دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

لأنّ الأوّل منهما واجب بالإجماع ولو فرارا عن المخالفة القطعيّة ، والثاني واجب بحكم الاستصحاب المثبت للوجوب الشرعي الظاهري ، فإنّ مقتضى الاستصحاب بقاء الاشتغال وعدم الإتيان بالواجب الواقعي وبقاء وجوبه.

قلت : أمّا المحتمل المأتي به أوّلا فليس واجبا في الشرع لخصوص كونه ظهرا أو جمعة ، وإنّما وجب لاحتمال التحقّق الواجب به الموجب للفرار عن المخالفة ، أو للقطع بالموافقة إذا أتى معه بالمحتمل الآخر ، وعلى أيّ تقدير فمرجعه إلى الأمر بإحراز الواقع ولو احتمالا.

____________________________________

المصنّف قدس‌سره بقوله :

(لأنّ الأوّل منهما واجب بالإجماع ... إلى آخره).

فرارا عن المخالفة القطعيّة على فرض إرادة ترك الثاني عند من يقول بحرمتها فقط ، وتحصيلا للموافقة القطعيّة على فرض إرادة فعل الثاني عند من يقول بوجوبها.

(والثاني واجب بحكم الاستصحاب).

أي : استصحاب بقاء اشتغال الذمّة بالتكليف المعلوم إجمالا ، وعدم الخروج عن عهدته بإتيان أحدهما فقط.

(قلت : أمّا المحتمل المأتي به أوّلا فليس واجبا في الشرع ... إلى آخره).

وحاصل الجواب : إنّ ما ذكر من الإجماع على وجوب المحتمل الأوّل قابل للمنع من وجوه :

الأوّل : إنّ الإجماع لم يقم على وجوب المحتمل الأوّل بعنوان أنّه المحتمل الأوّل حتى يثبت به وجوبه ؛ وذلك لأنّ المحتمل الأوّل إنّما وجب لاحتمال تحقّق الواجب الواقعي به.

والثاني : إنّ هذا الإجماع ليس بحجّة أصلا ، لأنّ هذه المسألة عقليّة وقد ثبت في محلّه أنّ الإجماع في المسألة العقليّة ليس بحجّة ، وذلك لأنّ الملاك في حجيّة الإجماع عند الإماميّة هو كونه كاشفا عن قول المعصوم عليه‌السلام ، ومعلوم أنّ الإجماع في المسألة العقليّة ليس كاشفا عن قول المعصوم عليه‌السلام.

والثالث : على فرض كشف الإجماع في المسألة العقليّة عن حكم شرعي ، فإنّه لا يكشف عن حكم شرعي مولوي ، بل يكشف عن حكم شرعي إرشادي على طبق حكم العقل ، وعلى هذا يكون وجوب المحتمل الأوّل وجوبا مقدّميّا إرشاديا لا وجوبا نفسيّا

٣٦١

وأمّا المحتمل الثاني فهو ـ أيضا ـ ليس إلّا بحكم العقل من باب المقدّمة.

وما ذكر من «الاستصحاب» ، فيه ـ بعد منع جريان الاستصحاب في هذا المقام من جهة حكم العقل من أوّل الأمر بوجوب الجميع ، إذ بعد الإتيان بأحدهما يكون حكم العقل باقيا قطعيّا ، وإلّا لم يكن حاكما بوجوب الجميع وهو خلاف الفرض ـ : أنّ مقتضى الاستصحاب وجوب البناء على بقاء الاشتغال حتى يحصل اليقين بارتفاعه.

أمّا وجوب تحصيل اليقين بارتفاعه فلا يدلّ عليه الاستصحاب ، وإنّما يدلّ عليه العقل المستقلّ بوجوب القطع بتفريغ الذمّة عند اشتغالها ، وهذا معنى الاحتياط ، فمرجع الأمر إليه.

وأمّا استصحاب وجوب ما وجب سابقا في الواقع ، أو استصحاب عدم الإتيان بالواجب

____________________________________

حتى يكون مصحّحا لنيّة الوجه والقربة.

(وأمّا المحتمل الثاني فهو ـ أيضا ـ ليس إلّا بحكم العقل من باب المقدّمة).

أي : المحتمل الثاني ، فليس واجبا إلّا بالوجوب المقدّمي الذي يحكم به العقل من باب المقدّمة العلميّة ، وأمّا الاستصحاب فقابل للمنع من وجهين :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله :

(فيه بعد منع جريان الاستصحاب في هذا المقام من جهة حكم العقل من أوّل الأمر بوجوب الجميع).

وحاصل هذا الوجه أنّ المسألة في المقام عقليّة ، والعقل يحكم من الأوّل بوجوب كلا المحتملين ، مضافا إلى أنّه لا يعقل الشكّ في مورد حكم العقل حتى يتمسّك بالاستصحاب.

والثاني : ما أشار إليه بقوله :

(إنّ مقتضى الاستصحاب وجوب البناء على بقاء الاشتغال حتى يحصل اليقين بارتفاعه ... إلى آخره).

وملخّص هذا الوجه أنّ الاستصحاب إنّما يجري ويكون حجّة فيما إذا كان المستصحب بنفسه حكما شرعيّا أو يترتّب عليه حكم شرعي من دون واسطة أصلا ، والمستصحب في المقام ـ وهو بقاء اشتغال الذمّة ـ ليس حكما شرعيّا ، وما يترتّب عليه ـ وهو وجوب تحصيل اليقين بفراغ الذمّة والقطع ببراءتها ـ ليس حكما شرعيّا ، وإنّما هو حكم عقلي ، والاستصحاب فيه ليس بحجّة ، كما لا يخفى.

٣٦٢

الواقعي ، فشيء منهما لا يثبت وجوب المحتمل الثاني حتى يكون وجوبه شرعيّا ، إلّا على تقدير القول بالاصول المثبتة وهي منفيّة ، كما قرّر في محلّه.

ومن هنا ظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين استصحاب عدم فعل الظهر وبقاء وجوبه على من شكّ في فعله ، فإنّ الاستصحاب بنفسه مقتض هناك لوجوب الإتيان بالظهر الواجب في الشرع على الوجه الموظّف من قصد لوجوب ، والقربة وغيرهما ، ثمّ إنّ تتمّة الكلام في ما يتعلّق بفروع هذه المسألة تأتي في الشبهة الموضوعيّة إن شاء الله تعالى.

____________________________________

(وأمّا استصحاب وجوب ما وجب سابقا في الواقع ، أو استصحاب عدم الإتيان بالواجب الواقعي ، فشيء منهما لا يثبت وجوب المحتمل الثاني).

وذلك لأنّ ترتيب وجوب المحتمل الثاني على كلّ من استصحابي الحكم وهو الأوّل والموضوع وهو الثاني يكون عقليّا بعد العلم الإجمالي بوجوب أحد المحتملين ، فلازم بقاء ما وجب سابقا ولازم عدم الإتيان بالواجب الواقعي بعد العلم الإجمالي بوجوب أحدهما هو وجوب المشتبه الآخر الباقي ، فيكون كلا الاستصحابين مثبتا ، وذلك لترتّب الأثر العقلي عليهما ، ولذلك لا يجوز التمسّك بهما إلّا على القول بحجيّة الاصول المثبتة. والمصنّف قدس‌سره ممّن لم يقل باعتبار الأصل المثبت كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(ومن هنا ظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين استصحاب عدم فعل الظهر وبقاء وجوبه على من شكّ في فعله).

ومن جهة كون كلّ واحد من استصحاب بقاء وجوب ما وجب سابقا ، واستصحاب عدم الإتيان بالواجب الواقعي مثبتا في ما نحن فيه ـ على ما عرفت ـ ظهر الفرق بين ما نحن فيه حيث يكون الاستصحاب فيه مثبتا ، وبين استصحاب عدم فعل الظهر وبقاء وجوبه على من شكّ في فعله ، حيث لا يكون الاستصحاب مثبتا ، لأنّ الحكم بوجوب إتيان الظهر مترتّب على نفس المستصحب من دون ملازمة عقليّة بين الحكم المذكور وبين المستصحب ، فاستصحاب عدم فعل الظهر وبقاء وجوبه مقتضيان لوجوب الإتيان به ، وهذا بخلاف ما نحن فيه حيث يحكم العقل بواسطة العلم الإجمالي ، وذلك لأنّ الواجب على فرض عدم الإتيان بالواجب الواقعي وبقاء الوجوب هو الإتيان بالمحتمل الثاني ، فيكون الأصل مثبتا. فتأمّل جيدا فإنّه دقيق!

٣٦٣

المسألة الثانية

إجمال النص

ما إذا اشتبه الواجب في الشريعة بغيره من جهة إجمال النصّ ، بأن يتعلّق التكليف الوجوبيّ بأمر مجمل ، كقوله : «ائتني بعين» وقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)(١) بناء على تردّد الصلاة الوسطى بين صلاة الجمعة كما في بعض الروايات ، وغيرها كما في بعض آخر.

والظاهر أنّ الخلاف هنا بعينه الخلاف في المسألة الاولى ، والمختار فيها هو المختار هناك ، بل هنا أولى لأنّ الخطاب هنا تفصيلا متوجّه إلى المكلّفين ، فتأمّل.

____________________________________

(المسألة الثانية : ما إذا اشتبه الواجب في الشريعة بغيره من جهة إجمال النصّ).

كتردّد الصلاة الوسطى الواجب حفظها في قول الشارع : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) بين صلاة الجمعة يومها ، كما في بعض الروايات (وغيرها) ، أي : غير صلاة الجمعة ، أي : الظهر ، كما في بعض الروايات أو العصر ، كما في بعضها الآخر.

(والظاهر أنّ الخلاف هنا بعينه الخلاف في المسألة الاولى).

فكما أنّ المشهور في المسألة الاولى هو حرمة المخالفة القطعيّة ، فكذلك في هذه المسألة ، وكما يظهر من القمّي والخوانساري جوازها مع قطع النظر عن الإجماع على حرمة ترك الكلّ ، كذلك في هذه المسألة.

والقائلون بحرمة المخالفة القطعيّة منهم من يقول بوجوب الموافقة القطعيّة ، ومنهم من يقول بكفاية الموافقة الاحتماليّة في المسألة الاولى ، فكذلك هنا أيضا.

(والمختار فيها هو المختار هناك).

وتقدّم أنّ مختاره قدس‌سره هناك هو حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة ، فيكون مختاره هنا كذلك ، وذلك لوجود المقتضي وعدم المانع على ما عرفت في المسألة الاولى.

(بل هنا أولى لأنّ الخطاب هنا تفصيلا متوجّه إلى المكلّفين).

__________________

(١) البقرة : ٢٣٨.

٣٦٤

وخروج الجاهل لا دليل عليه ، لعدم قبح تكليف الجاهل بالمراد من المأمور به إذا كان قادرا على استعلامه من دليل منفصل ، فمجرّد الجهل لا يقبّح توجّه الخطاب ، ودعوى : «قبح توجّهه إلى العاجز عن استعلامه تفصيلا ، القادر على الاحتياط فيه بإتيان المحتملات» أيضا ممنوعة ، لعدم القبح فيه أصلا.

____________________________________

أي : بل وجوب الاحتياط هنا أولى منه في المسألة السابقة.

وذلك لأنّ الخطاب في هذه المسألة معلوم تفصيلا ومتوجّه إلى المكلّفين جميعا ، فيحكم العقل بوجوب الاحتياط فيها من جهة العلم بالخطاب ، وهذا بخلاف المسألة الاولى ، حيث لم يكن الخطاب فيها معلوما ، لأنّ المفروض فيها عدم النصّ ، والعلم بتعلّق التكليف بأحد الموضوعين كان من جهة الإجماع ، فإذا حكم العقل بوجوب الاحتياط فيها مع عدم الخطاب المعلوم تفصيلا ، يحكم بوجوبه في هذه المسألة أيضا بطريق أولى.

(فتأمّل) لعلّه إشارة إلى منع الأولويّة بأحد وجهين :

الأوّل : إنّ العلم التفصيلي بالخطاب المجمل الذي لا أثر لوجوده بعد إجماله وعدم تبيّن المراد منه غير مجد في حكم العقل بوجوب الاحتياط ، فيكون حكمه بوجوب الاحتياط من جهة العلم الإجمالي بالتكليف الوجوبي.

ثمّ إنّ العلم الإجمالي بالتكليف مشترك بين المسألتين ، غاية الأمر سبب العلم الإجمالي في المسألة الاولى هو الإجماع ، وفي هذه المسألة هو الخطاب المجمل ، فحكم العقل بوجوب الاحتياط في كلتا المسألتين يكون من جهة العلم الإجمالي بالتكليف من دون فرق بينهما أصلا ، ولذلك لا يبقى مجال لأولويّة إحداهما على الاخرى.

والثاني : إنّ الخطاب الموجود في هذه المسألة مختصّ بالمشافهين فلا يشمل المعدومين والغائبين ، فحينئذ يكون حال إجمال النصّ بالنسبة إلينا ـ المعدومين ـ حال الخطاب كحال عدم النصّ ، فلا وجه لأولويّة وجوب الاحتياط في المسألة الثانية على الاولى بعد رجوعهما إلى عدم النصّ بالنسبة إلينا.

قوله : (وخروج الجاهل لا دليل عليه) دفع للتوهّم ، وقيل : إنّ المتوهّم هو المحقّق القمّي قدس‌سره.

وملخّصه أنّ التكليف بالمجمل قبيح ، وحينئذ لا يتنجّز التكليف على الجاهل ، فيكون

٣٦٥

وما تقدّم من البعض ـ من منع التكليف بالمجمل ، لاتّفاق العدليّة على استحالة تأخير البيان ـ قد عرفت منع قبحه أوّلا ، وكون الكلام في ما عرض له الإجمال ثانيا.

ثمّ إنّ المخالف في المسألة ممّن عثرنا عليه هو الفاضل القمّي رحمه‌الله ، والمحقّق الخوانساري في ظاهر بعض كلماته ، لكنّه قدس‌سره وافق المختار في ظاهر بعضها الآخر ، قال ـ في مسألة التوضّؤ بالماء المشتبه بالنجس ، بعد كلام له في منع التكليف في العبادات إلّا بما ثبت من أجزائها وشرائطها ـ ما لفظه : «نعم ، لو حصل يقين المكلّف بأمر ولم يظهر معنى ذلك الأمر ، بل يكون

____________________________________

خارجا لئلّا يلزم التكليف بالمجمل.

وحاصل الدفع ، هو عدم قبح تكليف الجاهل بالمراد من المأمور به إذا كان قادرا على الامتثال من طريق الاحتياط بعد عدم تمكّنه من العلم التفصيلي بما هو الواجب واقعا ، وقبح تنجّز التكليف على الجاهل يختصّ بما لم يتمكّن من الاحتياط بعد عدم تمكّنه من الاستعلام ، وذلك لقبح توجّه التكليف إلى العاجز عن استعلامه تفصيلا القادر على الاحتياط.

(وما تقدّم من البعض ـ من منع التكليف بالمجمل ، لاتّفاق العدليّة على استحالة تأخير البيان ـ قد عرفت منع قبحه أوّلا ، وكون الكلام في ما عرض له الإجمال ثانيا).

وتقدّم من المحقّق القمّي قدس‌سره ، حيث قال بمنع التكليف بالمجمل لكونه مستلزما لتأخير البيان عن وقت الحاجة الذي اتّفق العدليّة على استحالته ، فيقول المصنّف قدس‌سره في ردّه بأحد وجهين :

الأول : عدم قبحه مع تمكّن المكلّف من الامتثال ولو بالاحتياط.

والثاني : خروج ما ذكره المحقّق القمّي قدس‌سره من استحالة التكليف بالمجمل عن محلّ الكلام ، وذلك لأنّ التكليف بالمجمل الذاتي يكون قبيحا ، ومحلّ البحث هو الإجمال بالعرض ، والتكليف بما عرض له الإجمال ليس بقبيح. فتأمّل جيدا.

(ثمّ إنّ المخالف في المسألة ممّن عثرنا عليه هو الفاضل القمّي رحمه‌الله والمحقّق الخوانساري قدس‌سره في ظاهر بعض كلماته ، لكنّه قدس‌سره وافق المختار في ظاهر بعضها الآخر ... إلى آخره).

وقد تقدّم من المصنّف قدس‌سره الحكم بوجوب الاحتياط في هذه المسألة ، كالمسألة السابقة ، فيقول : إنّ المخالف في المسألة هو الفاضل القمّي قدس‌سره والمحقّق الخوانساري في

٣٦٦

مردّدا بين امور ، فلا يبعد القول بوجوب تلك الامور جميعا حتى يحصل اليقين بالبراءة» انتهى.

ولكنّ التأمّل في كلامه يعطي عدم ظهور كلامه في الموافقة ، لأنّ الخطاب المجمل الواصل إلينا لا يكون مجملا للمخاطبين ، فتكليف المخاطبين بما هو مبيّن. وأمّا نحن معاشر الغائبين فلم يثبت اليقين ، بل ولا الظنّ بتكليفنا بذلك الخطاب.

فمن كلّف به لا إجمال فيه عنده ، ومن عرض له الإجمال لا دليل على تكليفه بالواقع المردّد ، لأنّ اشتراك غير المخاطبين معهم في ما لم يتمكّنوا من العلم به عين الدعوى.

____________________________________

بعض كلماته ، إلّا أنّ المحقّق الخوانساري يكون موافقا في بعضها الآخر ، حيث قال :

(نعم ، لو حصل يقين المكلّف بأمر ولم يظهر معنى ذلك الأمر ، بل يكون مردّدا بين امور ، فلا يبعد القول بوجوب تلك الامور جميعا حتى يحصل اليقين بالبراءة).

وهذا الكلام منه ظاهر في وجوب الاحتياط ، فيكون بهذا موافقا للمصنّف قدس‌سره.

(ولكنّ التأمّل في كلامه يعطي عدم ظهور كلامه في الموافقة ... إلى آخره) ؛ وذلك لأنّ ظاهر كلامه حيث حكم بوجوب الاحتياط فيما إذا كان الخطاب مجملا هو إجمال الخطاب بالذات لا بالعرض.

فيردّ عليه ـ مضافا إلى عدم ظهوره في الموافقة ، لأنّ ظاهر كلام الخوانساري هو وجوب الاحتياط في المجمل بالذات ، والمصنّف قدس‌سره يقول بوجوب الاحتياط في المجمل بالعرض ـ إنّ الخطاب المجمل الواصل إلينا لا يكون مجملا بالذات للمخاطبين ، فالخطابات بالنسبة إلى الحاضرين المخاطبين كانت مبيّنة لا مجملة على ما يظهر من كلام الخوانساري.

(فمن كلّف به لا إجمال فيه عنده).

أي : من كان مكلّفا بالخطاب لم يكن للخطاب إجمال عنده ، وبذلك يظهر أنّ ما ذكره المحقّق الخوانساري من إجمال الخطاب عند من كلّف به لا يرجع إلى محصّل صحيح ، فتأمّل.

(ومن عرض له الإجمال لا دليل على تكليفه بالواقع المردّد).

أي : من عرض له الإجمال ـ مثل المكلّفين في زماننا هذا ـ لا دليل على تكليفه بالواقع

٣٦٧

فالتحقيق أنّ هنا مسألتين :

إحداهما : إذا خوطب شخص بمجمل ، هل يجب عليه الاحتياط أو لا؟

الثانية : أنّه إذا علم تكليف الحاضرين بأمر معلوم لهم تفصيلا وفهموه من خطاب هو مجمل بالنسبة إلينا معاشر الغائبين ، فهل يجب علينا تحصيل القطع بالاحتياط بإتيان ذلك الأمر أم لا؟ والمحقّق حكم بوجوب الاحتياط في الأوّل دون الثاني.

____________________________________

المردّد ، وذلك لاختصاص الخطابات بالحاضرين وعدم اشتراك الغائبين معهم في الخطاب.

(لأنّ اشتراك غير المخاطبين معهم في ما لم يتمكنوا من العلم به عين الدعوى).

أي : اشتراك الغائبين مع الحاضرين في التكليف حتى في ما لم يتمكّن الغائبون من العلم التفصيلي به ، كالتكليف بالمجمل مع تمكّن الحاضرين من العلم التفصيلي به عين الدعوى ، وذلك لأنّ محلّ النزاع هو تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي كالعلم التفصيلي.

وبالجملة ، إنّ اشتراك الغائبين مع الحاضرين في التكليف ليس محلّا للكلام ، بل هو من الضروريّات ، إلّا أنّ الاشتراك مشروط بشرط وهو اتّحاد الغائبين مع الحاضرين في الصنف ، كالمسافر في زمان الحضور يكون متّحدا مع المسافر في هذا الزمان صنفا.

(فالتحقيق أنّ هنا مسألتين : إحداهما : إذا خوطب شخص بمجمل ، هل يجب عليه الاحتياط أو لا؟).

وقد تقدّم ما يظهر من كلام المحقّق الخوانساري من وجوب الاحتياط في هذه المسألة ، فما ذكره الاستاذ الاعتمادي من فرض كون الخطاب مبيّنا للمخاطب به مخالف لفرض المسألة ، لأنّ المفروض أن يكون الخطاب مجملا لمن خوطب به.

و (الثانية : أنّه إذا علم تكليف الحاضرين بأمر معلوم لهم تفصيلا وفهموه من خطاب هو مجمل بالنسبة إلينا معاشر الغائبين ، فهل يجب علينا تحصيل القطع بالاحتياط بإتيان ذلك الأمر أم لا؟).

وهذا يتصوّر على فرض اشتراك الغائبين مع الحاضرين في التكليف ، كما هو ضروري ، وعلى فرض عدم اشتراكهم معهم في التكليف فلا يجب تحصيل القطع بالواقع بالاحتياط ، وبذلك يظهر أنّ ما ذكره الاستاذ الاعتمادي من فرض عدم اشتراك الغائبين مع

٣٦٨

فظهر من ذلك أنّ مسألة إجمال النصّ إنّما تغاير المسألة السابقة ، أعني : عدم النصّ فيما فرض خطاب مجمل متوجّه إلى المكلّف ، إمّا لكونه حاضرا عند صدور الخطاب ، وإمّا للقول باشتراك الغائبين مع الحاضرين في الخطاب ، أمّا إذا كان الخطاب للحاضرين وعرض له الإجمال بالنسبة إلى الغائبين ، فالمسألة من قبيل عدم النصّ لا إجمال النصّ ، إلّا أنّك عرفت أنّ المختار فيهما وجوب الاحتياط.

____________________________________

الحاضرين في الخطاب صحيح فيما إذا كان مراده من الخطاب غير التكليف.

(والمحقّق حكم بوجوب الاحتياط في الأوّل دون الثاني).

أي : المحقّق الخوانساري حكم بوجوب الاحتياط في الأوّل نظرا منه إلى أنّ توجّه خطاب مجمل إلى مكلّف دليل على تخصيص قاعدة قبح الخطاب بالمجمل وسقوط قصد التعيين ، هذا على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

(دون الثاني) قال الاستاذ الاعتمادي في تعليل عدم الحكم بوجوب الاحتياط في الثاني ما هذا نصّه : «لقبح التكليف بالمجمل والمحال ، وما نحن فيه من قبيل الثاني». انتهى.

وهذا التعليل من الاستاذ ينافي ما ذكره من تعليله الحكم بوجوب الاحتياط في الأوّل ، حيث قال : «نظرا منه إلى أنّ توجّه خطاب مجمل إلى مكلّف دليل على تخصيص قاعدة قبح الخطاب بالمجمل» فكيف يمكن أن يكون التكليف بالمجمل في الثاني قبيحا وفي الأوّل غير قبيح مع أنّ حكم العقل بالقبح ممّا لا يقبل التخصيص؟!

(فظهر من ذلك أنّ مسألة إجمال النصّ إنّما تغاير المسألة السابقة ، أعني : عدم النصّ).

أي : ظهر من فرض مسألتين في إجمال النصّ ورجوع المسألة الثانية منهما إلى عدم النصّ ، أنّ مسألة إجمال النصّ تغاير مسألة عدم النصّ فيما إذا أخذنا من المسألتين ـ في إجمال النصّ ـ المسألة الاولى ، وهي ما إذا كان هناك خطاب مجمل متوجّه إلى المكلّف.

(إمّا لكونه حاضرا عند صدور الخطاب ، وإمّا للقول باشتراك الغائبين مع الحاضرين في الخطاب ، أمّا إذا كان الخطاب للحاضرين وعرض له الإجمال بالنسبة إلى الغائبين ، فالمسألة) ، أي : مسألة إجمال النصّ ترجع إلى مسألة (عدم النصّ لا إجمال النصّ).

والحاصل على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي بتصرّف : «إنّ إجمال النصّ يتصوّر على ثلاثة فروض :

٣٦٩

____________________________________

أحدهما : أن يفرض إجمال الخطاب للحاضر.

ثانيها : أن يفرض إجماله للغائب ، ويحكم باشتراكه مع الحاضر في الخطاب.

ثالثها : أن يفرض إجماله للغائب ، ويحكم بعدم الاشتراك في الخطاب.

والمراد من إجمال النصّ في الحقيقة هو الفرضان الأوّلان ، وأمّا الثالث فهو في الحقيقة داخل في عدم النصّ ، والمحقّق الخوانساري رحمه‌الله حكم بالاحتياط في الفرض الأوّل غير المحقّق ، وفي الفرض الثاني غير الثابت ، لا في الفرض الثالث الذي هو محلّ الكلام ونقول فيه بالاحتياط ، فأين الموافقة؟». انتهى.

(فافهم) لعلّه إشارة إلى أنّ المحقّق الخوانساري لا يخالفنا في مسألة إجمال النصّ ، وإنّما يخالفنا في مسألة عدم النصّ ، وأمّا المحقّق القمّي قدس‌سره فهو يخالفنا فيهما معا ، هذا على ما جاء في شرح الاستاذ الاعتمادي دامت إفاداته.

***

٣٧٠

المسألة الثالثة

تكافؤ النصّين

ما إذا اشتبه الواجب بغيره لتكافؤ النصّين. كما في بعض مسائل القصر والإتمام ، فالمشهور فيه التخيير ، لأخبار التخيير السليمة عن المعارض حتى ما دلّ على الأخذ بما فيه الاحتياط ؛ لأنّ المفروض عدم موافقة شيء منهما للاحتياط ، إلّا أن يستظهر من تلك الأدلّة مطلوبيّة الاحتياط عند تصادم الأدلّة ، لكن قد عرفت فيما تقدّم أنّ أخبار الاحتياط لا تقاوم

____________________________________

(المسألة الثالثة : ما إذا اشتبه الواجب بغيره لتكافؤ النصّين. كما في بعض مسائل القصر والإتمام) ، وهو ما إذا سافر إلى أربعة فراسخ أو إلى أقلّ من ثمانية فراسخ وبات فيه أقلّ من عشرة أيام ، حيث وردت فيه أخبار مختلفة متعارضة دلّ بعضها على وجوب القصر ، وبعضها الآخر على وجوب التمام.

(فالمشهور فيه التخيير) ، أي : التخيير في المسألة الاصوليّة ؛ وذلك (لأخبار التخيير) بين الخبرين المتعارضين (السليمة عن المعارض) ، وما يمكن أن يكون معارضا للتخيير هنا هو أخبار الاحتياط ، إلّا أنّ أخبار التخيير تتقدّم عليها ؛ إمّا لكونها أقوى وأظهر دلالة من أخبار الاحتياط ، أو لكونها أخصّ ، فلا بدّ من تخصيصها بها ، وكيف كان فأخبار التخيير وإن كانت على أقسام :

فمنها : ما دلّ على التخيير مطلقا.

ومنها : ما دلّ عليه بعد فقد جملة من المرجّحات.

ومنها : ما دلّ عليه بعد فقد جميع المرجّحات أو أكثرها. إلّا أنّ ظاهر المصنّف هو الأخير ، حيث جعل منشأ اشتباه الواجب بغيره تكافؤ النصّين ، ثمّ إنّ الغرض من تعرّض المصنّف قدس‌سره هذه المسألة هنا هو لبيان كونها من موارد الاحتياط أو التخيير الذي يدخل في باب البراءة ، وإلّا فإنّ البحث فيها على نحو التفصيل موكول إلى مسألة التعادل والترجيح.

والحاصل أنّ مقتضى أخبار التخيير هو التخيير في المسألة الاصوليّة.

(إلّا أن يستظهر من تلك الأدلّة مطلوبيّة الاحتياط ... إلى آخره) ، حيث يكون الاحتياط ـ حينئذ ـ مرجعا يرجع إليه عند التعارض يحكم بوجوب أخذ ما يكون موافقا للاحتياط ،

٣٧١

سندا ولا دلالة لأخبار التخيير.

____________________________________

فإن كان كلاهما موافقا له فيؤخذ بهما معا.

(لكن قد عرفت فيما تقدّم أنّ أخبار الاحتياط لا تقاوم سندا ولا دلالة لأخبار التخيير) ، فتكون أخبار التخيير متقدّمة على أخبار الاحتياط ، مع أنّ المفروض عدم إمكان الاحتياط ؛ لتعارض النصّين على نحو التباين الكلّي ، بحيث لا يمكن الجمع بينهما حتى يمكن للمكلّف من أن يأتي بهما معا من باب الاحتياط.

٣٧٢

المسألة الرابعة

اشتباه الموضوع

ما إذا اشتبه الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع ، كما في صورة اشتباه الفائتة أو القبلة أو الماء المطلق ، والأقوى هنا ـ أيضا ـ وجوب الاحتياط ، كما في الشبهة المحصورة ، لعين ما مرّ فيها من تعلّق الخطاب بالفائتة واقعا مثلا ، وإن لم يعلم تفصيلا ، ومقتضاه ترتّب العقاب على تركها ولو مع الجهل ، وقضيّة حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل وجوب المقدّمة العلميّة والاحتياط بفعل جميع المحتملات.

____________________________________

(المسألة الرابعة : ما إذا اشتبه الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع ، كما في صورة اشتباه الفائتة أو القبلة أو الماء المطلق).

ولعلّ الغرض من تعدّد الأمثلة هنا هو للإشارة إلى أنّ المثال الأوّل يكون لتردّد ذات الواجب الفائت بين الأمرين المتباينين ، بينما الثاني لتردّد شرطه الاختياري بين الجهات الأربعة ، وأمّا الثالث فلتردّد الشرط الاضطراري ، على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

(والأقوى هنا ـ أيضا ـ وجوب الاحتياط ، كما في الشبهة المحصورة ، لعين ما مرّ فيها) من وجود المقتضي لحرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة وعدم المانع عنهما.

وقد أشار إلى وجود المقتضي في المثال الأوّل بقوله : (من تعلّق الخطاب بالفائتة واقعا مثلا ، وإن لم يعلم تفصيلا) ، فإنّ ما دلّ على وجوب قضاء الفائت يشمل الفائت المعلوم إجمالا ، كما يشمل الفائت المعلوم تفصيلا ، وإلّا جاز ترك الفائت المعلوم إجمالا ، ولم يقل به أحد.

(ومقتضاه ترتّب العقاب على تركها ولو مع الجهل) ، أي : مقتضى شمول الخطاب للفائت وإن لم يعلم تفصيلا ترتّب العقاب على ترك الفائتة وعدم قضائها ولو مع الجهل التفصيلي والعلم الإجمالي. هذا تمام الكلام في وجود المقتضي شرعا.

وأمّا وجوده عقلا ، فقد أشار إليه بقوله : (وقضية حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل وجوب المقدّمة العلميّة والاحتياط بفعل جميع المحتملات).

والحاصل أنّه يأتي في المقام جميع ما تقدّم من وجود المقتضي شرعا وعقلا وعدم المانع كذلك ، إلّا أنّه قد خالف فيما ذكرناه ـ من وجوب الاحتياط ـ الفاضل القمّي قدس‌سره ، فمنع

٣٧٣

وقد خالف في ذلك الفاضل القمّي رحمه‌الله ، فمنع وجوب الزائد على واحدة من المحتملات مستندا في ظاهر كلامه إلى ما زعمه جامعا لجميع صور الشكّ في المكلّف به من قبح التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة.

وأنت خبير بأنّ الاشتباه في الموضوع ليس من التكليف بالمجمل في شيء ؛ لأنّ المكلّف به مفهوم معيّن طرأ الاشتباه في مصداقه لبعض العوارض الخارجيّة ، كالنسيان ونحوه ،

____________________________________

وجوب الزائد على واحدة من المحتملات ، مستندا في ظاهر كلامه إلى ما زعمه جامعا لجميع صور الشكّ في المكلّف به من قبح التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة.

ويمكن تقريب منع وجوب الاحتياط في المقام مع قطع النظر عن لزوم التكليف بالمجمل وقبحه بأن يقال بعدم وجوب الاحتياط من جهة عدم وجود المقتضي ؛ وذلك لأنّ المقتضي لو كان فهو ؛ امّا الإجماع أو الأدلّة اللفظيّة.

أمّا الإجماع ، فالمتيقّن منه هو حرمة المخالفة القطعيّة فقط.

وأمّا الأدلّة اللفظيّة ، فاقتضاؤها وجوب الاحتياط في مورد عدم العلم التفصيلي ، مبنيّ على كون الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ، مع أنّ ظاهرها وضعا أو انصرافا هو المعاني المعلومة تفصيلا. هذا تمام الكلام في تقريب كلام الفاضل القمّي قدس‌سره لعدم وجوب الاحتياط من جهة عدم وجود المقتضي.

وأمّا الجواب عن الإجماع ، فهو أن تقول : إنّ ما ذكر من أنّ المتيقّن منه هو حرمة المخالفة القطعيّة إنّما يتمّ إذا كان المستند في المقام هو الإجماع ، وليس الأمر كذلك ، بل المستند هو الإجماع مع بناء العقلاء وحكم العقل بوجوب المقدّمة العلميّة ، وأمّا عن الأدلّة اللفظيّة ، فلأجل أنّ الحقّ هو كون الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ، لا المتصوّرة أو المعلومة. وعلى فرض كونها موضوعة للمعاني المعلومة فكون المراد من العلم الأعمّ من العلم التفصيلي والإجمالي.

وكيف كان ، فقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى ما أورده على المحقّق القمّي قدس‌سره بقوله :

(وأنت خبير بأنّ الاشتباه في الموضوع ليس من التكليف بالمجمل في شيء ؛ لأنّ المكلّف به مفهوم معين).

٣٧٤

والخطاب الصادر لقضاء الفائتة عام في المعلومة تفصيلا والمجهولة ، ولا مخصّص له بالمعلومة لا من العقل ولا من النقل ، فيجب قضاؤها ، ويعاقب على تركها مع الجهل كما يعاقب مع العلم.

____________________________________

وحاصل ما أفاده قدس‌سره في هذا المقام ، هو أنّ المقام ليس من التكليف بالمجمل حتى يكون قبيحا ، كما ذهب إليه المحقّق القمّي قدس‌سره ، بل التكليف قد تعلّق بالمفهوم المعيّن ثمّ عرض الاشتباه فيه من جهة الامور الخارجيّة ، كما هو مبيّن في المتن ، وفي المقام كلام موضّح للمراد من العلّامة غلام رضا قدس‌سره.

حيث قال ما هذا لفظه : «أقول : شرح ما للمحقّق القمّي قدس‌سره من المراد بحيث يندفع به ما للمصنّف قدس‌سره من الإيراد مبنيّ على مقدّمة ، وهي :

إنّ الإجمال ؛ تارة : يكون في مفهوم متعلّق الخطاب بحيث يورث الجهل بالمراد ، كما في مثل جئني بعين ، واخرى : في مصداقه مع كون مفهومه مبيّنا ، كما إذا أمر المولى عبده بإتيان حمار أبيض ليركب وكان العبد له حالة لا يمتاز بسببها الأبيض عن الأسود ، وكما أن الأوّل يعدّ من الأمر قبيحا لا من جهة كون عقاب الجاهل قبيحا ؛ لأنّ عقاب الجاهل في المقام كما تقدّم ليس بقبيح ، ولا من جهة العسر في الاحتياط ؛ لأنّ فرض الكلام فيما كان الاحتياط في غاية السهولة ، بل من جهة أنّ صرف المخاطبة بالمجمل من القبائح العرفيّة ، فكذلك الثاني فإنّ فيه ـ أيضا ـ مخاطبة بالمجمل ، كيف وكان للمولى أن يعدل عن هذا الطريق من البيان إلى طريق آخر ليس فيه إجمال ، وعدم عدوله منشأ للقبح.

ولا يفرّق في هذا بين ما إذا اختصّ العبد بهذه الحالة ، أو كان له حالتان يمتاز في إحداهما الأبيض عن الأسود ، كما في النهار مثلا ، ولا يمتاز في الاخرى ، كما في الليل ، وكان مساق الخطاب على نحو العموم ، فكما أنّ الأوّل قبيح لكونه خطابا بالمجمل ، فكذلك الثاني ، وما نحن فيه ، أعني : عموم وجوب الصلاة إلى القبلة ، وكذا قضاء الفوائت ونحوهما بالنسبة إلى حالتي العلم والجهل من قبيل الثاني ، فإن التزم فيها بعموم الخطاب بالنسبة إلى حالتي العلم والجهل فهو خطاب بالمجمل ، وهو قبيح ، وإن التزم باختصاصه بالعالم فيكون المرجع في حقّ الجاهل أصالة البراءة.

فإن قلت : إنّ الداعي للمولى في الخطاب بالمجمل ثبوت ضرورة له ، كخوف ونحوه.

٣٧٥

ويؤيّد ما ذكرنا ما ورد من وجوب قضاء ثلاث صلوات على من فاتته فريضة (١) ، معلّلا ذلك ببراءة الذمّة على كلّ تقدير ، فإنّ ظاهر التعليل يفيد عموم مراعاة ذلك في كلّ مقام اشتبه عليه الواجب.

____________________________________

قلت : إنّ مقتضى الأصل الجهتي عدمه ، فلا بدّ من التخصيص في العموم ، لكي لا يلزم القبح عليه. إذا عرفت هذه فنقول :

إنّ مراد المحقّق المزبور أنّ الخطاب في مثل اقض ما فات ، وكذا صلّ إلى القبلة وأمثالهما إنّما هو مختصّ بحالة العلم دون الجهل ، لأنّه بالنسبة إلى حالة الجهل خطاب بالمجمل ، وحينئذ يدور الأمر بين أن يكون للمولى ضرورة في الخطاب بالمجمل لكي يخرج بالمجمل عن موضوع القبح وكونه عامّا للعالم والجاهل بمقتضى أصالة العموم فيتعين الاحتياط في حقّ الأخير ، وبين أن لا يكون له ضرورة فيه فيختصّ الخطاب بالعالم ، ويكون المرجع في حقّ الجاهل أصالة البراءة ، والأصل الجهتي مقدّم على أصالة العموم ، كما حقّق في محلّه ، فيكون المتعيّن هو الثاني.

هذا وأنت خبير بما فيه من منع اختصاص الخطاب بالعالمين ، وسند المنع ما يأتي في كلام المصنّف قدس‌سره : من أنّ مفروض الكلام ما إذا ثبت الوجوب الواقعي للفعل بهذا الشرط ، وإلّا لم يكن من الشكّ في المكلّف به». انتهى.

(ويؤيّد ما ذكرنا) من وجوب الاحتياط والإتيان بجميع المحتملات (ما ورد من وجوب قضاء ثلاث صلوات) رباعية وثلاثية وثنائية (على من فاتته فريضة) مردّدة بين خمس صلوات مثل صلاة الصبح ، والظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، ثمّ علّل الإتيان بثلاث صلوات قضاء بأنّ ذلك موجب لبراءة الذمة من التكليف.

(على كلّ تقدير) ، أي : سواء كان ما فات منه ثنائية كالصبح ، أو ثلاثيّة كالمغرب ، أو رباعيّة كالظهر والعصر والعشاء ، وظاهر التعليل المذكور يفيد مراعاة الاحتياط في كلّ مورد اشتبه الواجب على المكلّف. وإنّما جعل المصنّف قدس‌سره ما ورد في وجوب قضاء ثلاث صلوات مؤيّدا ، ولم يجعله دليلا ، لأن محلّ الكلام هو الاحتياط ، ومقتضى الاحتياط التامّ

__________________

(١) التهذيب ٢ : ١٩٧ ـ ٧٧٤ ، ٧٧٥. الوسائل ٨ : ٢٧٥ ـ ٢٧٦ ، أبواب قضاء الصلوات ، ب ١١ ، ح ١ ، ٢.

٣٧٦

ولذا تعدّى المشهور عن مورد النصّ ـ وهو تردّد الفائتة بين رباعيّة وثلاثيّة وثنائيّة ـ إلى الفريضة الفائتة من المسافر المردّدة بين ثنائيّة وثلاثيّة ، فاكتفوا فيها بصلاتين.

____________________________________

في مورد الرواية هو إيجاب أربع صلوات رعاية لجانب الجهر والإخفات ـ أيضا ـ لا الثلاث المستلزم للتخيير في الرباعيّة بين الجهر والإخفات ، وكيف كان فإنّ التعليل المذكور يفيد العموم.

(ولذا تعدّى المشهور عن مورد النصّ ـ وهو تردّد الفائتة بين رباعيّة وثلاثيّة وثنائيّة ـ إلى الفريضة الفائتة من المسافر المردّدة بين ثنائيّة وثلاثيّة ، فاكتفوا فيها بصلاتين) إحداهما ثنائيّة مردّدة بين أربع صلوات والاخرى ثلاثيّة.

٣٧٧

تنبيهات

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : إنّه يمكن القول بعدم وجوب الاحتياط في مسألة اشتباه القبلة ونحوها ممّا كان الاشتباه الموضوعيّ في شرط من شروط الواجب ، كالقبلة واللباس وما يصحّ السجود عليه وشبهها ، بناء على دعوى سقوط هذه الشروط عند الاشتباه ، ولذا أسقط الحلّي وجوب الستر عند اشتباه الساتر الطاهر بالنجس وحكم بالصلاة عاريا ، بل النزاع فيما كان من هذا القبيل ينبغي أن يكون على هذا الوجه ، فإنّ القائل بعدم وجوب الاحتياط ينبغي أن يقول بسقوط الشروط عند الجهل ، لا بكفاية الفعل مع احتمال الشرط ، كالصلاة المحتمل وقوعها إلى القبلة بدلا عن القبلة الواقعيّة.

____________________________________

(وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : إنّه يمكن القول بعدم وجوب الاحتياط في مسألة اشتباه القبلة ونحوها ممّا كان الاشتباه الموضوعي في شرط من شروط الواجب).

وقد تقدّم الكلام في حكم اشتباه الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع في المسألة المتقدّمة ، إلّا أنّ اشتباه الواجب بغيره بعنوان الشبهة الموضوعيّة على قسمين :

الأوّل : ما يكون الاشتباه فيه من جهة ذات الواجب بأن يكون الواجب مردّدا بين أمرين ، كالصلاة الفائتة المردّدة بين الظهر والعصر مثلا.

والثاني : ما كان الاشتباه فيه من جهة شرط من شروط الواجب ، كالقبلة واللباس ونحوهما ، فكلا القسمين داخل في المسألة الرابعة والمبحوث فيها عن الشبهة الموضوعيّة ، إذ لا فرق بينهما من هذه الجهة ، إلّا أنّه يمكن التفريق بينهما من جهة اخرى ، وهي أنّ كلّ من يقول بالاحتياط في سائر موارد العلم الإجمالي يقول به في القسم الأوّل ، إذ لا فرق في وجوب الاحتياط بين تردّد الواجب بين الظهر والجمعة يومها من جهة إجمال النصّ أو عدمه في الشبهة الحكميّة ، وبين تردّده بين الظهر والعصر بعد العلم الإجمالي بفوات أحدهما في الشبهة الموضوعيّة.

بخلاف القسم الثاني حيث يمكن فيه القول بالتخيير ممّن يقول بالاحتياط في سائر

٣٧٨

ثمّ الوجه في دعوى سقوط الشرط المجهول إمّا انصراف أدلّته إلى صورة العلم به تفصيلا ، كما في بعض الشروط ، نظير اشتراط الترتّب بين الفوائت ، وإمّا دوران الأمر

____________________________________

الموارد وبالعكس ، أي : يمكن فيه القول بوجوب الاحتياط ممّن يقول بالتخيير في سائر الموارد ، وذلك بعد تغيير عنوان البحث فيه من الاحتياط والتخيير إلى سقوط الشرطيّة عند الاشتباه وعدمه ، بأن يقال : إنّ شرطيّة القبلة مثلا هل هي في جميع الأحوال لازمة في الصلاة أو مختصّة بحال العلم تفصيلا فتسقط عند الاشتباه؟ ، إذ على القول بعدم السقوط يجب تكرار الصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة وتكرارها في الثوبين المشتبهين عند اشتباه الثوب الطاهر بالنجس ، حتى يحصل العلم بالصلاة إلى القبلة في المثال الأوّل ، وفي الثوب الطاهر في المثال الثاني ، فيكون لازم القول بعدم السقوط هو الاحتياط.

وأمّا على القول بسقوط الشرطيّة عند الاشتباه بدعوى اختصاص الشرط بالعلم به تفصيلا ، فيأتي بالمشروط فاقدا للشرط ، ولازمه هو التخيير بين الصلاة الواحدة إلى إحدى الجهات عند اشتباه القبلة وفي الثوب الواحد عند اشتباه الثوب الطاهر بالنجس.

وكيف كان ، فإنّ المصنّف قدس‌سره قرّر النزاع هنا في أصل ثبوت الشرطيّة وعدمه ، وقد قال الحلّي قدس‌سره بسقوط وجوب الستر في الصلاة عند اشتباه الساتر الطاهر بالنجس وحكم بالصلاة عاريا. والمصنّف قدس‌سره ممّن يقول بعدم سقوط الشرطيّة ووجوب الاحتياط عند الجهل بالشرط.

ثمّ إنّ المصنّف قدس‌سره ذكر وجهين لاحتمال سقوط الشرط المجهول ، وقد أشار إلى الوجه الأوّل بقوله :

(إمّا انصراف أدلّته إلى صورة العلم به تفصيلا ، كما في بعض الشروط ، نظير اشتراط الترتّب بين الفوائت).

فكما لا يشترط الترتيب بين الفوائت ، كذلك لا تشترط القبلة مثلا في الصلاة عند الجهل بها ؛ لانصراف ما دلّ على الاشتراط إلى الاشتراط عند العلم بالشرط تفصيلا ، هذا فيما إذا كان دليل الاشتراط من الأدلّة اللفظيّة مثل الكتاب والسنة ، وأمّا لو كان إجماعا ، فيمكن أن يقال : إنّ المتيقّن منه ـ أيضا ـ هو صورة العلم التفصيلي بالشرط ، هذا هو الوجه الأوّل.

٣٧٩

بين إهمال هذا الشرط المجهول وإهمال شرط آخر ، وهو وجوب مقارنة العمل لوجهه بحيث يعلم بوجوب الواجب وندب المندوب حين فعله ، وهذا يتحقّق مع القول بسقوط الشرط المجهول ، وهذا هو الذي يظهر من كلام الحلّي.

وكلا الوجهين ضعيفان ، أمّا الأوّل ؛ فلأنّ مفروض الكلام ما إذا ثبت الوجوب الواقعي للفعل بهذا الشرط وإلّا لم يكن من الشكّ في المكلّف به ، للعلم ـ حينئذ ـ بعدم وجوب الصلاة إلى القبلة الواقعيّة المجهولة بالنسبة إلى الجاهل.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ ما دلّ على وجوب مقارنة العمل بقصد وجهه والجزم مع النيّة إنّما يدلّ عليه مع التمكّن.

ومعنى التمكّن القدرة على الإتيان به مستجمعا للشرائط جازما بوجه من الوجوب والندب حين الفعل ، أمّا مع العجز عن ذلك فهو المتعيّن للسقوط دون الشرط المجهول الذي أوجب العجز عن الجزم بالنيّة.

____________________________________

وأمّا الوجه الثاني فقد أشار إليه بقوله :

(وإمّا دوران الأمر بين إهمال هذا الشرط المجهول وإهمال شرط آخر ، وهو وجوب مقارنة العمل لوجهه) ، فيكون الأمر دائرا بين رفع اليد عن الشرط المجهول والإتيان بالصلاة الواحدة مع الجزم بالنيّة وقصد الوجوب ، وبين رفع اليد عن الشرط المعلوم وتكرار الصلاة من دون قصد التعيين والوجوب.

ومن المعلوم أنّ رفع اليد عن الشرط المجهول وإتيان العمل جازما بالنيّة وقصد الوجه يكون هو الأولى بالاحتياط من العكس ، هذا ما يمكن أن يستدلّ به على سقوط الشرطيّة عند الاشتباه ، ثمّ أشار قدس‌سره إلى ردّ كلا الوجهين بقوله :

(وكلا الوجهين ضعيفان ، أمّا الأوّل ؛ فلأنّ مفروض الكلام ما إذا ثبت الوجوب الواقعي للفعل بهذا الشرط) فلا وجه ـ حينئذ ـ للقول بسقوط الشرطيّة لكونه مخالفا لما هو المفروض.

(وأمّا الثاني ؛ فلأنّ ما دلّ على وجوب مقارنة العمل بقصد وجهه والجزم مع النيّة إنّما يدلّ عليه مع التمكّن) ، والمفروض في المقام هو عدم تمكّن المكلّف من الجزم بالنيّة وقصد الوجه عند اشتباه الشرط بعد فرض عدم السقوط ، كما هو كذلك ، فيتعيّن سقوط

٣٨٠