دروس في الرسائل - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٣

١
٢

٣
٤

٥
٦

الأمر الثالث

إنّ المتيقّن السابق إذا كان ممّا يستقلّ به العقل ، كحرمة الظلم وقبح التكليف بما

____________________________________

الأمر الثالث

وقبل الخوض في البحث تفصيلا عن هذا الأمر ـ الثالث ـ لا بدّ من تحرير محلّ الكلام فيه ، فنقول :

إنّ المتيقّن السابق الثابت أوّلا على أقسام ، فإنّه قد يكون من مقولة الموضوع ، وقد يكون من مقولة الحكم ، وعلى الثاني قد يكون عقليّا وقد يكون شرعيّا ، وعلى الثاني قد يكون الحكم الشرعي تابعا للحكم العقلي ومستندا إليه ، وقد لا يكون كذلك.

ومحلّ الكلام من هذه الأقسام هو القسمان منها ، أي : الحكم العقلي والحكم الشرعي التابع له المتحد معه موضوعا ، إذ لا إشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان المتيقّن السابق من مقولة الموضوع ومن الحكم الشرعي غير المستند إلى الحكم العقلي.

ثمّ الكلام فيما هو محلّ الكلام من القسمين قد يقع الكلام في جريان الاستصحاب في نفس الحكم العقلي والحكم الشرعي التابع له وقد يقع في إجراء الاستصحاب في موضوعهما ، فلا بدّ من البحث في مقامات أربع :

الأوّل : في إمكان جريان الاستصحاب في نفس الحكم العقلي ، كحرمة الظلم العقليّة ، بمعنى إلزام العقل بتركه وتقبيح ارتكابه مع قطع النظر عن حكم الشرع به.

الثاني : في إمكان جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي المستكشف بقاعدة التطابق.

الثالث : في إمكان الاستصحاب في موضوع الحكم العقلي فيما علم به سابقا وشكّ في بقائه ليترتّب عليه الحكم العقلي.

الرابع : في إمكان جريانه في الموضوع ليترتّب عليه الحكم الشرعي المشارك للحكم العقلي في الموضوع بالفرض ، كما في بحر الفوائد مع تصرّف منّا.

وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى المقام الأوّل بقوله :

إنّ المتيقّن السابق إذا كان ممّا يستقلّ به العقل ، كحرمة الظلم وقبح التكليف بما

٧

لا يطاق ونحوهما من المحسّنات والمقبّحات العقليّة ، فلا يجوز استصحابه ، لأنّ الاستصحاب إبقاء ما كان ، والحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلا للعقل الحاكم به.

فإن أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني حكم به حكما قطعيّا كما حكم أوّلا ، وإن أدرك ارتفاعه قطع بارتفاع ذلك الحكم.

____________________________________

لا يطاق ونحوهما من المحسّنات والمقبّحات العقليّة ، فلا يجوز استصحابه.

وجه عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي يتّضح بعد ذكر مقدّمة ، وهي : بيان الفرق بين حكم العقل والشرع.

وحاصل الفرق أنّ الموضوع في حكم العقل هو نفس مناط الحكم وعلّته ، بخلاف الموضوع في حكم الشرع حيث لا يكون نفس المناط والعلّة ، إذ لا يجب على الشارع أن يجعل موضوع حكمه في لسان الدليل عين ما هو مناط الحكم وعلّته.

فحينئذ يمكن أن يكون الموضوع شيئا والمناط شيئا آخر ، وذلك كحكم الشارع بحرمة الخمر حيث يكون المناط فيه هو الإسكار ، والموضوع هو الخمر ، فقد علم من هذا الفرق أنّ الموجود في حكم العقل والقضيّة العقليّة هو أمران : أحدهما الحكم ، والآخر الموضوع المتحد مع المناط. وفي حكم الشرع والقضيّة الشرعيّة ثلاثة امور :

الأوّل : هو الحكم. والثاني : هو الموضوع. والثالث : هو المناط.

إذا عرفت هذه المقدّمة يتّضح لك وجه عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي وجريانه في الحكم الشرعي.

أمّا الأوّل ؛ فلانتفاء الشكّ في البقاء في حكم العقل ، مع أنّ الشكّ في البقاء يكون من أركان الاستصحاب وهو لا يتصوّر في الحكم العقلي ، لما عرفت من أنّ الموضوع في حكم العقل هو علّة ذلك الحكم المحمول.

فإن أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني حكم به حكما قطعيّا كما حكم أوّلا ، وإن أدرك ارتفاعه حكم بارتفاع ذلك الحكم بطريق القطع فلا يتصوّر الشكّ فيه ، ومع عدم الشكّ كيف يتصوّر الاستصحاب ...؟.

وبعبارة اخرى : إنّ الحاكم بشيء لا يحكم به إلّا بعد إحراز جميع ما له دخل في حكمه بذلك الشيء ، فإن وجده في الزمان الثاني يحكم به ، كما حكم في الزمان الأوّل وإلّا فلا

٨

ولو ثبت مثله بدليل لكان حكما جديدا حادثا في موضوع جديد.

وأمّا الشكّ في بقاء الموضوع ، فإن كان لاشتباه خارجي ، كالشكّ في بقاء الإضرار في السمّ الذي حكم العقل بقبح شربه ، فذلك خارج عمّا نحن فيه ، وسيأتي الكلام فيه ، وإن

____________________________________

يحكم به أصلا.

وأمّا الثاني ـ وهو جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي ـ فلإمكان الشكّ فيه مع بقاء موضوعه المأخوذ في الدليل ، كالشكّ في حرمة الخمر بعد زوال السكر لاحتمال مدخليّته فيها فيستصحب الحرمة.

ولو ثبت مثله بدليل لكان حكما جديدا حادثا في موضوع جديد ، بأن يفرض مثلا حكم العقل بقبح الكذب لكونه ضارا ، ثمّ لو صار الكذب غير ضار يحكم العقل أيضا بقبحه ، وهذا الحكم الثاني ليس من جهة استصحاب حكم العقل الأوّل ، بل هو حكم جديد في موضوع جديد. هذا تمام الكلام في عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي بمعنى الإدراك ؛ لأنّ العقل لا يشكّ في إدراكه ، فإنّه في الزمان الثاني لا يخلو عن أحد احتمالين ؛ إمّا يدرك ما أدركه أولا أو لا يدرك.

وأمّا عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي بمعنى الإنشاء فأوضح من الشمس ، إذ لا يعقل شكّ المنشئ في إنشائه عقلا كان أو شرعا ؛ لأنّ المنشئ بعد إنشائه في الزمان الأوّل في الزمان الثاني لا يخلو عن أحد احتمالين : إمّا أن ينشئ ما أنشأه أوّلا ، أو لا ينشئه ، ولا يعقل الشكّ في بقاء ما أنشأه أوّلا ، كي يستصحب ، كما في بحر الفوائد ، مع تصرّف وتلخيص منّا.

وأمّا الشكّ في بقاء الموضوع ، فإن كان لاشتباه خارجي ، كالشكّ في بقاء الإضرار في السمّ الذي حكم العقل بقبح شربه ، فذلك خارج عمّا نحن فيه ، أي : استصحاب الحكم العقلي ؛ لأنّ ما نحن فيه هو إمكان إجراء الاستصحاب في الحكم العقلي.

وحاصل الكلام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، هو أنّ الشكّ في بقاء الحكم العقلي يتصوّر على أربعة أقسام :

أحدها : الشكّ فيه مع العلم ببقاء موضوعه.

ثانيها : الشكّ فيه مع العلم بارتفاع موضوعه ، وقد عرفت عدم إمكانهما.

٩

كان لعدم تعيين الموضوع تفصيلا واحتمال مدخليّة موجود مرتفع أو معدوم حادث في موضوعيّة الموضوع ، فهذا غير متصوّر في المستقلّات العقليّة ، لأنّ العقل لا يستقلّ بالحكم إلّا بعد إحراز الموضوع ومعرفته تفصيلا.

____________________________________

ثالثها : الشكّ فيه للشكّ في بقاء موضوعه من جهة الاشتباه الخارجي ، وهذا ما سيأتي الكلام فيه في قوله : وأمّا موضوعه ... إلى آخره.

رابعها : الشكّ فيه للشكّ في بقاء موضوعه من جهة عدم تعيّنه من أصله ، وقد أشار إليه بقوله :

وإن كان لعدم تعيين الموضوع تفصيلا واحتمال مدخليّة موجود مرتفع أو معدوم حادث في موضوعيّة الموضوع ؛ وذلك كحكم العقل بالتخيير في دوران الأمر بين المحذورين ، حيث لا يعلم المكلّف بأنّ التخيير ابتدائي ، فلا يجوز له العدول عمّا اختاره أوّلا ، أو استمراري ، فيجوز له العدول عمّا اختاره أوّلا ، ومنشأ الشكّ فيه هو عدم تعيّن الموضوع.

إذ يحتمل أن يكون موضوع التخيير مجرّد دوران الأمر بين المحذورين ، فيكون التخيير حينئذ استمراريا ، ويحتمل مدخليّة وجود شيء في الموضوع ، بأن يكون موضوع التخيير دوران الأمر بين المحذورين للمتحيّر في أوّل الأمر ، فيكون التخيير حينئذ ابتدائيا ، إذ بمجرّد الأخذ بالوجوب أو الحرمة يرتفع موضوع التخيير ، ويحتمل مدخليّة عدم شيء في الموضوع ، بأن يكون الموضوع دوران الأمر بين المحذورين مع عدم الأخذ بأحد الحكمين ، فيكون التخيير ابتدائيا أيضا ، إذ بعد الأخذ بأحدهما يرتفع الموضوع.

إلّا أنّ الشكّ في بقاء الحكم العقلي من جهة الشكّ في موضوعه لعدم تعيّنه غير متصوّر في المستقلّات العقليّة ، لأنّ العقل لا يستقلّ بالحكم إلّا بعد إحراز الموضوع ومعرفته تفصيلا.

ففي المثال المذكور ؛ إمّا يحكم العقل بالتخيير الابتدائي أو الاستمراري بطريق القطع ؛ وذلك فإنّ حكم العقل بالتخيير الابتدائي مبني على حكمه بقبح المخالفة العمليّة التدريجيّة ، وحكمه بالتخيير الاستمراري مبني على حكمه بعدم المخالفة العمليّة التدريجيّة مع الالتزام في كلّ واقعة بأحد الاحتمالين ، وعلى التقديرين لا شكّ في حكم العقل ؛ لأنّ العقل ؛ إمّا يستقلّ بقبح المخالفة المذكورة أو بعدم قبحها.

١٠

لأنّ القضايا العقليّة إمّا ضروريّة لا يحتاج العقل في حكمه إلى أزيد من تصوّر الموضوع بجميع ما له دخل في موضوعيّته من قيوده ، وإمّا نظريّة تنتهي إلى ضروريّة كذلك ، فلا يعقل إجمال الموضوع في حكم العقل.

مع أنّك ستعرف في مسألة اشتراط بقاء الموضوع أنّ الشكّ في الموضوع ـ خصوصا لأجل مدخليّة شيء ـ مانع عن إجراء الاستصحاب.

فإن قلت : فكيف يستصحب الحكم الشرعي مع أنّه كاشف عن حكم عقلي مستقلّ ،

____________________________________

لأنّ القضايا العقليّة إمّا ضروريّة لا يحتاج العقل في حكمه إلى أزيد من تصوّر الموضوع بجميع ما له دخل في موضوعيّته من قيوده ، كحكمه بقبح التصرّف في مال الغير من دون إذن المالك أو الشارع.

وإمّا نظريّة تنتهي إلى ضروريّة كذلك ، أي : لا يحتاج العقل إلى أزيد من تصوّر الموضوع ... إلى آخره ، كحكمه بعدم تنجّز التكليف على الجاهل ، فإنّه حكم نظري ينتهي إلى حكم ضروري ، أعني : قبح العقاب بلا بيان على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

فلا يعقل إجمال الموضوع في حكم العقل. مع أنّك لو فرضت إجمال موضوع حكم العقل ، كما قال النائيني رحمه‌الله : إنّه يمكن أن يكون الموضوع التخيير هو الدوران بين المحذورين مطلقا أو في أوّل الأمر ، فيحكم بالتخيير في أوّل الأمر لأنّه المتيقّن ، فبعد الأخذ بأحد الحكمين في واقعة يشكّ في بقاء موضوع التخيير ، إلّا أنّه لا يجري استصحاب حكم العقل ، لأنّ الشكّ في الموضوع مانع عن الاستصحاب ، كما أشار إليه بقوله :

مع أنّك ستعرف في مسألة اشتراط بقاء الموضوع أنّ الشكّ في الموضوع خصوصا لأجل مدخليّة شيء ، كاحتمال مدخليّة التحيّر في أوّل الأمر في حكم العقل بالتخيير في الدوران بين المحذورين مانع عن إجراء الاستصحاب ، وذلك لعدم إحراز الموضوع مع أنّ إحراز الموضوع شرط لاستصحاب الحكم.

وقد اكتفينا في الشرح والتوضيح بما في شرح الاستاذ الاعتمادي مع تصرّف ما. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل وهو استصحاب حكم العقل.

ثم السؤال بقوله : فإن قلت : فكيف يستصحب الحكم الشرعي تمهيد للبحث عن

١١

فإنّه إذا ثبت حكم العقل بردّ الوديعة وحكم الشارع على وجوب الردّ ، ثمّ عرض ما يوجب الشكّ مثل الاضطرار والخوف فيستصحب الحكم ، مع أنّه كان تابعا للحكم العقليّ؟.

قلت : أمّا الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي ، فحاله حال الحكم العقلي في عدم جريان الاستصحاب.

____________________________________

المقام الثاني وهو إمكان جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي ، وفي عين الوقت ناظر إلى قوله :

(إنّ الشكّ في الموضوع ... مانع عن إجراء الاستصحاب) في مطلق الحكم عقليّاً كان أو شرعيّاً ، ولازم ذلك عدم جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي أيضاً ، من دون فرق بين أنّ يكون الحكم الشرعي ابتدائياً أو تابعاً لحكم عقلي مستقلّ ومستنداً إليه ومستكشفاً منه بقاعدة «كل ما حكم به العقل به الشرع» أو وارداً في مورد حكم العقل من دون أنّ يكون مستنداً إليه.

وتوضيح الإشكال يتوقّف على مقدّمة ، وهي : إنّ قاعدة التطابق تستدعي ورود الحكم العقلي في جميع موارد ثبوت الحكم الشرعي وكون موضوعيهما متحدين ، فالشكّ في موضوع الحكم العقلي حينئذ مستلزم للشكّ في موضوع الحكم الشرعي. إذا عرفت هذه المقدّمة ، فنقول :

إنّ ما ذكر في عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي ـ من أنّه على تقدير وقوع الشكّ فيه لا بدّ أن يكون من جهة الشكّ في الموضوع ، ومن المعلوم عدم إمكان إجراء الاستصحاب مع الشكّ في الموضوع ـ يجري في الحكم الشرعي أيضا ، لما عرفت من أنّ الشكّ في موضوع الحكم العقلي مستلزم للشكّ في موضوع الحكم الشرعي ، فلا يجري الاستصحاب فيه ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، بل يجري الاستصحاب في الحكم الشرعي ، كما أشار إليه بقوله :

فإنّه إذا ثبت حكم العقل بردّ الوديعة وحكم الشارع على وجوب الردّ ، ثمّ عرض ما يوجب الشكّ مثل الاضطرار والخوف فيستصحب الحكم الشرعي.

مع أنّه كان تابعا للحكم العقليّ الذي لا يجري الاستصحاب فيه.

قلت : أمّا الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي ، فحاله حال الحكم العقلي في عدم

١٢

نعم ، لو ورد في مورد حكم العقل حكم شرعي من غير جهة العقل وحصل التغيّر في حال من أحوال موضوعه ممّا يحتمل مدخليّته وجودا أو عدما في الحكم ، جرى الاستصحاب

____________________________________

جريان الاستصحاب.

وغرض المصنّف قدس‌سره من هذا الكلام وإن كان بيان أحكام الأقسام الثلاثة للحكم الشرعي بعضها تصريحا وبعضها تلويحا ، إلّا أنّه متضمّن للبحث عن المقام الثاني صريحا ، وهو إمكان جريان الاستصحاب وعدم جريانه في الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي.

فحكم المصنّف قدس‌سره بعدم جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي ، كعدم جريانه في نفس الحكم العقلي ، ولقد أجاد الاستاذ الاعتمادي في البيان تفصيلا في هذا المقام حيث قال دام ظله :

اعلم : إنّ الحكم على خمسة أقسام :

أحدها : أن يستفاد من العقل ويستكشف منه حكم الشرع من دون وجود دليل نقلي أصلا ، كأصالة التخيير مثلا في مورد الدوران بين المحذورين.

ثانيهما : أن يستفاد من العقل ويستكشف منه حكم الشرع مع وجود دليل نقلي إمضائي إرشادي ، كمسائل الطاعة والمعصية والعقاب بلا بيان ودفع العقاب المحتمل.

ثالثها : أن يستفاد من العقل ويستكشف منه حكم الشرع مع وجود دليل نقلي إمضائي مولوي ، كمسائل الإحسان والظلم والكذب وردّ الوديعة ، وإلى هذه الأقسام أشار بقوله : أمّا الحكم الشرعي المستند ... إلى آخره.

رابعها : أن يستفاد من الدليل الشرعي ، ويستكشف منه حكم العقل ، كوجوب الصلاة وغيرها من التعبّديات ، وهذا لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه لما فصّلنا من الفرق بين حكم العقل والشرع ، فراجع.

خامسها : أن يستفاد من الدليل الشرعي ومن الدليل العقلي من دون استناد أحدهما بالآخر ، كقبح تكليف الصبي عقلا ورفع القلم عنه شرعا ، فإنّ الرفع الشرعي غير مستند إلى القبح العقلي ، كيف وقد رفع عن المميّز أيضا مع عدم القبح عقلا ، وإليه أشار بقوله :

نعم ، لو ورد في مورد حكم العقل حكم شرعي من غير جهة العقل وحصل التغيّر في

١٣

وحكم بأنّ موضوعه أعمّ من موضوع حكم العقل.

ومن هنا يجري استصحاب عدم التكليف في حال يستقلّ العقل بقبح التكليف فيه ، لكنّ العدم الأزلي ليس مستندا إلى القبح وإن كان موردا للقبح. هذا حال نفس الحكم العقلي.

وأمّا موضوعه ـ كالضّرر المشكوك بقاؤه في المثال المتقدّم ـ فالذي ينبغي أن يقال فيه :

____________________________________

حال من أحوال موضوعه ، كبلوغ الصبي ممّا يحتمل مدخليّته وجودا ، كاحتمال مدخليّة الصغر في الحكم أو عدما ، كاحتمال مدخليّة عدم البلوغ في الحكم ، جرى الاستصحاب وحكم بأنّ موضوعه ، أي : حكم الشرع أعمّ من موضوع حكم العقل.

بأن يقال مثلا بأنّ موضوع حكم العقل بقبح التكليف عنوان الصغر أو غير المميّز وقد انتفى ، وموضوع حكم الشرع برفع التكليف هو هذا الشخص الباقي عرفا ، والصغر والبلوغ ، كالنوم واليقظة من الحالات المتبادلة.

ومن هنا ، أي : من جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي إذا لم يكن مستندا إلى العقل يجري استصحاب عدم التكليف الثابت في حال يستقلّ العقل بقبح التكليف فيه ، كحال الصغر وقبل الشرع مثلا.

لكنّ العدم الأزلي ، أي : عدم التكليف قبل الشرع ورفعه حال الصغر ليس مستندا إلى القبح وإن كان موردا للقبح ؛ لأنّ العقل يقبّح التكليف بلا بيان أو حال الصغر.

هذا حال نفس الحكم العقلي ، حيث عرفت عدم إمكان الاستصحاب فيه لوجهين :

الأوّل : عدم تصوّر الشكّ فيه.

والثاني : عدم إحراز الموضوع على فرض تصوّر الشكّ فيه. هذا تمام الكلام في المقام الثاني.

وبقي الكلام في المقام الثالث وهو جريان الاستصحاب في موضوع الحكم العقلي ليترتّب عليه حكم العقل ، والمقام الرابع وهو استصحاب موضوع حكم العقل ليترتّب عليه الحكم الشرعي ، فقد أشار إليهما بقوله :

وأمّا موضوعه ، أي : موضوع الحكم العقلي كالضّرر المشكوك بقاؤه في المثال المتقدّم ، كشرب السمّ.

١٤

إنّ الاستصحاب إن اعتبر من باب الظنّ عمل به هنا ، لأنّه يظنّ الضّرر بالاستصحاب فيحمل عليه الحكم العقلي إن كان موضوعه أعمّ من القطع والظنّ ، كما في مثال الضّرر.

وإن اعتبر من باب التعبّد لأجل الأخبار فلا يجوز العمل به ، للقطع بانتفاء حكم العقل مع الشكّ في الموضوع الذي كان يحكم عليه مع القطع ، فلا يثبت إلّا الآثار الشرعيّة المجعولة القابلة للجعل الظاهري ، وتعبّد الشارع بالحكم العقلي يخرجه عن كونه حكما عقليّا.

[غاية ما في الباب : كون الحكم العقلي في مورد الشكّ المذكور ظنيّا باعتبار ظنيّة الصغرى. وإن اعتبر من باب التعبّد لأجل الأخبار لم يجز العمل به ، لما سيجيء من أنّ الثابت

____________________________________

فالذي ينبغي أن يقال فيه : إنّ الاستصحاب إن اعتبر من باب الظنّ عمل به هنا ، لأنّه يظنّ الضّرر بالاستصحاب فيحمل عليه الحكم العقلي إن كان موضوعه أعمّ من القطع والظنّ ، كما في مثال الضّرر.

وتوضيح كلام المصنّف قدس‌سره يتوقّف على البحث عن كلّ واحد من المقام الثالث والرابع تفصيلا ، فنقول :

إنّ ما يظهر من المصنّف قدس‌سره في المقام الثالث هو التفصيل بين القول باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ـ فيجري الاستصحاب في الموضوع ويترتّب عليه الحكم العقلي ، كما يترتّب عليه الحكم الشرعي ـ وبين اعتباره من باب التعبّد لأجل الأخبار ، حيث لا يترتّب على الاستصحاب في الموضوع حينئذ إلّا الحكم الشرعي الظاهري.

غاية الأمر جريان الاستصحاب في الموضوع على القول باعتباره من باب الظنّ مشروط بشرطين :

أحدهما : أن يكون اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ.

ثانيهما : أن يكون موضوع حكم العقل أعمّ من القطع والظنّ كمثال الضّرر مثلا ، حيث يكون موضوع حكم العقل بقبح الارتكاب أعمّ من مقطوع الضّرر ومظنونه ، إذ لو كان للقطع مدخليّة في موضوع حكم العقل لارتفع بارتفاعه ، فلا يعقل حينئذ استصحاب الموضوع.

وبالجملة ، إنّ العقل يحكم بقبح شرب السمّ لكونه مضرّا ، فإذا شكّ في بقاء السمّية يستصحب الضّرر ، ويثبت القبح المستتبع للحرمة الشرعيّة ، كما في شرح الاعتمادي.

١٥

بالأخبار هي الآثار الشرعيّة المجعولة القابلة للجعل الظاهري دون الأحكام العقليّة والعاديّة الغير قابلة للجعل].

مثلا : إذا ثبت بقاء الضّرر في السمّ في المثال المتقدّم بالاستصحاب ، فمعنى ذلك ترتيب الآثار الشرعيّة المجعولة للضّرر على مورد الشكّ. وأمّا حكم العقل بالقبح والحرمة فلا يثبت إلّا مع إحراز الضّرر.

نعم ، تثبت الحرمة الشرعيّة بمعنى نهي الشارع ظاهرا [لثبوتها سابقا ولو بواسطة الحكم العقلي] ، ولا منافاة بين انتفاء الحكم العقلي وثبوت الحكم الشرعي ، لأنّ عدم حكم العقل

____________________________________

هذا تمام الكلام فيما إذا كان اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ.

وأمّا لو كان اعتباره من باب التعبّد ، فلا يجوز العمل باستصحاب الموضوع ولا يترتّب عليه إلّا الحكم الشرعي الظاهري ، كما أشار إليه بقوله :

وإن اعتبر من باب التعبّد لأجل الأخبار فلا يجوز العمل به ، للقطع بانتفاء حكم العقل مع الشكّ في الموضوع الذي كان يحكم عليه مع القطع ... إلى آخره.

وهذا الكلام من المصنّف قدس‌سره مبني على أن يكون للقطع مدخليّة في الموضوع ، وعليه فلا فرق في عدم جريان الاستصحاب بين القول باعتباره من باب الظنّ والقول باعتباره من باب التعبّد ، إذ لا ينفع الاستصحاب المذكور مطلقا ، أمّا على القول باعتباره من باب الظنّ ، فلأنّ المفروض هو اعتبار القطع الوجداني فلا يفيد الظنّ وإن كان قطعا تعبّدا.

وأمّا على القول باعتباره من باب التعبّد لأجل الأخبار ، فلأجل أنّ الاستصحاب المذكور مثبت بالنسبة إلى ترتّب حكم العقل عليه ، كما أشار إليه بقوله :

مثلا : إذا ثبت بقاء الضّرر في السمّ في المثال المتقدّم بالاستصحاب ، فمعنى ذلك ترتيب الآثار الشرعيّة المجعولة للضّرر على مورد الشكّ ؛ وذلك لعدم كون الاستصحاب بالنسبة إلى ترتيب الآثار الشرعيّة عليه أصلا مثبتا.

وأمّا حكم العقل بالقبح والحرمة فلا يثبت بذلك ؛ لكونه حينئذ أصلا مثبتا ، كما يأتي تحقيقه.

فحاصل الكلام إلى الآن ، هو جريان الاستصحاب في الموضوع ويترتّب عليه الحكم العقلي كالحكم الشرعي على القول باعتباره من باب الظنّ ، ولا يترتّب على الاستصحاب

١٦

مع الشكّ إنّما هو لاشتباه الموضوع عنده ، وباشتباهه يشتبه الحكم الشرعي الواقعي أيضا ، إلّا أنّ الشارع حكم على هذا المشتبه الواقعي بحكم ظاهري هي الحرمة.

وممّا ذكرنا ـ من عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي ـ يظهر ما في تمسّك بعضهم لإجزاء ما فعله الناسي لجزء من العبادة أو شرطها باستصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان.

____________________________________

المذكور إلّا الحكم الشرعي على القول باعتباره من باب التعبّد. هذا تمام الكلام في المقام الثالث.

ومنه يظهر الحكم في المقام الرابع وهو ترتّب الحكم الشرعي على استصحاب الموضوع على فرض الشكّ في بقائه وجريان الاستصحاب فيه ، فإنّ الشكّ في بقاء الموضوع مستلزم للشكّ في بقاء الحكم الشرعي ، فيجوز للشارع أن يحكم بحكم ظاهري في مورد الشكّ والاشتباه بالنسبة إلى الحكم الواقعي ، لعدم المنافاة بين انتفاء الحكم العقلي وثبوت الحكم الشرعي ، كما أشار إليه بقوله :

ولا منافاة بين انتفاء الحكم العقلي وثبوت الحكم الشرعي. إلى أن قال المصنّف قدس‌سره :

وممّا ذكرنا ـ من عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي ـ يظهر ما في تمسّك بعضهم لإجزاء ما فعله الناسي لجزء من العبادة أو شرطها باستصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان.

فلا بدّ أوّلا من بيان الإجزاء بالاستصحاب ثمّ بيان ما يردّ على التمسّك بالاستصحاب ثانيا.

وحاصل تمسّك البعض بالاستصحاب لإجزاء ما فعله الناسي ، هو أنّ الناسي لا يكون مكلّفا بما نسيه من الجزء أو الشرط حال النسيان ، وذلك لقبح توجّه التكليف عقلا إلى العاجز ، ثمّ إذا تذكّر بما نسيه من الجزء أو الشرط ، هل يجب عليه الإعادة أم لا؟.

قال البعض : لا يجب عليه الإعادة ، لاستصحاب عدم التكليف حال النسيان. هذا تمام الكلام في بيان إثبات الإجزاء بالاستصحاب.

أمّا بيان الإيراد على التمسّك بالاستصحاب ، فقد ظهر ممّا ذكره المصنّف قدس‌سره من عدم الاستصحاب في الحكم العقلي ؛ لأنّ عدم التكليف حال النسيان حكم عقلي يرتفع

١٧

وما في اعتراض بعض المعاصرين ، على من خصّ من القدماء والمتأخّرين استصحاب حال العقل باستصحاب العدم بأنّه لا وجه للتخصيص ، فإنّ حكم العقل المستصحب قد يكون وجوديّا تكليفيّا ـ كاستصحاب تحريم التصرّف في مال الغير ووجوب ردّ الأمانة إذا عرض هناك ما يحتمل معه زوالهما ، كالاضطرار والخوف ـ أو وضعيّا ، كشرطيّة العلم للتكليف إذا عرض ما يوجب الشكّ في بقائها.

ويظهر حال المثالين الأوّلين ممّا ذكرنا سابقا.

____________________________________

بارتفاع النسيان فكيف يستصحب مع القطع بانتفاء الموضوع؟!.

وظهر أيضا الإيراد على ما في اعتراض بعض المعاصرين ، أي : صاحب الفصول قدس‌سره على من خصّ من القدماء والمتأخّرين استصحاب حال العقل باستصحاب العدم.

فلا بدّ أوّلا من بيان الاعتراض ثمّ بيان الإيراد عليه وعدم وروده على من خصّ استصحاب حال العقل باستصحاب العدم.

أمّا الاعتراض فقد أشار إليه بقوله :

بأنّه لا وجه للتخصيص ، فإنّ حكم العقل المستصحب قد يكون وجوديّا تكليفيّا ، كاستصحاب تحريم التصرّف في مال الغير ... إلى آخره.

وحاصل الاعتراض أنّ الأصحاب قسّموا الاستصحاب إلى ؛ استصحاب حال الشرع واستصحاب حال العقل ، ثمّ ذكروا لاستصحاب حال العقل مثالين ، كاستصحاب عدم التكليف قبل الشرع أو قبل البلوغ.

فاعترض عليهم صاحب الفصول بأنّ الأحكام العقليّة لا تنحصر فيما ذكروه من المثالين ، بل قد يكون حكم العقل المستصحب أمرا وجوديّا ، كما في المتن ، فلا وجه لانحصار استصحاب حال العقل بالمثالين.

وأمّا وجه عدم ورود هذا الاعتراض على الأصحاب ، فقد ظهر ممّا ذكره المصنّف من عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي أصلا ، ومرادهم من استصحاب حال العقل ليس استصحاب حكم العقل ، بل هو استصحاب الحكم الشرعي الوارد في مورد حكم العقل ، ثمّ الموجود من الحكم الشرعي الوارد في مورد حكم العقل هو الحكم الشرعي العدمي ، دون الوجودي ، فيكون حينئذ لما ذكروه من اختصاص المثال بالعدمي وجه.

١٨

وأمّا المثال الثالث ، فلم يتصوّر فيه الشكّ في بقاء شرطيّة العلم للتكليف في زمان.

نعم ، ربّما يستصحب التكليف فيما كان المكلّف به معلوما بالتفصيل ، ثمّ اشتبه وصار معلوما بالإجمال. لكنّه خارج عمّا نحن فيه.

مع عدم جريان الاستصحاب فيه ، كما سننبّه عليه.

____________________________________

ويظهر حال المثالين الأوّلين وهما استصحاب تحريم التصرّف في مال الغير ووجوب ردّ الأمانة ممّا ذكرنا سابقا من عدم إمكان جريان الاستصحاب في الحكم العقلي من جهة عدم تصوّر الشكّ في حكم العقل ، وذلك لما عرفت سابقا من أنّ الحاكم لا يحكم بحكم إلّا بعد إحراز الموضوع بجميع ما له دخل في الحكم.

فحينئذ العقل ؛ إمّا أن يحكم بوجوب ردّ الأمانة وتحريم التصرّف في مال الغير مطلقا ولو مع الاضطرار والخوف ، وإمّا أن يحكم بهما بشرط عدمهما. وعلى التقديرين ليس هناك شكّ حتى يكون مجرى الاستصحاب ، مع أنّه لو فرض الشكّ فيه لكان من جهة الشكّ في الموضوع ، فلا يجري الاستصحاب من جهة عدم إحراز الموضوع.

وأمّا المثال الثالث ، فلم يتصوّر فيه الشكّ في بقاء شرطيّة العلم للتكليف في زمان ، إذ من البديهي أنّ العلم شرط لتنجّز التكليف عقلا ، ثمّ العقل إمّا أن يحكم بشرطيّة العلم مطلقا ، أي : تفصيليّا كان أو إجماليّا.

وإمّا أن يحكم بشرطيّة العلم التفصيلي فقط. وعلى التقديرين لا يتصوّر فيه شكّ ، حتى يكون مجرى الاستصحاب.

نعم ، ربّما يستصحب التكليف فيما كان المكلّف به معلوما بالتفصيل ، كالعلم بوجوب الصلاة المعيّنة يوم الجمعة ووجوبها إلى جهة معيّنة.

ثمّ اشتبه وصار معلوما بالإجمال ، كاشتباه الصلاة بين الظهر والجمعة ، واشتباه القبلة بين الجهات الأربع ، فبعد الإتيان ببعض المحتملات يستصحب التكليف الثابت قبل الإتيان بالبعض.

لكنّه خارج عمّا نحن فيه ؛ لأنّه ليس استصحابا للحكم العقلي ، بل استصحاب للحكم الشرعي وهو جائز ومعقول ، كما مرّ ، إلّا أن يمنع مانع كما في المقام ، والمانع هو كونه مثبتا ، كما سيأتي في كلام المصنّف قدس‌سره ؛ ولهذا قال :

١٩

ويظهر ـ أيضا ـ فساد التمسّك باستصحاب البراءة والاشتغال الثابتين بقاعدتي البراءة والاشتغال.

مثال الأوّل : ما إذا قطع بالبراءة عن وجوب غسل الجمعة والدعاء عند رؤية الهلال قبل الشرع أو العثور عليه.

فإنّ مجرّد الشكّ في حصول الاشتغال كاف في حكم العقل بالبراءة ولا حاجة إلى إبقاء البراءة السابقة والحكم بعدم ارتفاعها ظاهرا. فلا فرق بين الحالة السابقة واللّاحقة في استقلال العقل بقبح التكليف فيهما ، لكون المناط في القبح عدم العلم.

____________________________________

مع عدم جريان الاستصحاب فيه ، كما سننبّه عليه بقولنا : لكنّه لا يقضي بوجوب الإتيان بالصلاة مع السورة .. إلى آخره.

ويظهر ـ أيضا ـ فساد التمسّك باستصحاب البراءة والاشتغال الثابتين بقاعدتي البراءة والاشتغال.

مثال الأوّل ، أي : مثال استصحاب البراءة هو : ما إذا قطع بالبراءة عن حرمة شرب التتن وعن وجوب غسل الجمعة والدعاء عند رؤية الهلال قبل الشرع أو العثور عليه.

وحاصل توهّم التمسّك باستصحاب البراءة أنّ كلّ واحد من وجوب غسل الجمعة والدعاء وحرمة شرب التتن قبل الشرع أو قبل اطّلاع المكلّف على الشرع كان مجرى قاعدة البراءة ، أعني : قبح العقاب بلا بيان ، فإذا شكّ في حدوث تكليف بواحد منها في الشرع تستصحب البراءة العقليّة الثابتة قبل الشرع.

ووجه الفساد أنّ موضوع حكم العقل بالبراءة هو عدم البيان ، وهو متحقّق بعد الشرع ، فالعقل يحكم بالبراءة بعد الشرع كما يحكم بها قبله من دون حاجة إلى الاستصحاب أصلا إذ لا شكّ في حكم العقل بالبراءة ، بل يحكم بها بمجرّد الشكّ في ثبوت التكليف بعد الشرع ، كما أشار إليه بقوله :

فإنّ مجرّد الشكّ في حصول الاشتغال في الشرع كاف في حكم العقل بالبراءة ... إلى آخره.

وحاصل فساد التمسّك بالبراءة الأصليّة ، هو أنّ مجرّد الشكّ في اشتغال الذمة علّة تامّة لحكم العقل بالبراءة على نحو القطع من جهة قبح العقاب بلا بيان ، فلا يبقى هناك

٢٠