دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

فتأمّل حتى لا تتوهّم أنّ استعمال قوله : (كلّ شيء لك حلال) ، بالنسبة إلى الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي والشبهات المجرّدة ، استعمال في معنيين.

قلت : الظاهر من الأخبار المذكورة البناء على حلّية محتمل التحريم والرخصة فيه ، لا وجوب البناء على كونه هو الموضوع المحلّل ، ولو سلّم فظاهرها البناء على كون كلّ مشتبه كذلك.

____________________________________

هو الحلّية في مطلق الشبهات ، وأمّا الحلّية التعيينيّة أو التخييريّة فخارجة عن مفادها ، بل من لوازم خصوصيّة المورد ، فحينئذ لا يلزم استعمال قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء لك حلال) في معنيين ، بل استعمل في الكلّي وهو البناء على كون المشتبه موضوعا محلّلا.

(قلت : الظاهر من الأخبار المذكورة البناء على حلّية محتمل التحريم والرخصة فيه ، لا وجوب البناء على كونه هو الموضوع المحلّل).

والجواب عن الوجه المذكور يمكن أن يتمّ من وجوه :

منها : ما حاصله من أنّ الحلّية على نحو التخيير ، والبدليّة مبنيّة على أن يكون مفاد أخبار الحلّ هو إثبات الموضوع المحلّل والمحرّم على ما تقدّم من وجوب البناء على كون أحد المشتبهين موضوعا محلّلا والآخر موضوعا محرّما على وجه التخيير والبدليّة ، إلّا أنّ ظاهر الأخبار المذكورة هو البناء على إثبات الحكم لا الموضوع ، أي : حلّية محتمل التحريم والرخصة فيه ظاهرا ، وبذلك تكون قاعدة الاشتغال حاكمة على أدلّة الحلّ ، وتكون ـ حينئذ ـ النتيجة هي وجوب الموافقة القطعيّة.

ومنها : ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(ولو سلّم فظاهرها البناء على كون كلّ مشتبه كذلك).

أي : لو سلّم بأنّ مفادها هو البناء على كون المشتبه موضوعا محلّلا ، فيكون ظاهرها هو البناء على كون كلّ مشتبه موضوعا محلّلا تعيينا لا تخييرا ، وحيث لا يصحّ هذا المعنى في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، لما تقدّم من أنّ البناء على كون أحد المشتبهين موضوعا محلّلا ينافي البناء على كون الآخر كذلك ، لا بدّ من اختصاص هذه الأخبار بالشبهات البدويّة حيث يصحّ هذا المعنى فيها.

ومنها : ما أشار إليه بقوله :

١٨١

وليس الأمر بالبناء على كون أحد المشتبهين هو الخلّ أمرا بالبناء على كون الآخر هو الخمر ، فليس في الروايات من البدليّة عين ولا أثر ، فتدبّر.

احتجّ من جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ومنع عنه بوجهين :

____________________________________

(وليس الأمر بالبناء على كون أحد المشتبهين هو الخلّ أمرا بالبناء على كون الآخر هو الخمر).

أي : ليس لازم أمر الشارع بالبناء على كون أحد المشتبهين هو الخلّ أمرا منه بالبناء على كون الآخر هو الخمر ، بل البناء على كون الآخر هو الخمر من العقل ، فالملازمة بين البناء على خلّيّة أحدهما وخمريّة الآخر عقليّة لا شرعيّة ، (فليس في الروايات من البدليّة عين ولا أثر ، فتدبّر).

قوله : (فتدبّر) لعلّه إشارة إلى أنّ الملازمة بين البناء على خلّيّة أحدهما وخمريّة الآخر ، وإن كانت عقليّة ، إلّا أنّها ناشئة من شمول أخبار الحلّ مورد العلم الإجمالي وحكم الشارع بكون أحد المشتبهين موضوعا محلّلا ، فترجع الملازمة بالآخرة إلى الشرع ، فالأولى في الجواب أن يقال : بأنّ أخبار الحلّ مختصّة بالشبهات البدويّة ، ولا تشمل مورد العلم الإجمالي ، فتنبّه.

(احتجّ من جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام والمنع عنه بوجهين).

وقد تقدّم الوجهان على عدم وجوب الموافقة القطعيّة مع جوابهما ، واحتجّ من جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ـ حيث لم يقل بوجوب الموافقة القطعيّة ـ بوجهين آخرين ، وبذلك يكون مجموع ما استدلّ به على عدم وجوب الموافقة القطعيّة إلى الآن هي وجوه أربعة.

وقبل تقريب ما استدلّ به من جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام من الوجهين نقول : إنّ مدّعاه مركّب من أمرين :

أحدهما : هو الجواز.

وثانيهما : هو المنع.

أي : جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ، والمنع عن ارتكاب مقدار الحرام ، فإذا فرضنا مقدار الحرام واحدا ، وكان مشتبها في أمرين جاز ارتكاب أحدهما فقط ، وإن كان مشتبها

١٨٢

الأوّل : الأخبار الدالّة على حلّ ما لم يعلم حرمته التي تقدّم بعضها ، وإنّما منع من ارتكاب مقدار الحرام إمّا لاستلزامه العلم بارتكاب الحرام وهو حرام ، وإمّا لما ذكره بعضهم من أنّ ارتكاب مجموع المشتبهين حرام لاشتماله على الحرام.

قال في توضيح ذلك : «إنّ الشارع منع عن استعمال الحرام المعلوم ، وجوّز استعمال ما لم يعلم حرمته ، والمجموع من حيث المجموع معلوم الحرمة ، ولو باعتبار جزئه ، وكذا كلّ منهما بشرط الاجتماع مع الآخر فيجب اجتنابه ، وكلّ منهما بشرط الانفراد مجهول الحرمة فيكون حلالا».

والجواب عن ذلك : إنّ الأخبار المتقدّمة ، على ما عرفت ؛ إمّا أن لا تشمل شيئا من

____________________________________

في امور محصورة ، كالعشرة مثلا ، جاز ارتكاب ما عدا الواحد.

وكيف كان ، فالوجه الأوّل على جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام هو (الأخبار الدالّة على حلّ ما لم يعلم حرمته التي تقدّم بعضها).

وقد تقدّم أنّ مقتضى هذه الأخبار على تقدير شمولها لمورد العلم الإجمالي هو حلّية كلا المشتبهين.

ثمّ إنّ الوجه لمنع ارتكاب مقدار الحرام ما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (إمّا لاستلزامه العلم بارتكاب الحرام وهو حرام).

وذكر المصنّف قدس‌سره لمنع ارتكاب الجميع وجهين :

أحدهما : إنّ ارتكاب الجميع مستلزم للعلم بارتكاب الحرام ، والعلم بارتكاب الحرام حرام ، فارتكاب الجميع حرام.

وثانيهما : ما حاصله من أنّ المجموع من حيث المجموع معلوم الحرمة ، ولو باعتبار جزئه ، فيدخل في منع الشارع عن استعمال الحرام المعلوم ، وأمّا البعض فليس معلوم الحرمة ، فلا يدخل في منع الشارع فيجوز ارتكابه.

(وكذا كلّ منهما بشرط الاجتماع مع الآخر فيجب اجتنابه ... إلى آخره).

أي : كلّ منهما بشرط انضمام الآخر حرام ، وبشرط الانفراد حلال.

والفرق بين لحاظ المجموع من حيث المجموع ، وبين لحاظ كلّ منهما بشرط الاجتماع هو أنّ المحرّم في الأوّل جزء ، وفي الثاني واحد من المقيّد والقيد.

١٨٣

المشتبهين ، وإمّا أن تشملهما جميعا ، وما ذكر من الوجهين لعدم جواز ارتكاب الأخير بعد ارتكاب الأوّل ، فغير صالح للمنع.

أمّا الأوّل ، فلأنّه إن اريد أنّ مجرّد تحصيل العلم بارتكاب الحرام حرام ، فلم يدلّ دليل عليه ، نعم تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام حرام من حيث التجسّس المنهيّ عنه وإن لم يحصل له العلم.

____________________________________

(والجواب عن ذلك : إنّ الأخبار المتقدّمة ، على ما عرفت) في شرح قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء لك حلال ... إلى آخره) في المقام الأوّل (إمّا أن لا تشمل شيئا من المشتبهين) إن كان المراد بالغاية المذكورة فيها مطلق العلم ، أي : تفصيليّا كان أو إجماليّا(وإمّا أن تشملهما جميعا) إن كان المراد بها علما تفصيليّا فقط.

فعلى الأوّل يجب الاجتناب عن كلا المشتبهين وهو المطلوب ، وعلى الثاني يلزم جواز المخالفة القطعيّة مع أنّ الخصم لا يقول به ، بل يقول بحرمة المخالفة القطعيّة.

والجواب عمّا ذكر من الوجهين لمنع ارتكاب الجميع هو أنّهما غير صالحين للمنع المذكور.

(أمّا الأوّل ، فلأنّه إن اريد أنّ مجرّد تحصيل العلم بارتكاب الحرام حرام ، فلم يدلّ دليل عليه).

وحاصل الجواب ، إنّ الوجه الأوّل وهو قوله : (لاستلزامه العلم بارتكاب الحرام) لا يخلو عن أحد احتمالين ، وكلاهما باطل :

أحدهما : أن يكون المراد بقوله : (وهو حرام) تحصيل العلم بارتكاب الحرام ، فيكون حاصل الوجه الأوّل : هو أنّ ارتكاب الجميع مستلزم لتحصيل العلم بارتكاب الحرام ، وتحصيل العلم بارتكاب الحرام حرام ، كما هو ظاهر هذا الوجه ، والوجه في بطلانه ما أشار إليه بقوله : (فلم يدلّ دليل عليه) لأنّ الدليل دلّ على أنّ المحرّم هو ارتكاب الحرام الواقعي ، لا تحصيل العلم بارتكابه.

(نعم ، تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام حرام ... إلى آخره).

إلّا أنّ الحرمة ليست من جهة تحصيل العلم بارتكاب الحرام ، بل من جهة صدق التجسّس المنهي عنه شرعا ، وإن لم يحصل به العلم ، لأنّ نفس التفتيش عن معايب الناس

١٨٤

وإن اريد أنّ الممنوع عنه عقلا من مخالفة أحكام الشرع ، بل مطلق الموالي ، هي المخالفة العلميّة دون الاحتماليّة فإنّها لا تعدّ عصيانا في العرف ، فعصيان الخطاب باجتناب الخمر المشتبه هو ارتكاب المجموع دون المحرّم الواقعي وإن لم يعرف حين الارتكاب ، وحاصله منع وجوب المقدّمة العلميّة.

ففيه : مع إطباق العلماء بل العقلاء ، كما حكي على وجوب المقدّمة العلميّة ، أنّه إن اريد من حرمة المخالفة العلميّة المخالفة المعلومة حين المخالفة ، فهذا اعتراف بجواز ارتكاب المجموع تدريجا ، إذ لا يحصل معه مخالفة معلومة تفصيلا ، وإن اريد منها حرمة المخالفة التي تعلّق العلم بها ولو بعدها ، فمرجعها إلى حرمة تحصيل العلم الذي به تصير المخالفة معلومة ، وقد عرفت منع حرمتها جدّا.

____________________________________

حرام وإن لم يحصل به العلم بارتكابهم الحرام.

وثانيهما : أن يكون المراد بالحرام المخالفة القطعيّة ، فيكون مفاد الوجه الأوّل ـ حينئذ ـ هو أنّ ارتكاب الجميع مستلزم للعلم بارتكاب الحرام ، أي : المخالفة القطعيّة وهي حرام ، كما أشار إليه بقوله :

(وإن اريد أنّ الممنوع عنه عقلا من مخالفة أحكام الشرع ، بل مطلق الموالي ، هي المخالفة العلميّة دون الاحتماليّة) لأنّ المخالفة الاحتماليّة لا تعدّ عصيانا في العرف.

والحاصل أنّ العلم الإجمالي يقتضي حرمة المخالفة القطعيّة دون وجوب الموافقة القطعيّة ، ثمّ ذكر المصنّف قدس‌سره ما يرد على هذا الاحتمال الثاني ، حيث قال :

(ففيه : مع إطباق العلماء بل العقلاء ، كما حكي على وجوب المقدّمة العلميّة).

أي : يرد على الاحتمال الثاني :

أوّلا : بأنّه مخالف لحكم العقل بوجوب تحصيل الموافقة القطعيّة بعد ثبوت اشتغال الذمّة بالأمر المردّد بين أمرين ، أو امور محصورة ، وإجماع العلماء بل العقلاء على وجوب المقدّمة العلميّة التي لا تحصل إلّا بترك جميع أطراف العلم الإجمالي.

وثانيا : (إنّه إن اريد من حرمة المخالفة العلميّة المخالفة المعلومة حين المخالفة).

أي : حين الارتكاب ، بأن يرتكبهما دفعة ، فلا تكون المخالفة العلميّة إذا لم تكن معلومة حين المخالفة والارتكاب ، بأن يرتكبهما تدريجا محرّمة ، فهو باطل من جهة كون هذا

١٨٥

ممّا ذكرنا يظهر فساد الوجه الثاني.

فإنّ حرمة المجموع إذا كان باعتبار جزئه الغير المعيّن فضمّ الجزء الآخر لا دخل له في حرمته. نعم ، له دخل في كون الحرام معلوم التحقّق ، فهي مقدّمة للعلم بارتكاب الحرام لا لنفسه ، فلا وجه لحرمتها بعد عدم حرمة العلم بارتكاب الحرام.

ومن ذلك يظهر فساد جعل الحرام كلّا منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ، فإنّ حرمته وإن كانت معلومة إلّا أنّ الشرط شرط لوصف كونه معلوم التحقّق لا لذات الحرام ، فلا يحرم إيجاد الاجتماع إلّا إذا حرم جعل ذات الحرام معلومة التحقّق ، ومرجعه إلى حرمة تحصيل العلم بالحرام.

____________________________________

اعترافا بجواز المخالفة القطعيّة فيما إذا ارتكب المجموع تدريجا ، وهو مخالف الفرض ، لأنّ المفروض هو البحث عن وجوب الموافقة القطعيّة بعد التسالم على حرمة المخالفة القطعيّة مطلقا.

وثالثا : (إن اريد) بحرمة المخالفة القطعيّة (حرمة المخالفة التي تعلّق العلم بها ولو بعدها ، فمرجعها إلى حرمة تحصيل العلم الذي به تصير المخالفة معلومة).

أي : يكون مرجع هذا الاحتمال إلى الاحتمال الأوّل ، وهو تحصيل العلم بالحرمة ، وقد تقدّم أنّ تحصيل العلم بالحرمة ليس حراما ، بل الحرام هو ارتكاب الحرام ، فالحقّ إذن بعد بطلان هذا الوجه هو وجوب الموافقة القطعيّة.

(ممّا ذكرنا) من ظاهر الوجه الأوّل هو حرمة تحصيل العلم بالحرام ، وقلنا بأنّه لم يدلّ دليل على حرمة تحصيل العلم بالحرام (يظهر فساد الوجه الثاني) ، أي : فساد حرمة المجموع من حيث المجموع لكونه معلوم الحرمة.

وذلك (فإنّ حرمة المجموع إذا كان باعتبار جزئه الغير المعيّن فضمّ الجزء الآخر لا دخل له في حرمته) ، كما أنّ ضمّ الخلّ إلى الخمر لا دخل له في حرمة الخمر أصلا.

نعم ، إذا اشتبه الخمر بالخلّ فضمّ أحدهما إلى الآخر في مقام الارتكاب يكون موجبا للعلم بارتكاب الحرام ، وقد تقدّم أنّ تحصيل العلم بارتكاب الحرام ليس بحرام.

(ومن ذلك) ، أي : من أنّ حرمة تحصيل العلم بالحرام لا دليل عليها(يظهر فساد جعل الحرام كلّا منهما بشرط الاجتماع مع الآخر) ، لأنّ اعتبار الاجتماع لا دخل له في حرمة ما

١٨٦

الثاني : ما دلّ بنفسه أو بضميمة ما دلّ على المنع عن ارتكاب الحرام الواقعي على جواز تناول الشبهة المحصورة ، فيجمع بينه على تقدير ظهوره في جواز تناول الجميع ، وبين ما دلّ على تحريم العنوان الواقعي ، بأنّ الشارع جعل بعض المحتملات بدلا عن الحرام الواقعي ، فيكفي تركه في الامتثال الظاهري ، كما لو اكتفى بفعل الصلاة إلى بعض الجهات المشتبهة ورخّص في ترك الصلاة إلى بعضها.

وهذه الأخبار كثيرة :

منها : موثّقة سماعة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب مالا من عمّال بني اميّة ،

____________________________________

يكون حراما في الواقع ، بل له دخل في حصول العلم بالحرام ، وقد تقدّم أنّ تحصيل العلم بالحرام ليس بحرام.

(الثاني : ما دلّ بنفسه أو بضميمة ما دلّ على المنع عن ارتكاب الحرام الواقعي على جواز تناول الشبهة المحصورة ... إلى آخره).

هذا هو الوجه الثاني الذي استدلّ به من جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام على جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام والمنع عنه.

وحاصل هذا الوجه أنّ ما يدلّ على جواز ارتكاب الشبهة المحصورة من الأخبار الكثيرة لا يخلو عن أحد احتمالين :

أحدهما : أن يكون ظاهرا في ارتكاب البعض وهو عين المدّعى ، ويحمل على جعل البدل ، فلا ينافي أدلّة المحرّمات حتى نحتاج إلى تكلّف الجمع بينهما ، وهذا هو المراد من قول المصنّف قدس‌سره حيث قال : (ما دلّ بنفسه ... إلى آخره).

وثانيهما : أن يكون ظاهرا في ارتكاب الجميع ، فيقع التعارض بينه وبين أدلّة المحرّمات ، فيحمل ما دلّ على جواز الارتكاب على جواز ارتكاب البعض جمعا بينهما ، وهو المراد بقوله : (أو بضميمة ما دلّ على المنع ... إلى آخره).

والحاصل إنّ الشارع جعل بعض المحتملات بدلا عن الحرام الواقعي ، فيكفي في ترك الحرام الواقعي ترك بعض المحتملات.

(وهذه الأخبار كثيرة :

منها : موثّقة سماعة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب مالا من عمّال بني اميّة ،

١٨٧

وهو يتصدّق منه ويصل قرابته ويحجّ ليغفر له ما اكتسب ، ويقول : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)(١) ، فقال عليه‌السلام : (إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة ، وإنّ الحسنة تحطّ الخطيئة).

ثمّ قال : (إن كان خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال فلا بأس) (٢).

فإنّ ظاهره نفي البأس عن التصدّق والصلة والحجّ من المال المختلط وحصول الأجر في ذلك ، وليس فيه دلالة على جواز التصرّف في الجميع ، ولو فرض ظهوره فيه ، صرف عنه بما دلّ على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ، وهو مقتضي بنفسه لحرمة التصرّف في الكلّ ، فلا يجوز ورود الدليل على خلافها ، ومن جهة حكم العقل بلزوم الاحتياط لحرمة التصرّف في بعض المحتمل أيضا ، لكن عرفت أنّه يجوز الإذن في ترك بعض المقدّمات

____________________________________

وهو يتصدّق منه ، ويصل قرابته ، ويحجّ ليغفر لما اكتسب ، ويقول : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) فقال عليه‌السلام : (إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة وإنّ الحسنة تحط الخطيئة) ثمّ قال : (إن كان خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال فلا بأس).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية على جواز ارتكاب البعض يتّضح بعد ذكر مقدّمة مشتملة على امور :

منها : إنّ المستفاد من هذه الرواية هو حرمة التصرّف في الأموال المأخوذة من عمّال بني اميّة مجّانا أو بعوض ، ولعلّ ذلك من جهة كونهم لا يملكون ما في أيديهم ، لأنّ خلفاء بني اميّة أخذوا ما في أيديهم من الأموال بغير حقّ ، ثمّ القرينة على حرمة التصرّف فيها هو قول من يتصرّف فيها (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) وقول الإمام عليه‌السلام (إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة).

ومنها : إنّ الإمام عليه‌السلام حكم بجواز التصرّف في هذه الأموال بعد خلطها بما يكون حلالا ، بحيث لا يعرف الحرام من الحلال.

ومنها : إنّ ظاهر نفي البأس عن التصرّف حتى عن التصدّق والصلة والحجّ هو جواز التصرّف في البعض.

__________________

(١) هود : ١١٤.

(٢) الكافي ٥ : ١٢٦ / ٩. الوسائل ١٧ : ٨٨ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٢ ، وفيهما : (... من عمل بني اميّة).

١٨٨

العلميّة بجعل بعضها الآخر بدلا ظاهريّا عن ذي المقدّمة.

والجواب عن هذا الخبر : إنّ ظاهره جواز التصرّف في الجميع ، لأنّه يتصدّق ويصل ، ويحجّ بالبعض ، ويمسك الباقي ، فقد تصرّف في الجميع بصرف البعض وإمساك البعض الآخر ، فلا بدّ إمّا من الأخذ به وتجويز المخالفة القطعيّة وإمّا من صرفه عن ظاهره ، وحينئذ فحمله على إرادة نفي البأس عن التصرّف في البعض وإن حرم عليه إمساك مقدار الحرام

____________________________________

إذا عرفت هذه الامور فنقول : إنّ دلالة هذه الرواية على الجواز لا تخلو عن أحد احتمالين :

أحدهما : إنّها لا تدلّ على جواز التصرّف في الجميع ، بل تدلّ على جواز التصرّف في البعض ، وذلك بقرينة السؤال ، حيث يكون عن التصرّف في البعض كالتصرّف في التصدّق والصلة والحجّ ، فحينئذ يكون مدلول الرواية نفس المدّعى وهو جواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة المحصورة.

وثانيهما : إنّها ظاهرة في جواز التصرّف في الجميع ، وحينئذ لا بدّ من رفع اليد عن ظهورها وحملها على جواز التصرّف في البعض ، وجعل بعضه الآخر بدلا عن الحرام الواقعي ، جمعا بين هذه الرواية وما دلّ على حرمة التصرّف في مال الغير إلّا بإذنه ، وعلى كلا الاحتمالين يصحّ الاستناد إلى الرواية في إثبات عدم وجوب الموافقة القطعيّة ، وحرمة المخالفة القطعيّة.

(والجواب عن هذا الخبر : إنّ ظاهره جواز التصرّف في الجميع ، لأنّه يتصدّق ويصل ، ويحجّ بالبعض ، ويمسك الباقي ، فقد تصرّف في الجميع بصرف البعض وإمساك البعض الآخر ... إلى آخره).

وحاصل الجواب ، إنّ الاحتمال الأوّل وهو ظهور الخبر ودلالته على جواز التصرّف في البعض مقطوع العدم ، بل المتيقّن هو الاحتمال الثاني ، أي : ظهوره في جواز التصرّف في الجميع ، حيث يكون الإمساك تصرّفا ، كما هو في المتن ، فحينئذ لا بدّ من الالتزام بأحد أمرين :

أحدهما : هو الأخذ بظاهره والقول بجواز المخالفة القطعيّة.

وثانيهما : صرف الخبر عن ظاهره ، ولا يمكن الأخذ بالاحتمال الأوّل بعد فرض التسالم

١٨٩

ليس بأولى من حمل الحرام على حرام خاصّ يعذر فيه الجاهل كالربا ، بناء على ما ورد في عدّة أخبار من حلّية الربا الذي اخذ جهلا ، ثمّ لم يعرف بعينه في المال المخلوط.

وبالجملة ، فالأخبار الواردة في حلّية ما لم يعلم حرمته على أصناف :

منها : ما كان من قبيل قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام) (١).

____________________________________

على حرمة المخالفة القطعيّة ، فلا بدّ من الالتزام بالاحتمال الثاني وصرف الخبر عن ظاهره.

ثمّ إنّ الاحتمال الثاني لا ينحصر في حمل الخبر على جواز التصرّف في البعض ، كما يقول به المستدلّ ، بل يمكن بحمل الحرام في مورده على الحرام الخاصّ الذي يكون الجاهل معذورا فيه.

(كالربا ، بناء على ما ورد في عدّة أخبار من حلّية الربا الذي اخذ جهلا) حيث اعتبر في حرمته العلم التفصيلي به ، ولعلّ الوجه في جواز التصرّف في الجميع في المقام يكون من قبيل الربا ، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بهذه الرواية على جواز ارتكاب البعض في الشبهة المحصورة ، وذلك بمقتضى القاعدة المعروفة : «إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال» مع أنّ احتمال حمل الخبر على جواز التصرّف في البعض مساو لاحتمال حمل الحرام في مورده على حرام خاص ، فليس الأوّل أولى من الثاني ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(فحمله على إرادة نفي البأس عن التصرّف في البعض وإن حرم عليه إمساك مقدار الحرام ، ليس بأولى من حمل الحرام على حرام خاصّ يعذر فيه الجاهل).

وكيف كان ، فإنّ الروايات الواردة في حلية ما لم يعلم تحريمه على أصناف :

(منها : ما كان من قبيل قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام)).

وهذا الصنف من الأخبار وإن كان غير وارد في مورد الشبهة المحصورة ، إلّا أنّه لا يجوز الاستدلال به على جواز ارتكاب البعض ، وذلك لأنّ المراد بالغاية في هذا الصنف لا يخلو من أحد احتمالين :

أحدهما : هو العلم التفصيلي.

وثانيهما : هو العلم الإجمالي.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠. التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٩. الوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

١٩٠

وهذا الصنف لا يجوز الاستدلال به لمن لا يرى جواز ارتكاب المشتبهين ، لأنّ حمل تلك الأخبار على الواحد لا بعينه في الشبهة المحصورة والآحاد المعيّنة في المجرّدة من العلم الإجمالي والشبهة الغير المحصورة متعسّر بل متعذّر ، فيجب حملها على صورة عدم التكليف الفعلي بالحرام الواقعي.

ومنها : ما دلّ [على جواز] ارتكاب كلا المشتبهين في خصوص الشبهة المحصورة ، مثل الخبر المتقدّم.

____________________________________

فعلى الأوّل يشمل أطراف العلم الإجمالي ، فيدلّ على جواز ارتكاب الكلّ دون البعض ، وعلى الثاني لا يشمل أطراف العلم الإجمالي ، وذلك لأحد وجهين :

أحدهما : إنّ مقتضى قاعدة الاشتغال هو الاجتناب عن جميع الأطراف ، وهي حاكمة على أخبار الحلّ ، كما عرفت سابقا.

وثانيهما : إنّه لو قلنا بدلالة هذا الصنف على الحلّ في مورد العلم الإجمالي ، لكان مدلوله الحلّ تخييرا وحلّية أحدهما لا بعينه بمقتضى عدم جواز ارتكاب الكلّ ، مع أنّ مدلوله في الشبهة البدويّة هو الحلّية المعيّنة ، فيلزم أن يكون المراد منه الحلّية المعيّنة ، والحلّية غير المعيّنة معا ، والأوّل في الشبهة المجرّدة أو الشبهة غير المحصورة ، والثاني في الشبهة المحصورة ، وذلك متعسّر ، أو متعذّر ، لأنّ الظاهر من هذا الصنف هو الحلّية المعيّنة ، فحمله على كلا المعنيين حمل على خلاف الظاهر وهو متعسّر لو قلنا بأنّه يدلّ على حلّية المشتبه في الجملة ، وجاء التعيين والتخيير من جهة خصوص المورد ، ومتعذّر لو قلنا باستعماله فيهما معا ، لأنّه استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، فتأمّل تعرف.

(فيجب حملها على صورة عدم التكليف الفعلي بالحرام الواقعي) كما في موارد الشبهات البدويّة مثلا.

(ومنها : ما دلّ [على جواز] ارتكاب كلا المشتبهين في خصوص الشبهة المحصورة ، مثل الخبر المتقدّم).

ومن الأصناف ما دلّ على جواز ارتكاب الكلّ ، كالخبر المتقدّم وهو موثّقة سماعة ، حيث يكون موردها خصوص الشبهة المحصورة ، وهو اختلاط مال الآخذ بمال مأخوذ من عمّال بني اميّة.

١٩١

وهذا أيضا لا يلتزم المستدلّ بمضمونه ولا يجوّز حمله على غير الشبهة المحصورة ، لأنّ موردها فيها ، فيجب حملها على أقرب المحتملين ؛ من ارتكاب البعض مع إبقاء ما عدا المقدار ، ومن وروده في مورد خاصّ ، كالربا ونحوه ، ممّا يمكن التزام خروجه عن قاعدة الشبهة المحصورة.

ومن ذلك يعلم حال ما ورد في الربا من حلّ جميع المال المختلط به.

____________________________________

وهذا المصنف ممّا لا يلتزم المستدلّ بمضمونه ، لأنّ مضمونه هو جواز ارتكاب الكلّ ، والمستدلّ ممّن يقول بجواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام لا الكلّ.

(ولا يجوّز حمله على غير الشبهة المحصورة) ، فإنّ هذا الحمل مستلزم لخروج المورد حيث يكون مورد هذا الخبر شبهة محصورة على ما تقدّم.

(فيجب حملها على أقرب المحتملين ؛ من ارتكاب البعض مع إبقاء) مقدار الحرام ، فيكون دليلا للمستدلّ.

(ومن وروده في مورد خاص ، كالربا).

حيث يعتبر العلم التفصيلي في الحكم بالحرمة ، فيكون مورد هذا الخبر خارجا عن قاعدة الاشتغال في الشبهة المحصورة ، حيث يجوز ارتكاب الجميع بعد انتفاء العلم التفصيلي ، ولذلك لا يكون دليلا على ما يقول به المستدلّ.

نعم ، هناك احتمال آخر يمكن أن يكون أقرب من الاحتمالين المذكورين ، كما في تعليقة صاحب الكفاية على الرسائل ، حيث قال قدس‌سره : بما حاصله : من أنّ المراد بالمال المختلط بالحرام هو مال عمّال بني اميّة ، واختلاط المال الحلال بالحرام بحيث لا يمكن تمييز أحدهما من الآخر ، وقع عندهم لا عند الآخذ منهم ، ثمّ الآخذ يشكّ ولا يعلم بأنّ ما أصابه هل هو من الحرام أو الحلال؟ ثمّ الحكم بالحلّ يكون مستندا إلى حمل فعل المسلم على الصحّة ، لأنّ المال مأخوذ من يد المسلم ويحمل تصرّفه في المال بدفعه إلى الغير على الصحّة عند الشكّ ، كما حمل المصنّف قدس‌سره ما ذكره من الأصناف على هذا الاحتمال.

(ومن ذلك يعلم حال ما ورد في الربا من حلّ جميع المال المختلط به).

أي : وممّا ذكر من أنّ حرمة المال المختلط ممّا يعتبر فيها العلم التفصيلي كالربا ،

١٩٢

ومنها : ما دلّ على جواز أخذ ما علم فيه الحرام إجمالا ، كأخبار جواز الأخذ من العامل والسارق والسلطان.

وسيجيء حمل جلّها أو كلّها على كون الحكم بالحلّ مستندا إلى كون الشيء مأخوذا من يد المسلم ، ومتفرّعا على تصرّفه المحمول على الصحّة عند الشكّ.

____________________________________

يعلم حال ما ورد في الربا إذا اختلط به المال ، حيث يجوز ارتكاب الجميع ، فلا يجوز الاستدلال به على جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام في المقام ، فتمسّك بعض بما ورد في الربا ـ على جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام في الشبهة المحصورة ـ فاسد جزما ، كما لا يخفى.

(ومنها : ما دلّ على جواز أخذ ما علم فيه الحرام إجمالا ... إلى آخره).

أي : ومن الأصناف ما دلّ على جواز أخذ المال من عامل الظلمة والسارق والسلطان الجائر ، مع العلم الإجمالي بوجود المال الحرام في أموال هؤلاء.

الفرق بين هذا الصنف والصنف السابق ، أنّ الصنف السابق يدلّ على جواز التصرّف في المال المختلط بالحرام ، وهذا الصنف يدلّ على جواز أخذ المال المختلط بالحرام ، وكلاهما يدلّ على جواز التصرّف في بعض أطراف الشبهة المحصورة ، فيكون دليلا لمن يقول بجواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام في الشبهة المحصورة.

(وسيجيء حمل جلّها أو كلّها ... إلى آخره).

أي : حمل جلّ الأصناف أو كلّها على أنّ الحكم بالحلّ في مواردها مستند إلى أمارة الحلّ ، وهي حمل فعل المسلم على الصحّة كما في المتن.

ثمّ إنّ بعض الشارحين قال : إنّ ما أفاده المصنّف قدس‌سره حيث قال : (وسيجيء حمل جلّها أو كلّها ... إلى آخره) وعد منه قدس‌سره إلّا أنّه لم يف بهذا الوعد.

وبالجملة ، إنّ هذه الأصناف تحمل على أحد امور وهي :

١ ـ اليد.

٢ ـ وحمل فعل المسلم على الصحّة.

٣ ـ وخروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محلّ الابتلاء ، وإلّا فالخروج عن قاعدة الاشتغال بهذه الأصناف التي لا تفيد القطع ، بل ولا الظنّ على جعل الشارع بعض الأطراف

١٩٣

فالخروج بهذه الأصناف من الأخبار عن القاعدة العقليّة الناشئة عمّا دلّ من الأدلّة القطعيّة على وجوب الاجتناب عن العناوين المحرّمة الواقعيّة ـ وهي : وجوب دفع الضرر المقطوع به بين المشتبهين ، ووجوب إطاعة التكاليف المعلومة المتوقّفة على الاجتناب عن كلا المشتبهين ـ مشكل جدّا ، خصوصا مع اعتضاد القاعدة بوجهين آخرين ، هما كالدليل على المطلب.

أحدهما : الأخبار الدالّة على هذا المعنى :

منها : قوله عليه‌السلام : (ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال) (١).

والمرسل المتقدّم : (اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس) (٢) ، وضعفها ينجبر بالشهرة المحقّقة والإجماع المدّعى في كلام من تقدّم.

ومنها : رواية ضريس عن السمن والجبن في أرض المشركين ، قال : (أمّا ما علمت أنّه قد

____________________________________

بدلا عن الحرام الواقعي مشكل جدّا ، كما أشار إليه بقوله :

(فالخروج بهذه الأصناف من الأخبار عن القاعدة العقليّة ... إلى آخره).

والمراد بها هو قاعدة الاشتغال (خصوصا مع اعتضاد القاعدة بوجهين آخرين ، هما كالدليل على المطلب).

ثمّ إنّ الوجه الأوّل هو الأخبار الدالّة على وجوب الاجتناب عن الجميع :

(منها : قوله عليه‌السلام : (ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال)).

فيجب الاجتناب عن الجميع إذا اريد من الاجتماع الاختلاط ، وعن محتمل الحرمة والحلّية تغليبا لجانب الحرمة إذا اريد من الاجتماع اجتماع احتمال الحلال والحرام.

(والمرسل المتقدّم : (اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس)).

فالمستفاد من هذا الخبر هو الاجتناب عمّا لم يعلم ، فضلا عمّا يعلم ولو إجمالا.

(ومنها : رواية ضريس عن السمن) مع احتمال اختلاطه مع ما يتخذ من أليات الميتة من السمن (والجبن) مع احتمال اختلاطه ونجاسته بالنفحة المتّخذة من الميتة ، وسئل الإمام عليه‌السلام عن حكمهما ، فقال في الجواب : (أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل ،

__________________

(١) غوالي اللآلئ ٣ : ٤٦٦ / ١٧. السنن الكبرى ٧ : ٢٧٥ / ١٣٩٦٩.

(٢) مصباح الشريعة : ٣٩.

١٩٤

خلطه الحرام فلا تأكل ، وأمّا ما لم تعلم فكل) (١) ، فإنّ الخلط يصدق مع الاشتباه.

ورواية ابن سنان : (كلّ شيء حلال حتى يجيئك شاهدان أنّ فيه الميتة) (٢) ، فإنّه يصدق على مجموع قطعات اللحم أنّ فيه الميتة.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث التثليث : (وقع في المحرّمات ، وهلك من حيث لا يعلم) (٣) ، بناء على أنّ المراد بالهلاكة ما هو أثر للحرام.

فإن كان الحرام لم يتنجّز التكليف به ، فالهلاك المترتّب عليه منقصته الذاتيّة ، وإن كان ممّا يتنجّز التكليف به ، كما في ما نحن فيه ، كان المترتّب عليه هو العقاب الاخروي ، وحيث إنّ دفع العقاب المحتمل واجب بحكم العقل وجب الاجتناب عن كلّ مشتبه بالشبهة المحصورة ، ولمّا كان دفع الضرر ـ غير العقاب ـ غير لازم إجماعا ، كان الاجتناب عن الشبهة المجرّدة غير واجب ، بل مستحبّا.

____________________________________

وأمّا ما لم تعلم فكل) الحديث.

والمستفاد من هذه الرواية ، هو وجوب الاجتناب عمّا يعلم من الحرام ، وذلك لأنّ موردها وإن كان هو خلط الحلال بالحرام ، إلّا أنّ الخلط يصدق مع الاشتباه لو لم نقل بكونه ظاهرا في الامتزاج ليكون خارجا عن المقام.

فتدلّ هذه الرواية إذن على وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة.

(ورواية ابن سنان : (كلّ شيء حلال حتى يجيئك شاهدان أنّ فيه الميتة)).

والمستفاد منها مفهوما هو وجوب الاجتناب عن اللحم إذا علم فيه الميتة ، سواء كان العلم حاصلا من البيّنة أو من غيرها ، وكان العلم بها تفصيليّا أو إجماليّا.

(ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث التثليث :) من أخذ بالشبهات (وقع في المحرّمات ، وهلك من حيث لا يعلم) ، بناء على أنّ المراد بالهلاكة ما هو أثر للحرام).

وهو العقاب في مورد العلم الإجمالي والمنقصة الذاتيّة ، كالسكر مثلا في الشبهة

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٧٩ / ٣٣٦. السرائر ٣ : ٥٩٠ ، الوسائل ٢٤ : ٢٣٦ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ٦٤ ، ح ١.

(٢) الكافي ٦ : ٣٣٩ / ٢. البحار ٦٢ : ١٥٦ / ٣٠. الوسائل ٢٥ : ١١٨ ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب ٦١ ، ح ٢ ، وفي جميعها ورد الحديث عن عبد الله بن سليمان ، وليس عن ابن سنان.

(٣) الكافي ١ : ٦٨ / ١٠. الفقيه ٣ : ٦ / ١٨. الوسائل ٢٧ : ١٥٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٩.

١٩٥

وفائدة الاستدلال بمثل هذا الخبر معارضته لما يفرض من الدليل على جواز ارتكاب أحد المشتبهين مخيّرا وجعل الآخر بدلا عن الحرام الواقعي ، فإنّ مثل هذا الدليل ـ لو فرض وجوده ـ حاكم على الأدلّة الدالّة على الاجتناب عن عنوان المحرّم الواقعي ، لكنّه معارض بمثل خبر التثليث وبالنبويّين ، بل مخصّص بهما.

[لو فرض عمومه للشبهة الابتدائيّة ، فيسلّم] تلك الأدلّة ، [فتأمّل].

____________________________________

البدويّة ، وحيث إنّ العقل يحكم بوجوب دفع العقاب المحتمل وجب الاجتناب عن جميع أطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة.

(وفائدة الاستدلال بمثل هذا الخبر).

أي : خبر التثليث وأمثاله هو إيقاع التعارض بينه وبين ما دلّ على جواز ارتكاب أحد المشتبهين تخييرا ، وجعل الآخر بدلا عن الحرام الواقعي ، حتى يبقى ما دلّ على وجوب الاجتناب عن عنوان الحرام الواقعي ـ كاجتنب عن الخمر مثلا ـ سالما عن كونه محكوما بما دلّ على جواز ارتكاب أحد المشتبهين تخييرا ، فحينئذ قوله : اجتنب عن الخمر مثلا ، يدلّ على حرمة الخمر الواقعي ، ومقتضاه وجوب الاجتناب عند العلم الإجمالي بخمريّة أحد المائعين.

وبالجملة ، إنّ ما دلّ على وجوب الاحتياط كحديث التثليث ـ يكون معارضا لما دلّ على عدم وجوبه ، كالأصناف الثلاثة المتقدّمة ، ثمّ يتساقطان بالتعارض ، فتبقى أدلّة المحرّمات المقتضية للاحتياط سليمة عن المانع.

(بل مخصّص بهما لو فرض عمومه للشبهة الابتدائيّة).

أي : ما دلّ على جواز أحد المشتبهين تخييرا معارض مع حديث التثليث ، ومثله إن كان ما دلّ على جواز الارتكاب مختصّا بمورد العلم الإجمالي ومخصّص بهما ، أي : بحديث التثليث والنبويّين إن لم يكن مختصّا بموارد العلم الإجمالي ، بل فرض عمومه للشبهة البدويّة ومقتضى التخصيص هو اختصاص جواز الارتكاب بالشبهات البدويّة ، فيبقى ما يقتضي وجوب الاحتياط في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي سليما عن المانع.

هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل المعاضد لقاعدة الاشتغال ، وبقي الكلام في الوجه الثاني ، وقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

١٩٦

الثاني : ما يستفاد من أخبار كثيرة من كون الاجتناب عن كلّ واحد من المشتبهين أمرا مسلّما مفروغا عنه بين الأئمّة عليهم‌السلام والشيعة ، بل العامّة أيضا ، بل استدلّ صاحب الحدائق على أصل القاعدة باستقراء مواردها في الشريعة.

لكنّ الإنصاف عدم بلوغ ذلك حدّا يمكن الاعتماد عليه مستقلّا ، وإن كان ما يستشمّ منها قولا وتقريرا من الروايات كثيرة :

منها : ما ورد في الماءين المشتبهين ، خصوصا مع فتوى الأصحاب بلا خلاف بينهم على وجوب الاجتناب عن استعمالهما مطلقا.

____________________________________

(الثاني : ما يستفاد من أخبار كثيرة من كون الاجتناب عن كلّ واحد من المشتبهين أمرا مسلّما مفروغا عنه بين الأئمّة عليهم‌السلام ... إلى آخره).

وهذا الوجه يرجع إلى الاستقراء ، إلّا أنّ الإنصاف عدم بلوغ الموارد المستقرأة حدّا يمكن الاعتماد عليه مستقلّا ، إذ موارد الاستقراء التي يجب فيها الاجتناب عن جميع أطراف العلم الإجمالي لا تفيد القطع ، ومن المعلوم أنّ حجيّة الاستقراء منوطة بحصول القطع ، هذا مع أنّه معارض بالمثل ، كما في تعليقة غلام رضا ، حيث قال :

«إنّ الحكم بعدم وجوب الاحتياط في مورد العلم الإجمالي ثابت في الشريعة ـ أيضا ـ في موارد :

منها : الربا ، كما مضى.

ومنها : ما ورد من وجوب قضاء ثلاث صلوات على من تردّدت فائتته بين الرباعيّة والثلاثيّة والثنائيّة ، فإنّه لا يحصل به الاحتياط بالنسبة إلى الجهر والإخفات ، وكذلك قصد العنوان ، وقصد ما في الذمّة غير كاف في تحصيل الاحتياط.

ومنها : ما ورد من وجوب الخمس في مال الحلال المخلوط بمال الحرام ، إذا كان الحرام مجهول القدر والمالك ، فإنّ خلاف الاحتياط فيه في موردين : أحدهما : إعطاء السادات ، والثاني : تصرّفه في الباقي» انتهى.

وكيف كان ، قد يستشمّ وجوب الاحتياط من أخبار كثيرة :

(منها : ما ورد في الماءين المشتبهين ... إلى آخره) حيث أمر الشارع بإراقتهما وعدم جواز الوضوء بهما ، هذا(مع فتوى الأصحاب بلا خلاف بينهم على وجوب الاجتناب عن

١٩٧

ومنها : ما ورد في الصلاة في الثوبين المشتبهين.

ومنها : ما ورد في وجوب غسل الثوب من الناحية التي يعلم بإصابة بعضها للنجاسة معلّلا بقوله : (حتى يكون على يقين من طهارته) (١) ، فإنّ وجوب تحصيل اليقين بالطهارة ، على ما يستفاد عن التعليل ، يدلّ على عدم جريان أصالة الطهارة بعد العلم الإجمالي بالنجاسة.

وهو الذي بنينا عليه وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ، وعدم جواز الرجوع فيها إلى أصالة الحلّ.

فإنّه لو جرى أصالة الطهارة وأصالة الحلّ في بعض المشتبهين لم يكن للأحكام المذكورة وجه ، ولا للتعليل في حكم الأخير بوجوب تحصيل اليقين بالطهارة بعد اليقين بالنجاسة.

ومنها : ما دلّ على بيع الذبائح المختلط ميتتها بمذكّاها [ممّن يستحلّ الميتة] من أهل الكتاب ، بناء على حملها على ما لا يخالف عمومات حرمة بيع المشتبه ، بأن يقصد بيع المذكّى

____________________________________

استعمالهما مطلقا) ، أي : منضمّا أو منفردا.

(ومنها : ما ورد في الصلاة في الثوبين المشتبهين) احتياطا.

(ومنها : ما ورد في وجوب غسل الثوب ... إلى آخره).

حيث أمر الإمام عليه‌السلام بوجوب غسل الثوب من الناحية التي يعلم بإصابة بعضها للنجاسة ، ثمّ علّل وجوب غسل الناحية بقوله عليه‌السلام :

(حتى يكون على يقين من طهارته).

حيث يكون التعليل المذكور ظاهرا في وجوب تحصيل اليقين بمقتضى قاعدة الاشتغال ، فإنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة ، وبذلك يكون المستفاد منه عدم جريان أصالة الطهارة.

(ومنها : ما دلّ على بيع الذبائح المختلط ميتتها بمذكّاها [ممّن يستحلّ الميتة] من أهل الكتاب).

فلو لم يجب الاحتياط في الشبهة المحصورة لجاز بيع الميتة المشتبهة بالمذكّى ، حتى

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢٢ / ١٣٣٥. الاستبصار ١ : ١٨٣ / ٦٤١. الوسائل ٣ : ٤٠٢ ، أبواب النجاسات ، ب ٧ ، ح ٢. بتفاوت في جميعها.

١٩٨

خاصّة أو مع ما لا تحلّه الحياة من الميتة.

وقد يستأنس له ممّا ورد من وجوب القرعة في قطيع الغنم المعلوم وجود الموطوء في بعضها ، وهي الرواية المحكيّة في جواب الإمام الجواد عليه‌السلام ، لسؤال يحيى بن أكثم عن قطيع غنم نزا الراعي على واحدة منها ثمّ أرسلها في الغنم ، حيث قال عليه‌السلام :

(يقسم الغنم نصفين ثمّ يقرع بينهما ، فكلّ ما وقع السهم عليه قسم غيره قسمين ، وهكذا حتى يبقى واحد ونجا الباقي) (١).

وهو حجّة القول بوجوب القرعة ، لكنّها لا تنهض لإثبات حكم مخالف للاصول.

نعم ، هي دالّة على عدم جواز ارتكاب شيء منها قبل القرعة ، فإنّ التكليف بالاجتناب عن الموطوءة الواقعيّة واجب بالاجتناب عن الكلّ حتى يتميّز الحلال ولو بطريق شرعي.

____________________________________

لمن لا يستحلّ الميتة ، فحكم المشهور بجواز البيع ممّن يستحلّ الميتة ـ كأهل الكتاب ـ ليس إلّا من جهة وجوب الاحتياط وعدم جواز ارتكاب المشتبهين مطلقا.

ويقصد من بيع المجموع بيع المذكّى خاصة ، أو مع ما لا تحلّه الحياة من الميتة ، كالشعر والوبر ، حتى لا يكون الحكم بجواز المجموع مخالفا لما دلّ على حرمة بيع الميتة من العمومات ، وقد أشار إليه قدس‌سره بقوله : (بناء على حملها على ما لا يخالف عمومات حرمة بيع المشتبه).

(وقد يستأنس له ممّا ورد من وجوب القرعة في قطيع الغنم المعلوم وجود الموطوء في بعضها ... إلى آخره).

والمستفاد من هذه الرواية هو وجوب الاجتناب عن جميع قطيع الغنم قبل تعيين الموطوءة بالقرعة وإزالة الشبهة بها ، لأنّها جعلت طريق تعيين الحرام من الحلال شرعا ، فتزول الشبهة بعدها ، ويجوز ارتكاب ما عدا الخارج بالقرعة.

ولذا يستأنس منها وجوب الاجتناب عن جميع أطراف العلم الإجمالي ، كما يستأنس منها جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام بعد القرعة.

وكيف كان ، (لكنّها لا تنهض لإثبات حكم مخالف للاصول) ، لأنّ المشهور قد أعرضوا

__________________

(١) تحف العقول : ٤٨٠. الوسائل ٢٤ : ١٧٠ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ٣٠ ، ح ٤ ، نقله عنهما بتفاوت ، وقد وردت الرواية فيهما عن الإمام الهادي عليه‌السلام وليس عن الإمام الجواد عليه‌السلام.

١٩٩

هذا ولكنّ الإنصاف أنّ الرواية أدلّ على مطلب الخصم بناء على حمل القرعة على الاستحباب ، إذ على قول المشهور لا بدّ من طرح الرواية أو العمل بها في خصوص موردها.

____________________________________

عنها ، فلا تنهض الرواية ـ حينئذ ـ لإثبات وجوب القرعة في الشبهة المحصورة ، ثمّ جواز ارتكاب غير ما خرج بالقرعة حتى يثبت بها حكم مخالف للأصل ، أي : قاعدة الاشتغال.

(ولكنّ الإنصاف أنّ الرواية أدلّ على مطلب الخصم بناء على حمل القرعة على الاستحباب) ، إذ يجوز ـ حينئذ ـ ارتكاب ما عدا مقدار الحرام من دون القرعة.

٢٠٠