دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

الخوانساري دوران حرمة المخالفة مدار الإجماع ، وأنّ الحرمة في مثل الظهر والجمعة من جهته ، ويظهر من الفاضل القمي رحمه‌الله الميل إليه. والأقوى ما عرفت.

وأمّا الثاني ، ففيه قولان ، أقواهما الوجوب ، لوجود المقتضي وعدم المانع.

أمّا الأوّل ، فلأنّ وجوب الأمر المردّد ثابت في الواقع ، والأمر به على وجه يعمّ العالم والجاهل صادر من الشارع واصل إلى من علم به تفصيلا ، إذ ليس موضوع الوجوب في

____________________________________

يكن معلوما بالتفصيل نكشف عدم المانع ، لأنّ المانع ؛ إمّا عقلي أو شرعي ، والمانع العقلي مفقود جزما ، وذلك لعدم لزوم التكليف بما لا يطاق من تنجّز الخطاب المعلوم بالإجمال ، وكذا المانع الشرعي ، لأنّ المانع الشرعي لو كان ، لكان ما دلّ على البراءة ، وقد تقدّم كرارا أن أدلّة البراءة لا تشمل موارد العلم الإجمالي.

فالحاصل ممّا ذكر ، هو حرمة المخالفة القطعيّة ، إلّا أنّه يظهر من المحقّق الخوانساري قدس‌سره عدم حرمة المخالفة القطعيّة مع قطع النظر عن الإجماع على حرمتها ، حيث قال :

إنّ حرمة المخالفة القطعيّة في مثل دوران الواجب بين الظهر والجمعة من جهة الإجماع ، ويظهر من المحقّق القمي قدس‌سره الميل إلى ما ذهب إليه المحقّق الخوانساري قدس‌سره.

ولعلّ نظرهما إلى المانع عقلا ، وهو أنّ تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي يستلزم التكليف بما لا يطاق أو بالمجمل ، ومن المعلوم أنّ العقل يمنع عن ذلك ، ولازم ذلك جواز المخالفة ، إلّا أن يقوم دليل خارجي على حرمة المخالفة القطعيّة ، كالإجماع على حرمة ترك الظهر والجمعة معا ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي مع تلخيص.

(والأقوى ما عرفت) من وجود المقتضي وعدم المانع.

(وأمّا الثاني ، ففيه قولان ، أقواهما الوجوب ، لوجود المقتضي وعدم المانع).

أي : وجوب الموافقة القطعيّة ، ففيه قول بوجوبها وقول بعدمه ، والأقوى عند المصنّف قدس‌سره هو وجوب الموافقة القطعيّة ، وذلك لوجود المقتضي وعدم المانع.

(أمّا الأوّل ، فلأنّ وجوب الأمر المردّد ثابت في الواقع).

أي : وجود المقتضي ، وهو الأمر الصادر عن الشارع على وجه يعمّ العالم والجاهل.

(إذ ليس موضوع الوجوب في الأوامر مختصّا بالعالم بها ، وإلّا لزم الدور).

٣٢١

الأوامر مختصّا بالعالم بها ، وإلّا لزم الدور ، كما ذكره العلّامة رحمه‌الله في التحرير ، لأنّ العلم بالوجوب موقوف على الوجوب ، فكيف يتوقّف الوجوب عليه؟.

____________________________________

وتقريب الدور ، هو أنّ العلم من الصفات ذات الإضافة وهو الإدراك ، فلا بدّ له من مدرك ـ بالفتح ـ كما لا بدّ له من مدرك ـ بالكسر ـ ويجب أن يكون المدرك وهو متعلّق العلم متحقّقا قبل العلم ، كي يتعلّق به العلم ، فإذا تعلّق العلم بوجوب شيء لكان الواجب أن يكون الوجوب موجودا قبل تعلّق العلم به ، وحينئذ لو فرض كون تحقّق الوجوب موقوفا من باب كون العلم شرطا لتحقّقه لزم ما ذكر من الدور ، لأنّ العلم موقوف على الوجوب من باب توقّفه على المتعلّق ، والوجوب موقوف على العلم من باب توقّف المشروط على شرطه.

كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(لأنّ العلم بالوجوب موقوف على الوجوب ، فكيف يتوقّف الوجوب عليه؟).

أي : لا يعقل أن يتوقّف الوجوب على العلم للزوم الدور المحال.

ولهذا لا بدّ أن يقال : إنّ العلم شرط لتنجّز التكليف ، لا لأصل التكليف كالعقل والبلوغ ، وإذا ثبت كونه شرطا للتنجّز لا يفرّق بين العلم التفصيلي والإجمالي ، فحينئذ يكون ثبوت الخطاب العامّ مع عدم المانع من تنجّز مقتضاه علّة تامّة لحكم العقل بوجوب الاحتياط ، بل يمكن أن يقال : بكون العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة.

ويؤيّده ما تقدّم من أنّ العقلاء لا يفرّقون بين العلم التفصيلي والإجمالي في تنجّز التكليف بهما ، ومن الثابت في محلّه أنّ طريقة الشارع في إطاعة الأوامر الشرعيّة هي نفس طريقة العقلاء في إطاعة أوامرهم العرفيّة ، فكما يجب إطاعة الأمر المعلوم إجمالا عند العقلاء يجب عند الشارع أيضا.

نعم ، بينهما فرق شرعا من جهة اخرى وهي : أنّه يصحّ مع العلم الإجمالي أن يجعل الشارع بعض أطراف العلم الإجمالي بدلا عن الواقع ، بأن يكتفي في امتثال الواقع في مورد العلم الإجمالي ، بالإطاعة الاحتماليّة التي هي المرتبة الوسطى بين الإطاعة القطعيّة والمخالفة القطعيّة.

٣٢٢

وأمّا المانع ، فلأنّ المتصوّر منه ليس إلّا الجهل التفصيلي بالواجب ، وهو غير مانع عقلا ولا نقلا.

أمّا العقل ، فلأنّ حكمه بالعذر إن كان من جهة عجز الجاهل عن الإتيان بالواقع ، حتى يرجع الجهل الى فقد شرط من شروط وجود المأمور به ، فلا استقلال للعقل

____________________________________

وهذا بخلاف العلم التفصيلي بالتكليف ، حيث لا مجال لقضيّة البدليّة فيه أصلا ، بل جعل البدل في مورد العلم التفصيلي مستلزم للتناقض ، وذلك لأنّ مقتضى العلم التفصيلي هو كون الواقع مطلوبا تعيينا ، ومقتضى جعل شيء آخر بدلا عنه كونه مطلوبا مخيّرا ، ومن المعلوم أنّ الجمع بين التخيير والتعيين جمع بين المتناقضين ، كما لا يخفى.

(وأمّا المانع ، فلأنّ المتصوّر منه ليس إلّا الجهل التفصيلي بالواجب ، وهو غير مانع عقلا ونقلا).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره في مقام بيان انتفاء المانع ، هو أنّ ما يمكن أن يكون مانعا عن تنجّز التكليف في مورد العلم الإجمالي به هو الجهل فقط ، ومانعيّته ؛ إمّا عقليّة أو شرعيّة ، ويمكن فرض المانعيّة العقليّة بوجوه :

منها : أن يكون المكلّف ـ مع الجهل وعدم العلم تفصيلا بالواجب ـ عاجزا عن الإتيان بالواقع ، فيرجع الجهل إلى فقد شرط من شروط وجود المأمور به ، من جهة أنّ الجهل مانع عن وجوده ، كما أشار إليه بقوله : (حتى يرجع الجهل إلى فقد شرط من شروط وجود المأمور به).

ومنها : أن يكون المكلّف مع الجهل غير قابل لتوجّه الخطاب إليه.

ومنها : أن يكون عقاب الجاهل تفصيلا على مخالفة الواقع قبيحا عقلا ، وشيء من هذه الوجوه المذكورة ليست موجودة في المقام.

أمّا عدم وجود الأوّل ، فواضح بحيث لا يحتاج إلى البيان أصلا ، وذلك لتمكّن المكلّف مع الجهل تفصيلا من إتيان الواقع بالاحتياط حتى في التعبّديّات فضلا عن التوصّليّات ، حيث يأتي بكلّ واحد من المشتبهين باحتمال الأمر ، وهذا المقدار يكفي في المقام ، وقصد الأمر تفصيلا لا يعتبر إلّا في مورد العلم التفصيلي.

وبالجملة ، إنّ الجهل لم يكن مانعا عن امتثال التكليف ، لأنّه لو كان مانعا لما كان الاحتياط مشروعا في مورد من موارد الجهل ، والتالي باطل بالوجدان ، إذ مشروعيّة

٣٢٣

بذلك ، كما يشهد به جواز التكليف بالمجمل في الجملة ، كما اعترف به غير واحد ممّن قال بالبراءة في ما نحن فيه ، كما سيأتي.

وإن كان من جهة كونه غير قابل لتوجّه التكليف إليه فهو أشدّ منعا ، وإلّا لجاز إهمال المعلوم إجمالا رأسا بالمخالفة القطعيّة ، فلا وجه لالتزام حرمة المخالفة القطعيّة ،

____________________________________

الاحتياط وحسنه ممّا قضت به ضرورة العقل والشرع ، فالمقدّم ـ أيضا ـ باطل.

وبذلك تكون النتيجة عدم كون الجهل مانعا عن امتثال التكليف ، وقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(فلا استقلال للعقل بذلك).

أي : بكون الجهل مانعا عن الامتثال ، لأنّ المكلّف قادر على الامتثال بالاحتياط على ما تقدّم.

(كما يشهد به جواز التكليف بالمجمل في الجملة).

أي : يشهد بعدم كون الجهل عذرا عقلا للجاهل لتمكّنه من امتثال التكليف المعلوم إجمالا ، فلا يكون تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي مستلزما للتكليف بما لا يطاق ، ويشهد بذلك جواز التكليف بالمجمل في الجملة ، بأن يكون ما يستفاد من المجمل مردّدا بين امور يتمكّن المكلّف من إتيانها احتياطا ، فيأتي بها تحصيلا للعلم بالبراءة ، كالصلاة إلى أربعة جهات عند اشتباه القبلة مثلا ، ولم يكن الخطاب مجملا بحيث لا يتمكّن المكلّف من الامتثال أصلا ، كما لو قيل : جئني بشيء مثلا ، هذا أوضح ما يمكن أن يقال في تفسير قوله : (في الجملة). وهناك تفاسير واحتمالات أخر أضربنا عنها تجنبا عن التطويل.

وأمّا عدم وجود الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة في المانع العقلي فقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(وإن كان من جهة كونه غير قابل لتوجّه التكليف إليه فهو أشد منعا).

وذلك لأنّ الجاهل في المقام ليس أسوأ حالا من الجاهل البسيط ، وقد صحّ توجّه الخطاب إليه ، ومخاطبته بالضرورة والوجدان ، هذا أوّلا.

وثانيا : لأنّه لو لم يكن الجاهل في المقام قابلا لتوجّه الخطاب إليه ، لزم أن يكون العلم التفصيلي شرطا للتكليف ، كالبلوغ والعقل ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله ، والنتيجة هو كون

٣٢٤

ويقبح عقاب الجاهل المقصّر على ترك الواجبات الواقعيّة وفعل المحرّمات ، كما هو المشهور.

ودعوى : «أنّ مرادهم تكليف الجاهل في حال الجهل برفع الجهل والإتيان بالواقع ، نظير تكليف الجنب بالصلاة حال الجنابة ، لا التكليف بإتيانه مع وصف الجهل.

____________________________________

الجاهل قابلا لتوجّه الخطاب إليه. وأمّا بطلان التالي ، فلأنّ اشتراط التكليف بالعلم التفصيلي مستلزم للدور والتصويب ، كما لا يخفى ، فتأمّل جيدا.

وأمّا انتفاء الوجه الثالث من الوجوه المتقدّمة المتصوّرة في كون الجهل مانعا عقلا ، فلأجل استقلال العقل باستحقاق الجاهل التارك للمأمور به العقاب على الترك وكفاية العلم الإجمالي في البيان الرافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وعلى أيّة حال ، فإنّ المتحصّل من جميع ما ذكر هو عدم كون الجهل مانعا عقليّا عن تنجّز التكليف ، إذ لو كان مانعا ، كان مانعا في حقّ الجاهل المقصّر أيضا.

(ويقبح عقاب الجاهل المقصّر على ترك الواجبات الواقعيّة وفعل المحرّمات) الواقعيّة.

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي دام ظلّه : إنّه لزم من اشتراط العلم التفصيلي في أصل التكليف ـ مضافا إلى ما ذكر من الدور والتصويب ـ جواز إهمال التكليف المعلوم إجمالا ، فلا وجه ـ حينئذ ـ لالتزام حرمة المخالفة القطعيّة ، ويقبح عقاب الجاهل المقصّر بترك الواجب وفعل الحرام ، مع أنّ المشهور هو حرمة المخالفة القطعيّة وعدم قبح عقاب الجاهل المقصّر.

(ودعوى : «أنّ مرادهم تكليف الجاهل في حال الجهل برفع الجهل والإتيان بالواقع ... إلى آخره).

وحاصل الدعوى ، هو أنّ مراد المشهور من تكليف الجاهل المقصّر الذي يصحّ عقابه بمخالفته ليس بإتيان الواقع حال الجهل ، بل المراد من تكليفه هو إتيان الواقع من دون تقييده بحال الجهل ، فيرجع تكليفه ـ حينئذ ـ برفع الجهل عنه ، ثمّ الإتيان بالواقع نظير تكليف الجنب بالصلاة حال الجنابة ، حيث يرجع هذا التكليف إلى التكليف برفع الجنابة ، ثمّ الإتيان بالصلاة لا الصلاة حال الجنابة ، ونظير تكليف الكفّار بالفروع حيث لا يكون تكليفهم بها بشرط الكفر ، بل يرجع تكليفهم بالفروع إلى التكليف بإزالة الكفر ، ثمّ الإتيان بالفروع ، وهكذا في المقام ليس تكليف الجاهل المقصّر بإتيان الواقع حال الجهل ، بل برفع

٣٢٥

فلا تنافي بين كون الجهل مانعا والتكليف في حاله ، وإنّما الكلام في تكليف الجاهل مع وصف الجهل ، لأنّ المفروض في ما نحن فيه عجزه عن تحصيل العلم».

مدفوعة برجوعها ـ حينئذ ـ إلى ما تقدّم من دعوى كون عدم الجهل من شروط وجود المأمور به نظير الجنابة ، وقد تقدّم بطلانها.

وأمّا النقل ، فليس فيه ما يدلّ على العذر ، لأنّ أدلّة البراءة غير جارية في المقام ، لاستلزام

____________________________________

الجهل ثمّ الإتيان بالواقع.

وبعبارة اخرى : إنّ الجهل مانع عن تنجّز التكليف ، ولا يتنجّز إلّا بالعلم فيكون الجاهل المقصّر مكلّفا برفع هذا المانع ، لكي يتنجّز التكليف عليه ، ويأتي بالواقع.

(فلا تنافي بين كون الجهل مانعا) عن تنجّز التكليف ، وبين التكليف برفع هذا المانع حال وجوده ، لكي يتنجّز التكليف ، ويتمكّن من إتيان الواقع ، وهذا ممكن في الجاهل المقصّر ، وإنّما الكلام في الجاهل القاصر حيث لا يمكن تكليفه برفع الجهل.

ثمّ إنّ الإتيان بالواقع (لأنّ المفروض في ما نحن فيه عجزه عن تحصيل العلم) ، أي : عجز الجاهل القاصر عن تحصيل العلم ، فلا يجوز تكليفه برفع الجهل وتحصيل العلم ، لأنّه تكليف بما لا يطاق ، فحاصل الكلام هو جواز تكليف الجاهل المقصّر حال الجهل على ما تقدّم تفصيله ، ولهذا يعاقب على المخالفة ، وهذا بخلاف الجاهل القاصر حيث لا يجوز تكليفه حال الجهل ، ولهذا يكون عقابه قبيحا عقلا. هذا تمام الكلام في تقريب الدعوى ، وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى دفعها بقوله :

(مدفوعة برجوعها ـ حينئذ ـ إلى ما تقدّم من دعوى كون عدم الجهل من شروط وجود المأمور به).

وحاصل الدفع ، هو أنّ الدعوى المذكورة ترجع إلى أنّ الجهل موجب لعدم القدرة ، فعدمه شرط لوجود المأمور به حيث يتمكّن المكلّف من الإتيان به ، ولازمه أنّ العلم التفصيلي شرط لوجود المأمور به ، وهو باطل ـ كما عرفت ـ لأنّ العلم تفصيليّا كان أو إجماليّا شرط لتنجيز التكليف لا لوجوده ، ولا لوجود المأمور به. هذا تمام الكلام في انتفاء المانع العقلي.

(وأمّا النقل ، فليس فيه ما يدلّ على العذر).

٣٢٦

إجرائها جواز المخالفة القطعيّة ، والكلام بعد فرض حرمتها.

بل في بعض الأخبار ما يدلّ على وجوب الاحتياط ، مثل صحيحة عبد الرحمن المتقدّمة في جزاء الصيد : (إذا أصبتم مثل هذا ولم تدروا فعليكم بالاحتياط ، حتى تسألوا عنه فتعلموا) (١) وغيرها.

____________________________________

أي : على كون الجاهل تفصيلا معذورا في مخالفة التكليف المعلوم إجمالا ، وذلك لأنّ ما يتصوّر أن يكون مانعا شرعا في المقام ليس إلّا أدلّة البراءة ، وهي لا تشمل المقام لكونه موردا للعلم الإجمالي ، كما أشار إليه بقوله :

(لأنّ أدلّة البراءة غير جارية في المقام ، لاستلزام إجرائها جواز المخالفة القطعيّة ، والكلام بعد حرمتها).

وذلك لأنّ العمل بأدلّة البراءة في المقام لا يخلو عن إحدى الاحتمالات التي لا يمكن الالتزام بها أصلا :

الأوّل : أن يعمل بها في كلا المشتبهين ، بأن يترك كلّ واحد منهما المحتمل كونه واجبا ، فيلزم ـ حينئذ ـ ما ذكر من جواز المخالفة القطعيّة بالنسبة إلى التكليف المعلوم إجمالا مع أنّ المفروض حرمة المخالفة القطعيّة ، فيكون هذا الاحتمال باطلا لاستلزامه الخلف.

والثاني : أن يعمل بها في أحدهما المعيّن ، بأن يترك أحدهما المعيّن تمسّكا بالبراءة مع احتمال كونه واجبا ، ولا يمكن الالتزام بهذا الاحتمال لكونه مستلزما للترجيح من غير مرجّح.

والثالث : بأن يعمل بأدلّة البراءة في أحدهما لا بعينه ، ومن المعلوم أنه لا يجوز الأخذ بهذا الاحتمال ، وذلك لرجوعه إلى التخيير مع أنّ مفاد الأدلّة ليس التخيير.

فلا بدّ من حمل أدلّة البراءة على موارد الشكّ البدوي لئلّا تلزم المحاذير المتقدّمة.

(بل في بعض الأخبار ما يدلّ على وجوب الاحتياط ، مثل صحيحة عبد الرحمن المتقدّمة في جزاء الصيد : (إذا أصبتم مثل هذا ولم تدروا فعليكم بالاحتياط ، حتى تسألوا عنه فتعلموا)).

والاستدلال بهذه الرواية على وجوب الاحتياط يمكن أن يتمّ من جهتين :

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٩١ / ١. التهذيب ٥ : ٤٦٧ / ١٦٣١. الوسائل ٢٧ : ١٥٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ١.

٣٢٧

فإن قلت : إنّ تجويز الشارع لترك أحد المحتملين والاكتفاء بالآخر يكشف عن عدم كون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الإطاعة حينئذ ، كما أنّ عدم تجويز الشارع للمخالفة مع العلم التفصيلي دليل على كون العلم التفصيلي علّة تامّة لوجوب الإطاعة ، وحينئذ فلا

____________________________________

الاولى : هي الأولويّة ، وذلك لأنّ موردها هو الأقلّ والأكثر ، فإذا ثبت وجوب الاحتياط في دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر في مورد الرواية ثبت وجوبه في المقام ، أي : دوران الواجب بين المتباينين بطريق أولى ، وذلك لإمكان انحلال العلم الإجمالي في مورد الأقلّ والأكثر دون مورد المتباينين.

والثانية : من جهة المماثلة ، فيقال : إنّ المراد بالمماثلة فيها هي المماثلة في الجملة ، فيكون المقام ـ حينئذ ـ مماثلا لمورد الرواية ، فإذا وجب الاحتياط في موردها وجب في المقام ـ أيضا ـ من جهة المماثلة ، إلّا أنّ الاستدلال بها لا يتمّ لأحد وجهين :

أحدهما : إنّ الرواية مختصّة بصورة تمكّن المكلّف من العلم وإزالة الشبهة بقرينة قول الإمام عليه‌السلام : (حتى تسألوا عنه وتعلموا) فتكون أجنبيّة عن محلّ الكلام.

وثانيهما : إنّ موردها يكون من الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، ومن المعلوم أنّ جريان البراءة في مورد الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين يعدّ من المسلّمات التي لا خلاف فيها ، وأمّا القائلون بالتخيير في المقام فقد استدلّوا عليه بوجوه :

منها : ما يرجع إلى منع كون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الاحتياط في نظر العقل.

ومنها : ما يرجع إلى وجود المانع الشرعي وهو أخبار البراءة.

ومنها : ما يرجع إلى وجود المانع العقلي ، أعني : التشريع.

وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى الوجه الأوّل بقوله :

(فإن قلت : إنّ تجويز الشارع لترك أحد المحتملين والاكتفاء بالآخر) مثل تجويز الشارع في ترك الصلاة قصرا باستصحاب التمام ذهابا لمن يشكّ في المسافة ، وإذنه في ترك الصلاة تماما باستصحاب القصر إيابا لمن شكّ في الوصول إلى حدّ الترخّص ، وهذا الإذن من الشارع في ترك أحدهما والاكتفاء بالآخر في دوران الواجب بين المتباينين يكشف عن عدم كون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الاحتياط. هذا ملخّص الكلام.

وأمّا تفصيله أكثر ممّا ذكرنا ، فيحتاج إلى مقدّمة وهي :

٣٢٨

ملازمة بين العلم الإجمالي ووجوب الإطاعة ، فيحتاج إثبات الوجوب إلى دليل آخر غير العلم الإجمالي ، وحيث كان مفقودا فأصل البراءة يقتضي عدم وجوب الجميع وقبح العقاب على تركه لعدم البيان.

نعم ، لمّا كان ترك الكلّ معصية عند العقلاء حكم بتحريمها ، ولا تدلّ حرمة المخالفة القطعيّة على وجوب الموافقة القطعيّة.

قلت : العلم الإجمالي كالتفصيلي علّة تامّة لتنجّز التكليف بالمعلوم ، إلّا أنّ المعلوم إجمالا

____________________________________

إنّ وجوب الاحتياط في مورد العلم الإجمالي حكم عقلي ، حيث يكون العلم الإجمالي بالتكليف في نظر العقل علّة تامّة لوجوب الإطاعة ، كما أنّ العلم التفصيلي به يكون علّة تامّة لوجوب الإطاعة ، ومن الواضح أنّ حكم العقل بشيء لا يكون قابلا للتخصيص أصلا ، فحينئذ لا يمكن أن يرد من الشارع الإذن في مخالفة العلم الإجمالي ، كما لا يجوز منه الإذن في مخالفة العلم التفصيلي.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إنّ تجويز الشارع في ما نحن فيه لترك أحد المحتملين والاكتفاء بالآخر يكشف عن عدم كون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الإطاعة والاحتياط عند العقل ، كما أنّ عدم تجويز الشارع للمخالفة مع العلم التفصيلي دليل على كون العلم التفصيلي علّة تامّة لوجوب الإطاعة ، فلا ملازمة ـ حينئذ ـ بين العلم الإجمالي ووجوب الإطاعة ، وذلك لوجود العلم الإجمالي مع عدم وجوب الإطاعة ، وانفكاكهما أقوى دليل على عدم الملازمة.

(فيحتاج إثبات الوجوب).

أي : وجوب الاحتياط إلى دليل آخر ، وهو مفقود ، إذ لا دليل غير العلم الإجمالي ، فإذا ثبت أنّه لم يكن علّة لوجوب الاحتياط ، كان أصل البراءة يقتضي عدم وجوب الجميع.

(نعم ، لما كان ترك الكلّ معصية عند العقلاء حكم بتحريمها).

أي : المعصية والمخالفة القطعيّة ، ولا تدلّ حرمة المخالفة القطعيّة على وجوب الموافقة القطعيّة.

فالمتحصّل ممّا ذكر ، أنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة ، وليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة كالعلم التفصيلي ، فتأمّل.

٣٢٩

يصلح لأن يجعل أحد محتمليه بدلا عنه في الظاهر.

فكلّ مورد حكم الشارع بكفاية أحد المحتملين للواقع ؛ إمّا تعيينا كحكمه بالأخذ بالاحتمال المطابق للحالة السابقة ، وإمّا تخييرا كما في موارد التخيير بين الاحتمالين ،

____________________________________

(قلت : العلم الإجمالي كالتفصيلي علّة تامّة لتنجّز التكليف بالمعلوم) إجمالا ، (إلّا أنّ المعلوم إجمالا يصلح لأن يجعل أحد محتمليه بدلا عنه في الظاهر).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره في الجواب ، هو عدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في كون كلّ واحد منهما علّة تامّة لتنجّز التكليف.

وبعد الالتزام بتنجّز التكليف بالعلم الإجمالي ـ كالتفصيلي ـ فإنّه يكون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الاحتياط عند العقل ، غاية الأمر أنّ حكم العقل بوجوب الاحتياط في جميع موارده من جهة كون العلم الإجمالي بالتكليف منشأ للعقاب المحتمل في أطرافه ، وهذا الحكم يرتفع بعد العلم باكتفاء الشارع ببعض المحتملات لارتفاع موضوع حكم العقل وهو العقاب المحتمل ، لأنّ العقاب محتمل ما لم يعلم الإذن من الشارع ، فجواز اكتفاء الشارع ببعض محتملات الواقع لا يكشف عن عدم حكم العقل بوجوب الاحتياط أصلا ، حتى في مورد عدم العلم بإذن الشارع ، كما ذكر في الإشكال.

وبالجملة ، لا يجوز الانفكاك بين وجوب الموافقة القطعيّة وبين حرمة المخالفة القطعيّة بعد تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي ، ولا ينافي ذلك تجويز الشارع في ترك بعض المحتملات وقناعته بالبعض ، لأنّ مقتضاه إثبات إذن الشارع وترخيصه في القناعة ببعض محتملات الواقع ، ولازم ذلك وجوب الاحتياط عقلا ما لم يثبت العلم بقناعة الشارع ببعض المحتملات ، وذلك بجعله أحد المحتملين بدلا عن الواقع ، ولم يكن معنى اكتفاء الشارع ببعض المحتملات إذنا في المخالفة الاحتماليّة.

والقناعة في الموافقة الاحتماليّة ، والفرق بينهما ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي دام ظلّه ، هو أنّ مرجع الأوّل إلى عدم مطلوبيّة الطاعة وكفاية التحرّز عن المخالفة القطعيّة ، ومرجع الثاني إلى مطلوبيّة الطاعة بالواقع أو ببدله ، وحينئذ فوجوب الاحتياط لا يحتاج إلى الدليل ، وإنّما يحتاج إليه جعل البدل. فتأمّل تعرف.

(فكلّ مورد حكم الشارع بكفاية أحد المحتملين للواقع) تعيينا ، كما عرفت في مثال

٣٣٠

فهو من باب الاكتفاء عن الواقع بذلك المحتمل لا الترخيص لترك الواقع بلا بدل في الجملة.

فإنّ الواقع إذا علم به وعلم إرادة المولى بشيء وصدور الخطاب عنه إلى العبد ، وإن لم يصل إليهم ، لم يكن بدّ عن موافقته ، إمّا حقيقة بالاحتياط ، وإمّا حكما بفعل ما جعله الشارع بدلا عنه ، وقد تقدّم الاشارة إلى ذلك في الشبهة المحصورة.

____________________________________

دوران الصلاة الواجبة بين التمام والقصر ، حيث قد يؤخذ باحتمال التمام تعيّنا ، لكونه مطابقا للحالة السابقة. أو تخييرا ، كما في موارد التخيير.

والحاصل أنّ حكم الشارع بكفاية أحد المحتملين تعيينا أو تخييرا يكون من باب الاكتفاء عن الواقع بأحد المحتملين.

(لا الترخيص لترك الواقع بلا بدل في الجملة).

أي : ليس اكتفاء الشارع عن الواقع بأحد المحتملين ترخيصا في ترك الواقع في الجملة ، وإنّما الترخيص في المخالفة الاحتماليّة من دون جعل بدل حتى يرد عليه ما تقدّم في الإشكال من أنّ إذن الشارع في ترك الواقع في الجملة يكشف عن عدم كون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الاحتياط ، فيجب إتيان أحدهما تحرّزا عن المخالفة القطعيّة المحرّمة عند العقلاء على ما عرفت ، وإنّما يكون ترخيص الشارع في ترك الواقع في الجملة مع جعل البدل عنه ، كما يظهر من المصنّف قدس‌سره.

فما يستفاد من بحر الفوائد ـ من أنّ تجويز الشارع ترك أحد المحتملين بملاحظته مصلحة في التجويز والإذن من غير توقّف على جعل غير المأذون بدلا عن الواقع ـ خلاف ظاهر كلام المصنّف قدس‌سره.

وكيف كان (فإنّ الواقع إذا علم به وعلم إرادة المولى بشيء وصدور الخطاب عنه إلى العبد ، وإن لم يصل إليهم ، لم يكن بدّ عن موافقته) بحكم العقل والعقلاء ؛ (إمّا حقيقة بالاحتياط ، وإمّا حكما بفعل ما جعله الشارع بدلا عنه).

هذا تمام الكلام في الجواب عن الوجه الأوّل الذي استدلّ به القائلون بعدم وجوب الاحتياط في المقام.

وأمّا الجواب عن الوجه الثاني ، فقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

٣٣١

وممّا ذكرنا يظهر عدم جواز التمسّك في المقام بأدلّة البراءة ، مثل رواية الحجب (١) والتوسعة (٢) ونحوهما ، لأنّ العمل بها في كلّ من الموردين بخصوصه يوجب طرحها بالنسبة إلى أحدهما المعيّن عند الله تعالى ، المعلوم وجوبه ، فإنّ وجوب واحدة من الظهر والجمعة أو من القصر والإتمام ممّا لم يحجب الله علمه عنّا ، فليس موضوعا عنّا ولسنا في سعة منه ،

____________________________________

(وممّا ذكرنا يظهر عدم جواز التمسّك في المقام بأدلّة البراءة ، مثل رواية الحجب والتوسعة ونحوهما).

فلا بدّ أوّلا من تقريب هذا الوجه الثاني على عدم وجوب الاحتياط ومن ثمّ بيان الجواب عنه.

أمّا تقريب الاستدلال ، فيمكن أن يقال : إنّ كلّ واحد من المحتملين ممّا لم يعلم وجوبه ، فتشملهما أدلّة البراءة.

حاصل جوابه ظهر من الجواب المتقدّم عن الوجه الأوّل ، حيث ثبت من كون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الاحتياط عدم جواز التمسّك فيه بأدلّة البراءة ، وذلك لأنّها لا تشمل موارد العلم الإجمالي وإلّا لزم التناقض ، وذلك لأنّ أدلّة البراءة مغيّاة بالعلم الأعمّ من العلم الإجمالي والتفصيلي ، باعتبار أخذ الجهل في الحكم الواقعي في موضوعها ، فتجري البراءة ما لم يعلم الحكم الواقعي ، فهناك جهتان : جهة علم ، وجهة جهل.

أمّا الاولى : فلأجل العلم الإجمالي بأصل التكليف.

وأمّا الثانية : فلأجل الجهل في متعلّقه.

فالمقام من الجهة الاولى مندرج تحت مفهوم أدلّة البراءة ، ومن الجهة الثانية مندرج تحت منطوق أدلّة البراءة ، فيلزم التناقض للبراءة نظرا إلى المنطوق ، وعدمها نظرا إلى المفهوم ، فلا بدّ ـ حينئذ ـ من حملها على موارد الشكّ البدوي لئلّا يلزم التناقض ، فلا يكون المرجع في المقام إلّا وجوب الاحتياط وهو المطلوب ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(فإنّ وجوب واحدة من الظهر والجمعة أو من القصر والإتمام ممّا لم يحجب الله علمه عنّا) لعلمنا بأصل الوجوب ، (ولسنا في سعة منه) أي : من التكليف المعلوم ، إلّا أنّ متعلّقه

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٤ / ٣. التوحيد : ٤١٣ / ٩. الوسائل ٢٧ : ١٦٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٣٣.

(٢) الكافي ١ : ٦٦ / ٧. الوسائل ٢٧ : ١٠٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٦.

٣٣٢

فلا بدّ ؛ إمّا من الحكم بعدم جريان هذه الأخبار في مثل المقام ممّا علم وجوب شيء إجمالا.

وإمّا من الحكم بأنّ شمولها للواحد المعيّن ـ المعلوم وجوبه ، ودلالتها بالمفهوم على عدم كونه موضوعا عن العباد وكونه محمولا عليهم ، ومأخوذين به وملزمين عليه ـ دليل علمي بضميمة حكم العقل بوجوب المقدّمة العلميّة على وجوب الإتيان بكلّ من الخصوصيّتين ، فالعلم بوجوب كلّ منهما لنفسه وإن كان محجوبا عنّا ، إلّا أنّ العلم بوجوبه من باب المقدّمة ليس محجوبا عنّا ، ولا منافاة بين عدم وجوب الشيء ظاهرا لذاته ووجوبه ظاهرا من باب المقدّمة ، كما لا تنافي بين عدم الوجوب النفسي واقعا وثبوت الوجوب الغيري كذلك.

واعلم أنّ المحقّق القمّي رحمه‌الله ـ بعد ما حكى عن المحقّق الخوانساري الميل إلى وجوب الاحتياط في مثل الظهر والجمعة والقصر والإتمام ـ قال : «إنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ،

____________________________________

ممّا حجب العلم بوجوبه فهو موضوع عنّا ، ونحن في سعة منه ، فيلزم ما تقدّم من التناقض.

(فلا بدّ ؛ إمّا من الحكم بعدم جريان هذه الأخبار في مثل المقام ممّا علم وجوب شيء إجمالا) فتكون مختصّة بالشبهات البدويّة ، كما عرفت.

(وإمّا من الحكم بأنّ شمولها) بالمنطوق على كلّ واحد من المحتملين ، وإن كان دليلا على نفي الوجوب الواقعي عنهما ظاهرا ، إلّا أنّ شمولها بالمفهوم (للواحد المعين) عند الله (المعلوم وجوبه) إجمالا عندنا ، ولازمه عدم كونه مرفوعا(عن العباد وكونه محمولا عليهم ، ومأخوذين به وملزمين عليه ، دليل علمي بضميمة حكم العقل بوجوب المقدّمة العلميّة على وجوب الإتيان بكلّ من الخصوصيتين).

وحينئذ يجمع بين منطوق أدلّة البراءة ومفهومها بأن نقول : إنّ المراد من المنطوق نفي الوجوب الواقعي عن خصوص كلّ واحد منهما ظاهرا ، والمراد من المفهوم بانضمام حكم العقل وجوب خصوص كلّ واحد منهما بالوجوب المقدّمي الظاهري ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي دام ظلّه بتلخيص ، فيرتفع التنافي بينهما حينئذ.

وبالجملة ، إنّ العلم بوجوب كلّ واحد منهما لنفسه وإن كان محجوبا إلّا أنّ العلم بوجوب كلّ واحد منهما من باب المقدّمة العلميّة ليس محجوبا ، فيرتفع الأوّل دون الثاني ، فتكون النتيجة الإتيان بكلّ واحد منهما من باب المقدّمة العلميّة.

(واعلم أنّ المحقّق القمّي رحمه‌الله ـ بعد ما حكى عن المحقّق الخوانساري الميل إلى وجوب

٣٣٣

فإنّ التكليف بالمجمل المحتمل لأفراد متعدّدة بإرادة فرد معيّن عند الشارع مجهول عند المخاطب ، مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة ، الذي اتّفق أهل العدل على استحالته ، وكلّ ما يدّعى كونه من هذا القبيل فيمكن منعه ، إذ غاية ما يسلّم في القصر والإتمام والظهر والجمعة وأمثالها ، أنّ الإجماع وقع على أنّ من ترك الأمرين بأن لا يفعل شيئا منهما يستحقّ العقاب ، لا أنّ من ترك أحدهما المعيّن عند الشارع المبهم عندنا بأن ترك فعلهما مجتمعين يستحقّ العقاب.

ونظير ذلك مطلق التكليف بالأحكام الشرعيّة ، سيّما في أمثال زماننا على مذهب أهل الحقّ من التخطئة ، فإنّ التحقيق الذي ثبت علينا بالدليل هو تحصيل ما يمكننا تحصيله من

____________________________________

الاحتياط في مثل الظهر والجمعة والقصر والإتمام ـ قال : إنّ دقيق النظر يقتضي خلافه).

وحاصل كلام المحقّق القمّي قدس‌سره هو عدم وجوب الاحتياط في المقام ، حيث قال بعد نقل كلام المحقّق الخوانساري الظاهر في وجوب الاحتياط : إنّ دقيق النظر يقتضي خلاف ما ذهب إليه المحقّق الخوانساري قدس‌سره من وجوب الإتيان بجميع المحتملات حتى يحصل اليقين ببراءة الذمّة ، ثمّ قال :

(فإنّ التكليف بالمجمل المحتمل لأفراد متعدّدة بإرادة فرد معيّن عند الشارع مجهول عند المخاطب ، مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة ، الذي اتّفق أهل العدل على استحالته).

ثمّ إنّ دوران الواجب يوم الجمعة بين الظهر والجمعة في المقام ـ سواء كان لعدم النصّ أو إجماله ، أو تعارض النصّين ـ يكون من هذا القبيل ، فيكون قبيحا فلا يجوز للشارع التكليف بالمجمل ، بل يجب عليه البيان لئلّا يلزم ما ذكر من المحذور ، ولازم ذلك عدم تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي ، لأنّه يستلزم التكليف بالمجمل. إلى أن قال بما حاصله : من أنّ غاية ما يسلّم في القصر والإتمام والظهر والجمعة وأمثالها أنّ الإجماع قام على عدم جواز ترك كلا الأمرين واستحقاق العقاب بتركهما معا ، لا على وجوب الإتيان بكلا المحتملين واستحقاق العقاب على ترك أحدهما ، فالمتحصّل هو عدم وجوب الاحتياط في المقام حتى يحصل العلم بإتيان الواقع المعيّن عند الشارع والمجهول عند المكلّف ، غاية الأمر لا يجوز ترك كلا الأمرين من جهة قيام الإجماع على عدم جواز ترك الكلّ.

(ونظير ذلك مطلق التكليف بالأحكام الشرعيّة ... إلى آخره).

٣٣٤

الأدلّة الظنّيّة ، لا تحصيل الحكم النفس الأمري في كلّ واقعة ، ولذا لم نقل بوجوب الاحتياط وترك العمل بالظنّ الاجتهادي من أوّل الأمر.

نعم ، لو فرض حصول الإجماع أو ورود النصّ على وجوب شيء معيّن عند الله تعالى مردّد عندنا بين امور من دون اشتراط بالعلم به ، المستلزم ذلك الفرض لإسقاط قصد التعيين في الطاعة ، لتمّ ذلك.

____________________________________

أي : نظير ما ذكره في عدم وجوب الاحتياط بتحصيل الواقع مطلق التكليف بالأحكام الشرعيّة ، حيث يكفي في تحصيلها ما يمكننا تحصيله من الظنّ الاجتهادي ، ولا يجب تحصيل الحكم الواقعي في كلّ واقعة حتى يجب الاحتياط بإتيان كلّ محتمل الوجوب ، وترك كلّ محتمل الحرمة ، فيجوز ـ حينئذ ـ ترك العمل بالظنّ الاجتهادي من أوّل الأمر ، وهو خلاف الضرورة والوجدان.

ثمّ قال المحقّق القمّي قدس‌سره ـ بتصرّف وتوضيح ـ :

(نعم ، لو فرض حصول الاجماع أو ورود النصّ على وجوب شيء معيّن عند الله تعالى مردّد عندنا بين امور من دون اشتراط بالعلم به ، المستلزم ذلك الفرض لإسقاط قصد التعيين في الطاعة ، لتمّ ذلك).

أي : ما ذكر من وجوب الاحتياط وإتيان كلّ ما يحتمل أن يكون واجبا عند الله تعالى ، إلّا أنّ ذلك مبني على قيام إجماع ، كما لو اتّفق العلماء على وجوب الصلاة الوسطى من دون علمهم بالمراد من الصلاة الوسطى المردّدة بين الظهر والجمعة.

أو ورود نصّ من الإمام عليه‌السلام بأن يقول لمخاطبه : صلّ الوسطى ، ولم يبيّن المراد من الصلاة الوسطى لمصلحة ، فلازم كلا الدليلين هو عدم اشتراط العلم بما هو الواجب عند الله تعالى المستلزم لإسقاط قصد التعيين في الطاعة ، فيجب ـ حينئذ ـ إتيان جميع ما يحتمل أن يكون واجبا ، فيكون ـ حينئذ ـ وجوب الاحتياط من المتيقّن ، ولذلك لا يحسن ما ذكره المحقّق الخوانساري من أنّه لا يبعد القول بوجوب الاحتياط حينئذ ، لأنّ هذا التعبير لا يناسب ما إذا كان وجوب الاحتياط قطعيّا ، كما هو المفروض بعد قيام الدليل على التكليف بما هو معيّن عند الله تعالى ومردّد بين امور عندنا.

وقد أشار إلى هذا الإشكال على تعبير المحقّق الخوانساري قدس‌سره بقوله :

٣٣٥

ولكن لا يحسن حينئذ قوله ـ يعني : المحقّق الخوانساري ـ فلا يبعد القول بوجوب الاحتياط حينئذ ، بل لا بدّ من القول باليقين والجزم بالوجوب ، ولكن من أين هذا الفرض وأنّى يمكن إثباته؟» انتهى كلامه رفع مقامه.

وما ذكره قدس‌سره قد وافق فيه بعض كلمات ذلك المحقّق التي ذكرها في مسألة الاستنجاء بالأحجار ، حيث قال بعد كلام له :

«والحاصل : إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شيء معيّن معلوم عندنا أو ثبوت حكم إلى غاية معيّنة معلومة عندنا ، فلا بدّ من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظنّ بوجود ذلك الشيء المعلوم حتى يتحقّق الامتثال ـ إلى أن قال ـ :

____________________________________

(ولكن لا يحسن حينئذ قوله ـ يعني : المحقّق الخوانساري ـ فلا يبعد القول بوجوب الاحتياط حينئذ ، بل لا بدّ من القول باليقين والجزم بالوجوب ، ولكن من أين هذا الفرض وأنّى يمكن إثباته؟. انتهى كلامه رفع مقامه).

أي : لا يمكن إثبات الفرض المذكور لعدم ثبوت الإجماع على وجوب شيء مجمل وعدم ورود نصّ على ذلك. هذا تمام الكلام فيما ذكره المحقّق القمّي من عدم وجوب الاحتياط في المقام ، ثمّ يذكر المصنّف قدس‌سره ما ذكره المحقّق الخوانساري ، حيث يكون ما ذكره المحقّق الخوانساري في بعض جهاته موافقا لبعض ما تقدّم من المحقّق القمّي قدس‌سره.

قال المحقّق الخوانساري قدس‌سره ـ بتوضيح منّا ـ بعد كلام له :

(والحاصل : إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شيء معيّن معلوم عندنا) كوجوب صلاة الجمعة يومها ، فلا إشكال في وجوب الإتيان بها(أو ثبوت حكم إلى غاية معيّنة معلومة عندنا) كوجوب الصوم إلى الاستتار عند العامّة أو إلى زوال الحمرة المشرقيّة عندنا.

(فلا بدّ من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظنّ بوجود ذلك الشيء المعلوم حتى يتحقّق الامتثال).

أي : لا بدّ من تحصيل اليقين بزوال الحمرة المشرقيّة ، أو الظنّ به. ومن المعلوم أنّ المراد بالظنّ هو الظنّ المعتبر ، كالظنّ الحاصل من شهادة العدلين بزوال الحمرة المشرقيّة ، لا مطلق الظنّ ، كما لا يخفى ، إلى أن قال ما يكون موافقا لما ذكره المحقّق القمّي أخيرا ـ وهو قوله : «نعم ، لو فرض حصول الإجماع أو ورود النصّ» ـ :

٣٣٦

وكذا إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مردّد في نظرنا بين امور ـ وعلم أنّ ذلك التكليف غير مشروط بشيء من العلم بذلك الشيء مثلا ، أو على ثبوت حكم إلى غاية معيّنة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ، وعلم ـ أيضا ـ عدم اشتراطه بالعلم ـ وجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردّد فيها في نظرنا وبقاء ذلك الحكم إلى حصول تلك الأشياء.

ولا يكفي الإتيان بواحد منها في سقوط التكليف ، وكذا حصول شيء واحد من الأشياء في ارتفاع الحكم المعيّن ـ إلى أن قال ـ : «وأمّا إذا لم يكن كذلك ، بل ورد نصّ مثلا على أنّ الواجب الشيء الفلاني ، ونصّ آخر على أنّ هذا الواجب شيء آخر ، أو ذهب بعض الامّة إلى

____________________________________

(وكذا إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مردّد في نظرنا بين امور ، كالصلاة الواجبة يوم الجمعة المردّدة عندنا بين الظهر والجمعة مثلا (وعلم أنّ ذلك التكليف غير مشروط بشيء من العلم) التفصيلي ، بل كفاية العلم الإجمالي في تنجّزه ، (أو على ثبوت حكم إلى غاية معيّنة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء) ، مثل تردّد الغروب الذي يكون غاية لوجوب الصوم بين الاستتار وزوال الحمرة المشرقيّة فرضا ، مع عدم اشتراط العلم التفصيلي بالغاية.

(وجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردّد فيها) الواجب (في نظرنا) ، أي : وجب الحكم بوجوب الظهر والجمعة في المثال الأوّل ، ووجب الحكم ببقاء وجوب الصوم إلى تحقّق الاستتار وزوال الحمرة المشرقيّة في المثال الثاني.

(ولا يكفي الإتيان بواحد منها) ، أي : الظهر أو الجمعة (في سقوط التكليف) بالصلاة يوم الجمعة.

(وكذا) لا يكفي (حصول شيء واحد) من الاستتار أو زوال الحمرة المشرقيّة (في ارتفاع الحكم المعيّن) في الحكم المغيّى بغاية معيّنة عند الله ومردّدة بين أمرين عندنا ، وما ذكر موافق لبعض ما تقدّم عن القمّي قدس‌سره.

(إلى أن قال : «وأمّا إذا لم يكن كذلك) ، أي : من باب قيام الدليل على وجوب المجمل من دون اعتبار العلم التفصيلي ، كما تقدّم منه تفصيله ، (بل ورد نصّ مثلا على أنّ الواجب الشيء الفلاني ، ونص آخر على أنّ هذا الواجب شيء آخر ، أو ذهب بعض الامّة إلى وجوب

٣٣٧

وجوب شيء وبعض آخر إلى وجوب شيء آخر دونه ، وظهر بالنصّ والإجماع في الصورتين أنّ ترك ذينك الشيئين معا سبب لاستحقاق العقاب ، فحينئذ لم يظهر وجوب الإتيان بهما حتى يتحقّق الامتثال ، بل الظاهر الاكتفاء بواحد منهما ، سواء اشتركا في أمر أو تباينا بالكليّة. وكذا الكلام في ثبوت الحكم إلى غاية معيّنة». انتهى كلامه رفع مقامه ، وأنت خبير بما في هذه الكلمات من النظر.

أمّا ما ذكره الفاضل القمّي رحمه‌الله ـ من حديث التكليف المجمل ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ـ فلا دخل له في المقام ، إذ لا إجمال في الخطاب أصلا ، وإنّما طرأ الاشتباه في المكلّف به من جهة تردّد ذلك الخطاب المبيّن بين أمرين ، وإزالة هذا التردّد العارض من جهة أسباب اختفاء الأحكام غير واجبة على الحكيم تعالى حتى يقبح تأخيره عن وقت الحاجة ، بل يجب عند هذا الاختفاء الرجوع إلى ما قرّره الشارع كلّية في الوقائع المختفية ،

____________________________________

شيء وبعض آخر إلى وجوب شيء آخر دونه ، وظهر بالنصّ والإجماع في الصورتين أنّ ترك ذينك الشيئين معا سبب لاستحقاق العقاب ، فحينئذ لم يظهر وجوب الإتيان بهما حتى يتحقّق الامتثال ، بل الظاهر الاكتفاء بواحد منهما ، سواء اشتركا في أمر) كالظهر والجمعة (أو تباينا بالكليّة) ، كالإطعام والتحرير على ما في شرح الاعتمادي.

ثمّ هذا الكلام الظاهر في عدم وجوب الاحتياط في دوران الواجب بين أمرين متباينين ، موافق لما تقدّم من المحقّق القمّي من عدم وجوب الاحتياط في المقام.

(وكذا الكلام في ثبوت الحكم إلى غاية معيّنة).

أي : عند الله مردّدة عندنا بين امور ، كما إذا ورد النصّ أو ذهب بعض الامّة بكون العدّة إلى قرءين ، وورد نصّ آخر ، أو ذهب بعض الامّة ـ أيضا ـ بكونها إلى ثلاثة ، فلا يجب الاحتياط ، كما في شرح الاعتمادي. انتهى كلامه رفع مقامه. هذا تمام الكلام فيما أفاده المحقّق الخوانساري قدس‌سره بتصرّف.

ثمّ أورد المصنّف قدس‌سره على ما ذكره المحقّق القمّي قدس‌سره من وجوه :

منها : ما أشار إليه بقوله : (أمّا ما ذكره الفاضل القمّي قدس‌سره ـ من حديث التكليف المجمل ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ـ فلا دخل له في المقام) ، أي : دوران الواجب بين المتباينين ، (إذ لا إجمال في الخطاب أصلا) ؛ وذلك لأنّا لا نسلّم قبح الخطاب بالمجمل لاحتمال وجود

٣٣٨

وإلّا فما يقتضيه العقل من البراءة والاحتياط ، ونحن ندّعي أنّ العقل حاكم بعد العلم

____________________________________

المصلحة فيه ، مضافا إلى أنّه لم يدلّ دليل على قبح الخطاب بالمجمل مطلقا هذا أوّلا.

وثانيا : لا إجمال في الخطاب في المقام أصلا ، إذ لم يكن الخطاب بالنسبة إلى المشافهين مجملا أصلا ، وإنّما طرأ الإجمال بالنسبة إلينا لأجل بعض الامور الخارجيّة ، كعدم الضبط أو فقد بعض الكتب أو التحريف ، بينما كان الخطاب الصادر من الشارع مبيّنا ، وهو قوله : «صلّ الظهر» أو «صلّ الجمعة» ، ثمّ تردّد بين أمرين لأسباب طارئة ، وقد عرفت بعضها ، ولا يجب على الشارع الحكيم إزالة ما طرأ من الاشتباه حتى يقال : يلزم من عدم البيان وبقاء الإجمال على حاله تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو قبيح ، بل القبيح هو التكليف بالمجمل الذاتي لا إبقاء التكليف بالمجمل العرضي ، بل يجب على المكلّف عند اختفاء الحكم عليه الرجوع إلى ما قرّره الشارع للجاهل من البراءة أو الاحتياط ، فإن لم يتمكّن من أدلّة البراءة من استفادة الحكم لعدم شمولها موارد العلم الإجمالي ، ولا من أدلّة الاحتياط وجوب الاحتياط لما تقدّم من المناقشة فيها.

فيرجع إلى ما يحكم به العقل من البراءة إن حكم بعدم تنجّز التكليف ، إلّا بالعلم التفصيلي ، أو الاحتياط إن حكم بتنجّزه بالعلم الإجمالي ، وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى حكم العقل بقوله : (وإلّا فما يقتضيه العقل من البراءة والاحتياط).

والحقّ عند المصنّف قدس‌سره أنّ العقل حاكم على الأخذ بأحد الاحتمالين المعيّن أو المخيّر فيما لم يمكن الأخذ بهما معا ، والأخذ بكلا الاحتمالين فيما يمكن الاحتياط والأخذ بهما معا ، لأنّ العقل يحكم بتنجّز التكليف بالعلم الإجمالي كالعلم التفصيلي ، ولازمه وجوب الاحتياط فلا يكون المقام من مصاديق التكليف بالمجمل بالأصالة حتى يكون قبيحا ، مع أنّ قبح التكليف بالمجمل من جهة كونه مستلزما للتكليف بما لا يطاق وهو منتف في المقام. هذا على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

ولا بأس بذكر ما في تعليقة غلام رضا في المقام ، فإنّ ما ذكره في هذا المقام وإن كان مفصّلا إلّا أنّه مفيد لأهل التحقيق والتفصيل ، حيث قال ـ في شرح كلام المصنّف قدس‌سره (أمّا ما ذكره الفاضل القمّي قدس‌سره من حديث التكليف المجمل ... إلى آخره) ـ : «للمناقشة فيه مجال ، وبيانها مبني على ذكر امور :

٣٣٩

بالوجوب والشكّ في الواجب ، وعدم الدليل من الشارع على الأخذ بأحد الاحتمالين المعيّن

____________________________________

أحدها : إنّ لنا مسألتين : مسألة التكليف بالمجمل ، ومسألة الخطاب بالمجمل ، ونعني بالاولى ما يكون معروض القبح فيه وعدمه صرف التكليف ، ولا ريب أنّ التكليف بعد تعريته عن جهة التخاطب لا يبقى في موضوع القبح فيه إلّا صرف المؤاخذة ، فيرجع الكلام فيه إلى أنّ المؤاخذة عليه قبيح أم لا؟ وهذا بعينه ما هو محلّ الكلام في المقام ؛ ولذا لم نر لها في الاصول أثرا ولا عنوانا ، إلّا في المقام.

والنسبة بينهما هي عموم من وجه ، مادّة الاجتماع هي جميع التكاليف المشتملة على جهة التخاطب إذا كان فيها إجمال ، ومادّة الافتراق من طرف الثانية هي جميع الخطابات المعرّات عن عنوان التكليف ، ومادّة الافتراق من طرف الاولى ما إذا أعطى المولى عبده طومارا قائلا : إنّه إذا خرجت من البلد ، فافتحه ، واعمل بما فيه. وهو يعلم إجمالا أنّ المكتوب فيه هو المسافرة ، لكنّه لا يعلم أنّ الموضع المأمور بالمسافرة إليه هو الحلّة أو بغداد مثلا ، فظهر في أثناء الطريق ريح عاصف رفع الطومار من يده إلى السماء ، فلا يبقى عنده إلّا تكليف صرف معرّى عن عنوان التخاطب.

إلى أن قال : إنّ تحت هذه المسألة ـ أو المسألة الثانية ـ عنوانين :

أحدهما : تأخير البيان عن الخطاب.

والآخر : تأخيره عن وقت الحاجة.

أمّا الأوّل ، فقد نسب إلى المشهور جواز تأخير البيان فيه.

وأمّا الثاني ، فقد تحقّق اتّفاق أهل العدل فيه على عدم الجواز.

واستدلّ له ؛ تارة : بأنّ التأخير عن وقت الحاجة تكليف بما لا يطاق ، إذ هو في ذلك الوقت مكلّف بإتيان المراد وهو غير عالم به.

واخرى : بأنّه مستلزم للإغراء بالجهل وهو قبيح.

وثالثة : بأنّه مستلزم لنقض الغرض ، ضرورة أنّ الغرض من التكليف إنّما هو البعث على الامتثال ، وإذا كان الامتثال موقوفا على البيان من المولى ولم يصل منه ، فهو نقض للغرض.

ورابعة : بأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة بنفسه من القبائح الذاتيّة الخطابيّة ، وإن لم يكن فيه قبح عملي ضرورة أنّ الخطاب بالمجمل ـ مع فرض عدم المانع من البيان ، وكون

٣٤٠