دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

فمرجع تلك الأخبار إلى بيان الثواب على إطاعة الله سبحانه بهذا الفعل ، فهي تكشف عن تعلّق الأمر بها من الشارع ، فالثواب هناك لازم للأمر يستدلّ به عليه استدلالا إنيّا ، ومثل ذلك استفادة الوجوب والتحريم ممّا اقتصر فيه على ذكر العقاب على الترك أو الفعل.

وأمّا الثواب الموعود في هذه الأخبار فهو باعتبار الإطاعة الحكميّة ، فهو لازم لنفس عمله المتفرّع على السماع واحتمال الصدق ولو لم يرد به أمر آخر أصلا ، فلا يدلّ على

____________________________________

بالمطابقة على الثواب وبالالتزام على وجود أمر مولوي.

ويدفع بالفرق بين الموردين ؛ وذلك لأنّ ترتّب الثواب يجب أن يكون ملازما للإطاعة حقيقيّة كانت أو حكميّة. وترتّب الثواب في أخبار تسريح اللحية ليس إلّا باعتبار الإطاعة الحقيقيّة الموقوفة على العلم بالأمر ، وليس هناك أمر سوى ما ينكشف بترتّب الثواب ، فلا بدّ حينئذ من دلالة هذه الأخبار على وجود أمر مولوي بالالتزام حفظا لكلام المعصوم عليه‌السلام عن الخطأ ، إذ لا يحكم العقل بترتّب الثواب في هذه الموارد حتى يكون حكم الشارع بترتّب الثواب مؤكّدا لحكم العقل ، ومستلزما للأمر الإرشادي.

وهذا بخلاف أخبار من بلغ في المقام ، حيث يكون ترتّب الثواب فيها باعتبار الإطاعة الحكميّة التي يحكم العقل بحسنها وترتّب الثواب عليها ، فتكون هذه الأخبار مؤكّدة لحكم العقل ، والأمر المنكشف بترتّب الثواب ليس إلّا إرشادا إلى حكم العقل وليس أمرا مولويّا حتى يدلّ على الاستحباب الشرعي.

والحاصل أنّ قياس أخبار من بلغ بتلك الأخبار قياس مع الفارق ، وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى ما ذكرناه من الفرق بقوله :

(فمرجع تلك الأخبار إلى بيان الثواب على إطاعة الله سبحانه بهذا الفعل ، فهي تكشف عن تعلّق الأمر بها من الشارع ... إلى آخره).

والحاصل أنّ الثواب فيها يكشف عن الأمر المولوي كشف المعلول عن العلّة ، كما يكشف ذكر العقاب على الفعل عن التحريم ، وذكر العقاب على الترك عن الوجوب في قول الشارع فرضا : تارك الصلاة كشارب الخمر يدخل النار.

(وأمّا الثواب الموعود في هذه الأخبار فهو باعتبار الإطاعة الحكميّة ... إلى آخره).

فلا يكشف إلّا عن أمر إرشادي إلى حكم العقل.

٦١

طلب شرعي آخر له. نعم ، يلزم من الوعد على الثواب طلب إرشادي لتحصيل ذلك الموعود.

فالغرض من هذه الأوامر ـ كأوامر الاحتياط ـ تأييد حكم العقل والترغيب في تحصيل ما وعد الله عباده المنقادين المعدودين بمنزلة المطيعين ، وإن كان الثابت بهذه الأخبار خصوص الثواب البالغ كما هو ظاهر بعضها ، فهو وإن كان مغايرا لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب على هذا العمل بناء على أنّ العقل لا يحكم باستحقاق ذلك الثواب المسموع الداعي إلى الفعل ، بل قد يناقش في تسمية ما يستحقّه هذا العامل لمجرّد احتمال الأمر ثوابا وإن كان نوعا من الجزاء والعوض ، إلّا إنّ مدلول هذه الأخبار إخبار عن تفضّل الله سبحانه على العامل بالثواب المسموع ، وهو ـ أيضا ـ ليس لازما لأمر شرعي هو الموجب لهذا

____________________________________

فملخّص الفرق هو أنّ ترتّب الثواب في أخبار من بلغ باعتبار الإطاعة الحكميّة لا يكشف إلّا عن الأمر الإرشادي ، وترتّب الثواب في تلك الأخبار باعتبار الإطاعة الحقيقيّة كاشف عن الأمر المولوي الدالّ على الاستحباب الشرعي.

وقوله : (وإن كان الثابت بهذه الأخبار ... إلى آخره) عطف على قوله : (وإن كان الثابت بهذه الأخبار خصوص الثواب).

وتقدّم شرح قوله : فإن كان الثابت بأخبار من بلغ أصل الثواب ، حيث تكون ـ حينئذ ـ مؤكّدة لحكم العقل ، لتطابق حكم الشرع والعقل في ترتّب أصل الثواب.

وأمّا إن كان الثابت بها خصوص الثواب البالغ ، كما هو ظاهر بعضها ، فحكم الشرع بالثواب البالغ وإن كان مغايرا لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب على هذا الفعل لا الثواب البالغ ولا مؤكّدا لحكم العقل ، إلّا إنّ ترتّب الثواب البالغ ـ أيضا ـ لا يستلزم الأمر المولوي كترتّب أصل الثواب ، بل يكون هذا الثواب تفضّلا من الله تعالى على العامل ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(إنّ مدلول هذه الأخبار إخبار عن تفضّل الله سبحانه على العامل بالثواب المسموع ، وهو أيضا ... إلى آخره).

أي : كأصل الثواب لا يستلزم الأمر المولوي الموجب لهذا الثواب حتى يدلّ على الاستحباب الشرعي.

٦٢

الثواب ، بل هو نظير قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)(١) ، ملزوم لأمر إرشادي يستقلّ به العقل بتحصيل ذلك الثواب المضاعف.

والحاصل أنّه كان ينبغي للمتوهّم أن يقيس ما نحن فيه بما ورد من الثواب على نيّة الخير ، لا على ما ورد من الثواب في بيان المستحبّات.

ثمّ إن الثمرة بين ما ذكرنا وبين الاستحباب الشرعي تظهر في ترتّب الآثار الشرعيّة المترتبة على المستحبّات الشرعيّة ، مثل ارتفاع الحدث المترتّب على الوضوء المأمور به شرعا.

فإنّ مجرّد ورود خبر غير معتبر بالأمر به لا يوجب إلّا استحقاق الثواب عليه

____________________________________

(بل هو نظير قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)).

حيث يكشف عن أمر إرشادي إلى حكم العقل بتحصيل ذلك الثواب المضاعف.

ثمّ يرجع المصنّف قدس‌سره إلى بطلان قياس أخبار من بلغ على أخبار بيان المستحبات من طريق ترتّب الثواب ، كما تقدّم في التوهّم ، فيقول قدس‌سره :

كان الأولى (للمتوهّم أن يقيس ما نحن فيه بما ورد من الثواب على نيّة الخير) فإنّ ما ورد من الثواب على نيّة الخير يكون وعد الثواب فيه على الإطاعة الحكميّة وهو لا يدلّ على وجود أمر مولوي ، فيكون نظير أخبار من بلغ في كون الثواب على الإطاعة الحكميّة ، وعدم الدلالة على أمر مولوي.

(ثمّ إنّ الثمرة بين ما ذكرنا) من ترتّب الثواب على الاحتياط باعتبار كونه إطاعة حكميّة ، (وبين الاستحباب الشرعي) بناء على فرض دلالة أخبار من بلغ على استحباب محتمل الوجوب (تظهر) في موردين :

أحدهما : ما تقدّم من إمكان تصحيح الاحتياط في العبادات بأخبار من بلغ.

وثانيهما : ما أشار إليه بقوله :

(تظهر في ترتّب الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستحبّات الشرعيّة ، مثل ارتفاع الحدث المترتّب على الوضوء المأمور به شرعا) كالوضوء لقراءة القرآن مثلا (فإنّ مجرّد ورود خبر

__________________

(١) الأنعام : ١٦٠.

٦٣

ولا يترتّب عليه رفع الحدث ، فتأمّل. وكذا الحكم باستحباب غسل المسترسل من اللحية في الوضوء من باب مجرّد الاحتياط لا يسوّغ جواز المسح ببلله ، بل يحتمل قويّا أن يمنع من المسح من بلله وإن قلنا بصيرورته مستحبّا شرعيّا ، فافهم.

الثالث : إنّ الظاهر اختصاص أدلّة البراءة بصورة الشكّ في الوجوب التعييني ، سواء

____________________________________

غير معتبر بالأمر به) لو لم تكن أخبار من بلغ (لا يوجب إلّا استحقاق الثواب عليه) باعتبار حكم العقل بالثواب على الإطاعة الحكميّة (ولا يترتّب عليه رفع الحدث) ، لعدم ثبوت الأمر بالوضوء شرعا مع قطع النظر عن أخبار من بلغ.

(فتأمّل) لعلّه إشارة إلى أنّ عدم ارتفاع الحدث فيما إذا ورد خبر غير معتبر بالأمر به مبنيّ على عدم كفاية رجحان الوضوء ذاتا في تصحيح عباديّته ، وأمّا على القول بكفاية رجحانه الذاتي في كونه عبادة ، فهو صحيح ومؤثّر في رفع الحدث مع قطع النظر عن أخبار من بلغ.

أو إشارة إلى ما يرد على ما ذكر من ارتفاع الحدث المترتّب على الوضوء المأمور به شرعا.

وتقريب الايراد أنّ الوضوء قد يكون مأمورا به شرعا ولا يترتّب عليه ارتفاع الحدث ، كوضوء الجنب والحائض مثلا.

(وكذا الحكم باستحباب غسل المسترسل من اللحية في الوضوء من باب مجرّد الاحتياط لا يسوّغ جواز المسح ببلله) مع قطع النظر عن أخبار من بلغ ، وإثبات استحبابه بها.

(بل يحتمل قويّا أن يمنع من المسح من بلله وإن قلنا بصيرورته مستحبّا شرعيّا).

لأنّ المسح يجب أن يكون ببلل أجزاء الوضوء ومواضعه ، والمسترسل من اللحية ليس من أجزائه ومواضعه ، بل على تقدير استحبابه يكون مستحبّا مستقلّا.

(فافهم) لعلّه إشارة إلى عدم صحّة المسح ببلل المسترسل من اللحية ، ولو قلنا بأنّه مستحب ومن أجزاء الوضوء ، بل يصحّ المسح فيما إذا كان ببلل أجزاء الوضوء الواجبة ، فيجب المسح ببلل الأجزاء الواجبة منه ، ولا يكفي ببلل الأجزاء المستحبّة ، فتدبّر.

(الثالث : إنّ الظاهر اختصاص أدلّة البراءة بصورة الشكّ في الوجوب التعييني ،

٦٤

كان أصليّا أو عرضيّا ، كالواجب المخيّر المتعيّن لأجل الانحصار. أمّا لو شكّ في الوجوب التخييري والإباحة فلا تجري فيه أدلّة البراءة لظهورها في عدم تعيين المجهول على المكلّف بحيث يلزم به ويعاقب عليه.

____________________________________

سواء كان أصليّا أو عرضيّا ، كالواجب المخيّر المتعيّن لأجل الانحصار).

وحاصل ما يظهر من كلام المصنّف قدس‌سره في هذا الأمر الثالث أمران :

أحدهما : عدم جريان البراءة في الوجوب التخييري بعد جريانها في الوجوب التعييني قطعا.

وثانيهما : جريان أصالة عدم الوجوب في الوجوب التخييري الشرعي دون العقلي.

وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى الأمر الأوّل بقوله :

(إنّ الظاهر اختصاص أدلّة البراءة بصورة الشكّ في الوجوب التعييني ، سواء كان أصليّا) ، كالدعاء عند رؤية الهلال (أو عرضيّا كالواجب المخيّر المتعيّن) في أحد العدلين ، (لأجل الانحصار) فيه بسبب عدم تمكّن المكلّف عن العدل الآخر ، وذلك كما إذا شكّ في أنّ إطعام العشرة وصيام الثلاثة واجبان تخييرا على من أفطر قضاء رمضان بعد الزوال أو مستحبّان تخييرا مع فرض عدم تمكّن المكلّف من الصيام ، وبذلك يكون الإطعام ممّا احتمل كونه واجبا تعيينيا عرضيّا أو مستحبّا كذلك.

وبالجملة ، إنّ أدلّة البراءة مختصّة بصورة الشكّ في الوجوب التعييني أصليّا كان أو عرضيّا ، فلا تجري في الوجوب التخييري فيما إذا شكّ في كون أحد الفعلين مباحا أو عدلا للواجب التخييري بعد العلم بكون الفعل الآخر واجبا ، فلو كان مباحا كان الفعل الآخر واجبا تعيينيّا ، ولو كان واجبا لكان عدلا للواجب التخييري ، وبهذا يكون الفعل الآخر واجبا تخييريّا ، فيدور أمر الفعل الآخر الواجب بين التعيين والتخيير.

وأمّا عدم جريان البراءة في الوجوب التخييري ، فيتّضح بعد ذكر مقدّمة وهي :

إنّ مقتضى أدلّة البراءة هو جعل المكلّف في سعة من رفع الضيق عنه ؛ وذلك لتحقّق الامتنان في هذا الفرض ، وفي هذه المقدّمة يتّضح لك ما ذكره المصنّف قدس‌سره وجها لعدم جريان أدلّة البراءة حيث قال :

(لظهورها في عدم تعيين المجهول على المكلّف).

٦٥

وفي جريان أصالة عدم الوجوب تفصيل ، لأنّه إن كان الشكّ في وجوبه في ضمن كلّي مشترك بينه وبين غيره أو وجوب ذلك الغير بالخصوص ، فيشكل جريان أصالة عدم

____________________________________

أي : لظهور أدلّة البراءة في عدم تعيين المجهول المستلزم للضيق على المكلّف ، إذ لازم جريان البراءة في الوجوب التخييري هو نفي الوجوب التخييري ، فيتعيّن التكليف في ما علم وجوبه ، فيكون الوجوب تعيينيّا ، ولازمه إثبات الضيق على المكلّف ، والحال أنّه لا ضيق في التخيير ، فجريان البراءة في الوجوب التخييري مستلزم لجعل المكلّف في ضيق ، وهو ينافي ما تقدّم من أنّ مقتضى أدلّة البراءة هو جعل المكلّف في سعة ، كقوله عليه‌السلام : (الناس في سعة ما لم يعلموا) (١) هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني فقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(وفي جريان أصالة عدم الوجوب تفصيل).

أي : في استصحاب عدم الوجوب تفصيل بين التخيير العقلي فلا يجري فيه الاستصحاب ، وبين التخيير الشرعي فيجري فيه.

وقبل ذلك لا بدّ أوّلا من بيان الفرق بين التخيير العقلي والشرعي ، ثمّ بيان وجه جريان الاستصحاب في الثاني دون الأوّل.

وأمّا الفرق بينهما : فإنّ التخيير العقلي دائما يجري بين أفراد الكلّي الذي تعلّق به الحكم شرعا ، بينما التخيير الشرعي يجري فيما إذا أمر الشارع بأحد الأمرين أو الامور تخييرا.

ومثال الأوّل : ما إذا ورد من الشارع قوله : إن أفطرت صوم رمضان متعمّدا فكفّر ، أو من أفطر صوم رمضان فعليه الكفّارة ، فهنا يحكم العقل بالتخيير بين أفراد الكفّارة وهي : الصيام والإطعام والعتق.

ومثال الثاني : ما إذا ورد من الشارع قوله : من أفطر صوم رمضان متعمّدا ، فعليه صيام شهرين متتاليين ، أو إطعام ستين مسكينا ، أو عتق رقبة.

وأمّا بيان عدم جريان استصحاب عدم الوجوب في التخيير العقلي ، فلأجل مانعيّة العلم الإجمالي ، وذلك فيما إذا علم المكلّف بوجوب الإطعام في إفطار صوم رمضان

__________________

(١) الرسائل التسع : ١٣٢. غوالي اللآلئ ١ : ٤٢٤ / ١٠٩.

٦٦

الوجوب ، إذ ليس هنا إلّا وجوب واحد متردّد بين الكلّي والفرد ، فتعيّن هنا أصالة إجراء عدم سقوط ذلك الفرد المتيقّن الوجوب بفعل هذا المشكوك.

وأمّا إذا كان الشكّ في إيجابه بالخصوص جرى أصالة عدم الوجوب وأصالة عدم

____________________________________

متعمّدا ، إلّا إنّه لا يعلم أنّ ما ورد من الشارع هو الأمر بالإطعام ، أي : أطعم ، حتى يكون الإطعام واجبا تعيينيّا ، أو الأمر بالكلّي أي : كفّر ، ليكون الإطعام واجبا تخييريّا عقليّا ، ولأجله يدور أمر الإطعام بين التعيين والتخيير ، ولا يجري استصحاب عدم الوجوب ، إذ ليس هناك إلّا وجوب واحد متردّد بين الكلّي حتى يكون تخييريّا وبين الفرد حتى يكون تعيينيّا ، ثمّ إن عدم جريان استصحاب عدم وجوب الفرد المعلوم وجوبه واضح ، وذلك للعلم بوجوبه ، وعدم الشكّ فيه ، فكيف يعقل أن يجري الاستصحاب فيه؟.

وأمّا عدم جريان استصحاب عدم وجوب الكلّي فللعلم الإجمالي بوجوبه ؛ إمّا تعيينيا في الإطعام ، أو تخييرا بينه وبين غيره ، والعلم الإجمالي مانع عن الاستصحاب.

(فتعيّن هنا أصالة إجراء عدم سقوط ذلك الفرد المتيقّن الوجوب) كالإطعام في المثال المتقدّم (بفعل هذا المشكوك) ، كالصيام في المثال ، وذلك لاستصحاب اشتغال الذمّة بالتكليف بعد الإتيان بالفرد المشكوك ، واحتمال كونه مسقطا مدفوع بجريان أصالة عدم كونه مسقطا ما لم يثبت إسقاطه من الخارج. هذا تمام الكلام في عدم جريان استصحاب عدم الوجوب في التخيير العقلي.

وأمّا جريان استصحاب عدم الوجوب في التخيير الشرعي ، فقد أشار إليه بقوله :

(وأمّا إذا كان الشكّ في إيجابه بالخصوص).

أي : في إيجاب الإطعام بالخصوص ، حيث لا يعلم المكلّف أنّ الشارع هل قال : أطعم ، فقط حتى يكون واجبا تعيينا ، أم قال معه : صم ، ـ أيضا ـ حتى يكون واجبا تخييرا؟.

(جرى أصالة عدم الوجوب).

بالنسبة إلى الفرد المشكوك أي : الصيام ، لأنّ وجوبه وجوب زائد بإنشاء جديد فيكون موردا للشكّ ، والأصل عدمه ، ويجري ـ أيضا ـ أصالة عدم كون الإتيان بالفرد المشكوك مسقطا عن الواجب المعلوم ، إذا شكّ في كونه مسقطا لاحتمال كونه عدلا للواجب التخييري ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

٦٧

لازمه الوضعي ، وهو سقوط الواجب المعلوم إذا شكّ في إسقاطه له. أمّا إذا قطع بكونه مسقطا للوجوب المعلوم ، وشكّ في كونه واجبا مسقطا للواجب الآخر أو مباحا مسقطا لوجوبه ، نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم ، فلا مجرى للأصل إلّا بالنسبة إلى طلبه وتجري أصالة البراءة عن وجوبه التعييني بالعرض إذا فرض تعذّر بتعذّر ذلك الواجب الآخر.

وربّما يتخيّل من هذا القبيل ما لو شكّ في وجوب الائتمام على من عجز عن القراءة وتعلّمها ، بناء على رجوع المسألة إلى الشكّ في كون الائتمام مستحبّا مسقطا أو واجبا مخيّرا

____________________________________

(وأصالة عدم لازمه).

أي : لازم الوجوب التخييري.

(وهو سقوط الواجب المعلوم) أي : ولازم الوجوب التخييري سقوط الواجب المعلوم بإتيان عدله وهو الفرد المشكوك على فرض كون الوجوب تخييريّا.

(أمّا إذا قطع بكونه مسقطا للوجوب المعلوم ، وشكّ في كونه واجبا مسقطا للواجب الآخر) ، فيكون وجوبه تخييريّا(أو مباحا مسقطا لوجوبه ، نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم) ، فيكون وجوب الواجب المعلوم تعيينيّا.

(فلا مجرى للأصل إلّا بالنسبة إلى طلبه).

أي : طلب الفرد المشكوك وجوبه ، ثمّ يجري عدم وجوبه التعييني بالعرض ، لأجل تعذّر ذلك الواجب الآخر ، لأنّ وجوبه التعييني لتعذّر الواجب المعلوم مبني على أن يكون واجبا تخييرا ، وقد نفي وجوبه بالأصل ، وحينئذ لا يكون واجبا حتى يصير وجوبه تعيينيّا بالعرض ، فإذا شكّ فيه تجري أصالة البراءة عن وجوبه التعييني بالعرض.

(وربّما يتخيّل من هذا القبيل ... إلى آخره).

أي : من قبيل ما علم بكونه مسقطا للواجب المعلوم ، وشكّ في كونه مسقطا من جهة كونه واجبا تخييريّا ، أو غير واجب مسقط للواجب. ائتمام المأموم بالإمام في الصلاة ، لأنّ الائتمام مسقط لما وجب على المأموم من القراءة بالاتّفاق ، إلّا إنّ الشكّ في أنّه واجب حتى تكون الصلاة جماعة واجبة تخييرا ، واتّصافها بالاستحباب من باب كونها أفضل الأفراد ، أو يكون الائتمام مستحبّا مسقطا للواجب ، فعلى الأوّل يتعيّن الائتمام على

٦٨

بينه وبين الصلاة مع القراءة ، فيدفع وجوبه التخييري بالأصل.

لكن الظاهر أنّ المسألة ليست من هذا القبيل ، لأنّ صلاة الجماعة فرد من الصلاة الواجبة ، فتتّصف بالوجوب لا محالة ، واتّصافها بالاستحباب من باب أفضل فردي الواجب ، فيختصّ بما إذا تمكّن المكلف من غيره ، فإذا عجز تعيّن وخرج عن الاستحباب ، كما إذا منعه مانع آخر عن الصلاة منفردا.

لكن يمكن منع تحقّق العجز في ما نحن فيه ، فإنّه يتمكّن من الصلاة منفردا بلا قراءة ، لسقوطها عنه بالتعذّر ، كسقوطها بالائتمام ، فتعيّن أحد المسقطين يحتاج إلى دليل.

____________________________________

المكلّف بتعذّر القراءة ، والعجز عن تعلّمها كما هو مقتضى الوجوب التخييري ، وعلى الثاني لا يتعيّن عليه الاقتداء والائتمام ، بل له أن يصلّي منفردا وبلا قراءة.

(فيدفع وجوبه التخييري بالأصل).

كما يدفع لازمه ـ أيضا ـ وهو تعيّن الائتمام بتعذّر القراءة على ما تقدّم تفصيله.

(لكن الظاهر أنّ المسألة ليست من هذا القبيل).

أي : من قبيل الشكّ في كون المسقط واجبا ، أو غير واجب ، بل هذه المسألة من قبيل ما علم كون المسقط واجبا تخييريا ، وذلك (لأنّ صلاة الجماعة فرد من الصلاة الواجبة) قطعا ، فإنّ الواجب هو كلّي الصلاة المشتركة بين الصلاة فرادى مع قراءة ، والصلاة جماعة بلا قراءة ، غاية الأمر التخيير حينئذ عقلي ، كما لا يخفى.

واتّصاف صلاة الجماعة بالاستحباب يكون من باب أنّها أفضل فردي الواجب ، فهي واجبة تخييرا ، ومستحبّة تعيينا ، إلّا إنّ استحبابها مختصّ بما إذا تمكّن المكلّف من الصلاة منفردا ، فإذا عجز المكلّف عن الصلاة منفردا كما إذا منعه مانع عن الصلاة منفردا تعيّنت عليه الصلاة جماعة ، وخرجت عن الاستحباب.

(لكن يمكن منع تحقّق العجز فيما نحن فيه ، فإنّه يتمكّن من الصلاة منفردا بلا قراءة).

ومنع تحقّق العجز في ما نحن فيه يتضح بعد ذكر مقدّمة وهي :

إنّ تعيّن الواجب التخييري في فرده الممكن بتعذّر فرده الآخر مبني على أن لا يكون للفرد المتعذّر بدل اضطراري ، وإلّا فلا يتعيّن في الفرد الممكن ، بل يبقى التخيير على حاله بين البدل الاضطراري ، وبين الفرد غير المعتذر ، وما نحن فيه يكون من هذا القبيل ، فإنّ

٦٩

قال فخر المحقّقين في الإيضاح في شرح قول والده رحمه‌الله : «والأقرب وجوب الائتمام على الأمّي العاجز ، ووجه القرب : تمكّنه من صلاة صحيحة القراءة ، ويحتمل عدمه ، لعموم نصّين :

أحدهما : الاكتفاء بما يحسن مع عدم التمكّن من التعلم.

والثاني : ندبيّة الجماعة والأوّل أقوى ، لأنّه يقوم مقام القراءة اختيارا فيتعيّن عند

____________________________________

الصلاة منفردا مع القراءة وإن كانت عدلا للصلاة جماعة ، إلّا إنّ لها بدلا اضطراريّا ، وهي الصلاة فرادى بلا قراءة ؛ لأنّ القراءة تسقط بالتعذّر كما تسقط بالائتمام ، فبعد تعذّر القراءة يبقى التخيير بين الصلاة جماعة وبين الصلاة فرادى بلا قراءة.

إذا عرفت هذا يتّضح لك منع تحقّق العجز عن الصلاة منفردا ، ومنع تعيّن الواجب التخييري في فرده الممكن وهي الصلاة جماعة ، إذ لا يكون المكلّف عاجزا عن الإتيان بما هو مسقط للواجب وهي الصلاة منفردا بلا قراءة ، غاية الأمر يكون للقراءة مسقطان :

أحدهما : الائتمام ، وثانيهما : تعذّرها ، فالحكم بتعيّن أحدهما وهو الائتمام يحتاج إلى دليل ، وهو منتف ، وحينئذ لا يمكن الحكم بتعيّن الائتمام على فرض تعذّر القراءة.

(قال فخر المحقّقين في الإيضاح في شرح قول والده رحمه‌الله : «والأقرب وجوب الائتمام على الامّي العاجز ، ووجه القرب : تمكّنه من صلاة صحيحة القراءة) بالائتمام ، والصلاة جماعة حيث تحسب قراءة الإمام ـ حينئذ ـ قراءة للمأموم فتكون صلاته جماعة صلاة مع القراءة ، فيجب ـ حينئذ ـ على الامّي العاجز الائتمام ، إذ مع تمكّنه من الصلاة جماعة لا تصل النوبة إلى الصلاة منفردا بلا قراءة ، كما هو واضح.

(ويحتمل عدمه) أي : عدم وجوب الائتمام على العاجز(لعموم نصّين : أحدهما : الاكتفاء بما يحسن مع التمكّن من التعلّم ، والثاني : ندبيّة الجماعة).

وعموم الأوّل يشمل المتمكّن من الجماعة وغيرها ، فيكون لازمه جواز الصلاة منفردا بلا قراءة مع التمكّن عن الائتمام ، والصلاة جماعة.

وعموم الثاني يشمل صورتي التمكّن من القراءة وعدمه ، فيكون لازمه جواز ترك الجماعة ، ومقتضى كليهما هو جواز انفراد العاجز المتمكّن من الجماعة ، وبذلك تكون النتيجة عدم وجوب الائتمام على العاجز عن تعلّم القراءة.

٧٠

الضرورة ، لأنّ كلّ بدل اختياري يجب عينا عند تعذّر مبدله ، وقد بيّن ذلك في الاصول ، ويحتمل العدم ، لأنّ قراءة الإمام مسقطة لوجوب القراءة على المأموم ، والتعذّر ـ أيضا ـ مسقط. فإذا وجد أحد المسقطين للوجوب لم يجب الآخر ، إذ التقدير أنّ كلّا منهما سبب تامّ ، والمنشأ أنّ قراءة الإمام بدل أو مسقط» ، انتهى.

والمسألة محتاجة إلى التأمّل.

____________________________________

(والأوّل أقوى لأنّه يقوم مقام القراءة اختيارا).

أي : وجوب الائتمام على العاجز أقوى لا لما ذكر في وجه القرب من أنّ قراءة الإمام تحسب قراءة للمأموم ، بل لأجل أنّ الائتمام يقوم مقام القراءة اختيارا ، أي : عند تمكّن المأموم من القراءة.

(فيتعيّن عند الضرورة).

أي : فيتعيّن الائتمام عند عدم التمكّن من القراءة ، كما هو مقتضى كل واجب تخييري ، إذ كلّ بدل اختياري في الواجب التخييري (يجب عينا عند تعذّر مبدله) ، فلا تصل النوبة ـ حينئذ ـ إلى الصلاة منفردا بلا قراءة.

(ويحتمل العدم) أي : عدم وجوب الائتمام تعيينا ، (لأنّ قراءة الإمام مسقطة لوجوب القراءة على المأموم ، والتعذّر ـ أيضا ـ مسقط ، فإذا وجد أحد المسقطين للوجوب لم يجب الآخر ، إذ التقدير أنّ كلّا منهما سبب تام) للسقوط ، فالحكم بتعيّن أحدهما من دون دليل معتبر ترجيح بلا مرجح.(والمنشأ) لوجوب الائتمام تعيينا عند تعذّر القراءة ، وعدم وجوبه كذلك هو (أنّ قراءة الإمام بدل أو مسقط) فيجب الائتمام على العاجز على الأوّل دون الثاني على ما تقدّم.

(والمسألة محتاجة إلى التأمّل).

لأنّ مقتضى ما ورد في المقام من الأخبار مختلف ، فلا بدّ من التأمّل حتى يعلم أنّ ظاهر بعض الأخبار هو بدليّة قراءة الإمام عن قراءة المأموم حيث عبّر عنه بتحمّل الإمام عن المأموم أم الإسقاط؟.

ومن المعلوم أنّ ظاهر هذا التعبير هو البدليّة ، وظاهر آخر هو الإسقاط دون البدليّة ، كما لا يخفى على المتأمّل.

٧١

ثمّ إنّ الكلام في الشكّ في الوجوب الكفائي ، كوجوب ردّ السلام على المصلّي إذا سلّم على جماعة وهو منهم ، يظهر ممّا ذكرنا ، فافهم.

____________________________________

(ثمّ إنّ الكلام في الشكّ في الوجوب الكفائي كوجوب ردّ السلام على المصلّي إذا سلّم على جماعة وهو منهم ، يظهر ممّا ذكرنا ، فافهم).

وينبغي أوّلا أن نذكر ما ذكره المصنّف قدس‌سره في مورد الشكّ في الوجوب التخييري من الحكم ، حتى يظهر منه حكم الشكّ في الوجوب الكفائي فنقول : إنّ ما ذكره المصنّف قدس‌سره في الوجوب التخييري يتلخّص في أمرين :

أحدهما : عدم جريان البراءة في الوجوب التخييري ، لما تقدّم من اختصاصها بالوجوب التعييني.

وثانيهما : هو التفصيل في استصحاب عدم الوجوب بين التخيير الشرعي والعقلي ، فيجري في الأوّل دون الثاني ، هذا ما تقدّم من المصنّف قدس‌سره في صورة الشكّ في الوجوب التخييري ، وحينئذ فلا بدّ من إثبات عدم جريان أدلّة البراءة في صورة الشكّ في الوجوب الكفائي ، وجريان استصحاب عدم الوجوب فيه.

وتفصيل الكلام في الوجوب الكفائي يتوقّف على ما يتصور من الوجوه في صورة الشكّ في هذا الوجوب :

منها : أن يكون الشكّ ابتداء في أصل الوجوب الكفائي ، كالشكّ في وجوب حفظ مال الغائب كفاية ، ولا إشكال في صحّة التمسّك بالبراءة لنفي الوجوب ، كما لا إشكال في صحّة التمسّك بها فيما إذا شكّ في وجوب شيء بالوجوب العيني.

ومنها : أن يكون الشكّ في كون الوجوب كفائيا بعد العلم بأصل الوجوب كوجوب ردّ السلام على المصلّي إذا سلّم على جماعة وهو منهم بناء على الخلاف في كون ردّ السلام واجبا عينيّا حتى يجب الردّ على كل واحد ، أو واجبا كفائيّا حتى يكفي ردّ أحدهم عن الآخرين ، وفي هذا لا يجوز للمصلّي التمسّك بالبراءة ؛ لا بالنسبة إلى أصل الوجوب ، ولا بالنسبة إلى الوجوب الكفائي.

وأمّا بالنسبة إلى أصل الوجوب فلعلمه تفصيلا بأصل الوجوب.

وأمّا بالنسبة إلى الوجوب الكفائي ، فلما تقدّم في عدم جريان البراءة في الوجوب

٧٢

____________________________________

التخييري من أنّ مقتضى أدلّتها هو رفع الضيق عن المكلّف امتنانا ، فكما أنّ جريانها في الوجوب التخييري مستلزم للضيق ، كذلك في المقام ، لأنّ نفي الوجوب الكفائي بالبراءة مستلزم لثبوت الوجوب العيني ، وهو ضيق على المكلّف فلا تجري فيه.

ويمكن فرض الشبهة في المثال المذكور موضوعيّة ، وذلك كما إذا لا يعلم المصلّي أنّه سلّم على الجميع حتى يجب عليه ردّ السلام ، أو على الجالسين دون المصلّين فلا يجب عليه الرد.

فيحتمل العقاب فيما إذا علم عدم ردّ الآخرين لعذر أو لغير عذر وحينئذ يجوز له التمسّك بالبراءة.

وأمّا في جريان استصحاب عدم الوجوب ، فتفصيل بين ما إذا شكّ في تعلّق الوجوب بالكلّي ، وهو من سلّم عليه ، أو تعلّقه بخصوص الجالسين دون المصلّي ، فلا يجري ـ حينئذ ـ استصحاب عدم الوجوب للعلم الإجمالي المانع عنه ، وبين ما إذا علم تعلّقه بالجالسين ، وشكّ في تعلّقه بالمصلّي ، فتجري أصالة عدم الوجوب ؛ لأنّ الشكّ فيه يكون شكّا في وجوب زائد ولازمه عدم جواز ردّ السلام على المصلّي ، كما لا يخفى.

ومن هنا يظهر حكم القسم الثالث ، وهو فيما إذا كان يعلم وجوب فعل على الآخر ، إلّا إنّه يشكّ في أنّ وجوبه عيني عليه أو كفائي ، فيجوز له التمسّك بالبراءة ، ونفي الوجوب عن نفسه ، لأنّ الشكّ في الوجوب بالنسبة إليه شكّ في أصل الوجوب ، وهذا القسم الثالث ربّما يكون فرضا محضا.

ويمكن فرض القسم الرابع بعكس القسم الثالث ، وهو فيما إذا كان المكلّف يعلم بوجوب فعل عليه ، إلّا إنّه يشكّ في أنّه واجب عيني فلا يسقط بفعل الآخر ، أو واجب كفائي فيسقط به ، ويرجع إلى استصحاب اشتغال الذمّة بعد فعل الآخر.

والحاصل من الجميع هو جواز التمسّك بالبراءة في بعض صور الشكّ في الوجوب الكفائي ، ومنه يظهر أن حكم الوجوب الكفائي في التمسّك بالبراءة ليس كحكم الوجوب التخييري في عدم جواز التمسّك بها ، ولهذا قال المصنّف قدس‌سره :

(فافهم) للإشارة إلى أنّ المصنّف أراد خلاف الظاهر من قوله : يظهر ممّا ذكرنا ، وذلك لعدم الكلّية في هذا الظهور وذلك لظهور حكم بعض صور الشكّ في الوجوب الكفائي ممّا ذكره في الوجوب التخييري لا جميعها ، كما عرفت.

٧٣

المسألة الثانية

فيما اشتبه حكمه الشرعي من جهة إجمال اللفظ

كما إذا قلنا باشتراك لفظ الأمر بين الوجوب والاستحباب أو الإباحة. والمعروف هنا عدم وجوب الاحتياط. وقد تقدّم عن المحدّث العاملي في الوسائل : إنّه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشكّ في الوجوب.

ويشمله ـ أيضا ـ معقد إجماع المعارج ، لكن تقدّم من المعارج ـ أيضا ـ عند ذكر الخلاف في وجوب الاحتياط وجود القائل بوجوبه هنا.

وقد صرّح صاحب الحدائق تبعا للمحدّث الاسترآبادي بوجوب التوقّف والاحتياط

____________________________________

(المسألة الثانية : فيما اشتبه حكمه الشرعي من جهة إجمال اللفظ ... إلى آخره).

كالأمر بالدعاء عند رؤية الهلال ، فيما لو قلنا باشتراك لفظ الأمر بين الوجوب والاستحباب ، فيتردّد الدعاء عند رؤية الهلال بين الوجوب والاستحباب عند عدم قيام قرينة معيّنة لأحدهما.

(والمعروف هنا عدم وجوب الاحتياط).

أي : والمعروف فيما إذا كان اشتباه الحكم الشرعي من جهة إجمال النصّ عدم وجوب الاحتياط ، ولازم ذلك جواز ترك الدعاء عند رؤية الهلال.

(تقدّم عن المحدّث العاملي) في المسألة الاولى حيث قال في الوسائل :

(إنّه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشكّ في الوجوب) وإطلاق هذا الكلام يشمل المقام.

(ويشمله ـ أيضا ـ معقد إجماع المعارج).

أي : يشمل المقام ـ أيضا ـ معقد إجماع المعارج المذكور في ذيل المسألة الاولى حيث قال : الاحتياط غير لازم.

(لكن تقدّم من المعارج ـ أيضا ـ عند ذكر الخلاف في وجوب الاحتياط وجود القائل بوجوبه هنا).

حيث قال : وصار آخرون إلى لزومه ، فإنّ إطلاق هذا الكلام يشمل المقام أيضا.

٧٤

هنا في الحدائق ، بعد ذكر وجوب التوقّف :

«إنّ من يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجّحة للاستحباب. وفيه :

أولا : منع جواز الاعتماد على البراءة الأصليّة في الأحكام الشرعيّة.

وثانيا : إنّ مرجع ذلك إلى أنّ الله تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة ، ومن المعلوم أنّ أحكام الله تعالى تابعة للمصالح والحكم الخفيّة ، ولا يمكن أن يقال : إنّ مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصليّة ، فإنّه رجم بالغيب وجرأة بلا ريب» ، انتهى.

____________________________________

(وقد صرّح صاحب الحدائق تبعا للمحدّث الاسترآبادي بوجوب التوقّف والاحتياط هنا).

أي : فيما إذا كان اشتباه الحكم الشرعي من جهة إجمال النصّ ، حيث قال في الحدائق بعد ذكر وجوب التوقّف :

(إنّ من يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجّحة للاستحباب).

أي : من يعتمد على استصحاب البراءة الثابتة قبل الشرع يجعل البراءة الأصليّة في تساوي احتمالي الوجوب والاستحباب مرجّحة للاستحباب ، ثمّ أورد عليه بقوله :

(وفيه : أوّلا : منع جواز الاعتماد على البراءة الأصليّة في الأحكام الشرعيّة).

إذ لا يصحّ الاعتماد على البراءة الأصليّة بعد العلم بزوالها بصدور الحكم من الشارع لكلّ واقعة يحتاج إليها.

(وثانيا : إنّ مرجع ذلك إلى أنّ الله تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة).

أي : إنّ مرجع جعل البراءة الأصليّة ترجيحا للاستحباب إلى أنّ الله تعالى حكم بالاستحباب لكونه موافقا للبراءة ، وهذا باطل بالضرورة والوجدان ، لأنّ أحكام الله ليست تابعة للبراءة الأصليّة ، لا على مذهب الأشاعرة ، ولا على مذهب العدليّة ، وإنّما تابعة للمصالح والحكم الخفيّة على مذهب العدليّة.

قوله : (ولا يمكن أن يقال : إنّ مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصليّة).

دفع لما يمكن أن يقال : إنّ المصلحة تقتضي أن يكون الحكم موافقا للبراءة وهو الاستحباب.

وحاصل الدفع أنّ القول بأنّ مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصليّة ، فلا ينافي ما ذكر

٧٥

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ القائل بالبراءة الأصليّة إن رجع إليها من باب حكم العقل بقبح العقاب من دون البيان فلا يرجع ذلك إلى دعوى كون حكم الله هو الاستحباب ، فضلا عن تعليل ذلك بالبراءة الأصليّة ، وإن رجع إليها بدعوى حصول الظنّ ، فحديث تبعيّة الأحكام للمصالح وعدم تبعيّتها ـ كما عليه الأشاعرة ـ أجنبيّ عن ذلك ، إذ الواجب عليه إقامة الدليل على اعتبار هذا الظنّ المتعلّق بحكم الله الواقعي الصادر عن المصلحة أو لا عنها ، على الخلاف.

____________________________________

من كون الأحكام تابعة للمصالح (رجم بالغيب وجرأة بلا ريب) لا يصدر عن فاضل ، فضلا عن فقيه عادل ، لأنّ المصلحة لا تقتضي الاستحباب دائما ، بل قد تقتضي غيره.

(انتهى) كلام صاحب الحدائق.

(وفيه ما لا يخفى ... إلى آخره).

أي : وفي كلام صاحب الحدائق من الإشكال ما لا يخفى ، ولتوضيح الإشكال نقدّم مقدمة وهي :

إنّ الرجوع إلى البراءة لمن يرجع إليها لا يخلو عن أحد احتمالين :

أحدهما : إنّه يرجع إليها من باب تعبّد الشارع المستفاد من الآيات والروايات بنفي تنجّز التكليف المجهول على الجاهل ، وحكم العقل بقبح العقاب من دون البيان.

وثانيهما : إنّه يرجع إليها من باب حصول الظنّ من البراءة الأصليّة بالجواز الواقعي المستلزم للظنّ بالاستحباب ، ومن هذا يتّضح لك ما يرد على كلام صاحب الحدائق ، وذلك لأنّه إن كان مراده الاحتمال الأوّل ، فلا يرجع ذلك إلى دعوى كون حكم الله الواقعي هو الاستحباب ، لأنّ المقصود ـ حينئذ ـ هو نفي تنجّز التكليف ونفي العقاب ، لا إثبات الجواز الواقعي حتى يجعل مرجّحا للاستحباب ، فلا يصحّ تعليل الحكم بالاستحباب بكونه موافقا للبراءة الأصليّة ، كما لا يخفى.

وإن كان مراده الاحتمال الثاني ، لكان حديث تبعيّة الأحكام للمصالح ، وعدم تبعيّتها ـ كما عليه الأشاعرة ـ أجنبيّا عن ذلك ، لأنّ عدم التبعيّة لا يمنع من حصول الظنّ من البراءة الأصليّة ، والتبعيّة لا توجب حصول الظنّ منها على الجواز الواقعي المرجّح للاستحباب ، فلا ربط للتبعيّة وعدمها إذا في حصول الظنّ على الجواز من البراءة الأصليّة ، بل لا بدّ ـ

٧٦

وبالجملة ، فلا أدري وجها للفرق بين ما لا نصّ فيه وبين ما أجمل فيه النصّ ، سواء قلنا باعتبار هذا الأصل من باب حكم العقل أو من باب الظنّ ، حتى لو جعل مناط الظنّ عموم البلوى ، فإنّ عموم البلوى في ما نحن فيه يوجب الظنّ بعدم قرينة الوجوب مع الكلام المجمل المذكور وإلّا لنقل مع توفّر الدواعي ، بخلاف الاستحباب ، لعدم توفّر الدواعي على نقله.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من حسن الاحتياط جار هنا ، والكلام في استحبابه شرعا كما تقدّم.

____________________________________

حينئذ ـ من إقامة الدليل على اعتبار هذا الظنّ المتعلّق بالجواز الواقعي المستلزم للظنّ بالاستحباب الصادر عن المصلحة ، كما عليه العدليّة أو لا عنها ، كما عليه الأشاعرة.

(وبالجملة ، فلا أدري وجها للفرق بين ما لا نصّ فيه وبين ما أجمل فيه النصّ ، سواء قلنا باعتبار هذا الأصل من باب حكم العقل أو من باب الظنّ).

أي : لا فرق بين ما إذا كان منشأ الاشتباه عدم النصّ ، وبين ما إذا كان المنشأ إجماله في القول بالبراءة ، سواء كان اعتبار أصل البراءة من باب التعبّد ، أو من باب الظنّ ، فمن قال بالبراءة في ما لا نصّ فيه من باب التعبّد أو الظنّ ، قال بها في ما نحن فيه كذلك.

ثمّ إنّه على القول بالبراءة من باب الظنّ لا فرق بين أن يكون منشأ الظنّ عموم البلوى ، أو استصحاب البراءة الأصليّة ، لأنّ الظنّ يوجب ترجيح الاستحباب على الوجوب على التقديرين. غاية الأمر أنّ عموم البلوى في ما نحن فيه يوجب الظنّ بعدم قرينة الوجوب ، إذ لو كانت لنقلت إلينا من جهة توفّر الدواعي لنقل الوجوب ، لاهتمام الأئمّة عليهم‌السلام وأصحابهم في نقل الأحكام الإلزاميّة ، كالواجبات والمحرمات ، وهذا بخلاف المستحب في المقام ، إذ لم تكن الدواعي لنقله متوفّرة لتسامحهم في نقل المستحبّات.

(ثمّ إنّ ما ذكرنا من حسن الاحتياط جار هنا).

أي : في اشتباه الحكم من جهة إجمال النصّ.

(والكلام في استحبابه شرعا كما تقدّم).

أي : والكلام في استحباب الاحتياط شرعا ليصحّ الاحتياط في محتمل العبادة ، أو عدم الاستحباب شرعا فلا يصحّ الاحتياط في العبادة ، وقد تقدّم تفصيله ، فلا حاجة إلى التكرار.

٧٧

نعم ، الأخبار المتقدّمة في من بلغه الثواب لا تجري هنا ، لأن الأمر لو دار بين الوجوب والإباحة لم يدخل في مواردها ، لأنّ المفروض احتمال الإباحة ، فلا يعلم بلوغ الثواب ، وكذا لو دار بين الوجوب والكراهة ، ولو دار بين الوجوب والاستحباب لم يحتج إليها ، والله العالم.

____________________________________

(نعم ، الأخبار المتقدّمة في من بلغه الثواب لا تجري هنا).

فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والإباحة ، وذلك لانتفاء العلم ببلوغ الثواب من جهة احتمال الإباحة ، وأمّا فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والاستحباب كان الاحتياط في العبادة صحيحا من جهة العلم بالأمر المشترك بين الوجوب والاستحباب ، ولذلك قالوا : لا حاجة إلى أخبار من بلغ لتصحيح الاحتياط في العبادات.

***

٧٨

المسألة الثالثة

في ما اشتبه حكمه الشرعي من جهة تعارض النصّين.

وهنا مقامات ، لكن المقصود هنا إثبات عدم وجوب التوقّف والاحتياط ، والمعروف

____________________________________

(المسألة الثالثة : في ما اشتبه حكمه الشرعي من جهة تعارض النصّين وهنا مقامات ... إلى آخره).

كما سيأتي في بحث التعادل والتراجيح بعض هذه المقامات إن شاء الله تعالى :

المقام الأوّل : هو البحث عن مقتضى الأصل في مورد التعارض بالنسبة إلى الوجوب كمورد فقدان النصّ ، وإجماله هل هو البراءة أو الاحتياط؟.

المقام الثاني : هو أنّ مقتضى الأصل الأوّلي بالنسبة إلى الحجيّة هل هو التساقط والرجوع إلى الأصل مطلقا أو التخيير عقلا بعد الحكم بحجيّة المتعارضين ، أو التوقّف والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما إن كان ، وإلّا فالرجوع إلى التخيير عقلا أو التساقط ، والرجوع إلى الأصل مطلقا؟ كما سيأتي في بحث التعادل والتراجيح.

ثمّ إنّ الفرق بين التساقط والتوقّف هو أنّ معنى التساقط فرض المتعارضين كالعدم ، ثمّ الرجوع إلى الأصل مطلقا ، سواء كان موافقا لأحدهما أو مخالفا لهما معا.

ومعنى التوقّف هو تساقطهما عن وجوب العمل بكلّ منهما ، وعنده لا بدّ من الرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما إن كان ، وإلّا فإلى التخيير العقلي.

والفرق بين التوقّف والتخيير هو الرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما ابتداء في الأوّل من غير أن يحكم بحجيّة أحدهما لا بعينه ، وهذا بخلاف الثاني حيث يحكم بحجيّة أحدهما لا بعينه ، ولا يجوز الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما.

والمقام الثالث : هو أنّ مقتضى الأصل الثانوي أي : الأخبار ، هل هو التخيير شرعا ، أو التوقّف ، أو الاحتياط؟ كما سيأتي تفصيله في خاتمة الكتاب إن شاء الله تعالى.

(لكن المقصود هنا).

أي : في هذه المسألة هو البحث عن المقام الأوّل ، والمعروف عدم وجوب الاحتياط في المقام.

٧٩

عدم وجوبه هنا ، وما تقدّم في المسألة الثانية من نقل الوفاق والخلاف آت هنا ، وقد صرّح المحدّثان المتقدّمان بوجوب التوقّف والاحتياط هنا ، ولا مدرك له سوى أخبار التوقّف التي قد عرفت ما فيها من قصور الدلالة على الوجوب في ما نحن فيه.

مع أنّها أعمّ ممّا دلّ على التوسعة والتخيير وما دلّ على التوقّف في خصوص المتعارضين وعدم العمل بواحد منها مختص ـ أيضا ـ بصورة التمكّن من إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام.

____________________________________

(وقد صرّح المحدّثان المتقدّمان) أي : الاسترآبادي ، وصاحب الحدائق (بوجوب التوقّف والاحتياط هنا) أي : في مورد تعارض النصّين ، ولا دليل لهما على وجوب التوقّف والاحتياط (سوى أخبار التوقّف) والاحتياط(التي قد عرفت ما فيها من قصور الدلالة في ما نحن فيه).

إذ تقدّم حمل أخبار الاحتياط على الطلب الإرشادي المشترك بين الوجوب والندب ، وحمل أخبار التوقّف على صورة تمكّن المكلّف من إزالة الشبهة ، فتكون مختصّة بزمان حضور الأئمّة عليهم‌السلام.

(مع أنّها أعمّ ممّا دلّ على التوسعة والتخيير).

أي : مع أن أخبار التوقّف أعمّ ممّا دلّ على التخيير ، لأنّها تشمل مورد التعارض وغيره ، واختصاص أخبار التخيير في مورد التعارض ، فلا بدّ ـ حينئذ ـ من تخصيصها بأخبار التخيير ، وإخراج موارد التعارض بالتخصيص ، فتكون النتيجة عدم دلالتها على وجوب التوقّف في مورد تعارض النصّين ، وهو المطلوب.

قوله : (وما دلّ على التوقّف في خصوص المتعارضين ... إلى آخره).

أي : ما يتوهّم من أنّ أخبار التوقّف وإن لم تكن شاملة لمورد التعارض بعد تخصيصها بأخبار التخيير ، إلّا أنّ ما دلّ على التوقّف لم ينحصر بها ، بل هنا ما دلّ على التوقّف في خصوص المتعارضين ، وعدم العمل بواحد منهما أصلا ، ولم يكن عامّا حتى يخصّص بأخبار التخيير ، فالنتيجة هي وجوب التوقّف في مورد تعارض النصّين ، كما قال به المحدّثان المذكوران ، مدفوع.

٨٠