جواهر الكلام - ج ٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

عن إخراج النفس عن حد التقصير في عبادة الله عز وجل وطاعته ، و ( منها ) ما رواه‌ ابن الحجاج (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : « قال إبليس لعنه الله : إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم أبال ما عمل ، فإنه غير مقبول منه ، إذا استكثر عمله ونسي ذنبه ، ودخله العجب » و ( منها ) ما في‌ خبر أبي عبيدة (٢) عن الباقر عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « قال الله تعالى : ان من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادتي الى ان فاض به النعاس الليلة والليلتين نظرا مني له وإبقاء عليه ، ولو أخلي بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله العجب من ذلك ، فيصيره العجب إلى الفتنة بأعماله فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه ، لعجبه بأعماله ، ورضاه عن نفسه ، فيتباعد مني عند ذلك وهو يظن أنه يتقرب إلى » و ( منها ) خبر علي بن سويد عن أبي الحسن عليه‌السلام (٣) قال : سألته « عن العجب الذي يفسد العمل ، فقال العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه ويحسب انه يحسن صنعا ، ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمن على الله والله عليه فيه المن » و ( منها ) ما رواه‌ إسحاق بن عمار (٤) عن الصادق عليه‌السلام قال : « أتى عالم عابدا إلى أن قال : قال العالم للعابد : ان المدل لا يصعد من عمله شي‌ء » و ( منها ) ما رواه في الوسائل عن‌ العلل والتوحيد (٥) مسندا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل عليه‌السلام في حديث قال : « إن من عبادي لمن يريد الباب من العبادة فأكفه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده » والكل كما ترى ، وأولى ما يستدل به لذلك ما رواه‌ يونس بن عمار عن الصادق عليه‌السلام (٦) قال : « قيل له وأنا حاضر الرجل يكون في صلاته خاليا فيدخله العجب ، فقال إذا كان أول‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١ مع زيادة في الوسائل.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ٩.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١٧.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ٣.

١٠١

صلاته بنية يريد بها ربه فلا يضره ما دخله بعد ذلك فليمض في صلاته وليخسأ الشيطان » فإنه بالمفهوم دال على المطلوب ، ويدل أيضا بالمنطوق على عدم الإفساد لو وقع في الأثناء وبالأولى الواقع بعده ، بل مقتضى عموم ( ما ) أن الرياء كذلك إلا انه لما لم يثبت اعتبار سند الرواية ولا جابر بل ولا صريحة الدلالة كان الأقوى في النظر عدم الابطال بالعجب مطلقا ولا بالرياء بعد العمل ، وأما ما كان في الأثناء فوجهان ، أقواهما البطلان ، هذا.

وإذا كانت الضميمة راجحة فيصح كما صرح بذلك جماعة ، بل في شرح الدروس الاتفاق عليه ، ويظهر من بعضهم نفي الخلاف فيه ، ويدل عليه ـ مضافا إلى ذلك وإلى عدم منافاته للإخلاص بل هو من مؤكداته ـ ملاحظة الأخبار ، لتضمنها بيان كثير من الأمور الراجحة المرادة في الواجبات والمندوبات ، ولو أن ملاحظة مثل هذه الأمور مفسدة للعمل لكان الذي ينبغي ترك بيانها كي لا تلاحظ ، فتنافي مع ما ورد من فعل الوضوء منهم والصلاة مع قصد التعليم ، والأمر باطلة الركوع للانتظار ، وإعطاء الزكاة للاقتداء ، والتكبير للاعلام ونحو ذلك ، لكن ينبغي ان يعلم أن المراد بالصحة هنا من حيث ملاحظة الرجحان ، وإلا فمع عدمه يكون كالضمائم المباحة من التبرد ونحوه ، والقول بان المراد بالراجحة الراجحة في نفسها كأن يكون من مكارم الأخلاق ونحوه لا من حيث الاستحباب الشرعي وعدمه فلا فرق بين ملاحظة الرجحان وعدمه لا وجه له ، إذ بعد تسليم تحقق مثل ذلك لا يصلح لأن يكون مائزا بينه وبين الضمائم المباحة ، فتأمل.

ثم الظاهر انه لا فرق فيما ذكرنا من الصحة بين كون كل منهما علة مستقلة أو كان المجموع علة مستقلة ، بل قد يظهر من بعضهم الصحة حتى فيما لو كان المقصود الضميمة أصالة والعبادة تبعا ، لكنه في غاية الإشكال ، بل الأقوى عدمه ، فإنه لو صام بقصد الحمية لا بقصد شهر رمضان بحيث كان الأول هو العلة ولولاه لم يفعل لا يكون مطيعا بالنسبة للأمر الصومي ، ولا ممتثلا لقوله (ص) : « إنما الأعمال بالنيات » نعم قد يحصل له ثواب‌

١٠٢

بالنسبة للمندوبات لو لاحظها ولو تبعا ، بل يمكن النظر في الاجتزاء بالصورة الثانية بالنسبة للواجب ، اللهم إلا أن يستند للإجماع السابق.

وقد يظهر لك فيما يأتي انه لا معنى للإطلاق المذكور في جميع الضمائم ، بل نقول ان الضمائم لا تداخل فيها حيث تكون من قبيل الجهات المتعددة للعمل الواحد المشخص كما تقدم نظيره بالنسبة إلى غايات الطهارة الصغرى ، وكذا فيما كان منها من قبيل تعلق الأمر بكليين مختلفين يتفق اجتماعهما في فرد لا اجتماع صدق بالنسبة إلى ذلك الفرد ، بل هو صورة اجتماع في فرد ، وإلا ففي الحقيقة هما فردان مختلفان نظير ما تقدم سابقا في المسح والغسل ، إذ لا يتصور التداخل فيه ، وأما فيما كان منها من قبيل الأغسال فهي من التداخل قطعا ، وفي أحد الوجهين فيما كان منها من قبيل تعلق الأمر بكليين بينهما العموم من وجه ، وتحته صورتان ، الأولى أن يكون في متعلق الأمر كقوله أكرم عالما أكرم شاعرا ، الثانية أن يكون في نفس الأمرين ، ولعل الأولى أقرب إلى التداخل من الثانية ، ولا يخفى عليك اختلاف الحكم فيما كان من قبيل التداخل وعدمه ، فيحتاج إلى الدليل في الأول دون الثاني ، مع اختلاف الحكم بالنسبة للنية أيضا فتأمل جيدا.

ووقت النية استحبابا عند ما استحب من غسل الكفين للوضوء كما في الوسيلة والمعتبر والمنتهى والتحرير والقواعد ، بل في البيان انه المشهور ، وجوازا كما في الدروس والذكرى والروض وغيرها ، وعلى كل حال فالمستند أنه أولى أجزاء الوضوء الكامل ، فتصح مقارنة النية له ، إذ لا دليل على وجوب مقارنتها للواجب لكون الإجماع محصلا ومنقولا ، وقوله عليه‌السلام : « لا عمل إلا بنية » وآية الإخلاص (١) وغيرها أقصى ما توجب المقارنة لأول العمل لا الواجب منه ، بل لعل مقتضاها إيجاب المقارنة للأجزاء المندوبة إذا أريد تحصيل الفرد الكامل المشتمل عليها ، لأن‌

__________________

(١) سورة الزمر ـ الآية ٢ ـ وسورة البينة ـ الآية ٤.

١٠٣

إفرادها بالنية مع كونها بعض العمل كوقوع النية عند غسل الوجه وهو وسط العمل حقيقة لا أوله لا يخلو من تأمل ونظر ، لكن ذلك كله موقوف على ثبوت جزئية غسل اليدين من الوضوء ولم يثبت ، بل لعل ظاهر الأدلة يقضي بخلافه ، ونفي الخلاف عن كونه من سنن الوضوء أعم من الجزئية ، واحتمال الاكتفاء بذلك وإن لم يثبت الجزئية لا وجه له ، وإلا لجاز التقديم عند غير ذلك من مستحبات الوضوء كالسواك والتسمية مع أنه غير جائز كما نص عليه جماعة ، بل في الروض الإجماع عليه ، ولذلك كله خص ابن إدريس في ظاهره جواز التقديم هنا عند المضمضة والاستنشاق كما عن الغنية ، بخلاف غسل الجنابة فجوز التقديم عندهما ، وهو حسن ، لكن اعترضه بعض بان الفرق بين الوضوء والغسل تحكم ، وآخر بعدم ثبوت جزئية المضمضة والاستنشاق أيضا.

وقد يدفع الأول بملاحظة أخبار الغسل (١) فإنها ظاهرة في كون غسل اليدين جزء مستحبا لمكان ذكره في كيفية الغسل بخلافه هنا ، وكذا الثاني بملاحظة أخبار المضمضة والاستنشاق (٢) فإنه وان اشتمل جملة منها على كونهما ليسا من الوضوء لكن ذلك محمول فيها على واجباته جمعا بينها وبين ما دل على كونهما من الوضوء. فظهر أن قول ابن إدريس هو الأقوى في النظر ، وبذلك كله تعرف ضعف ما ينقل عن ابن طاوس من التوقف في التقديم ، نظرا إلى أن مسمى الوضوء الحقيقي غيرهما ، وللقطع بالصحة إذا قارن عند غسل الوجه ، وهما كما ترى سيما الثاني ، إذ القطع لا يمنع الاكتفاء بالغير مع الظن من الأدلة الشرعية.

وكيف كان فبناء على جواز التقديم عند غسل اليدين ينبغي الاقتصار على الغسل المستحب للوضوء ، كما إذا توضأ من حدث البول أو الغائط أو النوم واغترف من إناء لا يسع كرا ونحو ذلك على ما ستعرف إن شاء الله تعالى ، فلا يجوز عند الغسل المباح ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الوضوء.

١٠٤

كما إذا كان الوضوء من الريح مثلا أو المحرم أو المكروه أو المستحب لغير الوضوء أو الواجب له كما إذا كانت اليد نجسة ، وإن احتمل الجواز في الأخيرة لكونه أولى من الندب إلا أن الأقرب المنع لعدم كونه من أفعال الوضوء.

ويتضيق عند أول غسل الوجه ولا يجوز تأخيرها ، لاستلزام وقوع بعض العمل حينئذ بلا نية ، كما أنه لا يجوز تقديمها مع الفاصلة على جميع أجزاء العمل ، لما فيه من تفويت المقارنة مع اعتبارها في أصل النية أو انها مقتضى ما سمعت من الدليل.

وما ينقل عن الجعفي من أنه لا بأس ان تقدمت النية العمل أو كانت معه ضعيف ، أو أنه يريد التقدم مع المقارنة المعتبرة ثم الغفلة عنها ، وبالمعية الاستدامة الفعلية ، أو انه يريد بالعمل الواجب منه بمعنى جواز تقديم النية عند غسل الكفين ، أو أنه يريد بالتقدم ما لا يقدح في اعتبار المقارنة عرفا ، فلا يوجب المقارنة الحكمية ، كما عساه يظهر من جملة من عباراتهم ، حتى انهم وقعوا في الاشكال في كيفية مقارنة تمام النية لأول العمل ، ووقع منهم بسبب ذلك أمور لا ينبغي أن تسطر ، أو انه يريد بيان كون النية هي الداعي لا الصورة المخطرة ، فإنه حينئذ بناء على ذلك لا بأس في إيجاد الداعي سابقا على العمل أو مقارنا له ، كما صرح به جماعة من القائلين بذلك. ومن هنا ظهر من بعضهم سقوط هذا البحث أعني بحث التقديم عند غسل الكفين بناء على كون النية هي الداعي لأنه مستمر ، بل لا يصدر الفعل الاختياري بدونه ، وكذا بحث الاستدامة كما ستعرف ، لعدم الفرق حينئذ بين الابتداء والاستدامة في ذلك ، وفيه نظر يعرف مما تقدم في النية ، وقد نشير إليه في الاستدامة إن شاء الله تعالى.

ويجب في صحة الوضوء بل كل عبادة تعذر أو تعسر استدامة النية فيها فعلا استدامة حكمها إلى الفراغ كما في المبسوط والجمل والعقود والوسيلة والإشارة والغنية والسرائر والنافع والمعتبر والمنتهى والتذكرة والتحرير والإرشاد وغيرها ، بل لا خلاف على الظاهر في اعتبارها ، والمراد بها على ما فسرت في جملة مما سبق بل نسبة الشهيد‌

١٠٥

إلى كثير والمقداد إلى الفقهاء مشعرا بدعوى الإجماع عليه أن لا تنقض النية الأولى بنية تخالفها ، بل قد يرجع اليه ما في السرائر والغنية أن يكون ذاكرا لها غير فاعل لنية تخالفها ، مع دعوى الثاني الإجماع ، وذلك يجعل قولهما ( غير ) الى آخره تفسيرا لما قبله ، وإلا فالإجماع محصلا ومنقولا وغيره على صحة عبادة الذاهل ، وانه لا يجب استمرار الذكر ، وبه يظهر أن مراده في الذكرى من تفسيره لها بالبقاء على حكمها والعزم على مقتضاها ما يرجع إلى المشهور أيضا ، وانما ارتكب ذلك لما في تفسير المشهور من كونه بأمر عدمي ، ولذا قال انه مبني على أن الباقي مستغن في بقائه عن المؤثر.

ولعل مراده بالباقي الإخلاص أو الصحة أو صفة العبادية ، فأراد العدول عن التفسير بالعدمي ففسرها بذلك وهو ملازم له وسبب فيه ، فلا ثمرة حينئذ بين التفسيرين وأما ما يقال : من أنه يريد إيجاب استمرار تذكر البقاء والعزم إلى الفراغ فينبغي أن يقطع بعدمه ، وكيف وهو قد صرح بعدم بطلان العبادة مع الذهول عن ذلك غير متردد فيه ، بل المحقق الثاني نقل الإجماع على ذلك ، نعم يحتمل إرادة تجديد العزم كل ما ذكر ، وبه يحصل الفرق حينئذ لكنه لا دلالة في كلامه عليه ، كما أنه يحتمل أن يكون الفرق بينهما بما تسمع إن شاء الله تعالى من بطلان الاستدامة بالتردد في إبطال العمل وعدمه ، فإنه يتجه البطلان على تفسير الشهيد والعدم على الثاني.

وكيف كان فالدليل على اشتراط الصحة بها في الجملة بعد الإجماع المدعى ما ذكره بعضهم ان الأصل يقتضي إيجاب النية الفعلية لقيام دليل الكل في الاجتزاء إلا انه لما تعذر ذلك أو تعسر اكتفى بالاستمرار الحكمي ، لعدم سقوط الميسور بالمعسور (١) و‌ « ما لا يدرك كله لا يترك كله » (٢) ونحو ذلك ، وفيه ـ بعد إمكان منع كون الأصل كذلك ، وقوله عليه‌السلام (٣) : « لا عمل إلا بنية » ونحوه لا دلالة فيه على أزيد من وجوب‌

__________________

(١) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٢) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١.

١٠٦

تلبس العمل بنية في الجملة ، على أنه لم يعلم إرادة النية الشرعية فيه ـ انه ينبغي حينئذ إيجاب تجديد النية على حسب الإمكان ، لكون الضرورة تقدر بقدرها ، أو إيجاب تذكر العزم من دون باقي مشخصات النية ، على أنه بعد تسليم سقوط ذلك كله لا دليل على وجوب ما ذكروه من الاستمرار ، وقولهم لا يسقط الميسور ونحوه لا يصلح لإثباته لما فيه من الاجمال المقرر في غير هذه المحال من الاقتصار به على التكليف ذي الجزئيات أو مع الأجزاء ، على أن في كون ذلك منه منعا وتأملا سيما على التفسير المشهور للاستدامة.

ولعل الأولى في المستند للاشتراط المذكور ـ بعد الإجماع المنقول المؤيد بالتتبع المفضي إلى إمكان دعوى الحصول ـ توقف صدق كون العمل منويا عليها كما هو الشأن في سائر الأعمال المركبة ، فإن نيتها بان يقارن أولها تمام النية ثم يبقى مستمرا على حكمها غير ناقض لها بنية تخالفها ، وبذلك يصدق كون العمل منويا ومقصودا وإن حصل ما حصل من الغفلة في الأثناء ما لم يحصل النقض المذكور ، فلا حاجة حينئذ إلى التقدير المتقدم ، بل هو للإفساد أقرب منه للإصلاح ، ولا فرق فيما ذكرنا بين القول بأن النية هي الداعي أو الاخطار والفرق بين الابتداء والأثناء حينئذ ، أما على الثاني فظاهر ، وأما علي الأول فلما عرفت سابقا أنه يعتبر بناء على القول بالداعي الخطور في الابتداء دون العلم به ، وان ذلك مدار الفرق بينه وبين الاخطار ، وإلا فلا فرق بينهما بالنسبة إلى عدم الاعتداد بعبادة الغافل محضا عند الابتداء ، فيكون الفرق حينئذ بين الابتداء والأثناء بناء على الداعي بان الغفلة والذهول الماحيين لخطور الصورة يقدحان في الابتداء دون الأثناء ، فتأمل جيدا. أو يقال كما ذكرنا سابقا انه بناء على الداعي لا بد من القصد إلى الفعل في الابتداء وإن لم يلتفت الذهن إلى الداعي بخلافه في الأثناء فإنه يكتفى به وإن وقع من غير قصد أو غير ذلك على ما يظهر لك من ملاحظة ما سبق منافي النية ، هذا.

وقد وقع في الرياض ما ينافي بظاهره ذلك تبعا للأستاذ الأعظم في شرح المفاتيح‌

١٠٧

والفاضل صاحب الحدائق والمدقق الخوانساري ، قال بعد أن ذكر تفسير الاستدامة بالمشهور وكلام ابني إدريس وزهرة : « إن مقتضاه اعتبار الاستدامة الفعلية كما هو مقتضى الأدلة ، لوجوب تلبس العمل بالنية ، والحكمية مستلزمة لخلو جل العمل عنها ، ومبنى الخلاف هو الخلاف في تفسير أصل النية هل هي الصورة المخطرة بالبال ، أم نفس الداعي إلى الفعل فعلى الأول لا يمكن اعتبار الاستدامة الفعلية ، إذ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوف واحد ، فتعينت الحكمية ، لقوله عليه‌السلام : ( ما لا يدرك ) وعلى الثاني يمكن اعتبارها فيجب وحيث كان المستفاد من الأدلة ليس إلا الثاني بناء على دلالتها على اعتبار النية في أصل العمل ومجموعه ، وهو ظاهر في وجوب بقائها في نفسها إلى منتهاه ، وقد عرفت تعذره في المخطر ، فلم يبق إلا الداعي ، إلى أن قال : ومما ذكر ظهر سقوط كلفة البحث عن المقارنة وتقدمها عند غسل اليدين ، لعدم انفكاك المكلف على هذا التقدير عنها ، فلا يتصور فقدها عند القيام إلى العمل ليعتبر المقارنة لأول الواجبي أو المستحبي » انتهى. وهو كالصريح كغيره ممن نقلنا عنهم أنه لا فرق بين الابتداء والاستدامة ، وأنه لا وجه للبحث في التقديم عند غسل اليدين ، وفيه ما لا يخفى ، فإنه ـ مع مخالفته بعض ما هو مجمع عليه بحسب الظاهر ـ مستلزم لصحة وقوع العبادة بعد حصول الداعي مع الغفلة الماحية لأصل الخطور في الذهن كما يتفق ذلك في الأثناء ، وهو بعيد جدا ، أو أنهم يلتزمون فساد ما وقع فيها في أثناء ذلك حتى يتساوى الابتداء والأثناء ، وهو أبعد ، وما أدري ما الذي دعاهم إلى ذلك مع أن القول بالداعي لا يقتضيه كما تقدم.

ومنه تعرف الوجه في مسألة تقديم النية عند غسل اليدين ، وأنه يتصور له معنى بناء على الداعي ، لما ظهر لك من الفرق بين الابتداء والأثناء ، فأما أن يعتبر الخطور عند غسل اليدين أو القصد أو غير ذلك واتفاق استمراره غير قادح ، وتظهر الثمرة لو انقطع ، وما يقال ـ : انه متى انقطع وأغفل عنه من المحال أن يصدر فعل اختياري جار مجرى أفعال العقلاء ـ يدفعه أنه على تقدير تسليم ذلك لا يمتنع أن يكون اكتفى الشارع‌

١٠٨

بما يقع من المكلف من العبادة في الأثناء وإن كان وقوعه على حسب الوقوع من النائم والغافل وغير ذلك. ولا يخفى عليك أن المراد باعتبار الاستدامة انما هو للنية مع جميع قيودها ، كل على مذهبه (١).

ثم قد يظهر من تفسير المشهور للاستدامة أنه لا يقدح حصول التردد في الإبطال أو فعل المنافي ، وذلك لما عرفت من تفسيرهم لها بان لا ينقض النية الأولى بنية تخالفها ، ولا ريب ان التردد المتقدم ليس نية ، لكن ذلك خلاف ما يظهر من كثير منهم في باب الصلاة ، نعم يتجه ذلك بناء على ما ذكره الشهيد في تفسيرها ، لظهور منافاة التردد للعزم على مقتضاها ، ولعل الاستصحاب مع عدم دليل على وجوب الاستدامة بهذا المعنى حتى ما ذكرناه سابقا في توجيهها يؤيد الأول ، اللهم إلا ان يدعى الإجماع عليه كما عساه يظهر من ملاحظة كلامهم في باب الصلاة ، فيرتفع الخلاف حينئذ بين التفسيرين لها ، ويكون المتردد كالناوي لخلافها ، فإنه لا إشكال عندهم في منافاته الاستدامة ، وبه صرح في المبسوط والمعتبر والمنتهى والتذكرة والقواعد والذكرى وغيرها ، إلا أن الذي يظهر منهم عدم حصول البطلان بمجرد ذلك ، بل هو مشروط بما لم يرجع إلى النية الأولى ولما يحصل مفسد خارجي للوضوء من فوات موالاة وغيرها ، من غير فرق في ذلك بين وقوع بعض الأفعال بتلك النية المخالفة وعدمه ، لكون الوضوء من العبادات التي لا تفسد بمثل ذلك ، ولذا لو وقع الغسل منكوسا لم يبطل ما تقدمه من الأعضاء المغسولة ، ويزداد الغسل على الوضوء بعدم اشتراط الموالاة فيه ، فحينئذ متى أراد الرجوع إلى الحال الأول رجع بتجديد النية ، لكن قد يشكل أنه ينبغي ابتناء الصحة في المقام وغيره على جواز تفريق النية على الاجتزاء.

ويدفع أولا بأنه ليس من تفريق النية في شي‌ء ، بل من تكريرها ، فإنه نوى‌

__________________

(١) فمن اعتبر فيها الوجه وجب عليه استدامة ذلك ، وكذا رفع الحدث والاستباحة كالقربة وأصل القصد ( منه رحمه‌الله ).

١٠٩

جملة الوضوء أولا ثم نوى عند التدارك ثانيا بان التفريق بعد نية الجملة مؤكد لها ، والحاصل أن مقتضى الاستصحاب المؤيد بفتوى الأصحاب عدم حصول البطلان بمجرد ذلك ، وتفريق النية الممنوع منه انما هو النية بالجزء على أنه عبادة مستقلة ، أو أنه وزع تمام النية على تمام العمل ، أما إذا نوى الجزء متقربا به على مقتضى الجزئية أو لم يلاحظ فيه شيئا من ذلك فلا نرى فيه منعا ، فيراد من التجديد حينئذ الرجوع إلى مقتضى النية الأولى ، أو ينوي التقرب جديدا بالجزء من حيث الجزئية ، أو لم يلاحظ فيه جزئية ولا غيرها ، فما ينقل عن البهائي من الإشكال في الحكم كما عساه يظهر من كشف اللثام في غير محله ، فتأمل جيدا. نعم الممنوع من التفريق هو أن يوزع تمام النية على تمام العمل على معنى وقوع الجزء الأول مثلا ببعض نية ، أو ينوي نية تامة عند غسل الوجه مثلا ، وكذلك غسل اليمنى لكن مع نية رفع الحدث عنها ، وكذا لو نوى من أول الأمر رفع الحدث عن الأعضاء الأربعة ، وذلك لعدم التبعض على إشكال فيهما ، لاحتمال الصحة لمكان السراية كما ذكرنا سابقا فيمن نوى حدثا معينا ، أما لو نوى رفع الحدث مثلا عند كل عضو عضو فالظاهر الصحة ، خلافا لما يظهر من المحقق الثاني ومن تابعه محتجين عليه بمعلومية عدم فعله من صاحب الشرع ، على أن الوضوء عمل واحد وعبادة واحدة ونحو ذلك ، وضعفهما واضح ، لأعمية الأول من الفساد ، فلا يقدح بعد شمول القول له وعدم اقتضاء الثاني منع تفريق النية ، إذ لم يلحظ الاستقلال سيما مع ملاحظة عدمه بان تلاحظ الجزئية ، على أن مسألة التفريق يتجه تفريعها بناء على أن النية هي الاخطار دون الداعي إلا على وجه بعيد.

تفريع على ما تقدم إذا اجتمعت أسباب مختلفة كالبول والغائط ونحوهما سواء كانت مترتبة أو دفعة توجب الوضوء لغايته الواجبة كفى وضوء واحد بنية التقرب ، ولا يفتقر إلى تعيين الحدث الذي يتطهر منه بلا خلاف أجده ، بل في المدارك أنه مذهب العلماء ، وهو مع غيره الحجة ، سواء قلنا بوجوب قصد رفع الحدث في‌

١١٠

الوضوء عينا أو تخييرا بينه وبين الاستباحة أو لم نقل بوجوبه ، إذ التعيين أمر زائد لا دليل عليه ، كما أنه لا فرق بناء على المختار من عدم وجوب قصد رفع الحدث بين الوضوء بنية التقرب غير متعرض فيها لذلك وبين قصد رفع الحدث من حيث هو من غير تعرض لتعيينه وبين ما قصد فيه رفع حدث بعينه مع عدم قصد غيره أو مع قصد عدم غيره أو قصد رفع حدث معين وكان الواقع خلافه ، فان الوضوء في جميع ذلك صحيح ، أما الأولان فالحكم فيهما واضح ، وكذا الثالث إذ احتمال قصر الرفع على المنوي خاصة معلوم البطلان على ما ستعرف ، كاحتمال تأثير ذلك الإفساد حتى بالنسبة إليه ، لما قد علمت سابقا أن رفع الحدث من الغايات المترتبة على حصول هذه الأفعال بقصد التقرب ، فمتى حصلت على هذا الوجه من غير مستدام الحدث مثلا رتب الشارع عليها رفع تلك الحالة فهي أسباب لا تتخلف عنها مسبباتها شرعا ، فقصد المكلف رفع حدث بعينه مساو لعدم قصده لا مدخلية له.

ومنه يظهر وجه الرابع والخامس أيضا ، فإن قصد عدم رفع غيره أو رفعه ولم يصادف الواقع لغو غير مؤثر شيئا ، لأن المرتب للرفع على هذه الأفعال الشارع ، فقصد المكلف وعدمه سيان ، وما يقال : ان تسبيب الوضوء لذلك إذا اشتمل على قصد رفع الحدث من حيث هو أو إذا لم يشتمل على قصد عدم رفعه أو رفع بعضه فيه أن ذلك دعوى عارية عن الدليل ، بل الدليل على خلافها موجود ، لإطلاق‌ قوله عليه‌السلام (١) : « لا ينقض الوضوء إلا حدث » ونحوه ، كدعوى دخول ذلك في مسمى الوضوء ، فلا يعلم شمول اللفظ للعاري ، لما سيظهر لك أن الوضوء من المبينات في الكتاب فضلا عن السنة لا من المجملات ، ولم يشتمل شي‌ء منهما على شي‌ء من ذلك.

نعم يتجه الفساد بناء على وجوب قصد رفع الحدث في الأول كالصحة في الثاني ، وقوتها مع رفع الجميع في الثالث ، بل في المدارك نسبته إلى قطع أكثر الأصحاب ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٤.

١١١

لأن قصد المعين يستلزم رفعه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « لكل امرء ما نوى » فرفعه يستلزم رفع غيره ، لكون الحدث الأصغر حالة واحدة بسيطة لا تتجزى كما هو الظاهر من الأدلة ، فمتى ارتفع أثر واحد منها ارتفع أثر الجميع ، فاحتمال عدم الرفع في مثل هذا الوضوء لإيجاب قصد رفع حدث غير معين كاحتمال قصر الرفع على خصوص المنوي ضعيفان ، سيما الثاني لما عرفت.

ومنه ينقدح ان ذلك ونحوه ليس من التداخل في شي‌ء ، لكون الأثر من جميع هذه الأسباب واحدا ، وهو الحدث أي الحالة التي يمتنع معها المكلف من الصلاة لا آثار متعددة ، إذ ليس هناك حدث بولي وريحي ونومي ونحو ذلك ، فمتى ارتفع بالنسبة إلى واحد ارتفع بالنسبة إلى الجميع ، فليس من التداخل ، لعدم التعدد في سبب الوضوء وإن تعددت أسباب سببه ، بل قد يقال : انه مع وقوعها مترتبة لا سببية بالنسبة إلى الثاني والثالث ، وإطلاق السببية عليهما مجاز ، ومع وقوعها دفعة فالجميع سبب لا أسباب ، لاستناد المنع إلى الجميع دفعة ، فهو حدث واحد ، فلا أسباب حتى تتداخل مسبباتها.

فما يظهر من بعضهم ان الاكتفاء بوضوء واحد حيث تعدد الموجبات من باب التداخل محل تأمل ، اللهم إلا أن يريد ما ذكرنا ، مع احتماله أيضا ، لظواهر الأخبار الدالة على وجوب الوضوء لكل واحد منها ، والاكتفاء بوضوء واحد لها لا يقضي باتحاد السبب ، وعدم مشروعية التفريق لو سلم لا يقضي إلا بكون التداخل عزيمة لا رخصة ، والأقوى ما قدمناه ، فتأمل. ونقل عن العلامة في نهاية الأحكام احتمال البطلان فيما لو نوى حدثا بعينه كما عن أحد وجهي الشافعي ، لأنه لم ينو إلا رفع البعض فيبقى الباقي ، وهو كاف في المنع من نحو الصلاة ، وأنت خبير بما فيه وبما في الوجه الثاني‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١٠.

١١٢

له أي الشافعي أيضا من الصحة إن كان المنوي آخر الأحداث ، وإلا بطل ، ولو قال ذلك بالنسبة إلى أول الأحداث لكان أوجه ، لكونه هو الذي حصل به الحدث حقيقة وعن نهاية الأحكام أيضا احتمال ارتفاع المنوي خاصة ، فإن توضأ لرفع آخر صح ، وهكذا إلى آخر الأحداث ، ولم أجده لغيره من العامة والخاصة ، وكان وجهه تعدد المسببات بتعدد الأسباب ، فكل واحد منها مؤثر أثرا متشخصا به ، وهو كما ترى مما يقطع بفساده ، لما يظهر من الأدلة ان طبيعة الحدث لا توجب إلا وضوء واحدا.

ومن هنا يعلم أن المراد بقول المصنف ( كفى ) ليس رخصة في جواز التعدد. بل المراد أنه لا يحتاج إلى آخر ، فيكون الإتيان به تشريعا محرما ، وربما ظهر من بعضهم دعوى الإجماع عليه.

وأما الرابع وهو قصد عدم الرافع بالنسبة إلى غير المعين فعن نهاية الأحكام أيضا والدروس والبيان القطع بالبطلان لمكان تناقض القصدين ، وقد عرفت أن المتجه على مختارنا الصحة ، كما هي محتملة على القول الثاني أيضا ، لأنه نوى رفع حدث بعينه فيرتفع ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لكل امرئ ما نوى » فيرتفع الباقي للتلازم ، وقصده عدم الرفع يكون لاغيا ، وما يقال ـ : ان الذي وقع منه نية رفع وعدم رفع ، فكما أن الأول يقتضي رفع الجميع فكذا الثاني يقتضي العدم في الجميع ـ قد يجاب عنه أن المكلف لما نوى رفع حكم المعين وكان ذلك متحدا بالنسبة للجميع فتخيله أن للثاني أثرا غير ذلك خطأ ، نعم قد يقال الفساد فيما لو علم اتحاد الأثر ، لأنه حينئذ يرجع إلى نية رفع الحدث ونية عدمه ، والظاهر الفساد حينئذ ، فتأمل. وبناء على ما تقدم من الاحتمال عن نهاية الأحكام تتعين الصحة هنا ويتوضأ لرفع الباقي ، فما نقل عنه من القطع بالبطلان هنا محل نظر.

وأما الخامس وهو ما لو نوى حدثا وكان الواقع خلافه فالظاهر الصحة ، لما علمت ان الإضافة وجودها كعدمها ، فالمقصود رفع الحكم وهو حاصل وإن اشتبه في أن سببه‌

١١٣

ذلك. وليعلم أن جميع ما ذكرنا في رفع الحدث يتأتى بالنسبة إلى نية الاستباحة بدل رفع الحدث ، إلا أنه لم ينقل هنا عن العلامة في النهاية تجزي الاستباحة كما احتمله في رفع الحدث. ومن هنا تعرف أنه لا إشكال في الاكتفاء بوضوء واحد للغايات المتعددة واجبة كانت أو مندوبة ، والظاهر أنه ليس من التداخل في شي‌ء أيضا ، لأن المطلوب في الجميع رفع الحدث ، وهو أمر واحد غير ممكن التعدد ، فلا يتصور فيه تداخل بخلاف الأغسال المندوبة ، إذ ليس المقصود منها ذلك ، ودعوى تنويع الحدث فيكون للحاجة حدث غيره بالنسبة إلى دخول المسجد وهكذا كدعوى احتمال أن الوضوءات المندوبة كالأغسال المندوبة مما لا يرتكبه فقيه نعم يتجه التداخل في الوضوءات التي لم يكن المقصود منها رفع الحدث كالوضوءات الصورية ولبعض الأسباب كالقي‌ء والرعاف ونحوهما ، لأنها من قبيل الأغسال المندوبة ، لكنه موقوف على الدليل لأصالة عدمه ، ويحتمل قويا التداخل في مثل القي‌ء والرعاف ونحوهما لمكان التداخل فيما هو أقوى منها كالبول ونحوه.

وكذا لو كان عليه أغسال كفى عنها غسل واحد ، من غير فرق بين ما كان معها غسل الجنابة أو لم يكن ، وبين ما تعرض في النية لجميعها أو لم يتعرض لذلك ، بل نوى الجنابة أو غيرها. وقيل كما عن الشيخ وابن إدريس إذا نوى غسل الجنابة أجزأ عن غيره من الأغسال ولو نوى غيره من المس أو غيره لم يجز عنه أي الجنابة وليس بشي‌ء لما تسمعه ، وكلام الأصحاب في المقام لا يخلو من إجمال واضطراب فنقول وعلى الله التكلان : ان الأغسال المجتمعة أسبابها إما أن تكون واجبة فقط أو مستحبة فقط ، أو بعضها واجب وبعضها مستحب ، أما الأول فلا يخلو إما أن تكون معها جنابة أولا ، فإن كان الأول فاما أن يكون المنوي الجميع تفصيلا أو الحدث من حيث هو أو الاستباحة أو القربة أو الجنابة أو غيرها ، فان كان الأول فالظاهر من المصنف هنا والمعتبر والعلامة في التحرير والمنتهى والمحقق الثاني في ظاهر جامع المقاصد وجملة من المتأخرين الاجتزاء ، وهو ظاهر المنقول عن المبسوط والذكرى والبيان والدروس‌

١١٤

والإيضاح ، بل قد يلوح من الشيخ في الخلاف ، والظاهر أنه المشهور ، بل لم أعثر فيه على مخالف صريح ، بل عن شارح الدروس الظاهر أنه موضع وفاق ، وقد يدعى شمول ما نقل من الإجماع على الاجتزاء في المسألة الثانية له ، وهي ما لو نوى الجنابة لاشتمال نية الجميع عليها ، بل في كشف اللثام أن الصحة فيها أولى من تلك ، وربما احتج عليه بصدق الامتثال ، وفيه أنه مبني على أن الأصل التداخل وهو ممنوع ، بل الأصل تعدد المسببات بتعدد الأسباب كما هو المتبادر بين أهل العرف ، وستعرف تحقيقه فيما يأتي ، مع أن الاخبار المستدل بها هنا على التداخل دالة بظاهرها على التعدد ، كما ستسمع.

وربما احتج عليه أيضا بأن الحدث الأكبر أمر واحد بسيط ، وتعدد أسبابه لا يقضي بتعدده ، بل حاله كحال الحدث الأصغر ، ففي الحقيقة لا تعدد للأسباب كما ذكرناه هناك بل السبب أمر واحد ، وهو الخبث المعنوي المسمى بالحدث ، فيكتفى بالغسل الواحد على نحو ما ذكرناه في الوضوء ، وهو الخبث المعنوي المسمى بالحدث ، فيكتفى بالغسل الواحد على نحو ما ذكرناه في الوضوء ، وهذا ان تم لا يخص محل البحث ، بل قضيته التداخل القهري ، وعدم جواز التعدد حتى لو نوى معينا كما ذكرناه في الوضوء وفيه أنه وإن كان محتملا في نفسه لكنه ليس في الأدلة ما يدل عليه ، وحمله على الوضوء قياس لا نقول به ، وما دل عليه في الوضوء من الإجماع المدعى هناك وغيره مفقود هنا ، والعقل لا نصيب له في ذلك ، فإنه لا مانع من تعدد الأغسال بتعدد الأحداث ، بل ظاهر‌ قوله عليه‌السلام (١) : « إذا اجتمعت عليك لله حقوق أجزأ عنها غسل واحد » وغيره ذلك ، لظهور لفظ الحقوق والاجزاء فيه ، كل ذلك مع ظواهر الأوامر بالغسل للحيض والجنابة ونحوهما فيه أيضا ، مضافا إلى ما يشعر به‌ خبر عمار الساباطي (٢) قال : سألته عليه‌السلام « عن المرأة يواقعها زوجها ثم تحيض قبل أن تغتسل قال إن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٧.

١١٥

شاءت أن تغتسل فعلت وإن لم تفعل فليس عليها شي‌ء ، فإذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة » وربما احتج عليه أيضا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « لكل امرئ ما نوى » فإنه شامل لنحو المقام ، وفيه أن الظاهر من ملاحظة الرواية إرادة أمر آخر من كون الفعل لله ولغيره كما لا يخفى على الناظر لها.

وربما احتج عليه بأمور أخر واهية لا ينبغي التعرض لها ، والأولى الاستدلال عليه بالأخبار ( منها ) ما في‌ خبر زرارة (٢) « إذا اجتمعت عليك لله حقوق أجزأ عنك غسل واحد قال : وكذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها » وهذا الخبر وإن كان في الكافي مضمرا إلا انه رواه الشيخ عن زرارة عن أحدهما (ع) ورواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب محمد بن علي بن محبوب ومن كتاب حريز بن عبد الله عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : وكتاب حريز أصل معتمد يعول عليه ، و ( منها ) مرسل جميل (٣) عن أحدهما عليهما‌السلام « إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كل غسل يلزمه في ذلك اليوم » و ( منها ) خبر شهاب ابن عبد ربه (٤) سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الجنب يغسل الميت أو من غسل ميتا له ان يأتي أهله ثم يغتسل؟ فقال : لا بأس بذلك ، إذا كان جنبا غسل يده وتوضأ وغسل الميت ، وإن غسل ميتا ثم توضأ له ان يأتي أهله ، ويجزيه غسل واحد لهما » و ( منها ) الأخبار المستفيضة (٥) الدالة على الاجتزاء للمرأة عن الحيض والجنابة بغسل واحد ، و ( منها ) خبر زرارة (٦) قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : « ميت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣ مع اختلاف يسير.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١.

١١٦

مات وهو جنب كيف يغسل؟ وما يجزيه من الماء؟ قال : يغسل غسلا واحدا يجزي ذلك للجنابة ولغسل الميت ، لأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة » والحجة بالمفهوم من التعليل وإن كان بالنسبة للمعلل لا بد فيه من التأويل لكنه غير قادح بالاستدلال ، وتتم الأخبار المتقدمة بعدم القول بالفصل بين المجتمع مع الجنابة من الحيض أو المس أو غيرهما ولا إشكال في دخول ما نحن فيه تحت إطلاق هذه الأخبار ، لأنه المتيقن منها ، وما في بعضها من ضعف في السند أو غيره يجبر بما سمعت من ظهور الشهرة بل الإجماع عليه ، نعم قد يظهر من ابن إدريس الخلاف في ذلك ، لا يجابه كون الغسل للجنابة ، مع احتمال وفاقه ، لأنه مع نية الجميع تدخل نية الجنابة.

ثم ان الظاهر الاجتزاء بهذا الغسل عن الوضوء بناء على عدم مدخليته في رفع الأكبر في نحو الحيض ، بل وكذا بناء عليه أيضا على تأمل فيه ، بل وفي تحقق مسمى التداخل حينئذ عرفا ، لكونه في متحد صورة المسبب مع تعدد الأسباب ، فلعل أخبار التداخل حينئذ مما تشعر بعدمه ، بل عدم الوضوء حتى للأصغر في سائر الأغسال كما ستعرفه في محله ، لكن الأقوى ما ذكرناه أولا من عدم الحاجة للوضوء ، تمسكا بما يلوح من أخبار التداخل وبما دل على الاجتزاء بغسل الجنابة عنه ، ولا فرق في ذلك بين القول بكون الغسل البارز للخارج عن الأسباب المتعددة مصداقا لاسم كل واحد منها كما يقتضيه القول بكون التداخل على وفق الأصل وعدمه ، وإن كان الأقوى الثاني ، وذلك لأن التحقيق الذي لا مفر منه ان يقال : ان التداخل الحقيقي ممتنع عقلا إذ لا يتصور جعل الشيئين شيئا واحدا حقيقة ، وما يطلق عليه الأصحاب أنه تداخل فالمراد أنه شبه التداخل من جهة الاجتزاء بواحد عن متعدد ، وبهذه المشابهة يمتاز عن الإسقاط ، فحينئذ نقول بعد أن علمت : ان الظاهر تعدد المأمور به بتعدد الأمر ، وما ذكره بعض المتأخرين من صدق الامتثال بالواحد عن الأوامر المتعددة كلام لا محصل له مخالف لما عليه الأصحاب ، ولذا احتاجوا إلى الدليل في الخروج عن ذلك ، بل لا يكتفون‌

١١٧

بكل دليل كما يكتفى بذلك في قطع الأصول ونحوها ، بل لا بد من دليل أقوى من ذلك الظهور ، حتى نقل عن بعضهم عدم القول بالتداخل رأسا في المقام ، ترجيحا لذلك على أخبار المقام ، لكن الأقوى خلافه ، لكونها معتبرة الأسانيد منجبرة بالشهرة بل بالإجماع في بعض الصور ، فحينئذ يجب الاقتصار على مدلول ذلك الدليل لا يتعدى منه ، ومن المعلوم هنا ان الدليل لم يكشف عن أن المطلوب في المقام طبيعة الاغتسال ، بل أقصى ما دل أنه يجتزي بغسل واحد عن الجميع ، وهو إن لم يكن ظاهرا في عدم ذلك لم يكن ظاهرا فيه فلا يصدق حينئذ على المغتسل غسلا واحدا بنية الجميع انه امتثال لتلك الأوامر ، نعم جعله الشارع بمنزلة ذلك ، فهو غسل جنابة وحيض شرعا لا عرفا ، بمعنى انه واحد اجتزي به عن متعدد شرعا ، وجعله الشارع بمنزلتهما فيجتزي به حينئذ عن الوضوء لكونه بمنزلة غسل الجنابة ، لا أنه غسل جنابة حقيقة ، كما أنه لما كان الظاهر من الأخبار ان ذلك رخصة لا عزيمة كان المكلف بالخيار بين الإتيان بفعلين أو بفعل واحد ناويا به الاجتزاء عنهما. وليس من باب التخيير بين الأقل والأكثر ، لأنا نشترط في الاجتزاء عن الجميع نية الجميع ، إذا علمت ذلك فلا يقدح حينئذ الاجتزاء بالواحد عن الواجب والمندوب ، ولا معنى للإشكال فيه بأنه كيف يكون الواحد واجبا مندوبا كما تسمعه في القسم الثالث ، وتمام الكلام هناك إن شاء الله تعالى.

وأما إن كان المنوي رفع الحدث من حيث هو من غير ذكر لتفصيل الأسباب فالمشهور كما صرح به من عرفت سابقا الاكتفاء به ، ولا حاجة إلى التعدد ، أخذا بما سمعت من إطلاق الأدلة المتقدمة ، وقد صرح جملة من هؤلاء بعدم الحاجة الى الوضوء ، وقد يشكل بأنه لا يصدق عليه حينئذ انه غسل جنابة لعدم نيتها ، فكيف يكتفى به عن الوضوء ، ويندفع بأنه يصدق عليه ذلك وإن لم ينوه ، لأنه لما نوى رفع الحدث من حيث هو وكان في جملته حدث الجنابة كان غسل جنابة وغسل غيرها شرعا بهذه النية وإن لم يذكرها تفصيلا كما عرفت. فان قلت : ان نية التعيين لا إشكال في اشتراطها ،

١١٨

فمع عدم التعيين كيف يقع صحيحا ، قلت : ان نية رفع الحدث من حيث هو يؤول إلى نية الجميع ، وبذلك يندفع ما يقال أيضا : ان نية رفع الحدث أعم من الرفع الذي معه وضوء أو الرفع الذي ليس معه وضوء ، إذ قصد رفع طبيعة الحدث شامل لهما ، كما أنه يندفع ما يقال أيضا : انه لو أجزأ لكان ذلك إما لانصرافه إلى غسل الجنابة وهو باطل لاشتراك نية رفع الحدث معه ومع غيره ، ولا دلالة لما به الاشتراك على ما به الامتياز ، وإما لاقتضاء نية رفع الحدث المطلق رفع جميع الأحداث وهو باطل ، وإلا لأجزأ غسل الحيض المنوي به رفع الحدث عن غسل الجنابة ، والحاصل لو أثر ذلك مع الإطلاق لأثر مع التقييد كما قلناه في البول والغائط ، إذ أنت خبير بما فيه لعدم التلازم ، وجعله كالبول والغائط قياس لا نقول به.

ومن ذلك كله يظهر لك الحال فيما إذا كان المنوي الاستباحة لما يشترط فيه الغسل من تلك الأحداث كالصلاة ، وقد استشكل فيه العلامة في القواعد ، لما سمعت من الوجوه المتقدمة في نية رفع الحدث التي قد عرفت ضعفها.

وأما إذا كان المنوي القربة فقط من غير تعرض للرفع والاستباحة فلا إشكال في الفساد بناء على اشتراط ذلك في النية ، أما على تقدير العدم كما هو الأقوى فعن الشهيد في الذكرى أنه حينئذ من التداخل ، وهو الظاهر من المصنف هنا ، وربما مال اليه كاشف اللثام ، وعن شارح الدروس أنه الظاهر ، وكأن الحجة فيه إطلاق الأدلة مع أصالة براءة الذمة من وجوب تعيين السبب ، وكونها آثارا متعددة لا يوجب التعيين بعد ما دل الدليل على الاكتفاء بغسل واحد لها ، وفيه أنك قد عرفت أن الأصل يقضي بالتعدد فلا يخرج عنه إلا بالدليل ويجب حينئذ الاقتصار على مدلول ذلك الدليل ، وهو هنا الأخبار وأقصى ما يستفاد منها الاجتزاء بغسل واحد عنها ، وهو لا يقضي بكون المطلوب حينئذ واحدا لا تعدد فيه أصلا ، بل هو اجتزاء عن ذلك المتعدد بواحد ، وتظهر الثمرة فيما لو عصى فإنه يعاقب عليهما وفي غير ذلك ، والحاصل أن‌

١١٩

ذلك الاجتزاء لا يكشف عن عدم تعدد في المطلوب ، فحينئذ يكون الغسل الواحد يقع على وجهين ، أحدهما الاجتزاء به عن الجميع ، والثاني عن أحدها ، فمتى فقد تعيين ذلك بطل ، للزوم اشتراط نية التعيين قطعا ، والظاهر الاكتفاء عن الوضوء ، لما سمعت سابقا من أنه إما غسل جنابة أو مجز عنه ، وكل يقتضي الاكتفاء به عن الوضوء.

وأما إن كان المنوي غسل الجنابة فالمشهور بين الأصحاب بل يظهر من السرائر وغيرها دعوى الإجماع على الاكتفاء عن الجميع ، وربما احتج عليه ببعض ما تقدم في صدر المبحث من كون الحدث الأكبر شيئا واحدا وإن تعددت أسبابه ، فلا يقدح نية الخصوصية كما لا يقدح نيتها في الوضوء ، وقد عرفت ما فيه ، وربما استدل عليه هنا بصدق الامتثال كما وقع لصاحب المدارك وغيره ، وكأن المقصود كما عن بعضهم التصريح به ان امتثال الأوامر لا يشترط فيه إيقاع الفعل بقصد امتثالها بل ان جاء بالفعل بقصد آخر غيرها اكتفي به ، مثلا إذا قال السيد لعبده ادخل السوق ، فدخله العبد لا بنية امتثال أمر سيده بل كان لغرض آخر صدق عليه انه جاء بالمأمور به وفرغ عن العهدة نعم أقصى ما دل الدليل على اشتراط القربة في العبادات ، فحيث يتحقق اكتفي بالفعل وتحقق الامتثال ، ففي المقام يكتفى عن غسل الحيض وإن لم يقصد بالفعل امتثال أمره ، ولا يخفى ما فيه من بحث لا يحتاج إلى بيان ، مع ان قضية ذلك الاكتفاء بغسل الجمعة والزيارة ونحوهما عن غسل الجنابة والمس وغيرهما كما نقل عنه التصريح به.

وربما استدل عليه بان غسل الجنابة أقوى من غيره لرفع الأكبر والأصغر ، فمع نيته وارتفاعه يرتفع غيره لأنه أضعف ، وفيه ـ مع انه لا يرجع إلى شي‌ء يعتمد عليه في التكاليف الشرعية ـ انه قد يقال : إن حدث الحيض أعظم ولذا يحتاج إلى غسل ووضوء ، فلا يرتفع برفع الأضعف مضافا إلى ما ورد (١) في المرأة إذا كانت في جنابة ثم جاءها الحيض لا تغتسل فإنه قد جاءها ما هو أعظم من ذلك ، وربما استدل عليه بإطلاق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٢.

١٢٠