جواهر الكلام - ج ٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله صلوات الله عليهم أجمعين ، الثاني من الفصول التي تتعلق بالوضوء ولو بوجه ما ، ككون الغالب فيمن أراده التخلي ونحو ذلك ، في أحكام الخلوة من الواجب والمستحب والمكروه ، ( وهي ثلاثة الأول ).

( في كيفية التخلي )

وحيث كان ذلك معرضا لتكشف العورة قال هنا كغيره من الأصحاب ويجب فيه ستر بشرة العورة دون الحجم عن الناظر المحترم بما يحصل به مسماه عرفا من كل ما يمنع من إحساس البصر ، وإلا فهو لا يخصه ، كما لا يختص ما يستتر به من حيث ذلك بشي‌ء ، فتجزي اليد وغيرها ، نعم قد يختص من حيث الصلاة بالملبوس ونحوه على تفصيل يأتي إن شاء الله بين المختار والمضطر ، ويدل على أصل الحكم كحرمة النظر بعد الإجماع محصلا ومنقولا ، بل ضرورة الدين في الجملة ما‌ عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) في حديث المناهي قال : « إذا اغتسل أحدكم فليحاذر على عورته ، وقال : لا يدخلن أحدكم الحمام إلا بمئزر ، ونهى أن ينظر الرجل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٢.

٢

إلى عورة أخيه المسلم ، وقال : من تأمل عورة أخيه المسلم لعنه سبعون ألف ملك ، ونهى أن تنظر المرأة إلى عورة المرأة ، وقال : من نظر إلى عورة أخيه المسلم أو عورة غير أهله متعمدا أدخله الله مع المنافقين الذين كانوا يبحثون عن عورات الناس ، ولم يخرج من الدنيا حتى يفضحه الله » وقول الصادق عليه‌السلام أيضا (١) في تفسير قوله تعالى (٢) ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا ) الى آخره : « كل ما كان في كتاب الله تعالى من ذكر حفظ الفرج فهو من الزنا إلا في هذا الموضع ، فإنه للحفظ من أن ينظر اليه » كما‌ عن علي عليه‌السلام (٣) في تفسيرها أيضا أنه « لا ينظر أحدكم إلى فرج أخيه المؤمن ، أو يمكنه من النظر إلى فرجه ، ثم قال ( قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) أي ممن يلحقهن النظر ، كما جاء في حفظ الفروج ، والنظر سبب إيقاع الفعل من الزنا وغيره » وما في‌ صحيح حريز (٤) عن الصادق عليه‌السلام « لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه » الى غير ذلك من الأخبار ، مثل ما دل على الأمر (٥) بالمئزر عند دخول الحمام ، والنهي عنه بغيره ، وفي بعضها الإشارة إلى أن ذلك من جهة النظر ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٦) : « يا علي إياك ودخول الحمام بغير مئزر ، ملعون الناظر والمنظور إليه » كما في آخر تعليل النهي (٧) عن دخول الماء بان للماء سكنة.

والحاصل ما دل على وجوب الستر وحرمة النظر أكثر من أن يحصى ، وإن كان في استفادة الأول من حرمة الثاني كما وقع لبعضهم نظر ، إذ لا يتم إلا من جهة الإعانة على الإثم ، وهي غير مطردة في غير المكلف ونحوه ، لكن ذلك لا يقدح في أصل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٣.

(٢) سورة النور ـ آية ٣٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب آداب الحمام ـ حديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب آداب الحمام ـ حديث ٥.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب آداب الحمام ـ حديث ٢ و ٣ و ٤.

٣

الحكم ، كما لا يقدح قصور السند أو الدلالة في بعض ما تقدم ، واشتمال بعض الأخبار (١) على لفظ الكراهة مع احتمالها الحرمة ، لما عرفت ، وكذا لا يقدح ما في بعضها من تفسير‌ قوله عليه‌السلام (٢) : « عورة المؤمن على المؤمن حرام » بإذاعة سره أو إذلال ذاته ، أو حفظ ما يعاب عليه من كلامه لتعييره ، وأنه ليس المراد منها المعنى المعروف ، لما عرفت أيضا من عدم انحصار الدليل بهذه العبارة ، مع إمكان إرادة المعنيين منها على نوع من المجاز ، كما يقضي به الجمع بين ما تقدم وبين‌ خبر حنان ابن سدير (٣) قال : « دخلت أنا وأبي وجدي وعمي حماما بالمدينة ، فإذا رجل في بيت المسلخ ، إلى أن قال : ما يمنعكم من الإزار ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : عورة المؤمن على المؤمن حرام ، ثم قال : سألنا عن الرجل فإذا هو على بن الحسين عليه‌السلام » وما في بعضها من عدم إرادة ذلك منها محمول على عدم إرادته بخصوصه دون غيره.

ثم الظاهر من إطلاق النص والفتوى أنه يجب الستر عن كل ناظر محترم عدا ما استثني من الزوج والزوجة ونحوهما ، من غير فرق بين كونه مكلفا أو غير مكلف كالمجنون والصبي المميز ، وما في بعض الأخبار المتقدمة من الرجل والمسلم والمرأة ونحو ذلك لا يقضي بالتقييد ، نعم لا بأس بغير المميز كسائر الحيوانات ، للأصل والسيرة القاطعة ، مع عدم شمول الأدلة لمثله ، لأن المتبادر من الحفظ من النظر كون النظر مقصودا للناظر لا مجرد البصر ، وكذا لا فرق فيها بين كون الناظر مسلما أو كافرا ذكرا أو أنثى ، وما يقال ان الإناث من الكفار بمنزلة الإماء المملوكة فيه أنه ليس في هذا الحكم ، ومن ثم لم يستثنه أحد من الأصحاب في المقام ، وأما حرمة النظر إلى العورة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب آداب الحمام ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب آداب الحمام ـ حديث ١ و ٢ و ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب آداب الحمام ـ حديث ٤.

٤

فالظاهر ان كل من يجب التستر عنه يحرم النظر الى عورته ، من غير فرق بين كونه مكلفا بالتستر أو لا كالمجنون وشبهه ، ولا بين كونه مسلما أو كافرا ذكرا أو أنثى ، فيحرم النظر الى عورات المميزين ، وإن كان إقامة الدليل عليه من السنة في غاية الإشكال ، لكن قد يستدل عليه بقوله عليه‌السلام : « لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه » و « عورة المؤمن على المؤمن حرام » بدعوى دخوله تحت لفظ الأخ والمؤمن ، وخروجه عن الحكم التكليفي للإجماع غير قادح ، وبقوله : « من نظر الى غير أهله متعمدا أدخله الله » الى آخره وبقوله عليه‌السلام (١) : « ادخله بمئزر وغض بصرك » وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا علي إياك ودخول الحمام بغير مئزر ملعون ملعون الناظر والمنظور إليه » الى غير ذلك ، إلا أن الكل لا يخلو من نظر ، فالمسألة لا تخلو من إشكال ان لم يقم إجماع يقطع به الأصل ، ولم أعثر على دعواه في المقام فتأمل.

وأما ما عن بعضهم من جواز النظر إلى عورة غير المسلم للأصل ، والظاهر بعض الأخبار المتقدمة ، مضافا إلى تصريح بعضها كقول الصادق عليه‌السلام (٢) : « النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار » وفي آخر‌ عنه عليه‌السلام (٣) أيضا « إنما أكره النظر إلى عورة المسلم ، فان النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار » فضعيف ، كما عن الشهيد في الذكرى ، أخذا بإطلاق بعض الروايات (٤) المنجبرة بإطلاق الفتوى والإجماع ، فلا يجسر على تقييد ذلك بهاتين الروايتين مع ما فيهما من الإرسال وعدم الجابر ، وبذلك يضعف المفهوم المتقدم لو قلنا بحجية مثله ، وبان مقتضاه عدم وجوب التستر عن الكافر ، ولم يقل به أحد ، وأيضا ففي بعض الروايات السابقة ان النظر سبب الإيقاع في الزنا ، ولعل حرمته من هذه الجهة ، فلا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب آداب الحمام ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب آداب الحمام ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب آداب الحمام ـ حديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب آداب الحمام ـ حديث ٥.

٥

يتفاوت بين الكافر والمسلم ، فالتحقيق انه يجب التستر عنهم ، كما أنه يجب التستر عليهم ، ويحرم النظر إليهم ، كما أنه يحرم النظر منهم ، والله أعلم.

وقد ذكرنا في باب الصلاة تحقيق أن العورة هي القبل والدبر مع زيادة الأنثيين في الرجل وحكم الخنثى المشكل والممسوح ، فلاحظ وتأمل. وليعلم أنه لا إشكال في وجوب التستر مع العلم بالناظر ، ويقوى إلحاق الظن ، وفي الشك وجهان ، ولعل في الأمر بالمئزر عند دخول الحمام ، والمحاذرة على العورة عند الغسل ، وما ورد في تفسير حفظ الفروج إشارة الى ذلك ، وأما الوهم فالأقوى العدم ، بل ينبغي القطع به في الضعيف ، وهل حرمة النظر كوجوب التستر أو لا؟ الأقوى الأول ، وقد يشير اليه‌ قوله عليه‌السلام : « وغض بصرك » فتأمل جيدا.

ويستحب فيه ستر البدن أي استتار الشخص نفسه عند إرادة التخلي ، إما بان يبعد المذهب ، أو يلج في حفيرة ، أو يدخل بناء ، لقول الصادق عليه‌السلام (١) في خبر حماد بن عيسى قال : « قال : لقمان لابنه يا بني إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم ، إلى ان قال : وإن أردت قضاء حاجتك فأبعد المذهب في الأرض » وعنه عليه‌السلام أيضا (٢) قال : « ما أوتي لقمان الحكمة لحسب ولا مال ولا جمال ، ولكنه كان رجلا قويا في أمر الله متورعا ساكنا سكيتا ، ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال ، لشدة تستره وتحفظه في أمره ، إلى أن قال : وبذلك أوتي الحكمة ومنح العطية » وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) « أنه لم ير على بول ولا غائط » وعنه عليه‌السلام أيضا (٤) أنه « من أتى الغائط فليستتر » وعن كشف الغمة (٥) عن جنيد بن عبد الله في حديث قال : « نزلنا النهروان ، فبرزت عن الصفوف ، وركزت رمحي ، ووضعت ترسي اليه ، واستترت من الشمس ، وإني‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٥.

٦

لجالس إذ ورد علي أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : يا أخا الأزد معك طهور ، قلت : نعم ، فناولته الإداوة ، فمضى حتى لم أره ، وأقبل وقد تطهر ، فجلس في ظل الترس » وعن بعض الكتب (١) روينا عن بعضهم عليهم‌السلام « أنه أمر بابتناء مخرج في الدار ، فأشاروا إلى موضع غير مستتر من الدار ، فقال : يا هؤلاء ان الله عز وجل لما خلق الإنسان خلق مخرجه في أستر موضع منه ، وكذلك ينبغي أن يكون المخرج في أستر موضع في الدار » وقول الكاظم عليه‌السلام (٢) لأبي حنيفة : « يتوارى خلف الجدار » كل ذلك مع موافقته للاحتشام ، وإطلاق المصنف وغيره كتصريح بعض ما ذكرنا من الأخبار يشمل البول والغائط ، فما وقع في بعض العبارات من تخصيص الحكم بالثاني ضعيف ، اللهم إلا أن لا يريده ، كما يستفاد منه أن بيت الخلاء كاف ، وهو كذلك ، ووقوع التباعد منه عليه‌السلام لا يدل على قصر الحكم ، بل الظاهر أنه لمكان أنه لم يستعمل البيوت للخلاء ، نعم لا يكفي الاستتار بعباءة ونحوها ، وفي الظلمة وشبهها وجهان ، أقواهما الاجتزاء بها.

ويحرم استقبال القبلة واستدبارها عينا أو جهة ، والمرجع فيهما العرف ، فالاستقبال في الجالس والواقف بمقاديم البدن ، بل الظاهر تحققه ولو مع انحراف الوجه ، والمستلقي كالمحتضر ، وعكسه المكبوب ، وفي المضطجع بوضع رأسه في المغرب ورجليه في المشرق وبالعكس ، والاستدبار بالماء خير ، فما وقع من بعضهم من التردد في ذلك في غير الجالس والواقف استقبالا واستدبارا سيما مع عدم العجز ضعيف ، للصدق العرفي فيه ، وعدم اكتفاء الحالف فيه مع عدم العجز قد يكون لانصراف خصوص الحلف إلى الكيفية الخاصة ، وإلا فلا ينبغي الشك في الاكتفاء للحالف على النوم مستلقيا أو مضطجعا مستقبلا ، ودعوى انصراف النهي عن التغوط مثلا مستقبلا إلى الكيفية‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٧.

٧

المتعارفة في التغوط ممنوعة ، إذ هي ندرة لا تقدح في الشمول ، إذ لا شك في أنه يصدق على النائم مثلا انه تغوط مستقبلا ، ويظهر من المقداد في التنقيح ان المحرم انما هو الاستقبال بالفرج دون الوجه والبدن ، فمن بال مستقبلا وحرف ذكره عنها لم يكن عليه بأس ، ولعل وجهه أنه هو المفهوم من استقبال القبلة ببول وغائط ، لأنه مقتضى الباء ، ولبعض الأخبار (١) « انه نهى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبول الرجل وفرجه باد للقبلة » وفيه مع خلو أكثر الأخبار عن الباء أن المراد منها معنى ( في ) أي لا تكون مستقبلا في هذا الحال ، ولا دلالة لما ذكره أخيرا ، بل المفهوم منه عرفا خلاف ما ادعاه فتأمل.

ثم أن الظاهر عدم دخول ما جعله الشارع قبلة في بعض الأوقات ، كجعل ناصية الدابة مثلا قبلة للراكب ونحو ذلك ، لأن القبلة إنما هي اسم للعين ، وشاع إطلاقها على الجهة ، وكذا ما بين المشرق والمغرب وإن جعله قبلة في نحو التحير ، ودعوى استفادته من‌ قوله عليه‌السلام (٢) : « ما بين المشرق والمغرب قبلة » لكونه كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) : « الطواف بالبيت صلاة » ممنوعة ، لتبادر الصلاة منه لا أقل من الشك.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في حرمة الاستقبال والاستدبار ، بل في كشف اللثام هنا الجزم بحرمتهما حال الجماع أيضا ، بل أرسله إرسال المسلمات وإن كنا لم نجده لغيره ، بل هو نفسه وغيره صرح بكراهتهما في كتاب النكاح على وجه المفروغية ، ولعله الصواب ، كما تسمعه إن شاء الله تعالى. ولا في أنه يستوي في ذلك الصحاري والأبنية كما هو خيرة المبسوط والخلاف والسرائر والمعتبر والنافع والمنتهى والإرشاد والقواعد وجامع المقاصد وغيرها ، بل هو المشهور نقلا وتحصيلا ، بل في الخلاف‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب القبلة ـ حديث ـ ٩ ـ من كتاب الصلاة.

(٣) سنن البيهقي ج ٥ ص ٨٥.

٨

وعن الغنية الإجماع عليه ، وهو الحجة ، مضافا الى إطلاق‌ المرسل (١) المروي في الكافي والتهذيب والفقيه ، بل في المقنع أيضا روايته عن الرضا عليه‌السلام قال : « سئل أبو الحسن عليه‌السلام ما حد الغائط؟ قال : لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ، ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها ». وقول الصادق (٢) عن آبائه عليهم‌السلام في خبر الحسين بن زيد : « ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في حديث المناهي : إذا دخلتم الغائط فتجنبوا القبلة » وعن الفقيه (٣) أنه قال : « نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن استقبال القبلة ببول أو غائط » وفي آخر (٤) « إذا أتى أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره » وخبر عيسى بن عبد الله الهاشمي (٥) عن أبيه عن جده عن علي عليه‌السلام قال : « قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ، ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها ، ولكن شرقوا أو غربوا » وفي‌ مرسل عبد الحميد (٦) سئل الحسن بن علي عليهما‌السلام « ما حد الغائط؟ قال : لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ، ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها » وفي مرسل علي بن إبراهيم (٧) « قال : خرج أبو حنيفة من عند أبى عبد الله عليه‌السلام وأبو الحسن موسى عليه‌السلام قائم وهو علام فقال له أبو حنيفة : يا غلام أين يضع الغريب ببلدكم ، فقال : اجتنب أفنية المساجد وشطوط الأنهار ومساقط الثمار ومنازل النزال ، ولا تستقبل القبلة بغائط ولا بول ، وارفع ثوبك ، وضع حيث شئت ».

وهي مع استفاضتها وتعاضدها ومناسبتها للتعظيم منجبرة بما سمعت من الشهرة والإجماع ، فلا يقدح ما في أسانيدها من الضعف والإرسال واشتمالها على ما لا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الخلوة حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الخلوة حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الخلوة حديث ٤.

(٤) كنز العمال ج ٥ ص ٨٦ الرقم. ١٨٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٥ وليس فيه ( ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها ).

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٦.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

٩

يقول به الأصحاب كالنهي عن استقبال الريح واستدبارها ، والأمر بالتشريق والتغريب ، مع خلو بعضها عن الأمرين لا يصلح لأن يكون قرينة على التجوز بالنهي ، مع احتمال الأمر بالتشريق والتغريب الاستحباب ، لقصوره عن إفادة الوجوب لعدم الجابر له في خصوص ذلك ، أو يراد الميل الى الجهتين ، وهو لازم لتحريم الاستقبال والاستدبار ، وكيف يكون ذلك قرينة على الكراهة مع ما عرفت من أن المشهور بل نقل الإجماع عليه الحرمة ، بل قد يدعى أنه محصل ، لانقراض الخلاف ، وذلك لأن المنقول عنه الخلاف انما هو ابن الجنيد والمفيد وسلار على ما فيه من الاضطراب ، مع ان عبارة المفيد غير صريحة في ذلك ، فإنه بعد أن قال : « ولا يستقبل القبلة بوجهه ولا يستدبرها ، ولكن يجلس على استقبال المشرق إن شاء أو المغرب » قال : « وإذا دخل الإنسان دارا قد بني فيها مقعد للغائط على استقبال القبلة أو استدبارها لم يضره الجلوس عليه ، وانما يكره ذلك في الصحاري والمواضع التي يتمكن فيها من الانحراف عن القبلة » فقد يكون مراده من لفظ الكراهة الحرمة ، ومن عبارته الأولى صورة عدم التمكن من الانحراف ومن غير هذا الموضع ، وقد يستأنس لذلك بعبارات وقعت لمن علم ان مذهبه التحريم كما تسمع إن شاء الله تعالى.

وأما ابن الجنيد فلم نعلم مذهبه من غير جهة النقل ، فقد نقل أنه قال : « يستحب للإنسان إذا أراد التغوط في الصحراء ان يجتنب استقبال القبلة » وقد يريد الوجوب ، فانحصر الخلاف في سلار ، فإنه قال : « وليجلس غير مستقبل القبلة ولا مستدبرها ، فان كان في موضع قد بني على استقبالها واستدبارها فلينحرف في قعوده ، هذا إذا كان في الصحاري والفلوات ، وقد رخص في ذلك في الدور ، وتجنبه أفضل » ولعل وجهه الجمع بين ما تقدم من الأدلة وبين‌ خبر محمد بن إسماعيل (١) قال : « دخلت على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام وفي منزله كنيف مستقبل القبلة » وهو ـ مع عدم مقاومته لما سمعت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٧.

١٠

من الأخبار ، ومعارضته للإجماع المنقول غير صريح في ذلك ، بل ولا ظاهر ، لعدم استلزام ذلك الجلوس فيه منه عليه‌السلام كذلك ، مع احتمال كون البناء على القبلة دون محل التغوط ، بل ينبغي القطع بذلك ، لأنه لا كلام في كون ذلك مرجوحا ، وهم منزهون عن الاستمرار عليه ، وكيف يتخيل أنهم عليهم‌السلام يأمرون الناس ويؤكدون غاية التأكيد على تعظيم القبلة وأجلالها مع أنهم لا يفعلون ذلك ، ويضعون الكنيف في دورهم لهم ولعيالهم وخدامهم وضيوفهم ، كلا ان ذلك ممنوع ، وعبارة المفيد وإن اقتضى ظاهرها الإباحة لكن قد عرفت الكلام فيها ، ولم ينقل عن ابن الجنيد الحكم في البناء ، مع أن هذا الراوي قد‌ روى عن الرضا عليه‌السلام (١) قال : سمعته يقول : « من بال حذاء القبلة ثم ذكر فانحرف عنها إجلالا للقبلة وتعظيما لها لم يقم من مقعده ذلك حتى يغفر له » على أن قوله ثم ذكر فانحرف فيه إشعار انه لا ينبغي ان يقع منه حال العمد ، وأيضا قوله في خبر عيسى إذا دخلت المخرج ظاهر في الأبنية ، وكذلك مرسل علي بن إبراهيم فتأمل.

وكيف كان فلا ينبغي الشك في المسألة ، فما وقع من بعض المتأخرين من النزاع في هذا الحكم انما نشأ من سوء الطريقة ، والظاهر خروج الاستبراء والاستنجاء عن هذا الحكم ، وكذلك الخارج منه اتفاقا ، والمسلوس والمبطون ، لعدم ظهور تناول الأدلة لمثل ذلك ، بل قد يدعى ظهور العدم ، لظهورها في التخلي ، كقوله إذا دخلتم المخرج واين يضع الغريب ونحو ذلك ، نعم قد يدل‌ خبر عمار (٢) على مساواة حكم الاستنجاء قال : سألت الصادق عليه‌السلام « عن الرجل يريد ان يستنجي كيف يقعد؟ قال : كما يقعد للغائط » ولكن دعوى ظهوره في المقام ممنوعة ، إذ لم يعلم إرادة السائل من الكيفية ماذا فتأمل.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٢.

١١

وكذلك ينبغي القطع بخروج الجالس لخروج أحد الأخلاط أو الحقنة مع الخلوص عن الحدث ، ولا يضر الاحتمال مع عدم تحققه ، بل قد يقال ان مثل هذا الخليط لا يدخل لظهورها فيما ذكرنا من التخلي على النحو المتعارف ، ولو اشتبه القبلة وأمكنه تعرفها وجب ، مقدمة للامتثال ، ولو تعذر وجب الاجتناب ما دام ممكنا ، فان حصرها في جهة وإن لم يشخصها وجب عليه اجتناب تلك الجهة ، وهل يقوم الاجتهاد في القبلة عند عدم غيره مقام اليقين كما في الصلاة؟ لا يبعد ذلك ، إما للإلحاق بالصلاة ، أو لدعوى أنه يفهم من نحو قوله عليه‌السلام ( لا يستقل القبلة ) قيام الظن مقام العلم عند تعذره ، أو لاستصحاب بقاء التكليف ، فيقضي به العقل بقيام الظن مقام العلم ، للزوم التكليف بما لا يطاق بدونه ، والكل لا يخلو من تأمل.

ولو دار الأمر بين الاستقبال أو الاستدبار قدم الأول ، لكونه أعظم قبحا ، وبينه وبين تكشف العورة فالثاني ، ومدار هذا الترجيح وغيره على ما يحصل عند المجتهد ، فينبغي مراعاة الميزان ، وكان دليل تقديم الأعظم قبحا على غيره العقل ، فضلا عن النقل ، والظاهر انه لا يجب على الأولياء تجنيب الأطفال المميزين أو غير مميزين ، للأصل والسيرة ، وربما احتمل الوجوب للتعظيم ، كما في كل ما كان منشأ الحكم فيه ذلك ، كحرمة المس ونحوها ، وهو ضعيف ، وقد يستفاد من رواية محمد بن إسماعيل المتقدمة عن الرضا عليه‌السلام رجحان تجنب القبلة عن كل فعل ردي ، وربما يستأنس له بمرجوحية المواقعة مستقبلا ومستدبرا ، بل في كشف اللثام حرمته ، وقد يشم منه إلحاق الأماكن المشرفة بالقبلة ، بل عن النهاية للفاضل احتمال اختصاص النهي عن الاستدبار بالمدينة ونحوها مما يساويها جهة ، لاستلزام استقبال بيت المقدس ، وإن حكي عن الشهيد أنه قال هذا الاحتمال لا أصل له ، ولعله كذلك ، بل يمكن القطع بخلافه من النصوص والفتاوى ، على أن بيت المقدس قبلة منسوخة ، نعم لا بأس باحترامه من حيث كونه مكانا شريفا كما ذكرناه ، والله العالم.

١٢

ويجب الانحراف في موضع قد بني على ذلك فان لم يمكن وجب التخلي في غيره ، فان لم يمكن جاز كل ذلك ، قضية ما ذكرنا من الأذلة ، وأشار المصنف في هذه العبارة إلى شيئين ، الأول الجواب عن ما سمعت من الرواية عن الرضا عليه‌السلام أن في داره كنيفا مستقبل القبلة ، والثاني إلى بعض عبارات وقعت ظاهرها المنافاة كعبارة الشيخ في المبسوط ، فإنه ـ بعد أن حكم بحرمة الاستقبال والاستدبار مع التصريح بعدم الفرق بين الصحاري والأبنية ـ قال : « وإن لم يكن عليه شي‌ء بالجلوس عليه » قال في المعتبر : يريد أنه مع عدم إمكان غيره ، قلت : يريد بالانحراف عنه تجنبه ، وكذلك ابن إدريس في السرائر ، فإنه ـ بعد ان حكم بالحرمة مع التصريح بعدم الفرق المذكور ـ قال : « وان وجد لفظ الكراهة في بعض الكتب فليس بشي‌ء يعتمد ، إلا أن يكون الموضع مبينا على وجه لا يمكن فيه الانحراف من القبلة » والظاهر أنه يريد مع عدم التمكن من غيره ، وقس على ذلك باقي العبارات ، ولذا لم ينقله أحد من أصحابنا خلافا في المسألة ، فتأمل جيدا.

الثاني من أحكام الخلوة.

( في الاستنجاء )

وهو من النجو ، قيل بمعنى التشرف والتطلع ، أو العذرة وما يخرج من البطن بمعنى إزالتهما ، أو من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض للجلوس عليه ، أو الاستتار به ، وكيف كان فهو في الاصطلاح لا يصدق إلا على إزالة ما يبقى من أحد الخبثين بعد خروجهما من المحلين الأصليين ، أو المعتادين العارضين في وجه عن ظاهر الموضع الذي خرجا منه ، والظاهر عدم مدخلية قصد الإزالة في حقيقته ، فيدخل حينئذ الماء والأحجار الذي يزيل هذه النجاسة مع عدم القصد تحت الاستنجاء ، كما أن الظاهر أنه لا يشترط في الإزالة أن يكون بوجه شرعي ، واحتمال القول أنه لا يدخل فيه غسل البول ـ لكون الاستنجاء انما هو غسل موضع النجو فلا يشمله ، وربما‌

١٣

يؤيده ما يظهر من بعض الأخبار (١) ـ ضعيف ، كما لا يخفى على الخبير الملاحظ للأخبار فتأمل.

( ويجب غسل موضع البول ) إجماعا منقولا ومحصلا ، بل هو من ضروريات مذهبنا ، وسنة كادت تكون متواترة ، بل هي كذلك ، خلافا لأبي حنيفة ، فلم يوجب غسلا ولا غيره ، والمراد الوجوب الشرطي لما يجب غسل النجاسة فيه ، كالصلاة مثلا دون الوضوء ، فمن توضأ قبل أن يغسل موضع البول كان وضوؤه صحيحا ، للأصل والمعتبرة المستفيضة (٢) وفيها الصحيح وغيره ، كما قيل فيمن نسي غسل ذكره حتى توضأ أنه يغسل ذكره ، ولا يعيد الوضوء ، ومع اعتبارها في نفسها معمول عليها عند أكثر الأصحاب ، بل لعله إجماعا ، خلافا للمنقول عن الصدوق ، فأوجب إعادة الوضوء للصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام (٣) « في الرجل يتوضأ فينسى غسل ذكره قال : يغسل ذكره ، ثم يعيد الوضوء » وبمعناه الموثقان (٤) ولقصورها عن المقاومة لوجوه غير خفية وجب حملها على الاستحباب أو التقية أو غيرهما.

ويشترط فيما ذكرنا من الغسل أن يكون بالماء ، ولا يجزي غيره للأصل والإجماع محصلا ومنقولا ، والسنة التي كادت تكون متواترة ( منها ) الآمرة (٥) بالغسل الظاهر بالماء ، ( ومنها ) الآمرة (٦) بصب الماء ، ( ومنها ) المصرحة (٧) بأنه لا يجزي غيره كقول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة زرارة : « ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار ، بذلك جرت السنة ، أما البول فلا بد من غسله » وقوله عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٨ والباب ١٠ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

١٤

أيضا في رواية بريد بن معاوية (١) : « ولا يجزي من البول إلا الماء » خلافا للشافعي ، فاجتزى بغير الماء من التمسح بالأحجار ، وما تقدم عن المرتضى سابقا من الاجتزاء بالمضاف لعله لا يقول به في المقام ، لعدم استثنائه من الإجماع ، وإلا فهو محجوج بما تقدم وأما ما في رواية سماعة (٢) قال : قلت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام : « أني أبول ثم أتمسح بالأحجار فيجي‌ء مني البلل ما يفسد سراويلي ، قال : ليس به بأس » وموثقة حنان (٣) قال : « سمعت رجلا سأل أبا عبد الله عليه‌السلام فقال : إني ربما بلت فلا أقدر على الماء ، ويشتد ذلك علي ، فقال : إذا بلت وتمسحت فامسح ذكرك بريقك ، فان وجدت شيئا فقل هذا من ذاك » فهما مع الغض عما في السند معرض عنهما بين الأصحاب ، لما قد عرفت من الإجماع المحصل والمنقول ، بل ضرورة المذهب ، والأخبار التي كادت تكون متواترة ، فوجب حينئذ طرحهما ، أو تأويلهما بما لا تنافي المقصود وان بعد بحمل نفي البأس في الأول على إرادة عدم نقض التيمم به وإن كان محكوما بنجاسته ، وأولى منه حملهما على التقية ، ويؤيده إنها مروية عن الكاظم عليه‌السلام وقد كانت التقية في زمانه في غاية الشدة ، وبحمل الثانية على إرادة مسح غير المحل النجس حتى يتخلص عن البلل الخارج منه ، إذ قد يكون ذلك من الريق الذي جعله ، فلا يتنجس به ، أو غير ذلك ، وقد تفرد الكاشاني بشي‌ء خالف به إجماع الفرقة الناجية ، بل إجماع المسلمين ، بل الضرورة من الدين ، مستندا الى هاتين الروايتين ونحوهما ، وهو أن المتنجس لا ينجس ، بل الذي ينجس انما هو عين النجاسة ، فمتى زالت بحجر أو خرقة أو نحو ذلك لم ينجس محلها شيئا ، وهو بالاعراض عنه حقيق ، ولا يليق بالفقيه التصدي لرد مثل ذلك بعد ما عرفت أنه مخالف لإجماع المسلمين وضرورة الدين.

مع القدرة أي يجب غسل الموضع المذكور بالماء للصلاة مثلا مع القدرة ، أما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٧.

١٥

مع العجز فيجب مسحه بما يزيل العين وان بقي الأثر ، تخفيفا للنجاسة ، فلا ظهور في العبارة في الاجتزاء حال العجز بغير الماء بالنسبة إلى الطهارة ، للإجماع على عدم الفرق بين القدرة والعجز ، وما ذكرناه من وجوب التخفيف عند العجز هو ظاهر المقنعة والمصنف في المعتبر وصريح العلامة في التذكرة والمنتهى ، ونقل عن الشهيد في الذكرى ، بل يظهر من بعضهم أنه مشهور ، وقد يناقش بعدم الدليل عليه ، لكن قد يستفاد ذلك من قولهم عليهم‌السلام (١) : « لا يسقط الميسور بالمعسور » و « مالا يدرك كله لا يترك كله » (٢) و « إذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا منه ما استطعتم » (٣) بل ربما يشعر به خبر زرارة ومحمد بن مسلم (٤) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته « عن طهور المرأة في النفاس إذا طهرت وكانت لا تستطيع أن تستنجي بالماء أنها ان استنجت اعتقرت ، هل لها رخصة أن تتوضأ من خارج وتنشفه بقطن أو خرقة؟ قال : نعم تنقى من داخل بقطن أو خرقة » ومن تغيير خرقة المستحاضة عند الصلاة ونحو ذلك ، بل ربما يشير اليه قول الصادق عليه‌السلام (٥) في خبر عبد الله بن بكير « في الرجل يبول ولا يكون عنده الماء فيمسح ذكره بالحائط ، قال : كل شي‌ء يابس زكي » بل ينبغي القطع بوجوبه إذا كان عدم التخفيف يوجب نجاسة بعض الأماكن الطاهرة ، كما أنه يشكل الوجوب إذا استلزم تنجيسها ، ولعل ما ذكره بعضهم ـ من الاستدلال عليه بان الواجب إزالة العين والأثر ، وتعذر أحدهما لا يسقط الثاني ـ يرجع إلى ما ذكرناه أولا من عدم سقوط الميسور بالمعسور ونحوه ، لكن يشكل دخول ما نحن فيه تحتها ، فتأمل ، لظهورها فيما إذا كان‌

__________________

(١) غوالي اللآلي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٢) غوالي اللآلي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٣) سنن البيهقي ج ١ ص ٢١٥ ولكن نصه ( ما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ) ورواه أيضا في غوالي اللآلي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعين ما ذكر في الجواهر وفي تفسير الصافي ـ سورة المائدة ـ آية ١٠١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ـ ٥.

١٦

المكلف به ذا أفراد أو ذا أجزاء فتعذرا ، دون الغسل والمسح مثلا ، وما يقال من أن الأمر بالغسل تضمن شيئين. أحدهما إزالة العين ، والآخر الأثر ففيه أن ذلك ليس معنى الغسل ، بل هو من لوازمه ، مع أنه قد يقال انا مكلفون بإزالة الأثر وإزالة العين من اللوازم نعم هي جارية في متعدد الغسل وفيما إذا أمكن غسل البعض ونحو ذلك. وهل يجب التخفيف الحكمي كما إذا كان متنجسا بنجاسة يجب غسلها مرتين مثلا فتمكن من المرة الواحدة؟ وجهان ، أقواهما الأول.

وأقل ما يجزي من الماء في إزالة البول مثلا ما على المخرج كما في المقنعة والمبسوط والتهذيب والنهاية والمراسم والمهذب والمعتبر والنافع والتذكرة والقواعد والتحرير بل في جامع المقاصد وعن المسالك حكاية الشهرة عليه ، وكأنها كذلك ، خلافا للعلامة في المنتهى والمختلف وعن أبي الصلاح وابن إدريس ، فذهبوا إلى عدم التقدير بذلك ، وقال في الأول : « أقل ما يجزي من الماء لغسله ما أزال العين عن رأس الفرج ، هذا قول أبي الصلاح ، وقدره الشيخان بمثلي ما على الحشفة من البلل ، لنا إلى آخره » انتهى.

وقال في المختلف : « قال الشيخان وسلار وابن بابويه : أقل ما يجزي من الماء في البول مثلا ما على الحشفة منه ، والحق أنه لا يتقدر ، بل يجب الإزالة مطلقا بما يسمى غسلا ، سواء زالت بأقل أو بأكثر ، وهو قول أبي الصلاح وابن إدريس ، وهو الظاهر من كلام ابن البراج » انتهى. وقال أبو الصلاح في الكافي على ما نقل عنه : « وأقل ما يجزي ما أزال البول عن رأس فرجه » وقال ابن إدريس : « وأقل ما يجزي من الماء لغسله ما يكون جاريا ويسمى غسلا وقد روي (١) أن أقل ذلك « مثلا ما عليه من البول » ، وإن زاد على ذلك كان أفضل » ويظهر من الشهيد في البيان أنه نزاع في العبارة ، قال فيه : « وأقله مثلاه مع زوال العين ، والاختلاف هنا في مجرد العبارة » انتهى.

قلت : هو لا يخلو من وجه وإن كان الأوجه خلافه ، بل النزاع معنوي ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٥.

١٧

كما يظهر من المصنف والعلامة وغيرهما ، وتظهر الثمرة فيما لو تحقق الغسل بالأقل من المثلين فلا يجتزى به ، بناء على الأول ، بخلاف الثاني ، فيكون في الحقيقة اشتراط المثلين تعبديا ، ويؤيد ذلك أنه من المستبعد جدا توافق العبارات المتقدمة على التعبير بالمثلين ، وانه أقل ما يجزي مع إرادتهم منه ان ذلك أقل ما يتحقق به الغسل ، وإلا فهم متفقون على أن المدار ما يسمى غسلا ، كلا إن ذلك غير ظاهر من كلماتهم مخالف لما فهم الفحول منهم ، نعم لا خلاف بينهم في عدم الاجتزاء بالمقدر إذا لم يتحقق به غسل ، لكنه فرض نادر ، واحتمال أن الغسل لا يتحقق بالأقل من المثلين ، فحينئذ لا خلاف ممنوع ، كاستبعاد كون ذلك شرطا تعبديا ، لعدم النظير في سائر ما يرفع به الخبث ، بل ولا ما يرفع به الحدث ، بل ولا البول نفسه في غير الاستنجاء ، إذ هو استبعاد لغير البعيد بعد قضاء الدليل به ، بل لعله الأقوى ، لخبر نشيط بن صالح (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته « كم يجزي من الماء في الاستنجاء من البول؟ فقال : مثلا ما على الحشفة من البلل » فيقيد به إطلاق الغسل ، كما يقيد به إطلاق المرتين لو سلم شموله للمقام ، ودعوى ان في سندها مروك بن عبيد الذي هو غير معروف الحال يدفعها ـ مع أن ذلك غير قادح ، لما عرفت من انجبارها بالشهرة المحصلة والمنقولة ـ أنه نقل العلامة في الخلاصة عن الكشي أنه قال محمد بن مسعود سألت علي بن الحسن عن مروك بن عبيد بن سالم بن أبي حفصة ، فقال : ثقة شيخ صدوق ، كدعوى ان هذه الرواية معارضة بروايته الأخرى المؤيدة بأصل براءة الذمة من الزائد ، والاخبار (٢) المطلقة الآمرة بالغسل ، وأن الاستنجاء حده النقا ، فإنه روى أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : « ويجزي من البول أن تغسله بمثله » إذا الأصل مقطوع باستصحاب النجاسة ، وبما سمعت من الرواية المنجبرة بما تقدم ، وبذلك تقيد المطلقات ، مع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام الخلوة حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام الخلوة حديث ٧.

١٨

كون الظاهر فيها انصرافها الى الفرد الغالب ، وهو تحقق الغسل بما زاد على المثلين فضلا عنهما ، والرواية ـ مع كونها مرسلة لا جابر لها ، وموهونة باعراض المشهور ، مضافا إلى استبعاد تحقق الغسل بالمثل ، لاشتراط الغلبة والاستيلاء ، وهو منتف فيه إلا على تكلف تسمعه إن شاء الله تعالى ـ غير صريحة الدلالة ، بل ولا ظاهرة ، لاحتمال أن يراد بمثله مثله من الماء ، كما أشارت إليه بعض الأخبار (١) « أنه ماء فلا يزال إلا بالماء » بل يحتمل أن تكون الرواية بمثليه ، وحذفت الياء من النساخ ، واحتمال العكس في الرواية الأولى في غاية البعد ، لما عرفت من انجبارها بفتوى الأصحاب الذين صدرت منهم الروايات ، وربما احتمل فيها احتمالات أخر لا بأس بها في مقام الجمع بعد ما سمعت من رجحان الأولى من وجوه متعددة ، ويظهر من المحقق الثاني في جامع المقاصد وعن تعليقه على الكتاب والنافع أن المراد بالمثلين في الرواية وكلام الأصحاب كناية عن وجوب الغسل مرتين ، مع اختياره لوجوب المرتين ، ومثله نقل عن الشهيد الثاني في المسالك ، والكلام معهما في مقامين.

( الأول ) جعل المثلين في الرواية وكلام الأصحاب عبارة عن الغسلتين ، وفيه أنه لا شاهد لهما على ذلك ، بل الظاهر خلافه ، إذ الرواية ظاهرة في التقدير ، لسؤالها عنه من غير تعرض للتعدد ، وكذلك كلام الأصحاب ، فإنهم ـ بعد أن ذكروا أن البول لا بد من غسله بالماء ـ قالوا : وأقل ما يجزي من الماء مثلا ما عليه من البلل ، وهو بإطلاقه شامل لما إذا كان ذلك دفعة أو دفعتين بعد تحقق مسمى الغسل به ، على أنه من المستبعد تحقق مسمى الغسل بالمثل ، لعدم حصول الغلبة والاستيلاء ، وما يقال ان المراد بالمثل أي مثل القطرة المتخلفة في رأس الذكر ، أو هي مع البلل ، وحينئذ فتتحقق الغلبة ، ويحصل الغسل بالمثل ، مع كونه خلاف ظاهر قوله ما على الحشفة من البلل ، بل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٦ ـ ولم نعثر على ( أنه ماء فلا يزال إلا بالماء ).

١٩

الظاهر إرادة المثلين لما يغسل ، وهو البلل الباقي على الحشفة ، فإنه المحتاج للماء في الغسل لا تلك القطرة التي تسقط غالبا عند إرادة الاستنجاء ، سيما بعد تعارف الاستبراء ، وكون الغسل بعد انقطاع دريرة البول ، أنه لا داعي الى هذا التكلف لما ستعلمه من فساد القول بوجوب التعدد ، وإلا فيمكن أن يقال بتحقق الغسل بالمثل ، لصدق المثل على الزائد زيادة يسيرة بحيث يتحقق به الغلبة ، واحتمال إرادة كل غسلة بمثلي ما على المخرج ، لا كل غسلة بالمثل ، فتتحقق حينئذ الغلبة يدفعه ان الرواية المنجبرة بكلام الأصحاب ظاهرة بل نصة في نفيه ، إذ على ذلك يكون الأقل أربعة أمثال لا المثلين ، على أنه لم يصرح أحد بوجوب نحوه ، نعم قيل انه يحتمله عبارة الفقيه والهداية ، وستسمعهما.

( المقام الثاني ) وجوب التعدد ، ونقل التصريح عن الفقيه والهداية ، لقوله في الأول : « ويصب على إحليله من الماء مثلي ما عليه من البول ، يصبه مرتين ، وهذا أدنى ما يجزي » ونحوه في الهداية ، واختاره المحقق الثاني والشهيدان ، والأقوى خلافه للأخبار المطلقة الآمرة بالغسل المتحقق بالمرة ، مع كون الحكم مما تشتد الحاجة إليه ، فايكال الأمر إلى الإطلاق في مقام البيان كالتصريح في عدم وجوب التعدد ، ( منها خبر يونس بن يعقوب (١) قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « الوضوء الذي افترضه الله على العباد لمن جاء من الغائط أو بال ، قال : يغسل ذكره ، ويذهب الغائط » مضافا الى رواية نشيط بن صالح المنجبرة بفتوى الأصحاب ، فإنها اجتزت بالمثلين من غير تقييد بالمرتين ، بل قد عرفت أنه لا يتحقق بالمثل ، فيكون حينئذ المشهور الاكتفاء بالمرة الواحدة ، لكون عباراتهم مطلقة في الغسل من غير ذكر للمرتين وان ذكروا التقدير بالمثلين ، لكنه لا إشارة فيه اليه كما عرفت ، بل الأظهر عدمه ، لما عرفت من عدم تحقق الغسل بالمثل إلا على تكلف مستغنى عنه ، على أنه لم يقيده بذلك في الخلاف والإرشاد واللمعة وعن جمل السيد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة حديث ٥.

٢٠