جواهر الكلام - ج ٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

مع أنه لا يصدق على تمام مسح طول الرجل مثلا بنداوة الوضوء ، هذا إن لم نقل بعدم صدق اسم النداوة مع الغسلة الثالثة ، وإلا لجاز أخذ ماء جديد ومزجه مع ما في اليد والمسح به ، وصريح الروايات وكلام الأصحاب ينفيه. فظهر لك حينئذ من هذا أنه لا وجه لإطلاق القول بالبطلان لمكان المسح بمائها ، لما عرفت من أنه لا تلازم بين فعلها والمسح بمائها ، نعم هو متجه في بعض الأفراد ، ولذا قال في الدروس : ويبطل إن مسح بمائها ، ونحوه عن الذكرى والبيان ، وفي المدارك ينبغي القطع ببطلان الوضوء إن مسح ببلتها.

ثم اعلم أنه قد يظهر من المدارك والمنتهى وكذا المعتبر الفرق بين ما نحن فيه من الغسلة الثالثة وبين من زاد ثانية معتقدا وجوبها بأنه لا يبطل الوضوء وإن مسح بمائها ، لعدم خروجه بذلك عن ماء الوضوء بخلاف الثالثة ، نعم في المعتبر جواز المسح بماء الثالثة لحصول بلة الوضوء لا لكون مائها ماء وضوء ، لكن قد يختلج في بادئ الرأي الإشكال في هذا الفرق ، ولذا قال في التذكرة : « لو اعتقد وجوب المرتين أبدع وأبطل وضوءه ، لأن المسح بغير ماء الوضوء لعدم مشروعيته على إشكال » انتهى. قلت : ولعل الوجه في الفرق أن نية الوجوب في مقام الندب مع تشخص الفعل غير قادحة كالعكس ، لكن اللازم من ذلك حينئذ عدم سقوط الأجر عليها مع تصريحهم بسقوطه ، ولعله لقوله عليه‌السلام : « من لم يستيقن أن واحدة في الوضوء تجزؤه لم يؤجر على الثنتين‌ » وربما تخرج هذه الرواية دليلا على وجوب نية الوجه ، إلا أن اللازم من العمل بهذه الرواية في خصوص المقام هو ما قاله في التذكرة ، فالجمع حينئذ بين القول بكون مائها ماء وضوء مع عدم الأجر عليها لمكان هذه الرواية مما لا يخلو من إشكال ، سيما مع البناء على اشتراط نية الوجه ، فتأمل جيدا.

وليس في المسح وجوبا ولا استحبابا تكرار بلا خلاف أجده ، وهو مذهب الأصحاب كما في المعتبر ، ومذهب علمائنا أجمع كما في المنتهى والتحرير والمدارك‌

٢٨١

وعن التذكرة ، بل في الخلاف تكرار مسح الرأس بدعة مدعيا عليه إجماع الفرقة ، وفي السرائر لا تكرار في مسح العضوين ، فمن كرر ذلك كان مبدعا ، وعن ابن حمزة أنه من التروك الواجبة ، وكان مراد الجميع أنه محرم مع قصد المشروعية ، وأما بدونها فلا ، نعم في الدروس وعن البيان أنه مكروه ، بل نسبه في الحدائق إلى الشهرة بين الأصحاب ، ولم أعثر له على دليل خاص ، لكن لمكان التسامح فيه يمكن الاكتفاء بفتوى من عرفت ، وبما ذكر له من التعليل من أنه كلفة غير محتاج إليها ، وللخروج من شبهة إطلاق المحرمين ونحو ذلك ، مع ما عن شارح الدروس أنه لا بأس بالقول بالكراهة للشهرة بين الأصحاب ، بل الإجماع ظاهرا انتهى ، وفي الخلاف « أنه روى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في مسح الرأس والقدمين واحدة » قلت : الموجود في‌ رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) في مسح القدمين ومسح الرأس فقال : « مسح الرأس واحدة من مقدم الرأس ومؤخره ، ومسح القدمين ظاهرهما وباطنهما ».

وكيف كان فيدل على الاكتفاء بالمرة ـ مضافا إلى ما تقدم ـ الوضوءات البيانية وإطلاق الأمر في الكتاب والسنة المتحقق بها ، وبما سمعت من الإجماعات وغيرها يعلم أن المراد بقولهم عليهم‌السلام ( الوضوء مثنى مثنى ) مالا يشمل المسح ، وأما ما في‌ خبر يونس (٢) قال : « أخبرني من رأى أبا الحسن عليه‌السلام بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب ، ومن الكعب إلى أعلى القدم » بل عن ابن الجنيد الفتوى بمضمونه فلعل المراد منه أنه كرر استظهارا للاستيعاب الطولي ، كما لعله يظهر من عبارة ابن الجنيد ، وأن المراد فعل ذلك مرتين في وضوءين كما يرشد إليه‌ قوله (ع) فيه : « الأمر في مسح القدمين موسع ، من شاء مسح مقبلا ومن شاء مسح مدبرا ، فإنه من الأمر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

٢٨٢

الموسع إن شاء الله » وعلى كل حال فان كرر بقصد المشروعية لم يبطل الوضوء بلا خلاف كما في السرائر وإجماعا في المدارك ، وهو متجه إن لم يدخله في ابتداء النية كما عرفت سابقا ، والله أعلم.

المسألة ( الرابعة ) يجزئ في امتثال الأمر بالغسل ما يسمى به غاسلا عرفا وان كان مثل الدهن كما في سائر الألفاظ التي ليست لها حقيقة شرعية ، مع أنه ليس في اللغة ما ينافي المعنى العرفي هنا ، والظاهر أخذ الجريان في مفهومه عرفا ، كما في الانتصار والسرائر والمنتهى والقواعد والذكرى والدروس وجامع المقاصد والتنقيح وكشف اللثام والناصريات والمبسوط والمهذب والبيان وروض الجنان ، بل في السرائر أنه الموافق للسان الذي أنزل به القرآن ، وفي كشف اللثام أنه يشهد به العرف واللغة ، وعن الروض انه في اللغة إجراء الماء على الشي‌ء إزالة الوسخ ونحوه بإجراء الماء عليه ، وعن حاشية المجلسي على التهذيب « ان ظاهر الأصحاب اتفاقهم على لزوم الجريان في غير حال الضرورة ، وان الأصحاب حملوا أخبار الدهن على أقل مراتب الجريان مبالغة » انتهى. وفي التنقيح تحديد أقل الغسل أن يجري جزء من الماء على جزءين من البشرة إما بنفسه أو بإجراء المكلف له ، كما عن المحقق الثاني والشهيد الثاني ، لكن نظر في دلالة العرف عليه في المدارك ، كما انه في الحدائق استشكل في أصل اعتبار الجريان في مفهوم الغسل ناقلا عن بعض تحقيقات الشهيد الثاني ، انه قال : « إن ذلك غير مفهوم في كلام أهل اللغة ، لعدم تصريحهم باشتراط جريان الماء في تحققه ، وإن العرف دال على ما هو أعم ، إلا انه المعروف من الفقهاء سيما المتأخرين والمصرح به في عباراتهم » انتهى. قلت : لا ينبغي الإشكال في عدم صدق اسم الغسل على مجرد إصابة نداوة اليد لغيرها من الجسد بحيث علقت أجزاء لا قابلية لها للجريان لا بنفسها ولا بمعين ، واستوضح ذلك بالنسبة إلى تطهير المتنجسات ، بل عليه متى تحقق المسح بالنداوة لا بد أن يتحقق معه‌

٢٨٣

غسل إلا إذا لم تعلق منها أجزاء ، وفي تحقق المسح بها حينئذ إشكال كما تقدم سابقا ، نعم قد يقال ان الغسل يختلف صدقه بالنسبة إلى العرف ، فمنه مالا يتحقق إلا بالجريان ، ومنه ما يتحقق بالإصابة كما في الغسل بالنسبة إلى المطر أو وضع المغسول في الماء ، كما ينبئ عنه اكتفاؤهم في غسل المجبر بوضعه في أنا فيه ماء حتى يصل الماء إلى البشرة ، وظاهرهم هناك أن ذلك لأنه غسل لا تعبد شرعي.

وكيف كان فالذي كان يدل على عدم الاكتفاء بماء لا جريان فيه ـ مضافا الى ما سمعت من عدم صدق اسم الغسل ـ ظواهر الوضوءات البيانية وخبر زرارة (١) « الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه » ولا قائل بالفرق بين الغسل والوضوء ، وقوله عليه‌السلام في صحيحه (٢) أيضا « كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يطلبوه ولا يبحثوا عنه ، ولكن يجري عليه الماء » وصحيحة علي بن جعفر (٣) عن أخيه عليهما‌السلام قال : « سألته عن الرجل لا يكون على وضوء فيصيبه المطر حتى يبتل رأسه ولحيته وجسده ويداه ورجلاه ، هل يجزؤه ذلك من الوضوء؟ قال إن غسله فان ذلك يجزؤه » ولأنه لو لم يأخذ الجريان في مفهومه لم يحصل الفرق بين الغسل بالماء والمسح به ، مع أن كون الوجه واليدين في الوضوء من المغسولات والرأس والرجلين من الممسوحات مما كاد يكون من الضروريات ، وعلى ما تقدم يمكن أن يكون جميع أجزاء الوضوء من الممسوحات ، وهل هذا إلا من الخرافات ، وكيف وقد‌ ورد (٤) أنه « يأتي على الرجل ستون أو سبعون سنة ما قبل الله منه صلاة ، قلت : وكيف ذلك؟ قال : لأنه يغسل ما أمر الله بمسحه » هذا مع أن تغايرهما من الواضحات التي لا تقبل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

٢٨٤

التشكيك ، وكأن الذي أدخل الشك على بعض الأعلام أخبار الدهن ، لكن لا ينبغي لذلك ارتكاب ما هو بديهي البطلان.

ومن هنا عدل بعض المتأخرين عن تلك الدعوى. وادعى أنه يمكن القول بالاجتزاء بها لاعتبار أسانيد بعضها لا لأنه غسل ، بل لأنه أمر اكتفى به الشارع وإن لم يسمى غسلا ، فيكون الواجب بالنسبة إلى الوجه واليدين أحد أمرين الغسل أو الدهن ، وتحمل حينئذ جميع الأوامر الواردة في الكتاب والسنة التي كادت تكون صريحة ، بل هي صريحة في إرادة الوجوب العيني ، لمقابلته بالمسح على إرادة التخيير ، وكذا نحو‌ قوله (١) : ( الوضوء غسلتان ومسحتان ) على إرادة الوضوء غسلتان أو دهنتان ، أو أربع مسحات إن قلنا أن الدهن مسح على ما هو الظاهر ، وذلك مما لا يرتكبه من له أدنى معرفة في الفقه ، بل الظاهر أنه مخالف للإجماع ، ومن هنا أشار المصنف وغيره كابن إدريس والعلامة والشهيد إلى تأويل هذه الروايات بإرادة أنه يجزئ من الغسل ما كان بإجراء المكلف كالدهن بحيث تنتقل من محل إلى آخر ، وفي الذكرى « أن أهل اللغة يقولون دهن المطر الأرض إذا بلها بللا يسيرا » وقد تحمل الروايات عليه ، وليس فيها ما ينافي ذلك ، فمنها‌ قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (٢) : « انما الوضوء حد من حدود الله تعالى ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه ، وان المؤمن لا ينجسه شي‌ء ، إنما يكفيه مثل الدهن » وقوله عليه‌السلام في رواية محمد بن مسلم (٣) : « يأخذ أحدكم الراحة من الدهن ، والماء أوسع من ذلك » وقوله عليه‌السلام (٤) في الغسل والوضوء : « ويجزئ منه ما أجري من الدهن الذي يبل الجسد » بل الرواية الأخيرة كادت تكون كالصريحة فيما ذكرنا من التأويل ، وكأن هذه الأخبار يراد منها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٧.

٢٨٥

المبالغة في عدم احتياج الوضوء إلى ماء كثير ، وأنه لا ينبغي الإسراف فيه زيادة على الإسباغ.

وكون هذه الأخبار حينئذ لم تفد لنا حكما جديدا يدفعه ـ مع أنه ليس في ذلك بأس ـ قد يقال لو لا هذه الأخبار لأمكن القول بعدم إجزاء مثل هذا الفرد من الغسل لكونه من المطلق الذي ينصرف إلى الفرد الشائع منه ، وليس منه ذلك قطعا ، بل كان ملاحظة الوضوءات البيانية ونحوها مما يشرف الفقيه إلى القطع بعدم جوازه ، فيكون هذه الروايات أفادت الاكتفاء بأقل أفراد مسمى الغسل الذي هو كالدهن ، واحتمال القول ببقاء الدهن فيها على حقيقته لكن العرف في ذلك الزمان غيره في هذا الزمان في غاية البعد جدا ، بل لا ينبغي أن يلتفت إليه ، إذ المرتضى (ره) في زمنه ادعى أخذ الجريان في مفهومه ، وهو قريب من زمانهم (ع) كحملها على إرادة الاجتزاء بمثل الدهن عند الضرورة ، وانه يقدم على التيمم ، وقد يظهر ذلك من كلام الشيخين في باب غسل الجنابة سيما المفيد في المقنعة ، إذ هو بعيد جدا من مضامين تلك الروايات ، لظهور كثير منها إرادة الاجتزاء بها في الاختيار.

وربما أيد ما ذكراه بما قيل من‌ صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليهم‌السلام (١) حيث سأله « عن الرجل الجنب أو على غير الوضوء لا يكون معه ماء وهو يصيب ثلجا وصعيدا أيهما أفضل أيتيمم أو يمسح بالثلج؟ قال : الثلج إذا بل جسده ورأسه أفضل ، وإن لم يقدر على أن يغتسل به فليتيمم » قيل ونحوها رواية معاوية بن شريح (٢) وفيه ـ مع اشتماله على خلاف المدعى من التخيير بينه وبين التيمم عند الضرورة ـ أنه يحتمل أن يريد المسح مع الجريان والأفضلية ، إما في ضمن الوجوب أو للمشقة التي تجوز التيمم.

وكيف كان فالذي يظهر من الأدلة وكلام الأصحاب أنه لا فرق في حال الضرورة والاختيار ، وذلك للاجتزاء بأقل مسمى الغسل فيهما ، وعدم الاجتزاء بدونه فيهما بل ينتقل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب التيمم ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب التيمم ـ حديث ٢.

٢٨٦

إلى التيمم ، وأخبار الدهن قد عرفت انسياقها إلى ما سمعت ، نعم إناطة مصداق الغسل بالعرف من دون تحديد له بانتقال جزء إلى جزءين أو إلى جزء أو نحو ذلك متجه. والله أعلم ولا ينبغي الإشكال في عدم دخول الدلك في ماهية الغسل لغة ولا عرفا ، كما أنه ليس بواجب آخر معه ، لعدم الدليل عليه ، بل عن الناصريات دعوى الإجماع على عدم وجوبه كما أنه في المعتبر في باب الغسل قال : « إن إمرار اليد على الجسد مستحب ، وهو اختيار فقهاء أهل البيت (ع) وقال مالك : هو واجب » انتهى. والظاهر أنه لا فرق بين الوضوء والغسل ، ولذا قال في المنتهى ، « إمرار اليد ليس بواجب في الطهارتين ، لكنه مستحب ، وهو مذهب أهل البيت عليهم‌السلام » انتهى. فما عن ابن الجنيد من إيجاب اتباع اليد بجريان الماء مما لا ينبغي أن يلتفت اليه ، مع أنه نقل عنه في الذكرى في موضع آخر ما يلوح منه موافقة الأصحاب ، وما في بعض الوضوءات البيانية من إمرار اليد مع معارضته بأن ملاحظة كثير منها ومن غيرها يظهر منه أن الواجب انما هو الغسل فقط ، كقوله : ( الوضوء غسلتان ومسحتان ) ونحو ذلك لا دلالة فيه على الوجوب ، لكون الغسل فيها انما كان بالصب ، ويستبعد حصول اليقين بالاستيعاب بدون ذلك ، بل لو لا ما سمعت من دعوى الإجماع على الاستحباب كما سمعت لأمكن المناقشة في دليله فضلا عن الوجوب.

ومن كان في يده خاتم أو سير أو نحوهما مما يعلم منه عدم وصول الماء أو شك فعليه إيصال الماء إلى ما تحته على وجه الغسل إما بنزعه أو بتحريكه أو بغيرهما ، فما في المقنعة والمراسم وغيرهما من الأمر بنزعه لا يراد به إيجاب خصوص ذلك قطعا ، وإن كان واسعا استحب له تحريكه كما هو نص السرائر والمعتبر والمنتهى والذكرى وغيرها ، وظاهر المقنعة والمراسم ، وتحرير المسألة في الحاجب الذي لم يدل الدليل على الاجتزاء بغسله أو مسحه عوضا عن المحجوب كالشعر بالنسبة للوجه والناصية ، بأن يقال : إنه لا يخلو إما أن يعلم عدم وجوده أو يشك فيه ، وإما أن يعلم وجوده ويشك‌

٢٨٧

في صفته وهي الحجب أو معلوما حجبه ، أو معلوما عدمه ، فان كان الأول فلا إشكال كصورة الشك لاستمرار السيرة التي يقطع فيها برأي المعصوم على أنه لا يجب على المتوضي والمغتسل ونحوهما اختبار أبدانهما من الحواجب ، مع قيام الاحتمالات غالبا ، مع عدم نص أحد من الفقهاء على إيجاب شي‌ء من ذلك في الوضوء أو في الغسل ، مع أنه كان أولى الأشياء بالنص ، لمكان قذي البراغيث والقمل ونحوهما من العوارض الغالبة على البدن ، فحينئذ يتمسك في نفيه بالأصل ، وإن كان الاعتماد عليه من دون نظر إلى ما قدمنا لا يخلو من تأمل ، لمعارضته بأصالة عدم الفراغ من التكليف ، وأصالة عدم وصول الماء إلى البشرة.

وإن كان الثالث أي ما علم وجوده وشك في صفته فالظاهر وجوب العلم بوصول الماء إلى البشرة بإزالته أو تحريكه أو غيرهما ، لعدم قيام السيرة في مثل ذلك ، والاعتماد على أصالة عدم وجود الصفة بعد تسليم صحته معارض بأصالة عدم وصول الماء وعدم الفراغ ، ويشير إليه‌ قول الكاظم عليه‌السلام في صحيح أخيه (١) قال : « سألته عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض ذراعها لا تدري يجري الماء تحته أم لا كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال : تحركه أو تنزعه حتى يدخل الماء تحته ، وعن الخاتم الضيق لا يدري يجري الماء تحته إذا توضأ أم لا كيف يصنع؟ قال : ان علم أن الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضأ » وعن الشيخ روايته مقتصرا على المسألة الثانية ، إلا أنه قال : ( الرجل عليه الخاتم الضيق ) الى آخره ، لا يقال : ان مفهوم شرط العلم فيه معارض لما دل عليه صدر الرواية ، لأن المنطوق أقوى دلالة ، بل الأول من قبيل المقيد ، والثاني من قبيل المطلق ، لشمول عدم العلم لصورتي عدم العلم بالوصول والعلم به ، والأول خاص بالأول كما هو واضح ، ولعله لذا قال الشهيد في الذكرى : « ويجب تحريك الخاتم والسوار والدملج أو نزعه إذا لم يعلم جري الماء تحته ، لصحيح علي بن جعفر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

٢٨٨

عن أخيه الكاظم عليه‌السلام في الثلاثة ، وحكم غيرها حكمها » انتهى. إذ قد عرفت اختلاف دلالتها بالنسبة إلى الثلاثة ، لكن ما وقفنا عليه من عبارات الأصحاب عدا ما سمعته من الذكرى كالشيخ في المبسوط وسلار وابن إدريس والمصنف في المعتبر وغيرهم لا دلالة فيها على حكم الشك ، لاقتصارهم فيها على بيان الواقع ، فقالوا : إنه إن امتنع وجب تحريكه أو نزعه ، وإلا فلا ، نعم قد يستظهر من عبارة المصنف هنا حكم الشك ، وأنه يجب العلم بوصول الماء كما عن القاضي في المهذب ، قال ما نصه : « وإذا كان في إصبعه خاتم أو في يده حلي إن كان امرأة وجب عليه تحريكه أو نزعه ليصل الماء الى ما تحته من ظاهر الجسد » انتهى. هذا إذا كان الشك في حال الوضوء قبل الفراغ منه ، أما لو كان الشك بعده لغفلته عنه في حال الوضوء أو لأنه كان قاطعا بعدم منعه ثم شك بعد الوضوء أو غير ذلك فالأقوى الصحة وعدم الالتفات الى ذلك ، لأنه من الشك بعد الوضوء أو غير ذلك فالأقوى الصحة وعدم الالتفات الى ذلك ، لأنه من الشك بعد الفراغ ، وحملا لفعل المسلم على الوجه الصحيح على إشكال في الأول بالنسبة لما علم من حاله أنه لو كان متنبها حال الوضوء لكان شاكا ، للشك في شمول أدلة الفراغ لمثله ، وكذا الظاهر الصحة فيما لو علم بوجود الحاجب ولما يعلم سبقه بالوضوء أو بالعكس من غير فرق بين ضبط تأريخ أحدهما وعدمه ، تحكيما لما دل على عدم العبرة بالشك بعد الفراغ ، وبها ينقطع الاستصحاب.

وقد يرشد إليه في الجملة‌ موثق عمار (١) سأل أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الرجل يجد في إنائه فأرة وقد توضأ في ذلك الإناء مرارا أو اغتسل منه أو غسل ثيابه وقد كانت الفأرة متسلخة ، فقال : إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثم فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة ، وإن كان انما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

٢٨٩

فلا يمس من الماء شيئا ، وليس عليه شي‌ء ، لأنه لا يعلم متى سقطت فيه؟ ثم قال : لعله أن يكون انما سقطت فيه تلك الساعة » بناء على مساواة الحائل النجاسة الماء ، وقد يلحق به أيضا الشك في تطهير المحل أيضا ، فتأمل. بل وكذا لو شك في علاج الحاجب بعد الوضوء كالخاتم الذي علم أنه حاجب وشك بعد الوضوء أنه عالجه فأوصل الماء تحته أولا ، لما سمعته ، وحملا لفعل المسلم على الصحة ، ويشير اليه‌ قوله عليه‌السلام (١) : ( أنت في تلك الحال أذكر ) وكذا لو شك في صفة الحجب قبل الوضوء ثم نسي العلاج فذكر بعد الوضوء ، فإن الأقوى أيضا الصحة ، لرجوعه أيضا إلى الشك بعد الفراغ ، واكتفاء بصحة فعل المسلم باحتمال المصادفة للواقع ، لكنه في غاية الاشكال ، وقد يستأنس لحكم الصحة فيه بما رواه‌ الحسين بن أبي العلاء (٢) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخاتم إذا اغتسلت قال : حوله من مكانه ، وقال في الوضوء تديره ، فان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة » وقال في الفقيه (٣) : « إذا كان مع الرجل خاتم فليدوره في الوضوء ، ويحوله عند الغسل وقال الصادق عليه‌السلام وإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة » انتهى. لظهور الأمر بالتحويل والإدارة في الوجوب ، وهو لا يكون إلا عند الشك في حجبه والعلم به ، والثاني غير مراد قطعا ، إذ لا معنى لعدم الأمر بإعادة الصلاة في صورة النسيان مع العلم بعدم غسل ما تحت الخاتم كما هو الفرض ، فلم يبق إلا صورة الشك ، بل قد يدعى انها هي المتعارف في السؤال عنها ، وهو أولى من حملها على الاستحباب مطلقا أو مع حمل الخاتم على إرادة الواسع ، كما وقع من بعض متأخري المتأخرين ، بل قد تحمل عبارة الصدوق عليه أيضا ، وأما القسمان الأخيران فحكمهما واضح ، إلا أنه ذكر المصنف وجمع من الأصحاب الاستحباب فيما علم فيه سعة الخاتم ونحوه ، بل قد يظهر من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

٢٩٠

المصنف في المعتبر دعوى الإجماع حيث قال : ويحرك ما يمنع وصول الماء إلى البشرة ، ولو لم يمنع حركه استحبابا ، وهو مذهب فقهائنا ، وعلله مع ذلك بالطلب للاستظهار في الطهارة ، ولا بأس به في مقام الاستحباب هذا.

والظاهر أنه لا فرق فيما تقدم بين الخاتم وغيره من الحواجب لما يجب غسله من ظاهر البشرة ، ومنه الوسخ تحت الأظفار إذا تجاوزت المعتاد وكان ساترا لما لولاه لكان ظاهرا فإنه يجب إزالته إذا لم يكن في ذلك عسر وحرج ، واحتمال القول انه ساتر عادة وكان يجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيانه ، ولأنه كالذي يستره الشعر من الوجه في غاية الضعف ، وكفى من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيانا ما دل على وجوب غسل البشرة واليد ونحو ذلك ، وجعله كالشعر قياس ، فمن هنا نص المصنف في المعتبر والعلامة في القواعد والشهيد في الذكرى والمحقق الثاني وغيرهم على وجوب إزالته ، وجعله في المنتهى أقرب ، لما سمعته من الاحتمال ، ولا ريب في ضعفه.

( الخامسة ) من كان على بعض أعضاء طهارته جبائر جمع جبيرة ، وهي الألواح والخرق التي تشد على المكسور من العظام ، وفي شرح الدروس أن الفقهاء يطلقونها على ما يشد به القروح والجروح أيضا ، ويساوون بينهما في الأحكام ، قلت : ولعله الظاهر من المصنف والعلامة وغيرهما ، لاكتفائهم بذكر الجبيرة عن حكم ما يشد على الجروح والقروح ، ومن المستبعد عدم تعرضهما لذلك وكيف كان وهي إن كانت في محل الغسل وأمكنه نزعها وغسل البشرة أو غمس العضو في الماء أو تكرار الماء عليها حتى يصل البشرة وجب مخيرا بينهما ، كما هو ظاهر التحرير والقواعد والإرشاد والذكرى والدروس وصريح جامع المقاصد وكشف اللثام وغيرهما ، ويقتضيه إطلاق المعتبر والمنتهى ، وعن التذكرة إيجاب النزع والغسل إن أمكن ، وإلا فالمسح على نفس البشرة ، فإن تعذرا فايصال الماء بالتكرير أو الغمس ، وفيه مخالفة لما ذكرنا من وجهين ، الأول عدم التخيير بين النزع والتكرير ، والثاني تقديم المسح على البشرة عليه أيضا ،

٢٩١

وظاهر الأولين عدم تقديمه على المسح على الجبيرة فضلا عن التكرير الذي هو غسل عندهم.

ولا ينبغي الإشكال في ترجيح ما ذكره الأصحاب من التخيير مع كون التكرير أو الغمس محصلين للإصابة مع الجريان الذي يتحقق بهما الغسل عرفا ، لصدق الامتثال مع عدم الدليل على اشتراطه بشي‌ء آخر ، وما في الصحيح أو الحسن (١) من أمر الرجل الذي في ذراعه القرحة المعصبة بالنزع والغسل إن كان لا يؤذيه الماء ، مع عدم كونه في الجبيرة يراد عدم الاجتزاء بالمسح على الخرقة ، لا عدم الاجتزاء بالغسل بغير النزع ، كما هو واضح لمن لاحظه ، على أنه معارض‌ بالموثق (٢) عن الصادق عليه‌السلام سئل « عن رجل ينكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء فلا يقدر أن يحله لحال الجبر إذا جبر كيف يصنع؟ قال : إذا أراد أن يتوضأ فليضع إناء فيه ماء ، ويضع موضع الجبر في الماء حتى يصل الماء إلى جلده ، وقد أجزأه ذلك من غير أن يحله » لظهوره سيما ذيله في أنه يجزؤه ذلك وإن تمكن من حله ، وأما إذا حصل من التكرير إصابة من غير تحقق للجريان الذي بدونه لا يتحقق الغسل فيشكل التخيير بينه وبين الغسل مع النزع ، واحتمال تحقق مسمى الغسل في خصوص الجبيرة بمجرد الإصابة لاختلافه بالنسبة إلى المغسول فيه ـ مع إمكان منعه واحتمال تسليمه في خصوص غمس العضو لا التكرير ـ انما يتم مع تعذر النزع والغسل لا مع المكنة منهما ، وإلا لاجتزأ بنحو ذلك في الاختيار ، ولا يرتكبه ذو مسكة ، وأما احتمال الاستناد إلى خصوص ما سمعته من الموثق الدال على الاجتزاء به بمجرد الوصول إلى الجلد جري أو لم يجر وإن لم يدخل تحت مسمى الغسل ففيه أو لا أن الذي يظهر من تعليل القائلين بالتخيير أن ذلك لكونه غسلا ، فكأنهم فهموا من الخبر أنه مبني على إرادة الغسل ، لتصريحهم في غير المقام أنه مأخوذ فيه الجريان من غير استثناء الحال الجبيرة ، وثانيا انه لا يجسر على تقييد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٧.

٢٩٢

الأوامر بالغسل في الكتاب والسنة حتى علم أن الوضوء غسلتان ومسحتان بمثل هذا الموثق الذي لم يعلم عمل الأصحاب به على هذا الوجه ، بل الظاهر خلافه ، نعم يمكن أن يقال : يجتزى به ويقدم على المسح على الجبيرة عند تعذر النزاع والغسل لكونه أقرب إلى المأمور به ، أو لأن مباشرة الماء للجسد واجبة للأمر بالصب ونحوه ، والغسل واجب آخر ، وتعذر الثاني لا يسقط الأول إذ‌ ( لا يترك الميسور بالمعسور ) و‌ ( ما لا يدرك كله لا يترك كله ).

وإلا أي وإن لم يمكن النزع ولا التكرير ولو لنجاسة المحل بنجاسة لا يمكن تطهيرها كما نص عليه بعضهم ، من غير فرق بين حصول التضاعف للنجاسة بالغسل وعدمه وان كان قد يظهر من بعضهم إيجاب الغسل في الثاني ، لأصالة عدم الانتقال من الغسل إلى المسح ، واستنهض عليه الإطلاق في نحو العبارة ، لكن لا ريب في ضعفه ، لما دل على اشتراط طهارة ماء الوضوء ، والمشروط عدم عند عدم شرطه ، فيكون غير متمكن من الغسل ، لأن الممنوع شرعا كالممنوع عقلا ، فيدخل في معقد إجماع بعضهم انه إن لم يتمكن من الغسل أجزأه المسح على الجبيرة ، وبذلك يرتفع إطلاق العبارة ونحوها ، على أن هذا الإطلاق لم يكن مساقا لذلك حتى يستدل به عليه ، أجزأه المسح عليها عن غسل البشرة بلا خلاف أجده بين القدماء والمتأخرين ، بل في صريح الخلاف والمنتهى والتذكرة وظاهر المعتبر وغيره دعوى الإجماع عليه ، وهو الحجة ، مضافا إلى‌ خبر كليب الأسدي (١) سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الرجل إذا كان كسيرا كيف يصنع بالصلاة؟ قال : إن كان يتخوف على نفسه فليمسح على جبائره » والمرتضوي المروي عن تفسير العياشي (٢) قال (ع) : « سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الجبائر تكون على الكسير كيف يتوضأ صاحبها؟ وكيف يغتسل إذا أجنب؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يجزؤه المسح عليها في الجنابة والوضوء ، قلت : فان كان في برد يخاف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١١.

٢٩٣

على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده ، فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) » وفحوى‌ الصحيح أو الحسن (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل « عن الرجل تكون به القرحة في ذراعه أو نحو ذلك من مواضع الوضوء فيعصبها بالخرقة ويتوضأ ويمسح عليها إذا توضأ ، فقال عليه‌السلام : إن كان يؤذيه الماء فليمسح على الخرقة ، وإن كان لا يؤذيه الماء فلينزع الخرقة ثم ليغسلها ، قال : وسألته عن الجرح كيف أصنع به في غسله؟ قال عليه‌السلام : اغسل ما حوله » بل يحتمل أن يكون ذلك من الجبيرة بناء على تعميمها لما يشد على القرحة ونحوها في الروايات فتأمل. كفحوى ما دل (٣) على المسح على الطلاء للدواء وغيره.

ثم ان ظاهر العبارة وغيرها الانتقال بمجرد تعذر الفردين إلى المسح على الجبيرة سواء تمكن من المسح على البشرة أولا ، خلافا للتذكرة وبعض من تأخر عنها ، فأوجبوا المسح عليها مقدما على المسح على الجبيرة ، ولعله للأولوية القطعية ، ولكونه أقرب إلى المأمور به ، وهو لا يخلو من وجه ، لانصراف كثير من عبارات النصوص والفتاوى المتضمنة للمسح على الجبيرة إلى عدم التمكن من حلها ، على أنه من الأفراد النادرة التي لا يشملها الإطلاق ، إذ التمكن من المسح على الجبيرة بالماء على وجه بحيث لا يتمكن معه من الإتيان بأقل أفراد الغسل الذي هو كالدهن في غاية الندرة ، ومن ذلك يظهر قوة خلافه ، لعدم القطع بأولويته من المسح على الجبيرة ، إلا إذا قلنا بجواز مثل ذلك فيها أي المسح على الجبيرة برطوبته ، لا قابلية بها للانتقال من جزء إلى آخر بل ولو قلنا به ، لأن أحكام العبادات غير معروفة الحكم والمصالح ، فلا سبيل للقطع بذلك. ومنه ينقدح الإشكال في الاجتزاء به أي المسح على البشرة فضلا عن وجوبه وتعينه ، وطريق الاحتياط غير خفي ، ومن العجيب ما يظهر من بعضهم من تقديم المسح على البشرة‌

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ٣٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٩.

٢٩٤

على المسح على الجبيرة حتى لو كانت البشرة نجسة مع عدم إمكان التطهير ، وفيه ـ مع ما تقدم واستلزامه تضعيف النجاسة ـ أنه مناف لاشتراط طهارة محال الوضوء.

ثم ان ظاهر الأصحاب جميعا تعين المسح على الجبيرة والحال هذه ، ولم تعرف المناقشة في ذلك بينهم إلى زمن الأردبيلي ، فإنه قال على ما نقل عنه : انه يمكن الاستحباب والاجتزاء بغسل ما حولها ، إلا أن يثبت إجماع أو نحوه ، وتبعه في ذلك صاحبا المدارك والذخيرة ، قال في الأول : « ولو لا الإجماع المدعى على وجوب مسح الجبيرة لأمكن القول بالاستحباب ، والاكتفاء بغسل ما حولها ، لصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (١) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكسير تكون عليه الجبائر أو يكون به الجراحة ، كيف يصنع بالوضوء وعند غسل الجنابة وغسل الجمعة؟ قال : يغسل ما وصل اليه الغسل مما ظهر مما ليس عليه الجبائر ، ويدع ما سوى ذلك مما لا يستطيع غسله ، ولا ينزع الجبائر ، ولا يعبث بجراحته » ورواية عبد الله بن سنان (٢) قال : « سألته عن الجرح كيف يصنع به صاحبه؟ قال : يغسل ما حوله » وينبغي القطع بالسقوط في غير الجيرة ، أما فيها فالمسح عليها أحوط ، انتهى. قلت : وقد سمعت أيضا ما في الحسن أو الصحيح المتقدم من الأمر بغسل ما حول الجرح أيضا ، وربما استظهر ذلك من الصدوق رحمه‌الله ، لأنه قال بعد أن ذكر ما ذكره الأصحاب من المسح على الجبيرة : « وقد‌ روي في الجبائر عن أبي عبد الله عليه‌السلام انه قال : يغسل ما حولها » لما ذكره في أول كتابه أنه لا يذكر فيه إلا ما يعتقده ، ويعلم أنه حجة بينه وبين ربه ، ولا ينبغي الشك في ضعف هذه المناقشة ، إذ حمل الأمر بالمسح فيما سمعت من الأخبار وخبر المرارة ولفظ الاجزاء الوارد في عدة أخبار منها روايتا الطلاء وغيرها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١ وهو مروي عن الرضا عليه‌السلام.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

٢٩٥

على إرادة الاستحباب بعيد جدا ، وكذا حملها على إرادة الوجوب التخييري ، بل هو باطل ، لما فيه من التخيير بين الفعل وتركه ، على أنه لا صراحة في المعارض ، لأن الأمر بغسل ما وصل إليه الغسل وترك ما لا يصل اليه لا يقضي بعدم وجوب المسح بل أقصاه سقوط الغسل عما تحت الجبيرة ، وكذا رواية الجرح ، مضافا إلى عدم معلومية كونه مكشوفا أو مجبرا ، وأيضا هو لا يثبت في غير الجرح من الجبيرة إلا بضميمة فتاوى الأصحاب من عدم الفرق بينهما ، والموجود فيها الوجوب ، كل ذلك مع الإجماع المنقول المستفيض ، بل والمحصل المؤيدين بالاحتياط وغيره ، وما سمعته من عبارة الصدوق رحمه‌الله لا ظهور فيها في تلك ، بل هي ظاهرة في عدمه ، على أنها رواية غير عامل بها ، لذكره أو لا ما أفتى به ، ولذا لم ينسب إليه أحد الخلاف في ذلك ، مع أن خروجه غير قادح في الإجماع.

ثم ان ظاهر ما سمعته من الأدلة من الإجماع وغيره الاكتفاء بمسح الجبيرة ، وأنه لا يجب غسلها مع التمكن منه ، بل عدم الاجتزاء به لو وقع من دون مسح أو معه بدون قصده فضلا عن وجوبه ، وعن العلامة في نهاية الأحكام احتمال إيجاب أقل مسمى الغسل ، واستجوده بعض من تأخر عنه ، قلت : وكأنه لمكان قيام الجبيرة مقام البشرة ، فيجب فيها ذلك ، وما في الروايات من الأمر بالمسح يراد به المسح اللغوي ، أي يمر يده بعد أن يبلها بالماء بما يتحقق به ذلك على الجبيرة ، ولا يجب عليه تطلب ما تحت الجبيرة ، بل يصدق على هذا الفرد من الغسل أنه مسح عرفا ، لكن مراده لا يخلو من إجمال ، لعدم العلم بأن مراده بإيجاب أقل مسمى الغسل عدم الاجتزاء بالمسح وبغيره من أفراد الغسل أيضا ، لأنه أقرب إلى المسح من غيره ، أو يريد أن ذلك أقل الواجب ، وإلا فيجزئ غيره ، وجهان ، وكذا كلام من تسمعه ممن مال إلى مقالته ، ولقد أطال الأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح في تأييد هذا القول وتسديده ، ومما قال :

٢٩٦

« إنه ليس المراد من قوله عليه‌السلام : ويمسح على الجبائر ونحو ذلك سوى انه يمر يده على الجبائر مكان إمراره على البشرة عوضا عنها ، وليس المراد انه يجفف يده عن الرطوبة الزائدة فيها كي لا يقع جريان أصلا ، إذ قد تكون الجبيرة في وسط الذراع مثلا ، فيلتزم المكلف حينئذ بغسل اليد من المرفق إلى الجبيرة ثم أنه يجفف يده لمسح الجبيرة ثم يأخذ بعد ذلك ماءا جديدا ويغسل به بقية اليد ، ولعل القطع حاصل بعدم إرادة ذلك ، بل لا يكاد يتحقق مسح في مثل الرأس والرجلين خال عن ذلك ، فضلا عن هذا المسح الذي يظهر من الأخبار أن المراد عدم كونه تحت الجبيرة ، لا أنه ينتقل الوضوء حينئذ ، ويجعل غسله مسحا من دون مانع من الغسل أصلا نعم مع المانع لا مانع منه ، ولعل مراد الفقهاء ما ذكرنا ، لعدم إشارة أحد منهم إلى ذلك ـ إلى أن قال ـ : بل نقول : المراد من‌ قوله (ع) في صحيح ابن الحجاج المتقدم : ( يغسل ما وصل إليه الغسل ) الى آخره ما هو أعم من البشرة والجبيرة ، وهو أنسب بعموم كلمة ( ما ) ولعل عدوله عن قوله عليه‌السلام : ( اغسل ما حولها ) لهذه النكتة ، قال : ولو قلنا ان الرواية ليست ظاهرة في ذلك لوجب حملها على هذا المعنى ، لئلا تحصل المنافاة بينها وبين غيرها من الروايات ، لظهورها بدون ذلك في الاكتفاء بغسل ما حول الجبيرة ، ثم أيده بقوله عليه‌السلام : ( لا يسقط الميسور بالمعسور ) ونحوه ـ ومما قال أيضا ـ : إن أخبار المسح لو كانت تدل على عدم الجريان أو وجوب قصد عدم مدخليته تصير معارضة لما دل على وجوب الغسل من الكتاب والسنة ، ومن المعلوم أنه إذا تعذرت الحقيقة فالحمل على أقرب المجازات ، فحينئذ تحمل أخبار المسح على ما ذكرنا ، أو يراد بها أنها إذا تضرر بغير المسح حتى فيما ذكرناه » انتهى.

ولا يخفى عليك ما فيه ، وكأن الذي دعاه إلى ذلك تخيل أن القول بالمسح ينافيه ما يحصل لبعض أجزاء الماء من الانتقال الذي يتحقق به الغسل ، وهو معلوم الفساد وان ظهر من بعض كلمات بعضهم ، بل التحقيق أن المسح بالماء في المقام يتحقق وإن حصل‌

٢٩٧

ذلك ، نعم نحن لا نوجبه ، لأنه من المستبعد بل من المقطوع بعدمه إرادة الغسل من لفظ المسح المتكرر في النصوص والفتاوى ومعاقد الإجماعات ، بل السيرة والطريقة على خلافه ، فان استيعاب الجبيرة بالماء على وجه بحيث ينتقل كل جزء منه إلى جزء أو جزءين منها مع أن الغالب فيها أن تكون من الخرق التي يتعسر جدا فيها مثل ذلك لحصول جفاف الأجزاء المائية بمجرد وقوعها عليها غالبا مما لا ينبغي أن يصغى اليه ، مع منافاته مشروعية المسح على الجبائر من التخفيف والسهولة ونحوها ، بل التحقيق أن المراد في النصوص والفتاوى أنه يجزؤه أن يمسح بالماء جبائره عوضا عن البشرة ، سواء حصل انتقال لبعض الأجزاء المائية بحيث يتحقق به مسمى الغسل أو لا ، نعم قد يقال : إنه لا يجب عليه نية كونه مسحا أو غسلا كما في غيره من أعضاء الوضوء ، إذ الظاهر من الروايات أن هذا المعنى مجز عن غسل البشرة ما شئت فسمه ، بخلاف المسح في نحو الرأس والقدمين الواجب فعلهما باعتقاد المسحية أو الغسلية كما تقدم سابقا ، نعم قد يقال : إنه لا يجتزى بالمسح في نداوة اليد ولو قلنا بالاجتزاء به في الرأس والقدمين ، بل الظاهر أنه لا بد من المسح بالماء ، والفارق بينهما الدليل.

ثم انه هل يشترط في هذا المسح أن يكون بالكف بل بباطنها لكونه المتبادر من آلته أو لا؟ لا يبعد الثاني ، لعدم وجوب العمل بمثل هذا التبادر ، وكيف كان فالظاهر من النصوص والفتاوى إيجاب استيعاب الجبيرة بالمسح ، وبه صرح في الخلاف والمعتبر والتذكرة ونهاية الأحكام والرياض وكشف اللثام والدروس والذخيرة والحدائق وشرح المفاتيح والرياض ، بل في الأخير أنه لا ريب فيه ، قلت : ولا أجد فيه خلافا سوى ما عساه يظهر من الشيخ في المبسوط ، قال : والأحوط أن يستغرق جميعه ، واستحسنه في الذكرى بعد أن أشكل وجوب الاستيعاب بصدق المسح عليها بالمسح على جزء منها لصدق المسح على الرجلين والخفين عند الضرورة ، والأقوى الأول لأنه المنساق إلى الذهن من الأخبار ، كانسياق بدلية الجبيرة عن ما يلزم فيه ذلك ، مع استصحاب حكم‌

٢٩٨

الحدث والشغل اليقيني ، وما ذكره من الصدق المتقدم ممنوع ، لكون الجبيرة اسما للمجموع فالمسح عليها قاض باستيعابها سيما في المقام ، وما عساه يظهر من بعض الاستعمالات كالمسح على الظهر ونحوه مما ينافي ذلك فهو للقرينة ، وما ذكره من الاجتزاء بالبعض في القدم ونحوه انما هو لمكان دخول الباء في الممسوح ، كما دلت عليه الرواية السابقة ، بل مقتضاها أنه لو لا الباء لكان اللازم الاستيعاب ، وتفاوت مراتب الظهور في الاستيعاب في مثل مستحب الجبيرة دون المسح على الجبيرة لا ينافي ما ذكرنا ، فلا ريب حينئذ في لزوم الاستيعاب ، بل لعل مراد الشيخ بالاحتياط الواجب في نحو المقام أو لاستغراق المحتاط فيه أي استغراق ما فيها من الفرج والثقوب ونحو ذلك ، فان الظاهر عدم وجوبه لما فيه من العسر والحرج ، مع عدم ظهور قوله (ع) : امسح عليها ونحوه فيه ، كما هو واضح ، ومما عرفت من انسياق بدلية الجبيرة يجري فيها حينئذ ما كان يجري في المبدل منه من التثنية والابتداء من المرفق ونحوهما على إشكال في البعض ، لعدم ثبوت البدلية في منطوق الأدلة ، ولعله بناء على ما ذكرنا من أن الموالاة تقدير زماني يندفع الاشكال فيها بالنسبة إليها ، والظاهر الاكتفاء بالمسح ببلة الجبيرة ونداوتها لو كانت على الماسح ، فتأمل.

ولا فرق حيث يمسح على الجبيرة بين كون المحل طاهرا أو نجسا ولذا نص المصنف عليه بقوله سواء كان ما تحتها طاهرا أو نجسا بلا خلاف أجده بين أصحابنا لإطلاق الأدلة من الروايات والإجماعات ، بل قد يظهر من المعتبر دعوى الإجماع عليه ، خلافا للشافعي من الحكم بالإعادة حيث يكون نجسا ، ولا فرق في نجاسة ما تحتها بين البشرة وغيرها من أجزاء الجبيرة الباطنة ، وإطلاق المصنف كالعلامة وغيره يقتضي عدم الفرق بين كونها في محل المسح أو الغسل ، وهو متجه في غير التكرير أو الغمس ونحوهما ، فان الظاهر عدم وجوبهما في المسح وإن تمكن منهما ، للفرق بينه وبين الغسل باشتراط مباشرة الماسح للممسوح مع إمراره عليه في حصول حقيقته دون الغسل ، واحتمال‌

٢٩٩

الإيجاب لعدم سقوط الميسور بالمعسور ونحوه ضعيف ، لعدم جريانه في نحو المقام كما بين غير مرة.

وهل يجب تخفيف الجبيرة لو كانت خرقا متعددة مثلا؟ الأقوى عدمه ، لإطلاق الأدلة ولأنه لا يرتفع بذلك عن الحائل ، وكذا لو كانت جبائر متعددة ، كأن جبر فوق الجبر ، فما عن نهاية الأحكام من الإشكال في المسح على الظاهر من الجبائر لو كانت متكثرة ليس في محله ، ولو كان ظاهر الجبيرة نجسا لا يمكن تطهيره ولا إزالته وإخراج ما تحته فالظاهر وجوب وضع خرقة طاهرة عليه وضعا تكون به من أجزاء الجبيرة بل في المدارك أنه لا خلاف فيه ، لكن في الذكرى بعد أن استقرب ذلك قال : « ويمكن إجراؤه مجرى الجرح في غسل ما حولها » انتهى. وهو ضعيف ، وأضعف منه الاجتزاء بمسحها مع نجاستها للإطلاق ، إذ هو غير مساق لبيان ذلك ، وإلا لاقتضى الاجزاء مع التمكن من التطهير ، واحتمال الرجوع بسبب ذلك للتيمم لا يخلو من وجه تعرفه إن شاء الله فيما يأتي ، لأنها في حكم الكسر المكشوف ، ولو كان ظاهر الجبيرة مغصوبا لم يجز المسح عليه قطعا ، وفي وجوب وضع المحلل عليه وجهان ينشئان من أن الغصب في الباطن من الجبيرة كالظاهر أولا ، ولو مسح على المغصوب لعذر شرعي من جهل به ونحوه اجتزئ به ، أما لو كانت الجبيرة محرمة بغير الغصب كالحريرية مثلا أو كونها من لباس الذهب للذكر فلا بأس بالمسح عليها ، لأن الحرمة خارجية ، ويمسح على الجبيرة الساترة لشي‌ء من الصحيح إذا كان ستره من المقدمات العادية واللوازم العرفية لمثل هذا الجرح ، إذ التدقيق في نحو ذلك مناف لأصل مشروعيتها من التخفيف ، وقد ظهر لك من الأدلة السابقة أنه لا فرق بين ما يشد به الكسر أو الجرح أو القرح ، بل قد سمعت ما في شرح الدروس من نسبته إرادة الأعم من الجبيرة إلى الفقهاء المؤيد بما تقدم ، وبخبر العصابة للقرحة ، بل في المنتهى « أن الجبائر تنزع مع المكنة ، وإلا مسح عليها ، وكذا العصائب التي تعصب بها الجرح والكسر ، وهو مذهب علمائنا‌

٣٠٠