزة ، ومقتضاه الوجوب الأصلي لا المقدمي حجة الثاني الأصل بعد انصراف إطلاق ما دل على وجوب غسل اليد إلى المتعارف المعهود ، لكنه يجب غسلهما معا عند الاشتباه للمقدمة ، أما مع عدمه فيقتصر على الأصلية ، والمناقشة فيه بأن مقتضى ذلك عدم وجوب غسل اليد الزائدة إذا كانت تحت المرفق مدفوعة بما سمعت من كونها كالجزء من المحل ، ولظهور الإجماع المدعى في ذلك المقام المؤيد بعدم العثور على مخالف فيه ، وربما استدل لهم بصدق اسم اليد مع الاشتباه ، فيكون مشمولا لما دل على وجوب غسل اليد بخلاف ما إذا كانت معلومة الزيادة ، لكن لا يخفى عليك أن مقتضى الدليل الأول الوجوب المقدمي ، والثاني الأصالي.

قلت لا ينبغي الإشكال في صدق اسم اليد حقيقة على المشتبهة بالأصلية ، بل وعلى بعض أفراد المعلومة الزيادة كما إذا كان لها مرفق مثلا ومساوية للأصلية في المقدار إلا أنها أضعف بطشا مثلا على ما جعلوه معيارا لمعرفة الزيادة من الأصلية ، وكأن مرادهم بالزيادة بالنسبة للمشتبهة بالأصلية الزيادة في أصل خلقة الغالب في أفراد الإنسان ، وإلا فهما متساويان بالنسبة إلى هذا البدن ، غايته انه موضوع جديد فرد نادر ليس على قياس غالب أفراد الإنسان ، فحينئذ إما أن يقال انه موضوع جديد لم يكن مشمولا للخطابات ، فيحتاج في كيفية وضوئه إلى دليل آخر ، والمتيقن من حصول طهارته غسل اليدين معا ، ولعل مرادهم بالمقدمة هذا المعنى لا المقدمة بمعنى أنه مكلف بغسل يد واحدة لكنه لم يعرفها فيجب غسلها مقدمة لتحصيلها ، إذ قد لا يكون في الواقع امتياز لأحد اليدين على الأخرى ، لكن ينافيه قولهم أو مشتبهة بالأصلية ، هذا إذا جعلنا لفظ ( كم ) الذي أضيفت إليه الأيدي غير متناول له ، أما لو قلنا بشموله له فاما ان نقول :

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٨.

١٦٨

لفظ ( الأيدي ) وإن كان متناولا لذلك حقيقة ، لكنه لما كان الغالب في الأفراد تثنية اليد لا تثليثها ولا تربيعها ، وان جمع الأيدي باعتبار أفراد المكلفين ، وإلا فالمراد غسل اليدين كما تضمنه السنة فحينئذ ينبغي ان نقول : انه من باب المطلق لا المجمل ، فله أن يغسل اليدين ويترك أحدهما لصدق غسل اليدين ، فلا يجب غسل الجميع حينئذ ، وإما أن نقول : ان المراد الجمعية مطلقا ، فالمتجه حينئذ وجوب غسلهما معا أصالة لا مقدمة ، والذي يقوى في النظر أن اليد إن كانت معلومة الزيادة بوجه من الوجوه التي يعرف بها ذلك على معنى معرفة اليد التي هي على أصل خلقة غالب أفراد الإنسان من غيرها كأن تكون مثلا تلك نابتة في العضد صغيرة ليست لها تلك القوة بحيث يعلم أن الأخرى هي الموافقة لأصل الخلقة فالظاهر حينئذ عدم وجوب غسل الزائدة ، لانصراف تلك الإطلاقات إلى المتعارف في خلقة الإنسان ، وصدق اليد عليها حقيقة لا ينافي ذلك ، وإيجاب غسلها إذا كانت تحت المرفق ليس لذلك ، بل هي كاللحم الزائد ، أما إذا لم يعلم زيادتها على ذلك النحو بأن يكون قد خلق الله تعالى له كتفين متساويين كل منهما له عضد مستقل ومرفق وذراع وكف فالظاهر حينئذ وجوب غسل الجميع ، لتناول إطلاق الأدلة ، وتثنية اليد في بعضها لا ينافي ذلك ، لجريانها مجرى الغالب ، أو للمقدمة لحصول الطهارة ، لعدم العلم بكيفية تكليفه ، وأما ما يظهر من كلمات الأصحاب من المقدمة لليد الأصلية فالظاهر خلافه ، لمنع الحصر بالزائدة والمشتبهة ، بل الحكم بأصالتهما معا متجه.

وتظهر الثمرة في كثير من المواضع ، منها انه بناء على ظاهر كلام الأصحاب ينبغي إيجاب المسح بهما معا مقدمة للمسح بالأصلية بخلافه على ما قلنا ، بل يكفى بالمسح بأحدهما ، وقد عرفت أن احتمال وجوب غسل أحدهما لا يخلو من وجه ، لكن الأقوى ما ذكرنا ، وطريق الاحتياط غير خفي ، هذا. ويجزي في اليد النابتة بالمرفق مع العلم بزيادتها ما يجري في غيرها من الأمور الزائدة ، والظاهر الوجوب ، وكان‌

١٦٩

التقييد في كلام الأصحاب بما دون المرفق لكونه أوضح في المثال للمسألة ، قال في المدارك : « إذا لم يكن اليد الزائدة لها مرفق لم يجب غسلها قطعا » ومراده خروجها عن أصل البحث في وجوب غسل الزائدة لو كانت فوق المرفق ، ولعل وجهه أن الشارع أمر بغسل اليد إلى المرفق ، وحيث لا مرفق يتعذر امتثال المأمور به ، فيسقط التكليف ، وعليه حينئذ ينبغي أن يلتزم فيما لو خلقت للشخص يد واحدة ولا مرفق لها بسقوط غسلها ، اللهم إلا ان يفرق بالإجماع ان تحقق ، وفيه منع ، إذا الظاهر بناء على وجوب غسل اليد الزائدة وجوبه وإن لم يكن لها مرفق ، إذ التكليف بغسل اليد ليس مبينا على الهيئة الاجتماعية ، كما ينبئ عنه إيجاب غسل الباقي من المقطوع وغيره ، وحينئذ فالظاهر التقدير بالنسبة لمن لا مرفق له على ذوي المرافق ، فتأمل.

( الفرض الرابع )

من فروض الوضوء مسح الرأس كتابا وسنة وإجماعا بين المسلمين‌ والواجب منه ما يسمى مسحا كما في الجمل والعقود والسرائر والنافع والمعتبر والتحرير والقواعد والمنتهى والإرشاد واللمعة والروضة وظاهر جامع المقاصد وغيرها ، وعن التبيان والمجمع وأحكام القران للراوندي وروض الجنان منسوبا في الأربعة الأخيرة إلى مذهب الأصحاب على ما حكاه في كشف اللثام ، وفي المدارك أنه المشهور بين الأصحاب وفي المختلف ان المشهور بين علمائنا الاكتفاء في مسح الرأس والرجلين بإصبع واحدة ، واختاره الشيخ في أكثر كتبه وابن أبي عقيل وابن الجنيد وسلار وأبو الصلاح وابن البراج وابن إدريس ، انتهى.

وفي كشف اللثام « أنه في المقنعة والتهذيب والخلاف وجمل السيد والغنية والمراسم والكافي والمهذب وموضع آخر من أحكام الراوندي أن الأصل مقدار إصبع » قلت : لعله لا نزاع بين الجميع ، لأن المراد بالإصبع أقل ما يتحقق به المسمى على أن يراد بالإصبع مقدار عرضه لا طوله ، كما يشعر به عبارة المقنعة ، حيث قال : « ويجزي‌

١٧٠

الإنسان في مسح رأسه أن يمسح من مقدمه مقدار إصبع يضعها عليه عرضا مع الشعر إلى قصاصه » وتحتمل وجها آخر ، وربما يشير الى ذلك أيضا ما في إشارة السبق والدروس لقولهما مسح الرأس بما يتحقق به مسماه ولا يحصل بأقل من إصبع ، وقد يكون ذلك ظاهر الخلاف أيضا ، لأنه قال : ويجزي مقدار إصبع واحدة ، واستدل عليه بإجماع الفرقة ، وب‌ قول أبي جعفر عليه‌السلام (١) « إذا مسحت بشي‌ء من رأسك فقد أجزأك » ويرشد إليه أيضا عدم ذكرهم ذلك مستقلا ممن عادته التعرض لمثل ذلك ، ونقله في المختلف عمن رأينا عبارته من الاجتزاء بالمسمى كابن إدريس ، واستدلاله في المنتهى على الاجتزاء بالمسمى برواية الإصبع التي ستسمعها ، إلى غير ذلك من الامارات الكثيرة الدالة على كون مرادهم المشهور الذي نقلناه أولا لكن قد تأباه عبارة التهذيب ، لأنه قال في الاستدلال على ما ذكره المفيد من الاجتزاء بالإصبع : ويدل عليه آية المسح ، ومن مسح رأسه ورجليه بإصبع واحدة فقد دخل تحت الاسم ويسمى ماسحا ، ولا يلزم على ذلك ما دون الإصبع ، لأنا لو خلينا والظاهر لقلنا بجواز ذلك لكن السنة منعت منه.

وكيف كان فلا ريب في أن ما ذكره المصنف هو الأقوى للأصل ، ولإطلاق قوله تعالى (٢) ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) مع تفسيرها بالصحيح أن المراد بها بعض الرأس لمكان الباء ، وما ينقل عن سيبويه من إنكار كون الباء للتبعيض لا يلتفت اليه ، مع أنه معارض بدعوى غيره ثبوتها في هذا المعنى ، وانها حقيقة ، والمثبت مقدم على النافي ، ويؤيده مجيئها في الشعر وغيره بهذا المعنى ، فليطلب من مظانه ، ومثلها إطلاق كثير من الأخبار الآمرة بالمسح على مقدم الرأس ، مع ظواهر كثير من الوضوءات البيانية في وجه ، ول‌ قول أبي جعفر عليه‌السلام (٣) في خبر زرارة وبكير ابني أعين :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٤.

(٢) سورة المائدة ـ الآية ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٤.

١٧١

« إذا مسحت بشي‌ء من رأسك أو بشي‌ء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك » وما في‌ مرسل حماد عن أحدهما عليهما‌السلام (١) : في الرجل يتوضأ وعليه العمامة قال : « يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه فيمسح على مقدم رأسه » لصدق إدخال الإصبع بما يتحقق به مسمى المسح ولو قدر أنملة من الرأس ، كما فهمه المفيد من رواية الإصبع بالنسبة للمرأة على ما ستسمع ، وفى الوسائل بعد أن نقل هذه الرواية عن الشيخ ذكر عن الكافي مسندا إلى‌ حماد عن الحسين (٢) قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل توضأ وهو معتم فثقل عليه نزع العمامة لمكان البرد ، فقال : ليدخل إصبعه » وفى المنتهى بعد أن ذكر الرواية الأولى قال : « وهذا الحديث وإن كان مرسلا إلا أن الأصل يعضده ، على أن ابن يعقوب رواه في كتابه عن حماد عن الحسين ، ورواه السيد المرتضى في الخلاف عن حماد عن أبي عبد الله عليه‌السلام » انتهى.

وكيف كان فالارسال على تقديره غير قادح بعد ما سمعت من الانجبار بالشهرة والإجماع المنقول ، خلافا لظاهر الصدوق في الفقيه ، فإنه قال : « حد مسح الرأس أن يمسح بثلاث أصابع مضمومة من مقدم الرأس » وللمنقول عن النهاية فإنه قال : « والمسح بالرأس لا يجوز أقل من ثلاثة أصابع مضمومة مع الاختيار ، فان خاف البرد من كشف الرأس أجزأه مقدار إصبع واحدة » وللمنقول عن أبي علي يجزي الرجل في المقدم إصبع والمرأة ثلاث أصابع ، وكان جميع هذه الأقوال لظاهر‌ قول أبي جعفر عليه‌السلام في الحسن (٣) كالصحيح : « المرأة يجزيها من مسح الرأس أن تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع ولا تلقي عنها خمارها » وخبر معمر بن عمر عنه عليه‌السلام أيضا (٤) قال : « يجزي من المسح على الرأس موضع ثلاث أصابع ، وكذلك الرجل » ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٥.

١٧٢

وقد يستدل أيضا بما دل على مسح المقدم من الأخبار لظهورها في استيعابه ، خرج الزائد عن الثلاث بالإجماع ، فيبقى الباقي. وتعرف الجواب عنها عند البحث عن المقدم إن شاء الله تعالى ولظاهر لفظ الاجزاء في أقل الواجب ، وللجمع بين هاتين الروايتين ورواية الإصبع المشتملة على ذكر البرد فصل الشيخ بين الاختيار وغيره ، وابن الجنيد بين الرجل والمرأة ، لكنك خبير أن مثل هاتين الروايتين ـ مع الطعن في سند الثانية ، وقلة العامل بهما ، بل الشيخ في النهاية لم يعرف أنه مذهب له ، ولذلك قال ابن إدريس أوردها إيرادا لا اعتقادا ، مع احتمالها إرادة الندب فإنه يعبر عن ذلك بعدم الجواز ، واحتمال عبارة الفقيه ان ذلك حد الرأس بمعنى أنه متى مسح بأي جزء منه أجزء ، كما لعله يشعر به عبارة الهداية أن حد الرأس مقدار أربع أصابع من مقدمه ، وتحتمل الندب أيضا ، مع أن ظاهر عبارة الفقيه إيجاب كون آلة المسح ثلاث أصابع ، والرواية لا تدل عليه ، مع ما عرفت من الشهرة بين الأصحاب والإجماع المنقول صريحا وظاهرا ـ غير صريحة في الخلاف ، لاحتمال إرادة الاجزاء في الفضيلة ، أو إلقاء الخمار ، مع اختصاص الرواية الأولى بالمرأة ، فلذلك كان حملها على الاستحباب متجها.

فقال المصنف والمندوب مقدار ثلاث أصابع مضمومة كما في المقنعة والخلاف والجمل والعقود والسرائر والمعتبر والقواعد والتحرير والنفلية وجامع المقاصد والروضة وغيرها ، وهو المنقول عن المبسوط والغنية والمراسم والوسيلة والمهذب ومصباح السيد والإصباح وغيرها عرضا كما في المقنعة والتحرير والنفلية وغيرها ، والظاهر أن المراد من المستحب مقدار عرض ثلاث أصابع ، لأنه المتبادر من التقدير بالثلاث أصابع ، ويظهر من بعض أن المراد استحباب هذا المقدار في عرض الرأس ، والفرق بين هذا وسابقه أن الأول مجمل بالنسبة إلى إرادة العرض من الممسوح أو طوله ، مبين بالنسبة إلى التقدير ، والثاني مجمل بالنسبة إلى المقدار ، مبين بالنسبة إلى عرض الممسوح ، وأنت خبير أن الروايات خالية عن بيان ذلك ، فيحتمل إرادة عرض‌

١٧٣

الثلاث بالنسبة إلى عرض الرأس أو طوله ، ويحتمل إرادة الطول مع العرض بالنسبة إلى عرض الرأس أو طوله ، فالاحتمالات أربعة ، ولعل الأظهر إرادة العرض من الأصابع ، لأنه المعروف من التقدير بذلك ، ولما كان المتعارف المسح بالنسبة إلى طول الرأس لا يبعد إرادة عرض ثلاث أصابع من طول الرأس ، ويحتمل جعله مطلقا بالنسبة إلى عرض الرأس وطوله لا مجملا.

وكيف كان فليس للرواية دلالة على استحباب كون المسح بالثلاث ، لكنك قد عرفت ان عبارة الصدوق ظاهرة في ذلك ، وفي إشارة السبق للحلبي « يستحب جمع أصابع الكف المتوسطة الثلاثة لمسح الرأس » قلت : قد يدعى أنه المنساق من الروايات وكلام بعض الأصحاب ، مع أنه هو المتعارف في الاستعمال ، واعلم أن ظاهر المصنف هنا وغيره ممن أطلق كإطلاقه عدم الفرق في ذلك في الواجب والمستحب بين الرجل والمرأة ، لكن بعض القدماء كالصدوق والمفيد وغيرهما ذكروا أن المرأة إذا توضأت ألقت قناعها ، ومسحت موضع المسح في صلاة الصبح والمغرب ، ويجزيها في غيرهما من الصلوات أن تدخل إصبعها من تحت قناعها من غير أن تلقيه ، وتمسح به ما تناله من محل المسح ولو قدر أنملة ، بل ظاهر الصدوق إيجاب ذلك ، وكأنه لخبرعبد الله بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : « لا تمسح المرأة بالرأس كما يمسح الرجال ، إنما المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها وتضع الخمار عنها ، فإذا كان الظهر والعصر والمغرب والعشاء تمسح بناصيتها » ولقصور الرواية عن إفادة الوجوب من وجوه كثيرة كانت محمولة على الاستحباب ، وتأكده بالنسبة إلى صلاة الغداة والمغرب كما عن المصنف ، وصرح به العلامة والشهيد ، وربما نقل عن بعضهم الاقتصار في المتأكد على صلاة الصبح خاصة ، ولعله للاقتصار عليه في الرواية المتقدمة ، والأولى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٥.

١٧٤

الأول ، للخبر المروي عن الصدوق في الخصال بسنده‌ عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) قال : « المرأة لا تمسح كما تمسح الرجال ، بل عليها أن تلقي الخمار عن موضع مسح رأسها في صلاة الغداة والمغرب وتمسح عليها ، وفي سائر الصلوات تدخل إصبعها فتمسح على رأسها من غير أن تلقي عنها خمارها » ولعل القول بأن الصبح أشد تأكيدا ثم من بعده المغرب ثم الثلاثة الأخيرة عملا بظاهر الخبرين أولى.

ثم انه بناء على ما هو التحقيق من الاجتزاء بالمسمى فالزائد مستحب محض إن كان المسح تدريجيا ، وإلا فهو أحد أفراد الواجب المخير ، كما إذا تحقق مسح مقدار الثلاث دفعة واحدة ، أما الأول فلتحقق الواجب ، فيحصل الاجزاء ، فيكون الزائد مستحبا محضا ، لأنه يجوز تركه لا إلى بدل ، وأما الثاني فلأن ماهية المسح تحققت لكونه فردا من أفرادها ، ولعل من أطلق القول بكونه أفضل أفراد الواجب كما نسب في المنتهى إلى المحققين أراد الثاني ، كمن أطلق كونه مستحبا أراد الأول ، وما يقال : من احتمال كونه على الأول أحد أفراد الواجب المخير لمكان قصده امتثال أمر المسح به ضعيف ، إذ لا دخل للقصد في صدق الماهية ، والامتثال ترتبه عليها عقلي ، نعم لو قام دليل من خارج أن من قصد امتثال أمر المسح بالزائد كان تكليفه ذلك ولا يجزيه حينئذ الأول وإن تحققت به الماهية لكان متجها ، لكن الفرض عدمه ، ونفس الأمر بالمسح لا ينتقل منه إلى ذلك ، ولقد أطال صاحب الحدائق في كون المدار على القصد ، فمن قصد امتثال أمر المسح بمقدار الثلاث مثلا لا يجزيه الأقل ما لم يعدل ، ومن قصد الامتثال بالأقل لم يكن الزائد واجبا ولا مستحبا ، لعدم الدليل على الوجوب ولا على الاستحباب ، لان ما دل عليه ظاهر في كون تأدية الواجب به مستحبا ، فبعد حصول ، الواجب لم يبق استحباب أصلا ، بل قال : اني لا أفهم وصف الزائد بعد تحقق الامتثال بالأقل بالاستحباب أو الوجوب ، نعم هو متجه بالنسبة إلى الفردين اللذين يتحقق بهما‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

١٧٥

الواجب على معنى كون الفرد الذي مساحة المسح فيه مقدار الثلاث أفضل من الفرد الآخر ، وأطال في الاعتراض على ما ادعى ظهوره من كلمات الأصحاب من كون الزائد على ما تحقق الواجب هل هو على الوجوب أو الاستحباب؟

قلت : أنت خبير بما فيه ، إذ مراد الأصحاب ان الزائد على مقدار المسمى هل هو مخاطب به خطاب ندبي غير خطاب الواجب ، فيكون مسحين أولهما ما تحقق الواجب والآخر مستحب محض ، أو أنه مسح واحد تأدى به الواجب ، فيكون المراد انه أفضل أفراد الواجب ، والحاصل ان مسح مقدار الثلاث هل هو أفراد لتحقق ماهية المسح ، فيتأدى الواجب بأولها والباقي مستحب ، أو أنه فرد واحد ، فيراد باستحبابه على معنى كونه أفضل أفراد الواجب؟ وقد عرفت ان الذي يقتضيه بادئ النظر الفرق في ذلك بين التدريجي والدفعي فالأول واجب ومندوب محض ، والثاني أفضل أفراد الواجب ، لكن قد يقال بعد التأمل في خصوص المقام : أنه من أفضل أفراد الواجب في كل من الدفعي والتدريجي بشرط اتصال المسح فيه ، لما يظهر من العرف انه مسح واحد كالغسل المتصل ، بل قد يدعى أنه الظاهر من قول الأصحاب ( المندوب مسح ثلاث أصابع ) إذ لا ينطبق على ظاهره ، لكون بعضه واجبا قطعا ، بل الذي يقتضيه الرواية فإن‌ قوله عليه‌السلام (١) : ( يجزي من المسح ) الى آخره بعد حمله على الندب لا معنى لأن يراد به الواجب والندب ، فالأقوى بحسب النظر كونه أفضل أفراد الواجب فيهما معا ، لكن بشرط عدم الانفصال في المسح التدريجي ، فتأمل جيدا. وفيما تركنا وذكرنا من كلام صاحب الحدائق مواضع للنظر لا تخفى على من لاحظها ، تركنا التعرض لها خوف الإطالة ، وأما احتمال القول انه في الدفعي مستحب لأنه يجوز تركه لا إلى بدل فضعيف جدا ، إذ البدل الاقتصار على الأقل.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٥.

١٧٦

ثم ان الزائد على القدر المستحب والواجب هل هو على الإباحة أو الكراهة أو التحريم؟ وجوه ، بل لعلها أقوال ، والتحقيق انه لا ينبغي الإشكال في عدم الحرمة في مسح الزائد الذي لم يخرج به عن مسمى البعضية مع كونه من المقدم أو الناصية ، والفرض خلوه من قصد التشريعية ، بل قد يدعى في مثله ان لا تشريع لو قصد لمكان الأمر بمسح المقدم والناصية ، فمن مسح أزيد من الثلاث من مقدمه وقلنا بكونه مسحا واحدا لا يبعد القول بأنه أحد أفراد الواجب وإن كان لا ثواب فيه زيادة على مسح الثلاث لو اقتصر عليها ، فإنه بعد ان عرفت ان الآية دلت على مسح بعض الرأس ، والسنة قيدت ذلك بالمقدم والناصية لا على إرادة إيجاب استيعابهما ، وروايات الثلاث دلت على انه منتهى الفضل في أفراد هذا الواجب مسح الثلاث ، وهو لا ينافي تأدي الواجب بالزائد على الثلاث وإن لم يكن فيه فضل زائد عليها ، نعم لو مسح مع بعض المقدم بعضا من غيره فالأصح الحرمة إن قصد التشريع ، وعدمها إن لم يقصد ، ووجههما واضح ، وهل يبطل الوضوء على الأول؟ وجهان ، أقواهما نعم ان قصده في ابتداء النية بحيث نوى القربة بوضوء هكذا مسحه ولا ان قصد التشريع في الأثناء ، لعدم دليل على إبطال ذلك ، مع تحقق امتثال الأمر بالوضوء وإجزائه ، أما لو مسح جميع رأسه فلا إشكال في عدم الحرمة حيث يكون قصد الامتثال بالبعض ، ووقع الباقي لا بقصد شي‌ء من الوضوئية ، وما يظهر من بعضهم من الحكم بالكراهة لم نقف له على مستند ، ولعله من جهة التشبه بالعامة ونحوه ، والأمر سهل ، أما لو قصد الامتثال بالمجموع فقد عرفت أنه لا إشكال في الحرمة ، وما في الخلاف من الإجماع على بدعيته منزل عليه ، ونحوه إطلاق المنقول من القول بالحرمة ، والأقوى بطلان الوضوء إن قصد ذلك في ابتداء النية ، وإن قصده في الأثناء فيحتمل القول هنا بالبطلان وإن لم نقل به في الصورة السابقة ، لعدم صدق امتثال مسح البعض المأمور به في الآية ، واستوضح ذلك في أن السيد إذا قال لعبده : كل بعض الرغيف أو اشرب بعض الماء فأكل وشرب‌

١٧٧

الجميع لم يكن ممتثلا ، والأقوى في النظر انها كسابقتها في الصحة ، لصدق تحقق البعض في مسح الجميع ، ولعل الأمر بإيجاب مسح البعض انما هو في مقام توهم وجوب الجميع ، فلا يفيد سوى الاجتزاء بذلك ، وحرمة الجميع إنما تجي‌ء من جهة التشريع.

وقد تظهر الثمرة في الغافل والجاهل المعذور ونحوه ، فإنه يتجه الفساد على الوجه الأول والصحة من دون حرمة على الوجه الثاني ، وقد يقال بالبطلان في جميع صور التشريع من غير فرق ، بين الابتداء والأثناء ، لكونه مسحا واحدا عرفا ، فلا يجتمع فيه الواجب والمحرم ، نعم لو كرر المسح بأن مسح الواجب ثم مسح غيره مع فصل بينهما اتجه القول بصحة الوضوء وإن أثم ، لكن الأول أقوى ، فتأمل.

ويختص الواجب من المسح والمستحب بمقدم الرأس فلا يجزي المسح على غيره ، كما في الفقيه والهداية والإشارة والجمل والعقود والتهذيب والخلاف والمراسم والمعتبر والسرائر والنافع والمنتهى والإرشاد والقواعد والتحرير والدروس واللمعة والروضة وغيرها ، بل في الخلاف وكشف اللثام الإجماع عليه ، كما في الانتصار مما انفردت به الإمامية القول بأن الفرض مسح مقدم الرأس ، والفقهاء يخالفون في ذلك ولا يوجبونها ، ولا شبهة في أن الفرض عند الإمامية يتعلق بمقدم الرأس ، ولا يجزي سواه ، ثم استدل على صحة ما ذهب إليه الإمامية بالإجماع ، ويدل عليه مضافا إلى ذلك الأخبار المعتبرة المستفيضة حد الاستفاضة ، ف‌ في الحسن كالصحيح منها (١) « امسح على مقدم رأسك » وفي آخر (٢) « يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه ، فيمسح على مقدم رأسه » الى غير ذلك من الأخبار المشتملة على ذكر المقدم من الوضوءات البيانية وغيرها ، فما في بعض الأخبار (٣) من الأمر بالمسح على خلف الرأس مطرح‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٦.

١٧٨

أو محمول على التقية قطعا ، كما انه يجب تقييد ما في البعض الآخر (١) من الأمر بمسح الرأس وشي‌ء منه بذلك ، بل مما‌ في كتابة أبي الحسن موسى عليه‌السلام إلى علي بن يقطين (٢) في الخبر المشهور المشتمل على المعجزة « امسح بمقدم رأسك » يستفاد الاجتزاء بمسح بعض المقدم ، فما يظهر من الخبر الأول وغيره من إيجاب مسح تمام المقدم لا يلتفت إليه ، خصوصا بعد الإجماع ظاهرا على عدم إيجاب مسح تمام المقدم حتى من القائل بالثلث ، لكن‌ في حسنة زرارة بإبراهيم بن هاشم (٣) قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « ان الله وتر يحب الوتر ، فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات ، واحدة للوجه ، واثنتان للذراعين ، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك ، وما بقي من بلة يمناك ظهر قدمك اليمنى ، وتمسح ببلة يسراك ظهر قدمك اليسرى » ما ينافي الاجتزاء بمسح شي‌ء من المقدم سواء كان ناصية أو غيرها ، إذ المراد بالمقدم ما قابل المؤخر والجانبين ، فيكون عبارة عن الربع من قنة الرأس المسامت للجبهة والناصية عبارة عما أحاطت به النزعتان إلى منتهاها على ما عن العلامة وغيره ، إلا انه قد يقال : الموجود في الأخبار وكلام الأصحاب بل هو معقد الإجماعات المسح على المقدم ، ولم أعثر على غير هذه الرواية تضمنت لذكر الناصية ورواية مسح الامرأة التي تقدمت سابقا ، لكن لا صراحة فيها ، بل ولا بمن عبر من الأصحاب بذلك عدا المفيد في المقنعة ، فإنه قال : « ثم يرفع يده اليمنى بما فيها من البلل فيمسح بها من مقدم رأسه مقدار ثلاث أصابع مضمومة من ناصيته الى قصاص شعره مرة واحدة ـ مع أنه قال بعد ذلك بكلام طويل ـ : ويجزي الإنسان في مسح رأسه أن يمسح من مقدمه مقدار إصبع » الى آخره. فيكون قرينة على إرادة الاستحباب بما ذكره أولا كما يرشد إليه أيضا قوله ثلاث أصابع ، كما‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

١٧٩

ان ابن إدريس في السرائر قال بعد ما نقلناه عنه من المسح على المقدم بكلام طويل : « وأقل ما يجزي في مسح الناصية ما وقع عليه اسم المسح » ولعله أراد بها المقدم ، وفي الذكرى « يجوز المسح على كل من البشرة والشعر المختص بالمقدم لصدق الناصية ـ ثم قال ـ : والأغم والأنزع يمسحان مكان ناصية مستوي الخلقة » والرواية مع ظهور إعراض الأصحاب وعدم صراحتها في الوجوب لاحتمال أن يكون قوله عليه‌السلام : ( وتمسح ) على إضمار ( أن ) فيكون معطوفا على قوله عليه‌السلام : ( ثلاث ) فلا تكون للأمر وما ينقل عن ابن الأنباري باشتراط كون المعطوف عليه مصدرا في نحو ذلك قد يمنع ، أو يقال : انه هنا بمنزلة المصدر لا تصلح لتقييد تلك المطلقات من النصوص وغيرها.

نعم قد يقال : المراد بالمقدم في النص والفتوى الناصية لا على جهة التقييد ، بل على دعوى أن ذلك أحد معانيه كما صرح به في القاموس على ما قيل ، وعن المصباح المنير أنه قال : « الناصية قصاص الشعر ، وجمعها النواصي ، ونصوت فلانا قبضت على ناصيته وقول أهل اللغة : النزعتان هما البياضان المكتنفان بالناصية ، والقفا مؤخر الرأس ، والجانبين ما بين النزعتين ومؤخر الرأس ، والوسط ما أحاط ذلك به ، وتسميتهم كل موضع باسم يخصه كالصريح في أن الناصية مقدم الرأس » انتهى. وقد يظهر أيضا من عبارة السرائر والذكرى المتقدمين. فما يظهر من بعضهم من أن المقدم عبارة عن ربع الرأس مبتدءا به من قنتة ، فالربع الذي يسامت الجبهة هو المقدم لا دليل عليه ، فيكون حينئذ المقدم عبارة عن الناصية ، وهي على ما عن العلامة وغيره عبارة عما أحاط به النزعتان حتى يسامت منتهاهما ، وربما ينطبق عليه ما في الهداية من أن حد الرأس مقدار أربع أصابع من مقدمه ، وما عن الناصريات « أنه قال الناصر : فرض المسح متيقن بمقدم الرأس ، والغاية إلى الناصية فكتب السيد هذا صحيح ، وهو مذهبنا ، وبعض الفقهاء يخالفونا في ذلك ، ويجوزون المسح على أي بعض كان من الرأس ، والدليل على صحة مذهبنا الإجماع » انتهى. وكان مراد الناصر بقوله وغايته الناصية أي منتهى‌

١٨٠