دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

أو المخيّر والاكتفاء به من الواقع بوجوب الاحتياط حذرا من ترك الواجب الواقعيّ ، وأين

____________________________________

المخاطب معدّا للاستماع ـ ممّا لا شبهة في قبحه ، مع قطع النظر عن مقام الامتثال ، نظير تخصيص الأكثر حيث لم يكن فيه قبح عملي ، إذ ليس فيه محذور في مقام العمل ، وإنّما هو من القبائح الذاتيّة ، وممّا يستهجنه العرف في مقام المخاطبة ، هذا وأنت خبير بأنّ المبنى في عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة إن كان ما عدا الوجه الأخير ، فلا دخل له بالمقام.

أمّا على الأوّل ، فلأنّ لزوم التكليف بالمحال إنّما يتمّ في ما لا سبيل إلى الاحتياط فيه ، وأمّا ما كان فيه سبيل إلى الاحتياط ، كما في ما نحن فيه فلا يتمّ ، فإنّ المرجع فيه ـ حينئذ ـ هو الاحتياط ، فأين لزوم التكليف بما لا يطاق؟.

وأمّا على الثاني ، فلأنّه يجري فيما إذا كان الخطاب بما له ظاهر ، والمتكلّم يريد خلافه ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه غير مستلزم للإغراء.

وأمّا على الثالث ، فلأنّه مبني على كون المرجع في مسألة التكليف بالمجمل هو البراءة وهو بمعزل عن التحقيق ، بل المرجع فيها هو الاحتياط بحكم العقل ، فالشارع وإن لم يبيّن التكليف بلسانه الشريف لكنّه اكتفى فيه بحكم العقل بالاحتياط ، فيبعث المكلّف بحكم العقل إلى امتثال التكليف من طريق الاحتياط.

إلى أن قال : وأمّا إن كان المبنى فيه هو الوجه الأخير فله ـ بلا كلام ـ دخل في المقام. هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل ، مع تلخيص وتصرّف في الجملة.

وثانيها : إنّ الإجمال في الخطاب ؛ تارة : يكون أوّلا وبالذات ، واخرى : ثانيا وبالعرض ، مثاله ما إذا أمر المولى عبيده بشيء كان مبيّنا بالنسبة إلى بعضهم ، وعرض له الإجمال بالنسبة إلى الآخرين.

وفي هذا يكون جميع المأمورين من الحاضر والغائب مخاطبين بهذا الخطاب ، كما إذا كان هذا الخطاب معرّى عمّا يدلّ على المشافهة كحرف النداء ، وكاف الخطاب ، وأمثالهما.

واخرى : يكون المخاطب به بعضهم المعيّن ، وكان ثبوت التكليف للآخر بدليل خارج ، كما إذا كان الخطاب مشتملا على ما يدلّ على المشافهة. وما ذكرنا من أنّ الخطاب بالمجمل من القبائح الذاتيّة لا يفرّق فيه بين هذه الأقسام.

وثالثها : إنّه لا شبهة في أنّ الحاضرين في مجلس تخاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذا الأئمّة عليهم‌السلام

٣٤١

ذلك من مسألة التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة؟ مع أنّ التكليف بالمجمل

____________________________________

كانت الخطابات المسوقة لبيان الأحكام الشرعيّة بالنسبة إليهم في أعلى مرتبة البيان حال حضور عملهم.

وأمّا الغائبون وكذا المعدومون ، فإمّا أن يكون ثبوت التكليف في حقّهم بنفس هذه الخطابات ، كالمعرّى ممّا يدلّ على المشافهة ، مثل قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)(١) الآية ، أو يكون بغيرها ممّا يدلّ على اشتراك التكليف كالمشتمل على ما يدلّ عليها ، مثل قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(٢) ونحوه ، وما دلّ على الاشتراك بين ما يكون من مقولة اللّب ، كالإجماع والضرورة ، وما يكون من مقولة الدليل اللفظي مثل قوله عليه‌السلام : (حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة) (٣).

إذا عرفت هذه الامور ، فنقول في شرح ما للمحقّق القمّي رحمه‌الله من المراد بحيث يندفع به ما ذكره المصنّف قدس‌سره من الإيراد : إنّ ثبوت التكليف في حقّنا زمرة المعدومين في زمن الحضور إذا كان متعلّقه من المجملات إنّما هو مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو كما عرفت في الوجه الرابع من القبائح الذاتيّة ، غاية ما في الباب كون المقام من القسم الثاني من الإجمال في الخطاب ، أعني : ما كان الإجمال فيه ثابتا بالنسبة إلى البعض ، وبعد ما عرفت من عدم الفرق بين ما رقّمنا فيه من الأقسام لا شبهة في ثبوت القبح بالنسبة إلى هذا المقام.

فإن قلت : لزوم المحذور المزبور إنّما هو مسلّم فيما إذا كان الإجمال في الخطاب ناشئا من قبل المولى ، وأمّا إذا كان المولى مبيّنا له بجميع أطرافه ، وإنّما عرض له الإجمال من جهة المانع الخارجي ، كما هو كذلك بالنسبة إلينا معاشر المعدومين ، فليس فيه مخاطبة بالمجمل حتى يقع معروضا للقبح ، بل يجب ـ حينئذ ـ الرجوع إلى ما يقتضيه العقل من البراءة والاحتياط ، ومقتضى العلم الإجمالي بضمّ المقدّمة العلميّة هو الاحتياط.

قلت : إنّ هذا متين فيما إذا كان المولى الآمر جاهلا بالعواقب ، وعاجزا عن دفع الموانع ،

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

(٢) البقرة : ٨٣.

(٣) الكافي ١ : ٥٨ / ١٩. الوسائل ٣٠ : ١٩٦ ، الفائدة السادسة.

٣٤٢

وتأخير البيان عن وقت العمل لا دليل على قبحه ، إذا تمكّن المكلّف من الإطاعة ولو

____________________________________

وأمّا إذا كان عالما بها وقادرا على دفعها ، ولم يأت بمقام الدفع ، فوصل الخطاب إلى عبيده على سبيل الإجمال ، فالمؤاخذة عليه من القبائح ، والأمر في الأحكام الشرعيّة كلّها من هذا القبيل ، فإنّه تعالى قادر على دفع الموانع ، وعالم بأنّه يصل الخطابات إلى عبيده جيلا بعد جيل ونسلا بعد نسل ، وما يعرض عليها.

فإن قلت : لعلّ المصلحة والضرورة بعثت الشارع على ذلك ، فهو يكشف عن جعله الاحتياط في مقام الامتثال.

قلت : إنّ مجرّد الاحتمال غير كاف في مقام الاستدلال ، ولا يوجب رفع القبح الثابت من طرف الإجمال ، أو ليس تخصيص الأكثر بقبيح ذاتي ، فلو ظفرنا بخطاب شأنه ذلك فمجرّد احتمال مصلحة في انسباكه بهذا المنهج لا يوجب رفع قبحه ، لكي يأخذ به ، ويستنبط منه الحكم ، بل لا بدّ من طرحه والرجوع إلى غيره.

فإن قلت : إنّ الدليل الدال على اشتراك التكليف بين الموجودين والمعدومين يدلّ على ثبوت التكليف في حقّ المعدومين ، ومقتضاه ثبوت الاحتياط في مثل المقام.

قلت : أوّلا : إنّه من باب الخطاب بالمجمل ، ومقتضاه كما مضى هو الرجوع إلى البراءة فيه.

فإن قلت : إنّ دليل الاشتراك إنّما هو جار في الخطاب المختصّ بالمشافهين ، فليس بالنسبة إلى المعدومين خطاب لكي يلزم فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، لأنّ الخطاب المزبور إن كان ما دلّ على نفس الحكم ، فالمفروض اختصاصه بالمشافهين ، وإن كان ما دلّ على الاشتراك ، فهو ربّما لا يكون من مقولة اللفظ ، بل يكون من مقولة اللّب كالإجماع.

قلت : إنّ عدم البيان وقت الحاجة بنفسه من القبائح الذاتيّة سواء فرض ثبوته في ما هو من اللفظ ، أو ما هو من اللّب.

وثانيا : نمنع ثبوت العموم في دليل الاشتراك ؛ لأنّه بين لفظي ولبّي ، وكلّ منهما ليس له مسرح في المقام.

أمّا الأوّل ـ أعني : قوله عليه‌السلام : (حلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال ... إلى آخره) ـ فلأنّه مسوق لبيان استمرار أحكامه صلى‌الله‌عليه‌وآله نوعا في قبال نسخها بدين آخر ، لا بيان استمرار أحكامه الشخصيّة من غير فرق فيها بين الموجود والمعدوم ، فهو ممّا لا يثبت الإطلاق في أدلّة الأحكام ، لكي

٣٤٣

بالاحتياط.

____________________________________

يثبت به الحكم في حقّ المعدوم أيضا.

وأمّا الثاني ـ أعني : الإجماع ـ فلأنّ المسلّم من معقده إنّما هو حال اتّحاد الصنف ، وعدمه في المقام واضح ، كيف والحاضرون كانوا عالمين بمتعلّق أحكامهم ، والمعدومون من الجاهلين به؟ هذا ، لكن بعد في كلام المحقّق القمّي قدس‌سره مجال للنظر.

أمّا أوّلا : فلأنّه قدس‌سره في باب الخطاب الشفاهي معترف بأنّ العلم والجهل ممّا لا يوجب الاختلاف في الصنف بين الحاضر والغائب ، ولازم هذا هو الالتزام بالاحتياط في المقام.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره قدس‌سره من الدليل على البراءة في الشبهة الحكميّة غير جار في الشبهة الموضوعيّة من الشكّ في المكلّف به لكون الخطاب بالنسبة إليها في غاية البيان ، فلا رادع فيها من العمل بالاحتياط ، والشبهة الحكميّة تلحق بها بالإجماع المركّب لعدم وجود القول بالتفصيل بينهما.

فإن قلت : يمكن قلب هذا الإجماع بأن يقال : إذا ثبتت البراءة في الشبهة الحكميّة بالدليل الذي ذكره قدس‌سره ، فيلحق بها الشبهة الموضوعيّة بعدم الفصل ، ولذا كان المحقّق المزبور قائلا بالبراءة فيها أيضا.

قلت : إن بنى على جواز خرق الإجماع المركّب في الأحكام الظاهريّة ـ بأن يرجع في كلّ مسألة إلى الدليل الموجود فيها ، ولازمه هو الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة والبراءة في الشبهة الحكميّة ـ فلا وجه لاختياره البراءة في كلتيهما.

وإن بنى على عدمه فتكون المسألتان ـ بعد تحرير الإجماع المزبور في كلّ منهما ـ ممّا تعارض فيه قاعدة الاشتغال والبراءة ، ومقتضى الأصل فيه هو الرجوع إلى الاحتياط ، لأنّ الأصل في الأشياء قبل ملاحظة قاعدة قبح العقاب هو الحظر ، وبعد تعارضها بقاعدة الاشتغال بكون المحكم هو الأصل المزبور.

وأمّا ثالثا : فبأنّه كيف يصار إلى البراءة وهي خلاف مفاد أخبار التوقّف والاحتياط ، ومقتضى الجمع بينها وبين أخبار البراءة إنّما هو حمل الاولى على مورد العلم الإجمالي ، والثانية على الشبهة البدويّة؟ فإنّ أخبار البراءة نصّ في الشبهة البدويّة وظاهر في المقرون بالعلم الإجمالي ، يعني : لا يمكن إخراج الشبهة البدويّة عن تحتها وتخصيصها بمورد العلم

٣٤٤

وأمّا ما ذكره تبعا للمحقّق المذكور : «من تسليم وجوب الاحتياط إذا قام الدليل على وجوب شيء معيّن في الواقع غير مشروط بالعلم به».

ففيه : إنّه إذا كان التكليف بالشيء قابلا لأن يقع مشروطا بالعلم ، ولأن يقع منجّزا غير مشروط بالعلم بالشيء ، كان ذلك اعترافا بعدم قبح التكليف بالشيء المعيّن المجهول ، فلا يكون العلم شرطا عقليّا.

____________________________________

الإجمالي ، وعكس ذلك ما هو في قبالها ، ومقتضى رفع اليد عن ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر إنّما هو الجمع الذي ذكرنا.

فإن قلت : لا ينحصر وجه الجمع فيما ذكر ، بل له وجه آخر وهو حمل أخبار التوقّف على اصول الدين وأخبار الاحتياط على الاستحباب.

قلت : إنّ هذا مستلزم للمجاز ، حيث إنّه في الأوّل يوجب حمل (اللام) في قوله عليه‌السلام : (قفوا عند الشبهة) (١) على العهد ، وفي الثاني حمل الأمر على الاستحباب بخلاف ما ذكرنا ، فإنّه مستلزم للتخصيص وهو أولى من المجاز». انتهى كلامه رفع مقامه. وقد ذكرناه بطوله ؛ لأنّه لا يخلو عن فائدة دقيقة لمن يريد التحقيق.

(وأمّا ما ذكره تبعا للمحقّق المذكور) ، أي : ما ذكره المحقّق القمّي قدس‌سره تبعا للمحقّق الخوانساري (من تسليم وجوب الاحتياط إذا قام الدليل على وجوب شيء ... إلى آخره) على ما تقدّم في قوله : «نعم لو فرض حصول الإجماع أو ورود النصّ على وجوب شيء معيّن عند الله تعالى» إلى أن قال : «لتمّ ذلك» أي : وجوب الاحتياط.

إلى أن قال : «ولكن من أين هذا الفرض وأنّى يمكن إثباته؟» ، أي : لا يمكن إثبات هذا الفرض ، لكونه مستلزما للمحال على ما تقدّم في كلامه ، حيث قال : فإنّ التكليف بالمجمل مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة الذي اتّفق أهل العدل على استحالته. نعم ، لو فرض وجود هذا المحال كان الاحتياط واجبا.

(ففيه : إنّه إذا كان التكليف بالشيء قابلا لأن يقع مشروطا بالعلم ، ولأن يقع منجّزا غير مشروط بالعلم بالشيء ، كان ذلك اعترافا بعدم قبح التكليف بالشيء المعيّن المجهول ، فلا

__________________

(١) التهذيب ٧ : ٤٧٤ / ١٩٠٤ ، بتفاوت. الوسائل ٢٠ : ٢٥٩ ، أبواب مقدمات النكاح وآدابه ، ب ١٥٧ ، ح ٢.

٣٤٥

وأمّا اشتراط التكليف به شرعا فهو غير معقول بالنسبة إلى الخطاب الواقعي ، فإنّ الخطاب الواقعي في يوم الجمعة ، سواء فرض قوله : صلّ الظهر ، أم فرض قوله : صلّ الجمعة ، لا يعقل أن يشترط بالعلم بهذا الحكم التفصيلي.

نعم ، بعد اختفاء هذا الخطاب المطلق يصحّ أن يرد خطاب مطلق ، كقوله : اعمل بذلك الخطاب ولو كان عندك مجهولا ، وائت بما فيه ولو كان غير معلوم ، كما يصحّ أن يرد خطاب

____________________________________

يكون العلم شرطا عقليّا).

وحاصل الإشكال على كلام المحقّق القمّي قدس‌سره هو إنّ ما ذكره ـ من فرض قيام الدليل على تنجّز التكليف من دون اعتبار العلم التفصيلي في تنجّزه ـ اعتراف منه بعدم قبح التكليف بالمجمل ، أي : المعيّن عند الله تعالى والمجهول عندنا ، إذ لو كان قبيحا لم يقع أصلا ولو مع فرض قيام الدليل عليه.

فما ذكره ـ من وقوع التكليف بالمجمل مع قيام الدليل ثمّ وجوب الاحتياط في مقام الامتثال ـ اعتراف منه بعدم قبح التكليف بالمجمل ، وحينئذ لا يكون العلم التفصيلي شرطا عقليّا لتنجّز التكليف ، فتأمّل جيدا!.

(وأمّا اشتراط التكليف به شرعا فهو غير معقول ... إلى آخره).

أي : اشتراط التكليف بالعلم شرعا ممّا لا يعقل ولا يمكن لكونه مستلزما للدور ، وذلك لأنّ التكليف ـ حينئذ ـ موقوف على العلم كتوقّف كلّ مشروط على شرطه ، والعلم ـ أيضا ـ موقوف على التكليف ، لتوقّف تحقّق العلم على تحقّق المتعلّق قبله كي يتعلّق به.

والحاصل : إنّ الخطاب الواقعي الدالّ على إنشاء الحكم لا يمكن أن يقيّد بالعلم التفصيلي ، فإنّ التقييد المذكور مستلزم للدور والتصويب.

(نعم ، بعد اختفاء هذا الخطاب المطلق يصحّ أن يرد خطاب مطلق) آخر دالّ على عدم اعتبار العلم التفصيلي في تنجّز التكليف بالخطاب المطلق الأوّل عند تردّده بين الخطابين ، أي : صلّ الظهر ، أو : صلّ الجمعة في يوم الجمعة ، سواء كان الخطاب الثاني دالّا على عدم شرطيّة العلم التفصيلي في التنجّز بالعموم كقوله : يجب عليك الاحتياط عند التردّد ، أو بالخصوص ، كقوله : (اعمل بذلك الخطاب ولو كان عندك مجهولا ، وائت بما فيه ولو كان غير معلوم) ، وكذلك (يصحّ أن يرد خطاب مشروط) ، أي : دالّ على شرطيّة العلم

٣٤٦

مشروط وأنّه : لا يجب عليك ما اختفى عليك من التكليف في يوم الجمعة ، وأنّ وجوب امتثاله عليك مشروط بعلمك به تفصيلا ، ومرجع الأوّل إلى الأمر بالاحتياط ، ومرجع الثاني إلى البراءة عن الكلّ إن أفاد نفي وجوب الواقع رأسا ، المستلزم لجواز المخالفة القطعيّة ، وإلى نفي ما علم إجمالا بوجوبه وإن أفاد نفي وجوب القطع بإتيانه وكفاية إتيان بعض ما يحتمله ، فمرجعه إلى جعل البدل للواقع والبراءة عن إتيان الواقع على ما هو عليه.

لكنّ دليل البراءة على الوجه الأوّل ينافي العلم الإجمالي المعتبر بنفس أدلّة البراءة

____________________________________

التفصيلي في تنجّز التكليف ، فلا يجب امتثال التكليف ما لم يعلم تفصيلا.

فالحاصل أنّه لا يمكن أن يكون الخطاب الواقعي الدالّ على إنشاء الحكم دالّا على عدم اعتبار العلم التفصيلي في تنجّز التكليف ، أو على اعتباره في التنجّز ، بل لا بدّ من بيان عدم اعتبار العلم التفصيلي في التنجّز واعتباره من خطاب آخر ، كما عرفت.

(ومرجع الأوّل إلى الأمر بالاحتياط).

أي : مرجع ورود الخطاب الثاني الدالّ على عدم شرطيّة العلم التفصيلي في التنجّز هو وجوب الاحتياط بعد تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي.

(ومرجع الثاني إلى البراءة).

أي : مرجع اشتراط تنجّز التكليف بالعلم التفصيلي هو البراءة ما لم يعلم التكليف تفصيلا.

ثمّ إنّ نفي تنجّز التكليف عند انتفاء العلم التفصيلي إن أفاد نفي وجوب الواقع رأسا المستلزم لجواز المخالفة القطعيّة ، كان مرجعه إلى نفي ما علم إجمالا وجوبه.

(وإن أفاد نفي وجوب القطع بإتيانه ... إلى آخره).

أي : نفي وجوب الموافقة القطعيّة وكفاية الموافقة الاحتماليّة ، كان مرجعه إلى جعل البدل للواقع.

وبالجملة ، إنّ مرجع الأوّل إلى نفي حرمة المخالفة القطعيّة ، ومرجع الثاني إلى نفي وجوب الموافقة القطعيّة ، فيكون لازم الأوّل جواز المخالفة القطعيّة ، ولازم الثاني جعل بعض الأطراف بدلا عن الواقع.

(لكنّ دليل البراءة على الوجه الاوّل ينافي العلم الإجمالي المعتبر بنفس أدلّة البراءة

٣٤٧

المغيّاة بالعلم ، وعلى الوجه الثاني غير موجود ، فيلزم من هذين الأمرين ـ أعني : وجوب مراعاة العلم الإجمالي ، وعدم وجود دليل على قيام أحد المحتملين مقام المعلوم إجمالا ـ حكم العقل بوجوب الاحتياط ، إذ لا ثالث لذينك الأمرين ، فلا حاجة إلى أمر الشارع بالاحتياط ، ووجوب الإتيان بالواقع غير مشروط بالعلم التفصيلي به ، مضافا إلى ورود الأمر بالاحتياط في كثير من الموارد.

وأمّا ما ذكره : «من استلزام ذلك الفرض ـ أعني : تنجّز التكليف بالأمر المردّد من دون اشتراط بالعلم به ـ لإسقاط قصد التعيين في الطاعة».

____________________________________

المغيّاة بالعلم).

إذ العلم الذي يكون غاية البراءة والحكم بالحلّية أعمّ من العلم التفصيلي والإجمالي ، فلا يجوز جريان البراءة في الكلّ ؛ لأنّه مستلزم للمخالفة القطعيّة ، وهي محرّمة قطعا ، لأنّ أقلّ مرتبة اعتبار العلم الإجمالي ـ على ما تقدّم ـ هي حرمة المخالفة القطعيّة ، فحينئذ يجب حملها على الشبهات البدويّة.

(وعلى الوجه الثاني غير موجود).

أي : على نفي وجوب الموافقة القطعيّة بأدلّة البراءة وكفاية الموافقة الاحتماليّة بجعل البعض بدلا عن الواقع ، لزم الحكم بالبدليّة بغير دليل موجود في المقام ، لأنّ أدلّة البراءة لا تدلّ على البدليّة أصلا ، بل يدور أمرها بين جريانها في جميع الأطراف وبين عدم جريانها في شيء منها ، والأوّل على فرض شمولها لأطراف العلم الإجمالي ، والثاني على فرض عدم شمولها لها أصلا ، لما تقدّم من التنافي.

(فيلزم من هذين الأمرين ، أعني : وجوب مراعاة العلم الإجمالي) الذي يقتضي تنجّز التكليف (وعدم وجود دليل على قيام أحد المحتملين مقام المعلوم إجمالا) ، أي : فيلزم من الأمرين المذكورين (حكم العقل بوجوب الاحتياط ، إذ لا ثالث لذينك الأمرين) ولازمهما هو وجوب الاحتياط بحكم العقل من دون حاجة (إلى أمر الشارع بالاحتياط ، ووجوب الإتيان بالواقع غير مشروط بالعلم التفصيلي) ، على ما عرفت.

(وأمّا ما ذكره : «من استلزام ذلك الفرض ـ أعني : تنجّز التكليف بالأمر المردّد من دون اشتراط بالعلم به ـ لإسقاط قصد التعيين في الطاعة») فهو ظاهر في كون سقوط قصد

٣٤٨

ففيه : إنّ سقوط قصد التعيين إنّما حصل بمجرّد التردّد والإجمال في الواجب ، سواء قلنا فيه بالبراءة أو الاحتياط ، وليس لازما لتنجّز التكليف بالواقع وعدم اشتراطه بالعلم.

____________________________________

التعيين في الطاعة مانعا من تعلّق التكليف بالواقع المردّد بين امور وتنجّزه من دون اعتبار العلم التفصيلي فيه ، وذلك لكون قصد التعيين شرطا لصحّة العبادة ، فلا تصحّ إلّا عند قصد التعيين ، ولا يتمكّن المكلّف من قصد التعيين إلّا عند العلم تفصيلا بالواجب.

فالحاصل أنّ سقوط قصد التعيين في الطاعة ـ بتعلّق التكليف بالواقع المردّد بين أمرين ـ يكون مانعا عن التكليف كذلك. هذا تمام الكلام في تقريب كلام المحقّق القمّي قدس‌سره على اعتبار العلم التفصيلي في تنجّز التكليف ، إلّا أنّ في كلامه مجال واسع للإيراد بوجوه :

منها : إنّ محلّ الكلام في المقام أعمّ من التعبّديّات والتوصّليّات ، وما يظهر من كلام المحقّق قدس‌سره من أنّ سقوط قصد التعيين مانع عن التكليف بالمردّد بين امور يجري في التعبّديّات فقط لا في التوصّليّات ، إذ لا يعتبر قصد التعيين في التوصّليّات ، فبناء على هذا يكون هذا الوجه أخصّ من المدّعى ، وذلك لأنّ محلّ الكلام والمدّعى أعمّ من التعبّديّات والتوصّليّات ، والمانع المذكور على فرض تسليمه مختصّ بالتعبّديّات فقط.

ومنها : منع اعتبار قصد التعيين في صحّة العبادات في التعبّديّات أيضا ، كما لا يعتبر في التوصّليّات ، وذلك لصحّة عبادة من ترك طريقي الاجتهاد والتقليد ، وعمل بالاحتياط المستلزم لإسقاط قصد التعيين في الطاعة.

ومنها : إنّه لو سلّمنا الاشتراط المذكور ، لكان مختصّا فيما يمكن قصد التعيين فيه ، كما لو علم بالواجب تفصيلا ، ولا يشترط فيما لا يمكن قصد التعيين فيه.

ومنها : ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(ففيه : إنّ سقوط قصد التعيين إنّما حصل بمجرّد التردّد والإجمال في الواجب ، سواء قلنا فيه بالبراءة أو الاحتياط ، وليس لازما لتنجّز التكليف بالواقع وعدم اشتراطه بالعلم).

وما ذكره المصنّف قدس‌سره من الإيراد على كلام المحقّق القمّي قدس‌سره يتّضح بعد ذكر كلام المحقّق القمّي وبيان مراده منه ، فلا بدّ من ذكر كلامه وهو قوله :

«نعم ، لو فرض حصول الإجماع أو ورود النصّ على وجوب شيء معيّن عند الله تعالى مردّد عندنا بين امور من دون اشتراط بالعلم به ، المستلزم ذلك الفرض لإسقاط قصد

٣٤٩

____________________________________

التعيين في الطاعة».

والمستفاد من هذا الكلام أنّه لو قام الدليل على وجوب شيء معين عند الله تعالى مردّد عندنا بين امور ، لتنجّز التكليف بوجوب ذلك الشيء من دون اشتراط بالعلم التفصيلي به ، فوجب ـ حينئذ ـ الاحتياط ، وسقط قصد التعيين المعتبر في العبادة ، فتحصّل ممّا ذكر أنّ سقوط قصد التعيين مسبّب عن فرض قيام الدليل على وجوب شيء المستلزم لوجوب الاحتياط بعد تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي.

ويردّ عليه : إنّ سقوط قصد التعيين لم يكن مسبّبا عن تنجّز التكليف بالواقع بعد قيام الدليل من دون اشتراط بالعلم التفصيلي المستلزم لوجوب الاحتياط ، بل مسبّب عن مجرّد التردّد والإجمال في الواجب ، وبذلك لا يختصّ سقوط قصد التعيين ـ حينئذ ـ بالقول بوجوب الاحتياط ، كما يظهر من كلام المحقّق القمّي قدس‌سره ، بل يسقط حتى على القول بالبراءة ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : (سواء قلنا فيه بالبراءة أو الاحتياط).

وفي المقام كلام لغلام رضا قدس‌سره نذكره لما فيه من فائدة ، حيث قال في شرح كلام المصنّف قدس‌سره (ففيه : إنّ سقوط قصد التعيين ... إلى آخره) ما هذا لفظه : «توضيح ما للمحقّق القمّي قدس‌سره من المراد بحيث يسقط به ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من الإيراد مبني على بيان أمرين :

الأوّل : إنّ ما يلاحظ في العبادات في مقام امتثالها بين امور :

أحدها : نيّة الوجه ، وهذا واضح البيان من حيث ثبوت الخلاف فيه ، وما هو مقتضى البرهان.

وثانيها : قصد القربة ، وهذا ممّا لا خلاف في ثبوته ، وسيأتي تفسيره.

وثالثها : قصد التعيين في الماهيّات المشتركة ، مثل البسملة حيث إنّها مشتركة بين جميع السور ، والركعتين بعد الفجر حيث إنّها مشتركة بين النافلة والفريضة ، إلى غير ذلك ، وهذا ممّا لا إشكال في لزومه في العبادة إذا كانت مشتركة ، وهذا غير مراد للمحقّق المزبور قطعا.

ورابعها : الامتثال التفصيلي بمعنى العلم التفصيلي بكون المأتي به مأمورا به حين الاتيان ، وهذا مراده قدس‌سره من قصد التعيين.

والثاني : إنّ الأصل في الأجزاء والشروط ، كما يأتي إنّما هو الركنيّة.

٣٥٠

فإن قلت : إذا سقط قصد التعيين لعدم التمكّن فبأيّهما ينوي الوجوب والقربة؟.

قلت : له في ذلك طريقان :

____________________________________

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ مراد المحقّق المزبور ـ إنّ الامتثال التفصيلي بمعنى العلم بكون المأتي به مأمورا به حين الإتيان ـ معتبر في العبادات ، بل ظاهر بعض أنّه اتّفاقي ، ولازم ذلك سقوط العبادة في المقام رأسا ، لما عرفت من أنّ الأصل في الشرائط هو الركنيّة ، وحيث إنّ الامتثال التفصيلي شرط في العبادات ، فلازم ركنيّة انتفاء المشروط بعد فرض عدم التمكّن من شرطه ، إلّا أنّه لمّا قام الإجماع على حرمة ترك الكلّ ، فتعيّن إتيان أحد المحتملين تخييرا ، وإذا ثبت وجوب إتيان أحدهما تخييرا بالاجماع فيتمكّن المكلّف من قصد الامتثال التفصيلي ، كما في سائر موارد التخيير ، فيجب إتيانه بخلاف ما لو بنى على الاحتياط ، فلا معنى لما ذكره المصنّف قدس‌سره من أنّ سقوط قصد التعيين إنّما هو حاصل بمجرّد التردّد والإجمال.

والتحقيق : إنّ أمثال هذه الشروط على تقدير شرطيّتها ليست كسائر الشروط الشرعيّة لكي ينفع إطلاق الأدلّة فيها ، أو قاعدة أنّ الأصل فيها هو الركنيّة ، بل هي من الشروط العقليّة ، ولا يتصوّر في حكم العقل شكّ ، بل هو حاكم بأحد الطرفين من الركنيّة وغيرها.

والحقّ أنّ الامتثال التفصيلي شرط في تحقّق العبادة وصدق الإطاعة في حال التمكّن ، وأمّا مع عدمه فلا لتحقّق الامتثال بإتيان شيئين يقطع بكون أحدهما مأمورا به ، بل هو من أكمل أفراد الإطاعة حينئذ ، وممّا ذكر ظهر ما في كلام المصنّف رحمه‌الله الآتي في قوله : (مضافا إلى أنّ غاية ما يلزم من ذلك عدم التمكّن من تمام الاحتياط ... إلى آخره) ، لأنّ الامتثال التفصيلي ونيّة القربة إن كان شرطا اختياريّا ، فالمتعيّن في حال العجز سقوطه خاصّة ، وإن كان شرطا مطلقا كان المتعيّن سقوط المشروط ، وعلى التقديرين لا وجه للدوران». انتهى.

(فإن قلت : إذا سقط قصد التعيين لعدم التمكّن فبأيّهما ينوي الوجوب والقربة؟).

أي : إذا سقط قصد تعيين ما هو المأمور به في الواقع بعد عدم تمكّن المكلّف منه ، فيكون عدم سقوطه وبقاء اعتباره في العبادة مستلزما للتكليف بما لا يطاق ، إلّا أنّ اعتبار قصد القربة في العبادة يقتضي أن يقصد التقرّب ، فبأيّهما ينوي ويقصد القربة؟.

(قلت : له في ذلك طريقان :).

٣٥١

أحدهما : أن ينوي بكلّ منهما الوجوب والقربة ؛ لكونه بحكم العقل مأمورا بالإتيان بكلّ منهما.

وثانيهما : أن ينوي بكلّ منهما حصول الواجب به أو بصاحبه تقرّبا إلى الله تعالى ، فيفعل كلّا منهما ، لتحصيل الواجب الواقعي وتحصيله لوجوبه والتقرّب به إلى الله تعالى ، فملخّص ذلك أنّي اصلّي الظهر لأجل تحقّق الفريضة الواقعيّة به ، أو بالجمعة التي أفعل بعدها أو فعلت قبلها قربة إلى الله تعالى ، وملخّص ذلك أنّي أصلّي الظهر احتياطا قربة إلى الله تعالى ، وهذا الوجه هو الذي ينبغي أن يقصد.

ولا يرد : أنّ المعتبر في العبادة قصد التقرّب والتعبّد بها بالخصوص ، ولا ريب أنّ كلّا من الصلاتين عبادة ، فلا معنى لكون الداعي في كلّ منهما التقرّب المردّد بين تحقّقه به أو

____________________________________

أي : للمكلّف في كيفيّة نيّة الوجوب والقربة في مورد اشتباه الواجب بين أمرين طريقان :

(أحدهما : أن ينوي بكلّ) واحد من المشتبهين (الوجوب والقربة) ؛ وذلك لكون المكلّف (بحكم العقل) والشرع (مأمورا بالإتيان بكلّ منهما) من باب تحصيل العلم بالبراءة عن الواجب الواقعي.

(وثانيهما : أن ينوي بكلّ منهما حصول الواجب به أو بصاحبه).

بأن يكون قصده من الإتيان بما يشتغل به أو بصاحبه الذي يأتي به بعده إحراز ما هو الواجب واقعا ، والمقصود واضح لا يحتاج إلى الشرح والتوضيح.

والمصنّف قدس‌سره يرجّح الوجه الثاني بقوله : (وهذا الوجه هو الذي ينبغي أن يقصد) ، إذ لا يرد عليه ما يرد على الوجه الاوّل كما يأتي.

(ولا يرد) عليه (أنّ المعتبر في العبادة قصد التقرّب والتعبّد بها بالخصوص ... إلى آخره).

فلا بدّ أوّلا من تقريب الإيراد على الوجه الثاني ثمّ بيان عدم ورود الإيراد المذكور.

أمّا تقريب الإيراد ، فهو أنّ المعتبر في صحّة العبادة هو قصد التقرّب بها بالخصوص ، ولا يكفي في صحّتها قصد التقرّب المردّد بين الفعلين كما في الوجه الثاني ، حيث إنّ قصد التقرّب في كلّ واحد منهما من جهة حصول الواجب به أو بصاحبه ، وحينئذ لا تقع العبادة

٣٥٢

بصاحبه ، لأنّ القصد المذكور إنّما هو معتبر في العبادات الواقعيّة دون المقدّميّة.

وأمّا الوجه الأوّل ، فيرد عليه أنّ المقصود إحراز الوجه الواقعي ، وهو الوجوب الثابت في أحدهما المعيّن ، ولا يلزم من نيّة الوجوب المقدّمي قصده.

وأيضا فالقربة غير حاصلة بنفس فعل أحدهما ولو بملاحظة وجوبه الظاهري ، لأنّ هذا

____________________________________

صحيحة لانتفاء قصد التقرّب بها بالخصوص.

وأمّا بيان عدم ورود هذا الإيراد ، فقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(لأنّ القصد المذكور إنّما هو معتبر في العبادات الواقعيّة) حينما يعلم المكلّف بها تفصيلا (دون المقدّميّة) كالمقام ، حيث لا يعلم بها إلّا إجمالا ، حيث يكفي في صحّتها ما ذكر في الوجه الثاني من قصد التقرّب بفعل أو بصاحبه ، إذ لا يتمكّن المكلّف منه إلّا على الوجه المذكور.

(وأمّا الوجه الأوّل ، فيرد عليه أنّ المقصود إحراز الوجه الواقعي ، وهو الوجوب الثابت في أحدهما المعيّن ، ولا يلزم من نيّة الوجوب المقدّمي قصده).

ويتّضح هذا الإيراد بعد مقدّمة ، وهي : إنّ الواجب على قسمين :

أحدهما : ما يكون واجبا بالوجوب النفسي المولوي.

وثانيهما : ما يكون واجبا بالوجوب المقدّمي الإرشادي ، ومحلّ الكلام هو قصد الوجوب النفسي المولوي الواقعي ، ومن المعلوم أنّه لا يحصل قصد الوجوب المزبور من قصد الوجوب المقدّمي الإرشادي ، وبذلك يتّضح لك أنّ إحراز الوجه الواقعي ـ وهو قصد الوجوب النفسي المولوي الواقعي المعتبر في صحّة العبادة ـ لا يحصل بقصد الوجوب المقدّمي ، وما ذكر في الوجه الأوّل من قصد الوجوب بكلّ منهما ليس إلّا قصد الوجوب المقدّمي ، لأنّ وجوب كلّ من المشتبهين وجوب مقدّمي ، فلا يحصل به قصد الوجوب النفسي المولوي الواقعي. هذا بالنسبة إلى قصد الوجه المعتبر في العبادة حيث لا يحصل بالوجه الأوّل.

ويرد على الوجه الأوّل من جهة قصد القربة أيضا ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(وأيضا فالقربة غير حاصلة بنفس فعل أحدهما ولو بملاحظة وجوبه الظاهري ... إلى آخره).

٣٥٣

الوجوب مقدّمي ، ومرجعه إلى وجوب تحصيل العلم بفراغ الذمّة ودفع احتمال ترتّب ضرر العقاب بترك بعض منهما ، وهذا الوجوب إرشادي ، لا تقرّب فيه أصلا ، نظير أوامر الإطاعة ، فإنّ امتثالها لا يوجب تقرّبا ، وإنّما المقرّب نفس الإطاعة ، والمقرّب هنا ـ أيضا ـ نفس الإطاعة الواقعيّة المردّدة بين الفعلين ، فافهم ، فإنّه لا يخلو عن دقّة.

____________________________________

لأنّ القربة لا تحصل إلّا بداعي الوجوب الواقعي ، كأن يقول المكلّف في مقام الامتثال : نأتي بهذا الواجب الواقعي متقرّبا به إلى الله تعالى ، فلا تحصل القربة بإتيان المشتبهين بقصد وداعي وجوبهما المقدّمي قربة إلى الله تعالى ، وإنّما يكون مرجع الوجوب المقدّمي وإتيان الفعل بداعيه إلى وجوب تحصيل العلم بفراغ الذمّة بعد العلم باشتغالها ، بمقتضى حكم العقل بالبراءة اليقينيّة بعد الاشتغال اليقيني ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(ومرجعه إلى وجوب تحصيل العلم بفراغ الذمّة ودفع احتمال ترتّب ضرر العقاب بترك بعض منهما ، وهذا الوجوب إرشادي ، لا تقرّب فيه أصلا).

حيث لا يترتّب على مخالفته وموافقته إلّا ما يترتّب على الفعل ، فإن كان واجبا في الواقع يترتّب على مخالفته استحقاق العقاب وعلى موافقته الثواب ، وإلّا فلا.

(نظير أوامر الإطاعة) كقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(١) (فإنّ امتثالها لا يوجب تقرّبا ، وإنّما المقرّب نفس الإطاعة).

وكذا في المقام حيث يكون الأمر بالاحتياط إرشادا إلى ما فيه مصلحة المكلّف من الإتيان بكلا المشتبهين دفعا لخطر مخالفة الواقع ، فإتيان كلّ واحد منهما طاعة لوجوب الاحتياط لا يوجب تقرّبا ، فلا يصلح أن يقصد به التقرّب.

(فافهم ، فإنّه لا يخلو عن دقّة).

ودقّق النظر حتى تعلم الفرق بين الوجوب المولوي والإرشادي من حيث المناط ، حيث إنّ المناط في الوجوب المولوي هو وجود المصلحة في نفس الفعل ، ولذلك قصد هذا الفعل المشتمل على المصلحة يوجب التقرّب ، وهذا بخلاف الوجوب الإرشادي ، حيث لم يكن المناط فيه هو المصلحة في الفعل ، بل المناط فيه هو مجرّد التنبيه والإرشاد

__________________

(١) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٣٣.

٣٥٤

وممّا ذكرنا يندفع توهّم أنّ الجمع بين المحتملين مستلزم لإتيان غير الواجب على جهة العبادة ، لأنّ قصد القربة المعتبر في الواجب الواقعي لازم المراعاة في كلا المحتملين ليقطع بإحرازه في الواجب الواقعي.

ومن المعلوم أنّ الإتيان بكلّ من المحتملين بوصف أنّها عبادة مقرّبة يوجب التشريع بالنسبة إلى ما عدا الواجب الواقعي فيكون محرّما ، فالاحتياط غير ممكن في العبادات ، وإنّما يمكن في غيرها من جهة أنّ الإتيان بالمحتملين لا يعتبر فيهما قصد التعيين والتقرّب ، لعدم اعتباره في الواجب الواقعي المردّد ، فيأتي بكلّ منهما لاحتمال وجوبه.

____________________________________

إلى وجود المصلحة ، فلهذا لا يوجب قصده التقرّب. هذا تمام الكلام في ما ذكر من الطريقين لقصد الوجوب والقربة.

ثمّ إنّ الثمرة بينهما مع قطع النظر عن الإشكال على الطريق الأوّل تظهر فيما لو أتى بالظهر مثلا ؛ أوّلا من دون قصد الإتيان بالجمعة بعدها لتحصيل الواجب الواقعي ، بل ومع قصد عدمه ، فتصحّ الظهر ـ حينئذ ـ على الطريق الأوّل دون الطريق الثاني لفرض تعلّق الوجوب الشرعي على كلّ واحدة منهما ، فيصحّ الإتيان بكلّ واحدة منهما ولو مع القصد إلى عدم الإتيان بالاخرى ، وهذا بخلاف الطريق الثاني حيث لا تصحّ الظهر مع عدم قصد الإتيان بالجمعة ، لأنّ وجوب كلّ واحدة منهما يكون ـ حينئذ ـ من باب المقدّمة ، فلا يصحّ قصد التقرّب بالواجب الواقعي ـ حينئذ ـ مع عدم قصد الإتيان بالاخرى عند الإتيان بالاولى ، هذا ما في الأوثق بتصرّف منّا.

(وممّا ذكرنا يندفع توهّم أنّ الجمع بين المحتملين مستلزم لإتيان غير الواجب على جهة العبادة ... إلى آخره).

ولا بدّ أوّلا من ذكر ما ذكره المصنّف قدس‌سره ثمّ تقريب التوهّم كي يتّضح اندفاع التوهّم المزبور.

وأمّا ما ذكره المصنّف قدس‌سره فقد اختار الطريق الثاني في كيفيّة نيّة الوجه وقصد القربة ، حيث يحصل قصد الوجه والقربة بإتيان كلّ واحد منهما بقصد تحقّق الواجب بما أتى به أوّلا أو بما أتى به ثانيا ، متقرّبا بما هو الواجب واقعا إلى الله تعالى ، فلا يلزم التشريع ؛ لأنّ المكلّف قصد التقرّب بما هو الواجب في الواقع.

٣٥٥

ووجه اندفاع هذا التوهّم ـ مضافا إلى أنّ غاية ما يلزم من ذلك عدم التمكّن من تمام الاحتياط في العبادات ، حتى من حيث مراعاة قصد التقرّب المعتبر في الواجب الواقعي ـ

____________________________________

وبه يندفع التوهّم ، وهو أنّ الجمع بين المحتملين وإتيان كلّ واحد منهما بقصد الوجه ، أي : الوجوب والقربة إلى الله تعالى مستلزم للتشريع بالنسبة إلى ما لم يكن واجبا في الواقع ، إذ إتيان ما ليس بواجب بقصد الوجوب تشريع محرّم عقلا وشرعا ، ولكن هذا التوهّم مندفع على ما اختاره المصنّف قدس‌سره في كيفيّة قصد الوجه والقربة من الطريق الثاني.

نعم ، لهذا التوهّم مجال على الوجه الأوّل ، حيث يأتي المكلّف بكلّ واحد منهما مع قصد الوجه والقربة ، مع العلم بكون أحدهما ممّا ليس بواجب ، فيتحقّق ـ حينئذ ـ إتيان ما ليس بواجب بقصد كونه واجبا ، وهو تشريع محرّم ، لأنّ التشريع هو إدخال ما لم يعلم كونه من الدين في الدين ، والمكلّف لا يعلم كون خصوص كلّ واحد من المشتبهين من الدين ، فيكون إتيان كلّ واحد منهما بقصد الوجوب وكونه من الدين تشريعا ، فتأمّل جيدا.

(ووجه اندفاع هذا التوهّم).

يذكر المصنّف قدس‌سره لاندفاع التوهّم المذكور وجهين :

أحدهما : ما أشار إليه بقوله :

(مضافا إلى أنّ غاية ما يلزم من ذلك عدم التمكّن من تمام الاحتياط في العبادات ... إلى آخره).

وحاصل هذا الوجه أنّ المكلّف لا يتمكّن من إتيان الواجب الواقعي في المقام مع قصد التقرّب بخصوصه إلى الله تعالى ، وذلك لاشتباه الواجب الواقعي بين أمرين ، فيدور إتيان المكلّف بالواجب المردّد بين أمرين أو امور :

منها : أن يأتي بكلّ واحد منهما مع قصد التقرّب ، وهذا الاحتمال ممّا يتحقّق به الاحتياط التامّ لكونه مستلزما لإتيان الواجب الواقعي مع قصد القربة ، وذلك لكون أحد الاحتمالين واجبا في الواقع إلّا أنّه مستلزم للتشريع المحرّم ، فيكون باطلا من جهة التشريع ، ولهذا لم يذكره المصنّف قدس‌سره.

ومنها : هو الاقتصار على أحد المحتملين بأن يأتي المكلّف بأحدهما مع قصد التقرّب ، فيكون مرجع هذا الاحتمال إلى التخيير.

٣٥٦

من جهة استلزامه للتشريع المحرّم ، فيدور الأمر بين الاقتصار على أحد المحتملين وبين الإتيان بهما مهملا ، لقصد التقرّب في الكلّ فرارا عن التشريع ، ولا شكّ أنّ الثاني أولى ، لوجوب الموافقة القطعيّة بقدر الإمكان.

فإذا لم يمكن الموافقة بمراعاة جميع ما يعتبر في الواقعي في كلّ من المحتملين اكتفى بتحقّق ذات الواجب في ضمنهما ، أنّ اعتبار قصد التقرّب والتعبّد في العبادة الواجبة واقعا لا يقتضي بقصده في كلّ منهما ، كيف وهو غير ممكن؟ وإنّما يقتضي بوجوب قصد التقرّب

____________________________________

ومنها : هو الإتيان بكلا المحتملين من دون قصد تقرّب في كلّ واحد منهما ، وذلك فرارا عن التشريع ، وإنّما يأتي بهما مع قصد التقرّب بما هو الواجب واقعا المتحقّق بهما ، فيكون مرجع هذا الاحتمال إلى الاحتياط بقدر الإمكان ، وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى هذين الأمرين بقوله :

(فيدور الأمر بين الاقتصار على أحد المحتملين وبين الإتيان بهما مهملا ، لقصد التقرّب في الكلّ فرارا عن التشريع ، ولا شكّ أنّ الثاني أولى).

أي : الاحتمال الثاني الراجع إلى الاحتياط بقدر الإمكان أولى من الاحتمال الأوّل الراجع إلى التخيير ، وذلك لأحد وجهين :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله :

(لوجوب الموافقة القطعيّة بقدر الامكان).

أي : بعد إلغاء قصد التقرّب بالنسبة إلى المحتملين بالخصوص ، فالاحتياط متحقّق من جميع الجهات ، إلّا من جهة قصد التقرّب بخصوص الواجب الواقعي ، وهذا بخلاف الاحتمال الأوّل حيث ليس فيه إلّا الموافقة الاحتماليّة ، ومن المعلوم أنّ حصول الموافقة القطعيّة أولى من الموافقة الاحتماليّة ، كما هو واضح.

والوجه الثاني الذي لم يذكره المصنّف قدس‌سره : إنّ الإتيان بأحد المحتملين تخييرا مع قصد التقرّب مستلزم للتشريع المحرّم ، وذلك لعدم علم المكلّف بكون ما اختاره واجبا في الواقع. هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل لاندفاع التوهّم المذكور.

والوجه الثاني له ، ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(إنّ اعتبار قصد التقرّب والتعبّد في العبادة الواجبة واقعا لا يقتضي بقصده في كلّ منهما ،

٣٥٧

والتعبّد في الواجب المردّد بينهما بأن يقصد في كلّ منهما أنّي أفعله ليتحقّق به أو بصاحبه التعبّد بإتيان الواجب الواقعي.

وهذا الكلام بعينه جار في قصد الوجه المعتبر في الواجب ، فإنّه لا يعتبر قصد ذلك الوجه خاصّة في خصوص كلّ منهما ، بأن يقصد أنّي اصلّي الظهر لوجوبه ، ثمّ يقصد أنّي اصلّي الجمعة لوجوبها ، بل يقصد أنّي اصلّي الظهر لوجوب الأمر الواقعي المردّد بينه وبين الجمعة التي اصلّيها بعد ذلك أو صلّيتها قبل ذلك.

والحاصل : إنّ نيّة الفعل هو قصده على الصفة التي هو عليها ، التي باعتبارها صار واجبا ، فلا بدّ من ملاحظة ذلك في كلّ من المحتملين ، فإذا لاحظنا ذلك فيه وجدنا الصفة التي هو عليها ـ الموجبة للحكم بوجوبه ـ هي احتمال تحقّق الواجب المتعبّد به والمتقرّب به إلى الله تعالى في ضمنه ، فيقصد هذا المعنى ، والزائد على هذا المعنى غير موجود فيه ، فلا معنى لقصد التقرّب في كلّ منهما بخصوصه حتى يرد أنّ التقرّب والتعبّد بما لم يتعبّد به الشارع تشريع محرّم.

____________________________________

كيف وهو غير ممكن؟ ... إلى آخره) شرعا ، لاستلزام قصد التقرّب كذلك للتشريع المحرّم ، فكيف يأتي بكلّ منهما متقرّبا بهما إلى الله مع العلم بأنّ أحدهما لم يكن مقرّبا؟.

والحاصل : إنّه لا يعتبر في صحّة العبادة قصد التقرّب بخصوص المأتي به تفصيلا ، وإنّما يكفي في ذلك الإتيان بكلّ منهما برجاء أنّه الواقع وبداعي الأمر.

قال الاستاذ الاعتمادي ، دام ظلّه في المقام ما هذا لفظه : «وبالجملة الاحتياط التامّ ـ أعني : إتيان الواقع بقصد القربة ـ أمر ممكن ، لأنّه يحصل بمجرّد إتيان كلّ منهما بقصد تحقّق التقرّب به أو بصاحبه ، ولا يتوقّف بإتيان كلّ منهما بقصد القربة ليكون تشريعا». انتهى.

(وهذا الكلام بعينه جار في قصد الوجه المعتبر في الواجب).

أي : الكلام المتقدّم في قصد التقرّب بعينه يأتي في قصد الوجه توهّما واندفاعا ، فيقال في التوهّم : إنّ الجمع بين المحتملين في قصد الوجوب مع العلم بعدم كون أحدهما واجبا في الواقع مستلزم للتشريع المحرّم عقلا وشرعا.

ولكن يقال في الجواب عنه : إنّ قصد الوجه لا يعتبر في الواجب عند جماعة ، ومنهم

٣٥٨

نعم ، هذا الإيراد متوجّه على ظاهر من اعتبر في كلّ من المحتملين قصد التقرّب والتعبّد به بالخصوص ، لكنّه مبنيّ ـ أيضا ـ على لزوم ذلك من الأمر الظاهري بإتيان كلّ منهما عبادة ، فيكون كلّ منهما واجب في مرحلة الظاهر.

كما إذا شكّ في الوقت أنّه صلّى الظهر أم لا ، فإنّه يجب عليه فعلها ، فينوي الوجوب والقربة وإن احتمل كونها في الواقع لغوا غير مشروع ، فلا يرد عليه إيراد التشريع ، إذ التشريع إنّما يلزم لو قصد بكلّ منهما أنّه الواجب واقعا ، المتعبّد به في نفس الأمر.

ولكنّك عرفت أنّ مقتضى النظر الدقيق خلاف هذا البناء ، وأنّ الأمر المقدّمي ـ خصوصا الموجود في المقدّمة العلميّة التي لا يكون الأمر بها إلّا إرشاديّا ـ لا يوجب موافقة التقرّب ولا يصير منشأ لصيرورة الشيء من العبادات إذا لم يكن في نفسه منها ، وقد تقدّم

____________________________________

المصنّف قدس‌سره وعلى فرض اعتباره لا يعتبر في خصوص كلّ واحد منهما ، بل يكفي قصده في ما هو الواجب واقعا ، وعلى هذا لا يلزم منه التشريع ، وما يلزم منه التشريع ـ وهو قصد الوجه في خصوص كلّ واحد منهما ـ لم يكن معتبرا ، فتأمّل تعرف.

(نعم ، هذا الإيراد متوجّه على ظاهر من اعتبر في كلّ من المحتملين قصد التقرّب والتعبّد به بالخصوص).

أي : إيراد لزوم التشريع متوجّه على من اعتبر قصد التقرّب والتعبّد بخصوص كلّ واحد منهما ، كما لا يخفى.

ثمّ أشار المصنّف قدس‌سره إلى الجواب عنه ، وهو عدم لزوم التشريع على من اعتبر قصد التقرّب والتعبّد بخصوص كلّ واحد منهما نظرا إلى ملاحظة الأمر الظاهري المتعلّق بكلّ واحد منهما ، فيصير كلّ واحد منهما عبادة ظاهرا وواجبا كذلك ، فينوي المكلّف وجوب كلّ منهما ويقصد القربة بكلّ منهما نظرا إلى الأمر الظاهري.

وبالجملة ، إنّ اعتبار قصد التقرّب والوجه بخصوص كلّ منهما ممّن اعتبره كذلك مبني على ملاحظة الأمر الظاهري المتعلّق بكلّ منهما ، وحينئذ لا يرد عليه إيراد لزوم التشريع ، ولكنّ المصنّف قدس‌سره يردّ هذا المبنى بقوله :

(ولكنّك عرفت أنّ مقتضى النظر الدقيق خلاف هذا البناء).

حيث تقدّم منه في الإيراد على الوجه الأول ما حاصله : أنّه لا يلزم من نيّة الوجوب

٣٥٩

في مسألة التسامح في أدلّة السنن ما يوضح حال الأمر بالاحتياط.

كما أنّه قد استوفينا في بحث مقدّمة الواجب حال الأمر المقدّمي وعدم صيرورة المقدّمة بسببه عبادة ، وذكرنا ورود الإشكال من هذه الجهة على كون التيمّم من العبادات على تقدير عدم القول برجحانه في نفسه كالوضوء ، فإنّه لا منشأ ـ حينئذ ـ لكونه منها إلّا الأمر المقدّمي به من الشارع.

فإن قلت : يمكن إثبات الوجوب الشرعي المصحّح لنيّة الوجه والقربة [في المحتملين]

____________________________________

المقدّمي قصد الوجوب الواقعي والتقرّب به ، ولا يحصل القرب بالوجوب الظاهري المقدّمي ، وبذلك يكون قصد الوجوب المقدّمي غير مفيد.

قوله : (وقد تقدّم في مسألة التسامح في أدلّة السنن ما يوضح حال الأمر).

دفع لما قد يتوهّم من إمكان قصد القربة من جهة الأمر الشرعي المتعلّق بالاحتياط.

وحاصل الدفع : إنّ الأمر بالاحتياط لو صدر عن الشارع لا يكون إلّا للإرشاد على ما تقدّم في مسألة التسامح في أدلّة السنن ، ولذلك لا يكون قابلا للتقرّب حتى يقصد به التقرّب.

(كما أنّه قد استوفينا في بحث مقدّمة الواجب) وقلنا : إنّ الأمر المقدّمي لكونه إرشاديّا محضا لم يلاحظ فيه إلّا الوصول إلى ذي المقدّمة ، وبذلك لا يمكن أن يكون مقرّبا حتى يقصد التقرّب به ، وبناء على هذا فإنّ قصد التقرّب والامتثال في الأمر المقدّمي لا يوجب كون الواجب بالوجوب المقدّمي عبادة ، وإنّما يوجب صيرورة الواجب عبادة إذا كان واجبا بالوجوب النفسي ومتعلّقا لغرض المولى بنفسه ، لا من باب كونه مقدّمة للوصول إلى ما هو المحبوب والمطلوب في نفسه ، ولهذا يرد الإشكال على كون التيمّم من العبادات ، لو لم نقل برجحانه الذاتي ، كالوضوء حيث يكون من العبادات من جهة رجحانه الذاتي ، لا من أجل كونه واجبا بالوجوب المقدّمي ، ولا يخفى أنّ المشهور أنّ التيمّم ممّا لم يقم دليل على كونه مطلوبا نفسيّا ، ولذلك يرد الإشكال فيه من جهة عدم رجحانه في نفسه.

(فإن قلت : يمكن إثبات الوجوب الشرعي المصحّح لنيّة الوجه والقربة [في المحتملين]).

أي : يمكن إثبات وجوب كلا المحتملين ثمّ الإتيان بكلّ واحد منهما بقصد الوجوب والقربة ، فيكون لازم ذلك صحّة الطريق الأوّل من الطريقين المتقدّمين في كيفيّة نيّة الوجه والقربة ، إلّا أنّ العمدة ـ حينئذ ـ هو إثبات وجوب كلا المحتملين ، وقد أشار إليه

٣٦٠