جواهر الكلام - ج ٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

أولى من ذلك ، نعم يتجه التقدير بهما بالنسبة إلى العرض. ( الثاني ) قوله في التحديد العرضي مستديرا ينافي ما ذكروه ، إذ لا استدارة فيه ، مع أنه كان ينبغي أن يقول مستديرين لكونه حالا من الإصبعين على الظاهر. ( الثالث ) ما قاله البهائي في الحبل المتين أنه بناء على هذا التحديد ينبغي دخول النزعتين لكونهما تحت القصاص مع خروجهما إجماعا وينبغي دخول الصدغين لدخولهما تحت الخط العرضي المار بقصاص شعر الناصية ويحويهما الإصبعان غالبا مع خروجهما بنص الرواية ، وأما العارضان فقد قطع بعض بدخولهما ، وبعض بخروجهما ، ومثلهما العذران ومواضع التحذيف ، الى أن قال : فظهر لك انه على ما فهمه الأصحاب من الرواية يقتضي خروج بعض الأجزاء عن حد الوجه مع دخوله في التحديد كما عرفت في النزعتين والصدغين ، ويقتضي دخول البعض منه مع خروجه عن التحديد المذكور ، فكيف يصدر مثل هذا التحديد الظاهر القصور الموجب لهذا الاختلاف من الامام عليه‌السلام ، ولذلك حمل الرواية على معنى آخر ، وقال : ما حاصله أن قوله عليه‌السلام : ( من قصاص ) متعلق بقوله : ( دارت ) فيراد حينئذ بيان ابتداء التدوير من القصاص ، بمعنى ان الخط المتوهم من قصاص الشعر إلى طرف الذقن ، وهو الذي يشتمل عليه الإصبعان غالبا إذا أثبت وسطه وأدير على نفسه حتى يحصل شبه دائرة ، فذلك القدر الذي يجب غسله ، فيكون مبدأ الدائرة انما هو القصاص والذقن وهو المنتهى أيضا ، وذلك لأنه يكون ما كان على القصاص على الذقن وما كان على الذقن على القصاص ، وعليه حينئذ يلتئم خروج الصدغين والنزعتين ، وكذلك مواضع التحذيف والعذارين لخروجها عن الدائرة كما يشهد به الاعتبار ، وأما العارضان فيدخل بعضهما ، واستجوده بعض من تأخر عنه كالمحدث الكاشاني ، وكأن الذي دعاه إلى ذلك مضافا إلى ما سمعت اشتمال الرواية على لفظ الاستدارة.

وفيه ـ مع أنه من المعاني الغامضة التي لا يليق بالإمام مخاطبة عامة الناس بها ، ومناف لما يظهر من كلام الأصحاب الماهرين الذين هم الأئمة في فهم الأخبار أصحاب‌

١٤١

القوى القدسية ـ انه مناف لما تسمعه من التحقيق الذي يأتي على جميع ما ذكرنا وذكر من الاشكال ، وهو أن الأصحاب لم يجعلوا الإبهام والوسطى معيارا للحد الطولي ، بل حددوه بكونه من القصاص إلى الذقن ، نعم قد جعلوهما حدا للعرض ، ومن المعلوم أن المراد بالقصاص قصاص الناصية ، ثم يؤخذ ما يسامتها من الجانبين في عرض الرأس ، فيخرج النزعتان لكونهما ليسا من الوجه قطعا ، إذ التحديد مساق لبيان الوجه ، وإلا فالدائرة التي ذكرها البهائي لا تجدي في دفع الإيراد بالنزعتين كما هو واضح ، فيراد حينئذ بعد تعليق الجار والمجرور بقوله عليه‌السلام : ( دارت ) ان ما أحاطت به الإبهام والوسطى وما جرت عليه من القصاص إلى الذقن فهو من الوجه ، بمعنى أن كل موضع جرت عليه الإصبعان من هذا المكان الذي هو من القصاص إلى الذقن فهو من الوجه ، ولعل هذا أولى مما ذكره لظهور قوله عليه‌السلام : ( دارت عليه الإبهام والوسطى من القصاص ) في كون ابتداء الدوران للإصبعين معا من القصاص ، وعلى كلامه يكون الدوران من القصاص للوسطى خاصة ، لكون المفروض أن الإبهام على الذقن ، بل لا معنى لجعل الذقن منتهى الدائرة لأن ابتدائها وقع من القصاص والذقن وانتهائها إليهما أيضا ، بأن يكون الإبهام على القصاص والوسطى على الذقن فيكون لكل من الإصبعين نصف الدائرة ، مع أن الرواية كادت تكون صريحة في إرادة ابتداء جريان مجموع الإصبعين من القصاص وانتهائه إلى الذقن ، وهو عين ما ذكره الأصحاب ، بل لا يخفى على المتأمل في التحديد الذي ذكره انه يخرج عنه بعض الجبينين قطعا ، مع أنهما من الوجه بديهة كما هو نص خبر إسماعيل بن مهران (١) بل قد يقال ان جميع ما تكلفه محافظة على حقيقة العبارة لا يتم معه ، لظهور‌ قوله ( عليه‌السلام : ( ما دارت عليه الإبهام والوسطى من قصاص ) إلى آخره في أن الإصبعين يدوران في جميع أجزاء الوجه من القصاص إلى الذقن فيلزم ما لا يتناهى من الاستدارة وهو لا معنى له ، إذ كيف يعقل حصول الاستدارة في خط‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

١٤٢

لا سعة له كما هو واضح ، وحمل اللفظ على إرادة معنى آخر ليس بأولى مما ذكرنا من إرادة الإحاطة ثم الجريان حتى ينتهيا إلى الذقن ، بل ذلك أولى من وجوه.

بل يحتمل أن يراد بالإدارة نفس الجريان ، وسمي مثل ذلك إدارة لانه يحصل منه شبه دائرة ، وبه يظهر وجه قوله عليه‌السلام : ( مستديرا ) إذ هو حال إما من لفظ ( ما ) أو من الضمير المجرور بحرف الاستعلاء ، ولا فساد في شي‌ء من ذلك ، لكنه يكون حينئذ ذكر الأصحاب للحد الطولي ليس لتضمن الرواية صريحا له ، بل هو لازم للمعنى الذي ذكرناه ، مع أنه يمكن ان يجعل الأول للحد الطولي على حمل ( دارت ) على معنى اشتملت وأحاطت ، ويكون قوله عليه‌السلام : ( وما جرت ) بيانا للحد العرضي ، ولا ضير فيه ، ولو لا مخافة إطالة الكلام لأطنبنا الكلام فيما يرد على ما ذكره ، وفيما ذكرنا الكفاية ، وبه يندفع جميع ما تقدم من الإشكالات ، وأما ما ذكره من خروج الصدغ مع دخولهما في تحديد الأصحاب ففيه أولا أن الصدغ المسمى بالفارسية ( بزلف ) على ما عرفت من تفسيره عند الأصحاب خارج عن التحديد المذكور كما يقضي به الاختبار ، بل قد يقال : انه من جملة منابت الشعر ، بل يرشد إلى خروجه اشتمال الرواية المتقدمة عليه ، لظهورها في عدم دخوله في التحديد ، لا أنه داخل وخرج بقوله عليه‌السلام : ( انه ليس من الوجه ) كما هو ظاهر عند التأمل ، ومن هنا لم أعثر على قائل بوجوب غسله سوى ما نقله في الذكرى عن أحكام الراوندي على ما قيل ، مع احتمال أن يكون مراده بعض الصدغ ، بل أكثره على تفسير بعض أهل اللغة بأنه ما بين لحظ العين إلى أصل الأذن.

لكنك قد عرفت أن المعروف بين الأصحاب تفسيره بخلاف ذلك ، ولذا قال في التذكرة على ما نقل عنه : الصدغان من الرأس ، وفي المنتهى بعد أن عرفه بما تقدم ذكره سابقا أنه لا يجب غسله معللا له ولغيره من النزعتين بأن التكليف بهذا شرعي ، ولا شرع يدل على التكليف بها ، وفي جامع المقاصد الصدغ الذي يتصل أسفله بالعذار ليس من الوجه قطعا ، إلى غير ذلك مما عثرنا عليه من كلمات الأصحاب ، فإنها مصرحة‌

١٤٣

بعدم وجوب غسله ، بل ظاهر كثير منها كصريح البعض أنه غير داخل في التحديد لا كلا ولا بعضا ، فيكون ذلك قرينة على أن المراد بالصدغ عندهم غير المعنى المذكور في كلام بعض أهل اللغة ، على أنه بناء عليه لا تجدي البهائية في خروجه ، بل يدخل بعضه فيها ككلام الأصحاب ، والتحقيق ما ذكرنا ، هذا. وربما ظهر من الخوانساري في شرحه على الدروس تسليم دخول بعض الصدغ في التحديد ، واستند في خروجه إلى الرواية ، لأنه فسره بأنه المنخفض الذي ما بين أعلى الأذن وطرف الحاجب ، وكأنه رحمه‌الله غفل عما هو المعروف بين الأصحاب من معناه ، فتأمل جيدا.

وأما النزعتان فقد عرفت أن عدم وجوب غسلهما إجماعي ، وان الدائرة البهائية لا تثمر في دفع ذلك ، لكنك قد عرفت أن المراد بالقصاص قصاص الناصية ثم يؤخذ ما يسامتها لإخراج المعلوم أنه من الرأس ، نعم قد يقال : بدخول ما يتفق في بعض الرؤوس من عدم استواء القصاص فيها ، مع أنه ليس من النزعة قطعا ، وأما العذار فليعلم أولا أن خلاف الأصحاب في هذه الأمور مرجعه إلى موضوع ، وهو أن مثل هذا الموضع هل تشمله الإصبعان أولا؟ وإلا فلا شك في الخروج مع عدم الشمول وفي الدخول معه ، ولعل منشأه وقوع الاشتباه بالنسبة للمختبرين واختلاف الأيدي والوجوه اختلافا لا يخرجه عن مستوي الخلقة ، أو الاختلاف في محل الاختبار بالإصبعين هل هو القصاص ثم يؤخذ على نسبة الحدين أو هو وسط التدوير أو انه يجزي الإصبعان من القصاص إلى الذقن فكل ما حوته يجب غسله اتفق أو اختلف ، وما يقال على الأخير : انه لو اعتبر ذلك لدخل ما علم خروجه من مسمى الوجه عند الاختبار قريبا من الذقن مدفوع بأن المراد ما حوته الإصبعان من الوجه العرفي كما يشعر به‌ قوله عليه‌السلام : ( وما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديرا ) فشمولها لمعلوم الخروج غير قادح ، ولعل قوله عليه‌السلام : ( وما جرت عليه ) بالجيم والراء يناسب الثالث على ما في بعض النسخ‌

١٤٤

كالموجود في بعض آخر بالحاء والواو على ما عرفت سابقا من أن المراد بالرواية ما دارت عليه الإصبعان من القصاص إلى الذقن ، إذ الاختبار بالإصبعين في كل موضع من مواضع الوجه ، فتأمل جيدا.

إذا عرفت ذلك فالعذار قيل بدخوله كما عن ظاهر المبسوط والخلاف وعن ابن الجنيد وبه صرح الشهيد في الروضة ، وقيل بخروجه ، واختاره المصنف في المعتبر والعلامة في المنتهى والتحرير وعن جملة من كتبه ، بل عن ظاهر كلامه في التذكرة دعوى الإجماع عليه ، وربما قيل بالتفصيل ، وهو دخول ما حوته الإصبعان منه وخروج الباقي كما نقل عن العلامة في نهاية الأحكام ، واختاره بعض من تأخر ، لكن منه قد يستظهر ان النزاع بينهم لفظي ، إذ القائل بوجوب الغسل مراده ما حوته الإصبعان منه والقائل بعدم وجوبه مراده خروج ما لم تحوه الإصبعان منه ، إذ لا معنى للقول بوجوب غسل الخارج بعد ما سمعت من التحديد ، كما أنه لا معنى للقول بعدم وجوب غسل الداخل بعده ، وكان سبب الاشتباه أن العذار وان عرف بما سمعت من أنه الشعر المحاذي للأذن يتصل أعلاه بالصدغ وأسفله بالعارض لكن ذلك تعريف لطوله ، وأما عرضه فلم يظهر مقداره ، فلعل القائل بخروجه يقتصر على ذلك المقدار الخارج بتسمية العذار ، ومثله القول بالدخول أو يريد به بعضه ، وإلا فالاصبعان لا تناله بتمامه قطعا. ودعوى وجوب غسله من باب المقدمة مدفوعة بأن المراد دخوله في أجزاء الوجه ، وإلا فهي واجبة في سائر الحدود من غير خصوصية لذلك ، على انه يكفي بعضه كدعوى أن شعر الخدين يجب غسله ، وهو متصل به لا مفصل محسوس بينهما ، وأما ما يقال : ان أسفله متصل بالعارض مع وجوب غسله قطعا ففيه أولا انا نمنع وجوب غسل مالا تناله الإصبعان كما ستسمع ، وثانيا لا ملازمة بين اشتمال الإصبعين على العارضين واشتمالهما على العذار ، إذ قد يختبر بالنسبة للعارض بنحو يشمل العارضين دون العذار ، وثالثا بإمكان المعارضة بأنه متصل بالصدغ الذي أجمع الأصحاب إلا نادرا على عدم وجوب‌

١٤٥

غسله ، وظاهرهم انه لا تناله الإصبعان ، وفي الدروس وجامع المقاصد وعن الذكرى أن غسله أحوط ، ولعله خروجا عن شبهة الخلاف ، فيكون لذلك مستحبا ، ولا ينافيه ما في المنتهى والتحرير أنه لا يستحب ، بل في الأخير انه يحرم ان اعتقده ، لأن الظاهر إرادة نفي الاستحباب الذاتي لا الاحتياطي.

ومما ذكرنا تعلم انه لا إشكال في عدم وجوب غسل البياض الذي بين الأذن والعذار ، وأما العارض فقيل بدخوله كما اختاره الشهيدان ، بل قطع أولهما به كما عن ثانيهما نقل الإجماع عليه ، وعن أبي علي أن كلامه يعطي الدخول ، وذهب العلامة في المنتهى إلى خروجه ، وعنه في النهاية التفصيل بين ما شملته الإصبعان منه وما لم تشملاه منهما. قلت : لا ينبغي الإشكال في وجوب غسل الأسفل منه لتناول الإصبعين له ، وأما أعلاه فهما ينالان شيئا من عرضه ان قلنا بتسمية ذلك عارضا ولا يشملانه تماما قطعا ، وما في المدارك ـ من الإيراد على الاستدلال هنا بشمول الإصبعين بأن ذلك انما يعتبر في وسط التدوير من الوجه وإلا لوجب غسل ما تناولاه وان تجاوز وهو باطل إجماعا ـ مدفوع بأنه مناف لظاهر الرواية ، بل صريحها من الاعتبار بهذا التحديد في سائر الوجه ، كاندفاع ما أورده بأن المراد ما تناولاه من أجزاء الوجه كما هو صريح الرواية ، فيخرج المعلوم منه أنه ليس منه ، وأنت إذا أحطت خبرا بما قدمناه في العذار تعرف خصوص ما يتعلق بالمقام ، فلا حاجة إلى الإعادة ، وأما مواضع التحذيف على ما عرفت من تفسيرها فأدخلها بعضهم ، وأخرجها آخرون ، وليس ذلك من جهة شمول الإصبعين وعدمه ، بل لكونها منابت من القصاص أولا ، ولعل الأظهر دخولها ، لأنها كما عرفت منابت الشعر الخفيف ، والظاهر عدم دخولها في مسمى شعر الرأس ، كما يشعر به سبب تسميتها بذلك من كثرة حذف الشعر فيها من النساء والمترفين ، مع تأيده بالاحتياط ، إذا عرفت ذلك كله ظهر لك ما ذكره البهائي في دائرته وما فيه ، لكن من المعلوم أنه يجب في جميع ما ذكرنا من الحد الطولي والعرضي إدخال بعض الزائد على المحدود من باب المقدمة‌

١٤٦

لتحصيل العلم بغسل المأمور به سيما بالنسبة للتحديد العرضي ، لأن معرفته على التحقيق في غاية الإشكال خصوصا للأعوام ، بل يكفي في إشكاله ما وقع بين العلماء كما سمعت ، فإذا أتى بالزائد احتياطا فرغت ذمته يقينا ، إذ ليس عليه الوقوف على نفس الحد ، لكن يجب نية غسل الوجه المأمور به شرعا ، أما لو أدخل بعض الزائد في النية على أنه مغسول أصلي ابتداء لا في أثناء غسل العضو قوي القول بالفساد للتشريع ، ويكون قوله عليه‌السلام : ( فان زاد عليه لم يؤجر ) أي على وضوئه لفساده ، وفيه تعريض بوضوء العامة ، ويحتمل القول بالصحة ، كما لعله يشعر به قوله عليه‌السلام : ( لم يؤجر ) أيضا لمقابلته له بقوله عليه‌السلام : ( إن نقص أثم ) وأولى منه في ذلك ما إذا نواه في الأثناء أو نوى غسل الوجه في الواقع ، ولكن كان بزعمه ان المجموع وجه وإن كان زعما باطلا ، فتأمل جيدا.

ولا عبرة بالأنزع الأصلع الذي قد انحسر الشعر عن بعض رأسه فساوى بعض مقدم رأسه جبهته ، ولا بالأغم المقابل للأول وهو الذي ينبت الشعر على بعض جبهته ، فلا يجب على الأول غسل ذلك المقدم ، كما أنه يجب على الثاني غسل القصاص الذي على الجبهة ، فيرجع كل منهما إلى الغالب في أكثر الناس ، لانصراف التحديد اليه وإن كان في صدق اسم الوجه على الثاني محل تأمل ، ويجب عليه الغسل من القصاص إلى الذقن وإن طال وجهه بحيث خرج عن المتعارف لصدق اسم الوجه وحصول التحديد في المستوي.

ولا بمن تجاوزت أصابعه العذار أو قصرت عنه ، بل يرجع كل منهم إلى مستوي الخلقة كما صرح به غير المصنف أيضا من غير تردد ولا إشكال ، وكأنه لانصراف التحديد المذكور إلى الغالب ، والظاهر أنه كذلك ، لكن المراد بالرجوع إلى المستوي في عريض الوجه أو صغيره مع طول الأصابع هو أن يفرض مثلا لعريض الوجه أصابع مناسبة على نحو أصابع المستوي لوجهه ، وبمعناه انه يقدر في المستوي ويحدد‌

١٤٧

بحدود ويؤخذ على نسبة تلك الحدود من غيره ، لا أن معنى الرجوع إليه انه يؤخذ مقدار أصابع المستوي من الوجه العريض جدا ، إذ على ذلك يخرج كثير من مسمى الوجه بحيث يقطع بعدم الاجتزاء به ونحوه هؤلاء في الرجوع إلى المستوي ، كذلك من لم يكن تسطيح جبهته أو خديه أو علو أنفه أو هبوطه على المتعارف ، فان الجميع يرجع إلى المستوي على حسب ما ذكرنا.

ويجب أن يغسل جميع ما تقدم بيانه من الوجه مبتدء من أعلى الوجه إلى الذقن ، ولو خالف وغسل منكوسا لم يجز على الأظهر كما في صريح المبسوط والمعتبر والمنتهى والقواعد والتحرير والإرشاد وجامع المقاصد وظاهر المقنعة والوسيلة والتنقيح ، ونسبه في المختلف إلى سلار وابن أبي عقيل وابن الجنيد ، وقال : انه رواه ابن بابويه في كتابه ، وأنه ظاهر أبي الصلاح لكن ما وصل إلى من عبارة المراسم لا ظهور فيها بذلك كعبارة المهذب والكافي ، وأما الغنية فصريحة في إرادة التحديد ، ولعله لذا لم ينقل عنهم في كشف اللثام ، فلاحظ وتأمل ، ونقله في التنقيح عن المرتضى في أحد قوليه ونسبه في المدارك ، وعن غيره إلى الشهرة بين الأصحاب ، وفي التنقيح وعن التذكرة إلى الأكثر ، بل في بعض حواشي الألفية الاتفاق عليه ، وخالف في ذلك فحكم بالصحة ابن إدريس في السرائر ، كما عن المرتضى في المصباح ، ويظهر من جملة من متأخري المتأخرين الميل اليه ، بل ربما كان ظاهر من أطلق غسل الوجه ، والأول هو الأقوى لحكاية الباقر عليه‌السلام وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدة أخبار ، ففي بعضها (١) انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أخذ كفا من ماء وصبه على وجهه » وفي آخر (٢) « فأسدله على وجهه » وأظهر منهما ما في‌ الصحيح عن زرارة (٣) قال : « حكى أبو جعفر عليه‌السلام وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعا بقدح من ماء ، فأدخل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١٠.

١٤٨

يده اليمنى ، فأخذ كفا من ماء ، فأسدلها على وجهه من أعلى الوجه » إلى آخره. وما في‌ الصحيح أو الحسن عنه عليه‌السلام (١) أيضا أنه (ص) « غرف ملأها ماء ، فوضعها على جبهته » وعن‌ تفسير العياشي أنه « غرف غرفة فصبها على جبهته فغسل جبهته » مع أن العلامة في المنتهى وعن الشهيد في الذكرى أنهما قالا بعد الصحيح الأول : روي عنه عليه‌السلام (٢) انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد ما توضأ : « إن هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به » وفي ) الوسائل عن قرب الاسناد‌ عن أبي جرير الرقاشي (٣) قال : قلت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام : « كيف أتوضأ للصلاة ، فقال لا تعمق في الوضوء ، ولا تلطم وجهك بالماء لطما ، ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء مسحا ، وكذلك فامسح على ذراعيك ورأسك وقدميك » بل قد يقال : أنا في غنية عن الأخبار البيانية ، للقطع بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يغسل مبتدءا من الأعلى لكونه إما واجبا أو راجحا مع كراهة النكس كما يقوله الخصم ، وهو لا يفعل المكروه ، ولا يترك الراجح ، فلما علمنا ذلك وجب التأسي بفعله ، لكن في المدارك كما عن الأردبيلي والبهائي التنظر فيه ، وتبعهم عليه بعض من تأخر عنهم بأنه « من الجائز أن يكون ابتداؤه بالأعلى لكونه أحد جزئيات مطلق الغسل المأمور به لا لوجوبه بخصوصه » فان امتثال الأمر الكلي يتحقق بفعل جزئي من جزئياته ، ولا إجمال في غسل الوجه حتى يكون فعله بيانا له ، فيجب اتباعه ، وأما النقل الذي ذكر فمرسل ، وبذلك يجاب عن الأخير ، مع إمكان التزام جواز كون البدأة بالأسفل وإن كان مكروها لبيان الجواز » انتهى.

واعتراضه في الحدائق بوجوه ستة ، لكن كثيرا منها بمعزل عن الورود عليه ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢٢.

١٤٩

بل الأولى أن يقال : انه وإن كان وقوع الفعل بنفسه لا يدل على الوجوب التعييني بعد إطلاق الأمر ، لكنه قد يستفاد منه ذلك في خصوص المقام ، لظهور حكاية الباقر عليه‌السلام له فيه ، كظهور نقل زرارة إسدال الماء من أعلى الوجه أنه فهم منه وجوب ذلك ، بل الظاهر من الأخبار في المقام مثل‌ قوله (ع) « ألا أحكي لكم وضوء رسول الله ) (ص) » أنه تعريض في العامة من الوضوء المنكوس ، بل قد يرشد إلى ذلك خبر علي ابن يقطين المشهور (١) مضافا إلى ما سمعت من‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( هذا وضوء لا يقبل الله ) إلى آخره ولا يقدح فيها إرسالها ، لانجبارها بما سمعت ، كما لا يقدح ما في رواية قرب الاسناد بعد الانجبار به أيضا ، وبذلك كله يقيد ما يستدل به للمرتضى رحمه‌الله من إطلاق الغسل الواقع في الكتاب والسنة المتحقق بكل منهما ، مع احتمال انصرافه إلى المتعارف من الابتداء بالأعلى ، لا أقل من الشك في شمول الإطلاق لهذا الفرد ولو لما تقدم أو الشك من جهة تعارض الأدلة ، فيبقى الأصل وهو استصحاب بقاء الحدث سالما عن المعارض ، فتأمل جيدا ، ومن‌ قوله عليه‌السلام في خبر حماد (٢) : « لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا » الذي فيه من الضعف ما لا يخفى ، إذ الكلام في الغسل دون المسح ، وحمله على ما يشمل الغسل مجاز لا قرينة عليه ، ثم الظاهر من كلام الأصحاب أن مرادهم بالنكس في المقام الذي جعلوه مذهبا للمرتضى ومنعوه هو عدم وجوب الابتداء بالأعلى مثلا ، وأما كيفية الغسل هل تجوز منكوسة أو لا بمعنى ان القائلين بوجوب الابتداء بالأعلى هل يجوزون النكس في الغسل نفسه بان يستقبل الشعر فيه مثلا ، إما مع الجمع بينه وبين الابتداء بالأعلى في ذلك إن أمكن ، أو أنه بعد الابتداء بشي‌ء من الأعلى أولا يجوزون ذلك؟ وكذلك المرتضى رحمه‌الله ومن تابعه القائلون بجواز النكس هل يريدون الابتداء من الأسفل في مقابلة الابتداء من الأعلى من غير‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

١٥٠

نكس في نفس الغسل أو أنه أعم من ذلك؟ فلا دلالة في شي‌ء من كلامهم عليه ولا تلازم بين المسألتين ، إلا أن الذي يظهر من ملاحظة كلام القائلين بعدم وجوب الابتداء بالأعلى جواز النكس في نفس الغسل ، كما يظهر من ملاحظة كلام بعض القائلين بوجوب الابتداء بالأعلى أنه لا يجوز النكس في الغسل ولو بعد الابتداء بالأعلى ، ولعل الوضوءات البيانية ـ مع ما في بعض الأخبار (١) انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أفرغ الماء على ذراعه من المرفق إلى الكف لا يريدها إلى المرفق » ومعروفية ذلك بين العامة ، مع تصريح جملة من قدماء الأصحاب بأنه لا يستقبل الشعر في الغسل ، وانه به افترق عن المسح ـ يؤيد الثاني ، لكن الإنصاف أنه لا دليل معتبر على المداقة في ذلك بحيث لا فرق فيه بين القليل والكثير ، فلعل الأقوى في النظر عدم البأس في اليسير منه ، كما أن الأقوى البطلان فيما كثر منه بحيث صار كغسل العامة ، قال في المدارك : « واعلم ان أقصى ما يستفاد من الأخبار وكلام الأصحاب وجوب البدأة بالأعلى أعني صب الماء على أعلى الوجه ثم اتباعه بغسل الباقي ، وأما ما تخيله بعض القاضرين من عدم جواز غسل شي‌ء من الأسفل قبل غسل الأعلى وإن لم يكن في سمته فهو من الخرافات الباردة والأوهام الفاسدة » انتهى ، واستجوده بعض من تأخر عنه.

قلت : وحاصل الاحتمالات في المسألة أربعة ( الأول ) وجوب الابتداء بالأعلى خاصة ولو كان يسيرا كأن يكون بل إصبعه وغسل شيئا من أعلى جبهته ، ولا ترتيب في الباقي. ( الثاني ) ما ذكره عن بعض القاصرين وهو وجوب غسل الأعلى فالأعلى وان لم يكن مسامتا ، وعن الشهيد الثاني في شرح الرسالة انه وجه وجيه ، ( الثالث ) وجوب غسل الأعلى فالأعلى في خصوص المسامت ، فلا يجوز غسل الأسفل قبل الأعلى المسامت له ، ولعل ما ينقل من العلامة في مسألة من أغفل لمعة يحتمله وسابقه ، قال بعد أن نقل عن ابن الجنيد التفصيل بأنه إن كانت دون الدرهم بلها وصلى ما صورته : « ولا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

١٥١

أوجب غسل جميع ذلك العضو ، بل من الموضع المتروك الى آخره ان أوجبنا الابتداء من موضع بعينه ، والموضع خاصة ان سوغنا النكس » انتهى. ( الرابع ) ان يراد غسل الأعلى فالأعلى لكن لا على التحقيق لتعسره أو تعذره ، فلا تقدح المخالفة اليسيرة التي لا يخرج بالعرف فيها عن ذلك ، وهو ظاهر المنقول عن الشهيد الثاني في شرح الرسالة واختاره بعض أصحابنا المتأخرين. أما ( الأول ) فهو وإن كان يقتضيه كلام كثير من المتأخرين لكن المستفاد من أخبار الوضوءات البيانية خلافه وخلاف المحكي من وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأما ( الثاني ) فلا ريب في فساده لما فيه من العسر والحرج ، بل التعذر ، بل ملاحظة الأخبار تشرف الفقيه على القطع بعدمه ، لما فيها من سهولة غسل الوضوء ، منها‌ الصحيح أو الحسن (١) المتضمن لحكاية وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أنه غرف ملأ كفه فوضعها على جبينه ، ثم قال بسم الله وسدله على أطراف لحيته ثم أمر يده على وجهه وظاهر جبينه مرة واحدة » فإنه كالصريح في عدم ذلك ، ومثله آخر (٢) « أخذ كفا من ماء فأسدله على وجهه ثم مسح وجهه من الجانبين جميعا » فان مسح وجهه من الجانبين بعد الإسدال الأول كالصريح في بطلان تلك الدعوى إلى غير ذلك ، ويقرب من هذا الاحتمال في العسر والحرج وغيرهما الاحتمال ( الثالث ) وهو وجوب غسل الأعلى فالأعلى مسامتا ، بل وكذا الوضوءات البيانية تشرف الفقيه على القطع بعدمه أيضا ، على أنك قد عرفت أن العمدة في وجوب البدأة بالأعلى انجبار تلك الأخبار بالشهرة ، وهي غير معلومة في المقام ، بل معلومة العدم ، ومن هنا ينقدح قوة الوجه الأول لو لا ما يظهر من ملاحظة الوضوءات البيانية خلافه ، ولعل الوجه ( الرابع ) أو قريبا منه أقرب الاحتمالات حينئذ إليها ، وأقرب منه ما في أيدي الناس الآن من كيفية الوضوء ، فإنها كلها من الكيفيات المحفوظة عنهم عليهم‌السلام وأما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٦.

١٥٢

احتمال وجوب الانتهاء بالذقن كوجوب الابتداء بالأعلى كما يقضي به بعض العبارات كعبارة المصنف رحمه‌الله ونحوها فالظاهر عدمه ، فتأمل جيدا.

وهل المراد بالبدأة بالأعلى عدم جواز النكس المنصرف في بادئ الرأي إلى ما ينافي البدأة بالأعلى ضرورة كون أظهر أفراده ما عند القوم من الغسل منكوسا من منتهى العضو ، فلا يقدح حينئذ غسل جميع الجبهة مثلا دفعة ، كما عساه يحتمل من قول المصنف وغيره من تفريع عدم جواز النكس على ذلك ، فيكون مساقا في الرد على المرتضى ، أو أن المراد وجوبه ، فلا تجزي المقارنة ولا النكس ، كما يقضي به قولهم وجوب البدأة ، لأنه كما ينافيه النكس ينافيها المقارنة؟ وجهان ، لكن قد يشكل الثاني بأنه يلزم منه فساد أكثر وضوءات الناس ، إذ من المقطوع به أنه يغسل مع الجزء الأعلى غيره دفعة ، واحتمال القول أن المقصود غسل الأعلى ويكرر بالنسبة إلى غيره ولذلك يكرر إمرار اليد ، فيكون غسل ثان حينئذ خلاف الواقع ، بل لعل فيما ذكرناه من الوضوءات البيانية من إمرار يده مرة واجدة شهادة بخلافه ، نعم قد يقال : لا يراد بالأعلى الخط الذي ليس أعلى منه خط فقط ، بل المدار فيه على صدق البدأة بأعلى الوجه ، ويؤيده الوضوء بالمطر ونحوه ، وعليه فلا يجزي غسل الوجه إذا وضعه في حوض أو غيره مع نية الغسل في آن من الآنات ما لم ينو ابتداء الغسل من الأعلى ثم يحصل غسل آخر بعد ذلك ، ولعله الأقوى في النظر.

ولا يجب غسل ما استرسل من اللحية كما في التحرير والقواعد والدروس طولا أو عرضا كما نص عليه في الخلاف والمعتبر والمنتهى والمدارك وكشف اللثام وغيرها ، بل في الخلاف « ان دليلنا أصالة البراءة ، وشغلها يحتاج إلى دليل ، وعليه إجماع الفرقة المحقة » إلى آخره. إذ الظاهر ان مراده نقل الإجماع على ما نحن فيه ، والمراد بالمسترسل المذكور هو الخارج عن حد الوجه كما نص عليه بعضهم ، وحينئذ فالظاهر ان الإجماع منعقد على عدم وجوب غسله كما نص عليه في المدارك وكشف اللثام وغيرهما‌

١٥٣

لعدم دخوله في مسمى الوجه ، أو لخروجه عن التحديد كما هو المفروض ، فما ينقل عن بعض العامة من وجوب غسله زاعما أنه من الوجه لبعض الاستعمالات الغير المطردة في غاية الضعف ، مع ما في المدارك عن أكثر العامة من القول بعدم الوجوب أيضا ، أما ما دخل منه في حد الوجه فالظاهر أن وجوب غسله إجماعي كما في شرح الدروس ، بل يظهر من بعضهم عدم دخوله تحت اسم المسترسل ، كآخر الاستدلال عليه بصدق اسم الوجه عليه ، لكن فيه من الضعف مالا يخفى ، كالاستدلال بشمول التحديد له إذ التحديد لما كان من الوجه.

فالأولى في الاستدلال عليه ما ستسمعه (١) من الأخبار الدالة على سقوط وجوب غسل البشرة كقوله عليه‌السلام (٢) : « كل ما أحاط به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه ولا يبحثوا عنه ، ولكن يجري عليه الماء » فان الظاهر رجوع الضمير المجرور إلى الشعر فيفيد إيجاب إجراء الماء على الشعر المحيط بدلا عن البشرة ، فيؤخذ على ذلك الحد قبل نبات الشعر ، وبمعناه أنه لو حدد بالإبهام والوسطى بعد نباتة فكل ما دخل تحتهما من الشعر وجب غسله ، نعم يشكل هذا بأنه لو نقص عن الحد الأول قبل نبات الشعر كما إذا كان الشعر كثيفا جدا لم يقتصر عليه ، فالأولى مراعاة التحديد قبل نباتة ، لكن الظاهر أن الواجب غسل الظاهر من الشعر ، ولا يجب التبطين ، لقول أحدهما عليهما‌السلام في خبر محمد بن مسلم (٣) قال : سألته « عن الرجل يتوضأ أيبطن لحيته؟ قال : لا » وفي بعضها (٤) ( انما عليك أن تغسل ما ظهر ) وللوضوءات البيانية ، إذ لا يخفى على من لاحظها ظهورها بل صراحتها في عدم ذلك ، ففي الحقيقة حينئذ كما يكون الشعر بدلا عن البشرة يكون بدلا عن بعضه لكونه محيطا به أيضا ، فتأمل.

__________________

(١) وفي نسخة الأصل ( بعد ما ستسمعه ) ولا يخفى أن لفظ ( بعد ) زائد ومخل.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٦.

١٥٤

وهل يستحب غسل المسترسل الخارج عن حدود الوجه كما عن الشهيد في الذكرى ناقلا له عن أبي علي ، ولعله لقول زرارة (١) في حكاية أبي جعفر عليه‌السلام وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وسدله على أطراف لحيته » ولاستحباب التخليل ، لكن في كشف اللثام ضعف الدليلين واضح ، قلت : هما على ضعفهما كافيان في الحكم الاستحبابي ، بل قد يؤيده الأخبار المتكثرة الآمرة بأخذ الماء من اللحية عند الجفاف الشاملة للمسترسل منه الظاهرة في أنه مقدم على غيره ، إذ مع فرض أنه ليس مستحبا في الوضوء يكون لا فرق بينه وبين ماء الوضوء المحفوظ في طشت ونحوه ، ومنه تظهر ثمرة للحكم بالاستحباب وعدمه زيادة على نفس الاستحباب ، وإذ قد عرفت أنه يجب غسل الشعر بدلا عن البشرة فالظاهر الاجتزاء بغسل الظاهر.

ولا يجب تخليلها كما في الخلاف بل يغسل الظاهر لما رواه الشيخ‌ في الصحيح عن زرارة (٢) قال : قلت : « أرأيت ما كان تحت الشعر قال : كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يغسلوه ولا يبحثوا عنه ، ولكن يجري عليه الماء » وفى الوسائل رواه الصدوق بإسناده‌ عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام (٣) قال : قلت له : « أرأيت ما أحاط به الشعر فقال : كل ما أحاط به من الشعر فليس على العباد أن يطلبوه ولا يبحثوا عنه ، ولكن يجري عليه الماء » وصحيح ابن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام (٤) قال : سألته « عن الرجل يتوضأ أيبطن لحيته؟ قال لا » وفي‌ خبر زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « انما عليك أن تغسل الظاهر » و ( انما ) تفيد الحصر ، وفى الخلاف بعد أن قال : إيصال الماء إلى ما يستره شعر اللحية وتخليلها غير واجب ، قال : « دليلنا أن الأصل براءة الذمة ، وإيجاب التخليل يحتاج إلى دليل ، وعليه إجماع الفرقة » وظاهر إطلاق المصنف وغيره وما سمعت من الأخبار عدم الفرق بين الكثيفة والخفيفة كما نص‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

١٥٥

عليه في المعتبر والتحرير والمنتهى والإرشاد وجامع المقاصد والروضة ، بل نسبه في الدروس إلى الشهرة ظاهرا منها اختياره ، بل ربما نقل عن المبسوط ، وقد سمعت إطلاق كلامه في الخلاف ، وقيل إن خفت اللحية وجب تخليلها ، واختاره في القواعد والمختلف واللمعة ، كما عن ظاهر ابني الجنيد وأبى عقيل والسيد في الناصريات ، والمراد بالخفيف ما تتراءى البشرة من خلاله في مجلس التخاطب ، ويقابله الكثيف كما يظهر من بعضهم ، بل نص عليه في جامع المقاصد والروضة وغيرهما ، لكن لا يخفى عليك ما في هذا التفسير من الاجمال ، لاختلاف المجالس وأحوال الشعر وجلوس المخاطب ، فلعل إناطته بالعرف أولى من ذلك وإن كان هو لبيانه.

وربما ظهر من بعض أن النزاع في ذلك لفظي ، لأن الجميع متفقون على وجوب غسل البشرة التي بين الشعر ، وعدم وجوب غسل المستور بنفس الشعر ، فلا نزاع حينئذ ، وآخر أن النزاع في خصوص المستورة ، وإلا فالظاهرة بين الشعر لا كلام في وجوب غسلها ، وثالث فجعله في خصوص الظاهرة ، وإلا فلا كلام في عدم وجوب غسل المستورة ، وكأن السبب في ذلك وقوع بعض عبارات من بعضهم ، فيأخذ المتخيل بها ويحكم بها على الجميع ، وهو غير لائق ، وإلا فيحتمل أن يكون كلامهم في مسألة التخليل ليس لغسل البشرة ، بل المراد أنه هل يجب غسل الشعر الباطن عوض البشرة أو يجتزى بغسل الشعر الظاهر كما لعله تشعر به بعض عبارات بعضهم أيضا؟ والتحقيق أنه لا ينبغي الإشكال في عدم وجوب التخليل في الكثيفة ، للسنة والإجماع المنقول ، بل يمكن دعوى تحصيله ، وأما الخفيفة فإن كانت خفة يمتنع معها صدق اسم الإحاطة كأن تكون متباعدة المكان مثلا فلا ينبغي الإشكال في وجوب غسل ما بين هذا الشعر ، لصدق اسم الوجه واستصحاب بقاء التكليف ، إذ لا دليل على البدلية ، وأما ما كان تحت هذا الشعر فيحتمل الاجتزاء بغسل الشعر ، لصدق الإحاطة وكونه مما يواجه به ، وضعفهما ظاهر ، ويحتمل إيجاب غسل البشرة لكون الوجه اسما‌

١٥٦

لها ، فيستصحب بقاء التكليف بها مع الشك في شمول الأدلة لمثله إن لم نقل بظهور العدم ، وحينئذ فهل يجب غسل الشعر معها فيكون كشعر اليد؟ وجهان أيضا ، أقواهما عدم الوجوب ، لعدم الدخول في مسمى الوجه ، ودعوى أن كل شعرة بدل عن محل منبتها لتعذر غسله ممنوعة ، ولم لا يكون ذلك قرينة على السقوط ، على أنه لا يقضي بسقوط الغسل عن كل ما سترته كيف ما كان ولو بالاسترسال في المحل مثلا ، وأما إذا لم تكن الخفة بتلك المثابة فالأقوى في النظر عدم الوجوب مطلقا ، وفاقا للمشهور نقلا بل وتحصيلا مع النظر إلى من أطلق ومن نص على الإطلاق ، فيجتزى بغسل الشعر عما تحته وعما بين الشعرات ، لصدق الإحاطة لغة وعرفا ، وترك الاستفصال في خبر التبطين ، مضافا إلى إطلاق الإجماع كما سمعت من عبارة الخلاف ، بل قد يدعى ظهورها في إرادة الخلال ما بين الشعر ، لاقتضاء عطفه على المستور بشعر اللحية مغايرته.

وما يقال : ان التخليل لا يشمل غير المستور بنفس الشعر ممنوع ، بل قد يدعى صدق استعمال الخلال في هذا أكثر وأشيع ، كل ذلك مضافا إلى الوضوءات البيانية ، وإلى ما يظهر من الأخبار من المبالغة في قلة ماء الوضوء والاكتفاء بكف واحد للوجه ، بل في خبر علي بن يقطين (١) المشهور المشتمل على المعجز ما يدل على أن التخليل من مذهب العامة ، فلاحظ وتأمل. مع أنه لو وجب غسل ما بين الشعر أو ما تحته لاحتاج إلى كثرة ماء حتى يستيقن بحصول الغسل المطلوب شرعا ، ومن هنا قيل أنه لا يحصل له اليقين بذلك حتى يضع وجهه في حوض أو نهر أو نحوهما ، وفيه من العسر والحرج مالا يخفى ، بل كيف يعقل الفرق بين المستور بالشعر وغيره مع شدة اختلافه باختلاف الأمكنة والأوقات وتفريق الشعر وعدمه ونحو ذلك من جلوس الرائي والمرئي ، فقد ينكشف بعض البشرة الآن ويستتر غيرها ساعة أخرى ، على أنه أي ثمرة يحصل لهذا النزاع ، فإنه لا يعلم غسل ما بين الشعر من دون أن يغسل جميع البشرة ، وهذا عين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

١٥٧

الطلب والبحث المنفي بالرواية ، وما في المختلف ـ من الجواب عن رواية التبطين انها محمولة على الساتر ، وأيده برواية الإحاطة ـ ضعيف وتحكم بلا حاكم ، وبما ذكرنا ينقطع استصحاب غسل نفس بشرة الوجه ، ودعوى الشك في بدلية الشعر في المقام ممنوعة ، لما سمعت من ظهور الأخبار مع إطلاق فتوى المشهور ، كمنع ما سمعت من دعوى الإجماع على وجوب غسل ما بين الشعر ، مع معارضته بما سمعته عن بعضهم من أن النزاع فيه ، بل التتبع والتأمل والتروي يورث الظن القوي بل العلم بخلافه.

وأما قوله عليه‌السلام في خبر زرارة المتقدم ( انما يغسل الظاهر ) فبعد الغض عما في السند في شموله لمثل الظاهر بين الشعر الخفيف نظر ، لظهور غيره منه كما هو واضح ، مع معارضته بخبر الإحاطة ، نعم قد يقال : بوجوب غسل ما أحاط به الشعر على جهة التدوير ، كما لو كانت بقعة في وسط اللحية ونبت الشعر دائرا عليها ، للشك في شمول الإحاطة بمثله ، بل هي ظاهرة في غيرها ، فالأحوط غسلها مع الشعر ، وأما المستور بالاسترسال كما لو ستر استرسال الشارب شيئا من بشرة الوجه فالأقوى وجوب غسل البشرة ، ثم أن مقتضى الصحيح المتقدم عدم الفرق بين سائر الشعور النابتة في الوجه كالعنفقة والشارب والحاجب وغيرها كما نص عليه بعضهم ، بل في الخلاف الإجماع على عدم وجوب إيصال الماء إلى أصل شي‌ء من شعر الوجه ، بل قد يستفاد من ذلك الصحيح قاعدة عامة جارية في سائر الشعور بالنسبة إلى جميع الأفعال حتى يرد المخصص كما في غسل الجنابة ، فان الواجب فيه غسل البشرة وإن كثف الشعر ، لكن لم أعثر على عامل به على عمومه ، بل قد يظهر مما ذكره بعضهم من إيجاب غسل البشرة في اليد وإن كثف الشعر خلافه ، وهو وإن أمكن تعليله بشمول اسم اليد عرفا لشعرها النابت عليها ، ولذا يجب غسله مع البشرة لكنه غير خال من الإشكال ، لصحة الرواية وظهورها بل صراحتها ، بل لا يبعد في النظر العمل بعمومها حتى يجي‌ء ما يحكم عليها ، كالعمل بما يظهر منها من أن بدلية الشعر في مقام يكون كذلك بدلية حتمية لا رخصة ،

١٥٨

فلا يجزي حينئذ غسل البشرة دونه ، وقوله عليه‌السلام : ( ليس عليهم ) وإن كان ظاهرا في إرادة الرخصة ، لكن الموجود في رواية الشيخ أنه ( ليس للعباد أن يطلبوه ) على أنه بعد أن ما دلت الرواية على سقوط الوجوب المستفاد من الأمر الأول يحتاج إلى دليل آخر دال على الاجتزاء به ، ودعوى استفادته من الأمر الأول محل نظر ، فالموافق للاحتياط الواجب المراعاة في نحو المقام غسل الشعر ، للقطع بالاجتزاء به دون غيره ، وقال الشهيد في الدروس : « يستحب التخليل وإن كثف الشعر » ولم أعثر له على دليل يقتضيه ، بل قد يظهر من ملاحظة الأدلة خلافه ، نعم قد يتجه ذلك في الخفيفة خروجا عن شبهة الخلاف ، وحيث اشتملت الرواية على العموم اللغوي التي يتساوى جميع الأفراد بالنسبة إليه لم يختلف الحال في الموافق للغالب وعدمه ، فالأغم مثلا إن كان كثيف الشعر اجتزي بغسله ، وفي الخفيف ما تقدم.

وكذا لو نبت للمرأة لحية لم يجب تخليلها قطعا مع الكثافة ، وفي الخفيفة ما تقدم ، وإن ظهر من بعضهم دعوى الإجماع هنا على عدم وجوب التخليل مطلقا ، لكن فيه أن المسألة من واد واحد ، بل هي أولى بوجوب التخليل ولو مع الكثافة ، حملا لدليل الشعر على الغالب المتعارف ، كما ينقل عن بعض العامة وإن كان ضعيفا ، لما عرفت من العموم اللغوي فيه ، ولذا كان الظاهر انعقاد الإجماع من أصحابنا على عدم وجوب التخليل في الكثيفة ، وأما الخفيفة فكسابقها من لحية الرجل ، وقد عرفت أن المختار عدم الوجوب هناك ، فلم يجب هنا. وكفى إفاضة الماء على ظاهرها كما يكفي ذلك في الرجل.

( الفرض الثالث )

من فروض الوضوء غسل اليدين كتابا وسنة وإجماعا بين المسلمين ، والواجب غسل الذراعين والمرفقين أصالة ، كما هو ظاهر التهذيب والخلاف والمعتبر والنافع والمنتهى‌

١٥٩

والقواعد وصريح جامع المقاصد مرجحا له بشهرته بين العلماء ، ومحتمل الإرشاد والتحرير ، بل لعله الظاهر ممن عبر بوجوب الغسل من المرافق كاشارة السبق والجمل والدروس واللمعة ، لدخول ابتداء الغاية فيها كما يظهر من الاستدلال على الدخول بما تضمن الغسل من المرفق ، بل يرشد إليه قول الفاضل في القواعد : « الثالث غسل اليدين من المرفق إلى أطراف الأصابع ، فإن نكس أو لم يدخل المرفق بطل » إذ تفريعه على كلامه الأول كالصريح فيما ذكرنا ، وفى كشف اللثام في شرح العبارة « إجماعا في الثاني مما عدا زفر وداود وبعض المالكية » انتهى. وإذ قد عرفت ظهورها في إرادة الأصلي كان الإجماع عليها ، وفي الخلاف « أن غسل المرفقين واجب مع اليدين ، وبه قال جميع الفقهاء إلا زفر ـ إلى أن قال ـ : وقد ثبت عن الأئمة عليهم‌السلام أن ( الى ) في الآية بمعنى مع » وفي المعتبر « ويجب غسل اليدين مع المرفقين ـ إلى أن قال ـ : وعليه الإجماع خلا زفر ومن لا عبرة بخلافه » وفي المنتهى « ويجب غسل اليدين بالإجماع والنص ، وأكثر أهل العلم على وجوب إدخال المرفقين » وفي جامع المقاصد « أنه ذكر المرتضى وجماعة من الموثوق بهم ان ( الى ) هنا بمعنى مع » وعن جامع الجوامع « ان أكثر الفقهاء ذهبوا إلى وجوب غسلهما ، وهو مذهب أهل البيت عليهم‌السلام » انتهى.

بل قد يؤيد ذلك أي إرادة الوجوب الأصلي جعلهم ( الى ) في الآية بمعنى مع كما في التهذيب والمعتبر والمنتهى وغيرها عند التعرض للرد على العامة ، والتزام دخول الغاية في المغيا إما مطلقا أو في خصوص المقام حيث لا مفصل محسوس ، ومن العجيب جعل الآخر في التنقيح قولا بالوجوب المقدمي ، كما أنه قد يؤيده أيضا أنهم بصدد بيان الواجب الأصلي لا المقدمي ، سيما وليس من عادتهم التعرض لمثل ذلك ، فما وقع من جملة من المتأخرين كالمقداد والمحقق الثاني أن الإجماع منعقد على وجوب غسل المرافق مع الذراعين ، لكنه هل هو أصلي أو من باب المقدمة فأدخلا الإجمال في عبارات‌

١٦٠