دروس في الرسائل - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

١
٢

٣
٤

٥
٦

أدلّة المجوّزين

وأمّا المجوّزون ، فقد استدلّوا على حجّيّته بالأدلّة الأربعة :

أمّا الكتاب : فقد ذكروا منه آيات ادّعوا دلالتها ، منها : قوله تعالى في سورة الحجرات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١).

والمحكيّ في وجه الاستدلال بها وجهان :

أحدهما : أنّه سبحانه علّق وجوب التثبّت على مجيء الفاسق فينتفي عند انتفائه ، عملا بمفهوم الشرط.

____________________________________

(وأمّا المجوّزون ، فقد استدلوا على حجّيّته بالأدلة الأربعة) ثم ذكروا من الكتاب آيات منها آية النبأ ، وهي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ).

(والمحكي في وجه الاستدلال بها وجهان) :

الوجه الأول : هو التمسك بمفهوم الشرط.

الوجه الثاني : هو الاستدلال بها من جهة مفهوم الوصف ، ثمّ بيّن المصنّف رحمه‌الله تقريب الاستدلال بمفهوم الشرط بقوله : (أنّه سبحانه وتعالى علّق وجوب التثبّت على مجيء الفاسق ... إلى آخره) وتعبيره بالتثبّت بدلا عن التبيّن مبنيّ على قراءة بعض حيث قرأ فتثبّتوا بدل ما تقدم من قراءة المشهور وهي (فَتَبَيَّنُوا).

ثمّ الفرق بين التبيّن والتثبّت أن الأول ظاهر في وجوب التفتيش ، والثاني ظاهر في وجوب التوقّف.

وملخّص تقريب مفهوم الشرط في المقام هو : أنّه تعالى قد علّق وجوب التبيّن بمجيء الفاسق بنبإ ، فمفهومه هو انتفاء وجوب التبيّن بانتفاء مجيء الفاسق بنبإ ، وهذا المفهوم يشمل مجيء العادل بالنبإ ، ولا يجب التبيّن في خبر العادل بمقتضى المفهوم.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

٧

وإذا لم يجب التثبّت عند مجيء غير الفاسق فأمّا أن يجب القبول وهو المطلوب ، أو الردّ وهو باطل ؛ لأنّه يقتضي كون العادل أسوأ حالا من الفاسق ، وفساده بيّن.

الثاني : أنّه تعالى أمر بالتثبّت عند إخبار الفاسق ، وقد اجتمع فيه وصفان ، ذاتيّ : وهو

____________________________________

ثمّ الأمر في خبر العادل في مقام العمل يدور بين قبوله والعمل به من دون تبيّن ، وبين ردّه وعدم العمل به ، والثاني باطل قطعا ؛ لأنّه مستلزم لكون العادل أسوأ حالا من الفاسق ، إذ الردّ من دون تبيّن يكون أسوأ من التبيّن ؛ لأنّ فيه نوع من الاعتناء بشأن المخبر ، وربما ينتهي إلى العمل بالخبر على تقدير كشف صدقه بالتبيّن.

وهذا بخلاف ردّ خبر العادل من دون تبيّن ، حيث يكون فيه نوع من الإهانة والاستخفاف بشأنه ، فيكون ردّه كذلك باطلا ، فيقبل ويعمل به من دون التبيّن ، وهذا هو المطلوب في المقام.

ويمكن أن يقال : إنّ الآية النافية للتبيّن في خبر العادل بمفهوم المخالفة تنفي ردّ خبر العادل بمفهوم الموافقة.

ثمّ ما ذكرنا من تقريب مفهوم الشرط من أنّ الموضوع في المنطوق هو مجيء الفاسق بنبإ ظاهر من المصنّف رحمه‌الله ، ولكن كلمات الأصوليين في تقريب مفهوم الشرط في الآية المذكورة مختلفة ، وتقريب مفهوم الشرط في الآية بحيث لا يرد عليه ما يأتي من المصنّف رحمه‌الله هو أن يجعل الموضوع طبيعة النبأ ، ويجعل الشرط كون الجائي به فاسقا ، فإذا انتفى الشرط وهو مجيء الفاسق بالنبإ لم يجب التبيّن عنه.

فكأنّه قيل : النبأ إن جاء به فاسق يجب التبيّن عنه ، فيكون مفهومه : النبأ إن لم يجيء به الفاسق لا يجب التبيّن عنه ، فالمفهوم يصدق على خبر العادل ؛ لأنّه نبأ لم يجيء به الفاسق ، فيجب العمل به من دون التبيّن ، مع ضم ما تقدم في التقريب الأول من أنّه لو لم يقبل ولم يعمل بخبره من دون تبيّن لزم أن يكون العادل أسوأ حالا ، وهو باطل.

وبالجملة ، إنّ للقضية الشرطية مفهوما يدل على حجّية خبر العادل ، فلا يرد عليه ما أورده المصنّف رحمه‌الله ، كما يأتي في كلامه من أنّ القضية الشرطية في الآية المباركة سيقت لبيان تحقّق الموضوع فلا مفهوم لها ، بل المفهوم فيها هي قضية سالبة بانتفاء الموضوع ، نعم ، يرد هذا الاشكال على التقريب الأول الظاهر من كلام المصنّف رحمه‌الله.

٨

كونه خبر واحد ، وعرضيّ : وهو كونه خبر فاسق.

ومقتضى التثبت هو الثاني ، للمناسبة والاقتران ، فإنّ الفسق يناسب عدم القبول ،

____________________________________

(الثاني : أنّه تعالى أمر بالتثبّت عند أخبار الفاسق ... إلى آخره) ، والوجه الثاني هو مفهوم الوصف ؛ وحاصل بيان مفهوم الوصف هو أنّ للخبر في الآية الشريفة وصفين :

أحدهما يكون ذاتيا ، وهو كونه خبرا واحدا ، والآخر يكون عرضيا ، وهو كون المخبر فاسقا لانفكاك هذا الوصف عن الخبر ، إذ قد يكون المخبر عادلا ، فيكون عرضيّا.

ثمّ تعليق الحكم ـ وهو وجوب التبيّن على الوصف العرضي دون الذاتي ـ ظاهر في أنّ سبب الحكم هو الوصف العرضي ، إذ لو كان السبب هو الوصف الذاتي لعلّق الحكم عليه ؛ لتقدمه رتبة على العرضي ، فلا وجه للعدول عنه إلى العرضي.

فمن تعليق وجوب التبيّن في الآية على الوصف العرضي ـ وهو كون المخبر فاسقا ـ نستكشف أنّ السبب المقتضي للتثبّت والتبيّن هو الثاني ، فإذا انتفى وكان المخبر عادلا ينتفي وجوب التثبّت والتبيّن ، وحينئذ يدور الأمر بين وجوب القبول وهو المطلوب ، والردّ وهو باطل ؛ لاستلزامه أسوئية حال العادل عن الفاسق.

ثمّ المناسبة تقتضي أن يكون علّة الحكم هو كون المخبر فاسقا ، كما أشار إليها المصنّف رحمه‌الله بقوله : (للمناسبة والاقتران) ، والمراد من المناسبة هي السنخيّة بين التثبّت والفسق ، ثم التناسب بينهما موجود كما هو المذكور في المتن حيث قال : (فإنّ الفسق يناسب عدم القبول ... إلى آخره) ، والمراد من الاقتران هو اقتران التبيّن في الآية بالفسق ، حيث قال تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(١) ، ولم يقل إن جاءكم واحد بنبإ فتبيّنوا ، فهذا الاقتران مع تلك المناسبة يدل على علّية الفسق لوجوب التثبّت والتبيّن دون الوصف الذاتي ، أي : كون الخبر خبر الواحد.

لا يقال : إنّ التثبت يمكن أن يكون معلولا للوصفين معا ، فحينئذ تدل الآية على عدم حجّية خبر الواحد مطلقا.

فإنّه يقال : إنّ هذا الاحتمال مقطوع العدم لكونه مستلزما لتقدم الشيء على نفسه ، وهو

__________________

(١) الحجرات : ٦.

٩

فلا يصلح الأوّل للعلّيّة ، وإلّا لوجب الاستناد إليه ، إذ التعليل بالذاتيّ الصالح للعلّية أولى من التعليل بالعرضي ؛ لحصوله قبل حصول العرضي ، فيكون الحكم قد حصل قبل حصول العرضي ، وإذا لم يجب التثبّت عند إخبار العدل ، فأمّا أن يجب القبول وهو المطلوب ، أو الردّ ، فيكون حاله أسوأ من حال الفاسق ، وهو محال.

أقول : الظاهر أنّ أخذهم للمقدّمة الأخيرة ـ وهي أنّه إذا لم يجب التثبت وجب القبول ، لأنّ الردّ مستلزم لكون العادل أسوأ حالا من الفاسق ـ مبني على ما يتراءى من ظهور الأمر بالتبيّن في الوجوب النفسي ، فيكون هنا أمور ثلاثة : الفحص عن الصدق والكذب ، والرّد من دون تبيّن ، والقبول كذلك.

____________________________________

محال وباطل ، وذلك لأنّ الذاتي ومعلوله متقدم على العرضي ومعلوله.

وحينئذ ، لمّا كان التثبّت معلولا للذاتي ، كان متقدما على العرضي ، فلو كان مع ذلك معلولا للعرضي ـ أيضا ـ لوجب أن يكون متأخرا عنه ، فيلزم المحذور المزبور كما لا يخفى.

والحاصل أنّ وجوب التبيّن يكون معلولا للثاني ، أي : الوصف العرضي فقط فلا يصلح الأول ، أي : الوصف الذاتي للعلّية ، وإلّا لوجب استناد المعلول إليه ، فكان الحقّ أن يقال : إن جاءكم واحد بنبإ فتبيّنوا(إذ التعليل بالذاتي الصالح للعلّية أولى) ، أي : متعيّن منه بالعرضي.

فالنتيجة هي أنّ العلّة منحصرة في الفسق ، فإذا انتفى ينتفي وجوب التبيّن ، فيقبل خبر العادل من دون تبيّن وهو المطلوب ، ومن هنا يصحّ أن يسمّى هذا الاستدلال استدلالا بمفهوم العلّة أيضا.

وقوله : (أقول : الظاهر أنّ أخذهم للمقدّمة الأخيرة ... إلى آخره) إشكال منه قدس‌سره على كيفية الاستدلال بمفهوم الآية ، بعد تسليم دلالتها على المقصود ، حيث كان الاستدلال بالمفهوم محتاجا إلى مقدمة خارجية ، وهي لزوم كون العادل أسوأ حالا من الفاسق لو لم يقبل خبره من دون تبيّن.

فحاصل كلام المصنّف رحمه‌الله ردا لكيفية الاستدلال ، هو عدم الحاجة إلى ضمّ المقدمّة المذكورة في الاستدلال بمفهوم الآية على حجّية خبر العادل ، وذلك أنّ أخذهم للمقدمة الخارجية مبنيّ على كون الأمر بالتبيّن ظاهرا في الوجوب النفسي بأن يكون التبيّن واجبا

١٠

لكنّك خبير بأنّ الأمر بالتبيّن هنا مسوق لبيان الوجوب الشرطيّ ، وأنّ التبيّن شرط للعمل بخبر الفاسق دون العادل ، فالعمل بخبر العادل غير مشروط بالتبيّن ، فيتمّ المطلوب من دون ضمّ مقدّمة خارجيّة ، وهي كون العادل أسوأ حالا من الفاسق.

والدليل على كون الأمر بالتبيّن للوجوب الشرطي لا النفسي ـ مضافا إلى أنّه المتبادر عرفا في أمثال المقام وإلى أنّ الإجماع قائم على عدم ثبوت الوجوب النفسيّ للتبيّن في خبر الفاسق ، وإنّما أوجبه من أوجبه عند إرادة العمل به ، لا مطلقا ـ هو أنّ التعليل في الآية بقوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا) ، لا يصلح أن يكون تعليلا للوجوب النفسيّ ، لأنّ حاصله يرجع إلى أنّه : لئلّا تصيبوا قوما بجهالة بمقتضى العمل بخبر الفاسق فتندموا على فعلكم بعد تبيّن

____________________________________

نفسيا كالصلاة مثلا ، فحينئذ لا يتمّ الاستدلال إلّا بضمّ المقدمة الخارجية ، إذ يكون هنا أمور ثلاثة :

الأول : هو وجوب التبيّن والفحص عن الصدق والكذب.

والثاني : هو الردّ من دون التبيّن.

والثالث : هو القبول من غير الفحص.

فيقال : إنّ الأول وهو وجوب الفحص عن خبر العادل قد انتفى بمفهوم الآية.

والأمر الثاني وهو الردّ من دون التبيّن ـ أيضا ـ يكون منتفيا لاستلزامه كون العادل أسوأ حالا من الفاسق.

فيبقى الأمر الثالث ، وهو قبول خبر العادل من غير تبيّن ، وهو المطلوب.

فإثبات المطلوب موقوف على هذه المقدمة الخارجية على تقدير كون التبيّن واجبا نفسيا ، ولكن وجوب التبيّن ليس نفسيا حتى نحتاج إلى تلك المقدمة ، بل وجوبه وجوب شرطي ، أي : يكون التبيّن شرطا لجواز العمل بخبر الفاسق ؛ لأنّ التبيّن عنه مع قطع النظر عن العمل به ليس واجبا قطعا ، بل ربّما يكون محرّما ؛ لأنّ الفحص عن كون المخبر صادقا أو كاذبا من دون إرادة العمل بخبره يكون مصداقا للفحص عن عيوب الناس ، وهو محرّم شرعا ، فيكون الأمر بالتبيّن مسوقا لبيان الوجوب الشرطي.

ويدلّ عليه مضافا إلى وضوحه في نفسه لأنّه المتبادر عرفا ، ومضافا إلى الإجماع القائم على عدم الوجوب النفسي للتبيّن في خبر الفاسق. والتعليل المذكور في ذيل الآية

١١

الخلاف ، ومن المعلوم أنّ هذا لا يصلح إلّا علّة لحرمة العمل بدون التبيّن فهذا هو المعلول ، ومفهومه جواز العمل بخبر العادل من دون تبيّن.

____________________________________

المباركة ، وهو قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ)(١) ، فإنّ إصابة القوم بجهالة ، المستلزمة للندامة تكون من جهة ترك التبيّن الواجب بالوجوب الشرطي.

فحينئذ يكون مفاد الآية : إنّ العمل بخبر الفاسق يكون مشروطا بالتبيّن والفحص ، فيجب التبيّن عنه في مقام العمل ، ويكون المفهوم بمقتضى التعليق على الوصف : إنّ العمل بخبر غير الفاسق لا يكون مشروطا بالتبيّن ، فلا يجب التبيّن عنه في مقام العمل به ، فيجوز العمل به من دون التبيّن ، وهو المطلوب.

فالنتيجة هي العمل بخبر العادل من دون حاجة إلى المقدمة الخارجية على تقدير كون التبيّن واجبا شرطيا كما هو كذلك ، إذ ـ حينئذ ـ يكون في خبر العادل احتمالان :

الأول : اعتبار التبيّن في العمل به.

والثاني : عدم اعتباره.

والأول منفيّ بالمفهوم ، فيبقى الثاني ، وهو جواز العمل أو وجوبه من دون التبيّن ، وهو المطلوب.

وبالجملة ، إن الاستدلال بمفهوم الآية يتمّ من دون حاجة إلى المقدمة الخارجية لو ثبت كون الأمر بالتبيّن للوجوب الشرطي لا النفسي ، وهو ثابت بدليل تناسب التعليل مع الوجوب الشرطي دون النفسي ، كما أشار إليه بقوله : (إنّ التعليل في الآية بقوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا) ، لا يصلح أن يكون تعليلا للوجوب النفسيّ ... إلى آخره) ، أي : إنّ الوقوع في الندم يكون مسبّبا عن ترك الفحص والتبيّن عن خبر الفاسق في مقام العمل.

قال تعالى : (فَتَبَيَّنُوا) ، أي : عن خبر الفاسق في مقام العمل لئلّا تصيبوا قوما بجهالة فتندموا على فعلكم بعد ظهور الكذب في الخبر ، ولم يكن الوقوع في الندم مسبّبا عن ترك التبيّن إذا كان واجبا نفسيا ، إذ مجرد ترك الواجب النفسي لا يستلزم الوقوع في الندم.

والحاصل أنّ العمل بخبر الفاسق من دون التبيّن محرّم ، وحرمة العمل به يكون معلولا

__________________

(١) الحجرات : ٦.

١٢

مع أنّ في الأسوئية المذكورة في كلام الجماعة ، بناء على كون وجوب التبيّن نفسيّا ، ما لا يخفى ؛ لأنّ الآية على هذا ساكتة عن حكم العمل بخبر الواحد قبل التبيّن وبعده ، فيجوز اشتراك الفاسق والعادل في عدم جواز العمل قبل التبيّن ، كما أنّهما يشتركان قطعا في جواز العمل بعد التبيّن والعلم بالصدق ؛ لأنّ العمل ـ حينئذ ـ بمقتضى التبيّن لا باعتبار الخبر.

فاختصاص الفاسق بوجوب التعرّض بخبره ، والتفتيش عنه دون العادل ، لا يستلزم كون العادل أسوأ حالا ، بل مستلزم لمزيّة كاملة للعادل على الفاسق ، فتأمّل.

____________________________________

عن الوقوع في الندم.

(مع أنّ في الأسوئية المذكورة في كلام الجماعة ، بناء على كون وجوب التبيّن نفسيّا ، ما لا يخفى) ، مراد المصنّف رحمه‌الله ، من هذا الكلام الإشكال على تقريب الاستدلال بمفهوم الآية على حجّية خبر العادل مع حمل وجوب التبيّن على الوجوب النفسي ، وذلك فإن الاستدلال المذكور مبنيّ على ضمّ المقدمة الخارجية وهذه المقدمة غير تامّة ، ولم تكن مفيدة في إثبات حجّية خبر العادل ؛ لأنّ مقتضى المفهوم هو نفي وجوب التبيّن بالوجوب النفسي عن خبر العادل ، وهو لا يلازم وجوب القبول ، والعمل به حتى يكون حجّة ، إذ مقتضى التعليل المذكور في ذيل الآية هو عدم جواز العمل بالخبر ما لم يحرز صدقه ومطابقته للواقع.

فحينئذ يشترك خبر العادل مع خبر الفاسق في عدم القبول ما لم يتبيّن صدقه ، كما يشترك معه في القبول والعمل به مع تبيّن الصدق.

نعم ، يفترق خبر العادل عن خبر الفاسق في وجوب التبيّن والتفتيش عن حال خبر الفاسق دون العادل ، وهذا الفرق موجب لمزيّة العادل على الفاسق ، لا لمنقصة العادل عنه ، كما هي مذكورة في المقدمة.

فالآية لا تدل على حجّية خبر العادل ، بل هي ساكتة عن حكم العمل بالخبر ، والمقدمة الخارجية مردودة ، إذ مقتضاها نفي منقصة العادل وهو ثابت بنفس المفهوم ، إذ المفهوم يقتضي نفي وجوب التبيّن والتفتيش عن حال خبر العادل ، وهو مزيّة له كما أشار المصنّف رحمه‌الله إليه بقوله :

(فاختصاص الفاسق بوجوب التعرّض بخبره ، والتفتيش عنه دون العادل ، لا يستلزم

١٣

وكيف كان ، فقد اورد على الآية إيرادات كثيرة ربّما تبلغ إلى نيّف وعشرين ، إلّا أنّ كثيرا منها قابلة للدفع ، فلنذكر ـ أوّلا ـ ما لا يمكن الذبّ عنه ، ثمّ نتبعه بذكر بعض ما اورد من الإيرادات القابلة للدفع.

أمّا ما لا يمكن الذبّ عنه فإيرادان :

أحدهما : إنّ الاستدلال إن كان راجعا إلى اعتبار مفهوم الوصف ـ أعني الفسق ـ

____________________________________

كون العادل أسوأ حالا ، بل مستلزم لمزيّة كاملة للعادل على الفاسق) ؛ لأنّ التفتيش عن حال شخص نوع من الاستخفاف بشأنه ، بل قد يؤدّي إلى هتكه وافتضاحه من جهة كشف كذبه بين الناس.

(فتأمّل) ، لعلّه إشارة إلى أنّ مزيّة العادل على الفاسق ثابتة لو عمل بخبره ، وأمّا لو لم يعمل به وردّ من الأول فيكون الأمر بالعكس ؛ حيث يلزم من ترك التبيّن وترك العمل بخبر العادل إهانته ومزيّة الفاسق عليه ، إذ قد يكشف صدق خبر الفاسق بالتبيّن ، فيعمل به ولا يعمل بخبر العادل أصلا.

(وكيف كان ، فقد اورد على الآية إيرادات كثيرة ربّما تبلغ إلى نيّف وعشرين) ، أي : فوق العشرين ، ويذكر المصنّف رحمه‌الله الإيرادات الواردة على الاستدلال بالآية على حجّية خبر العادل ، ثم يقدم ما لا يمكن الجواب عنه لقلّته ، وهو أمران :

(أحدهما : إن الاستدلال إن كان راجعا إلى اعتبار مفهوم الوصف ، أعني الفسق) ، حيث كان مفهوم الوصف في قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(١) هو : إن جاءكم غير الفاسق فلا تبيّنوا(ففيه : إنّ المحقّق في محلّه عدم اعتبار المفهوم في الوصف) ، ويمكن أن يكون مراده من عدم اعتبار مفهوم الوصف عدم ثبوت المفهوم لا عدم اعتباره مع ثبوته ، وإلّا فلا فرق بين الظهور المنطوقي والمفهومي في الاعتبار والحجّية.

فيرجع كلام الاصوليين في باب المفاهيم إلى الصغرى ، أي : ثبوت المفاهيم ، لا إلى الكبرى ، أي : حجّيتها بعد تحقّقها ، نعم تسامحوا في التعبير ، حيث عبّروا عن عدم الثبوت بعدم الاعتبار.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

١٤

ففيه : إنّ المحقّق في محلّه عدم اعتبار المفهوم في الوصف ، خصوصا في الوصف غير المعتمد على موصوف محقّق ـ كما فيما نحن فيه ـ فإنّه أشبه بمفهوم اللقب. ولعلّ هذا مراد من أجاب عن الآية ، كالسيّدين وأمين الاسلام والمحقّق والعلّامة وغيرهم ، بأنّ هذا الاستدلال مبنيّ

____________________________________

وكيف كان ، فالوصف يكون على قسمين :

منه معتمد على الموصوف بأن يكون موصوفه مذكورا في الكلام نحو : اكرم الرجل العالم.

ومنه غير معتمد على الموصوف بأن لا يكون الموصوف مذكورا في الكلام ـ كما نحن فيه ـ حيث يكون التقدير : إن جاءكم شخص فاسق بنبإ فتبيّنوا.

ثمّ إنّ الوصف إذا لم يكن معتمدا على الموصوف كان في الحكم بعدم المفهوم كاللقب ، إذ ذكر الوصف من دون الموصوف لا يكون قيدا احترازيا حتى يكون له المفهوم ، بل يكون لمجرّد بيان الحكم ، فحينئذ : أكرم العالم ، يكون مثل : أكرم فاضلا ، فكما أنّ الثاني وهو اللقب لا مفهوم له ، بل ذكره يكون لمجرّد بيان الحكم ، فكذا الأول وهو الوصف الغير المعتمد على الموصوف.

ولهذا عبّر المصنّف رحمه‌الله ، بلفظ الخصوصية حيث قال : (خصوصا في الوصف غير المعتمد على موصوف محقّق ... إلى آخره).

نعم ، إذا ذكر الوصف مع الموصوف لكان قيدا زائدا ، فلا بدّ له ـ حينئذ ـ فائدة اخرى ، وهي المفهوم.

(فإنّه أشبه بمفهوم اللقب) ، بل كان الاولى أن يقال : إنّ مفهوم فاسق في الآية نفس مفهوم اللقب ، لا أشبه به كما في المتن ، وذلك ؛ لأنّ الوصف يشمل مطلق ما يكون فضلة في الكلام ، من الحال والتمييز والنعت وغيرها ، واللقب ما يكون عمدة في الكلام ، والفاسق في المقام يكون عمدة ؛ لأنّه فاعل فيكون لقبا ، ولكن هذا الملاك في كون شيء لقبا غير ثابت في علم النحو ، فالاولى ما عبر به المصنّف رحمه‌الله.

(ولعلّ هذا مراد من أجاب عن الآية ، كالسيّدين وأمين الاسلام ... إلى آخره) ، أي : ما ذكر من عدم اعتبار مفهوم الوصف ، أو عدم ثبوته ، يكون مراد من أجاب عن الآية ، مثل السيد المرتضى وابن زهرة والطبرسي وغيرهم ، حيث قالوا : إنّ الاستدلال بالآية(مبنيّ

١٥

على دليل الخطاب ولا نقول به.

وإن كان باعتبار مفهوم الشرط ، كما يظهر من المعالم والمحكيّ عن جماعة ، ففيه : إنّ مفهوم الشرط عدم مجيء الفاسق بالنبإ ، وعدم التبيّن هنا لأجل عدم ما يتبيّن ،

____________________________________

على دليل الخطاب) ، أي : المفهوم المخالف المقابل لمفهوم الموافقة ، فيكون دليل الخطاب مقابلا لحسن الخطاب ، وفحواه المقصود منهما هو مفهوم الموافقة(ولا نقول به) ، أي : المفهوم.

ثمّ دليل الخطاب كما يطلق على مفهوم الشرط كذلك يطلق على مفهوم الوصف ، ولكن المراد به ـ هاهنا ـ هو مفهوم الوصف ، إذ بعض هؤلاء يقول بحجّية مفهوم الشرط ، كالعلّامة رحمه‌الله ، والمحقّق رحمه‌الله.

لا يقال : إنّ المعروف بين العلماء هو قولهم : إنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية والمستفاد منه ثبوت المفهوم للوصف ، فلما ذا ذهب هؤلاء إلى عدم القول بمفهوم الوصف؟ فإنّه يقال : إنّ تعليق الحكم على الوصف وإن كان مشعرا بالعلّية في الجملة وهي غير كافية في إثبات المفهوم ؛ لأنّ المفهوم موقوف على العليّة المنحصرة ، وتعليق الحكم على الوصف لا يدل على حصر العلّية في الوصف حتى يتحقّق المفهوم.

هذا تمام الكلام في الإشكال على مفهوم الوصف ، وبقي الكلام في الإيراد على مفهوم الشرط ، فقد أشار إليه بقوله :

(وإن كان باعتبار مفهوم الشرط ، كما يظهر من المعالم والمحكيّ عن جماعة ، ففيه : إنّ مفهوم الشرط عدم مجيء الفاسق بالنبإ ، وعدم التبيّن هنا لأجل عدم ما يتبيّن ... إلى آخره) ، ويتضح الإشكال على مفهوم الشرط بعد تقديم أمور :

منها : بيان كيفيّة تحقّق المفهوم للجملة الشرطية ، فنقول : إنّ كيفية أخذ المفهوم من الجملة الشرطية هو تبديل كل من الشرط والجزاء بما هو نقيض كل منهما مع إبقاء سائر الأجزاء.

ومنها : إبقاء الموضوع على حاله ، فيكون مفهوم : إن جاءك زيد فأكرمه ، هو : إن لم يجئك زيد لا تكرمه ، لا إن لم يجئك زيد فأكرم عمرا الجائي ؛ لأنّه موضوع آخر لا يرتبط بالقضية الشرطية أصلا ، فالمفهوم هو انتفاء الحكم في الجزاء عند انتفاء الشرط فقط مع بقاء ما هو

١٦

فالجملة الشرطيّة هنا مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ، كما في قول القائل : إن رزقت ولدا فاختنه ، وإن ركب زيد فخذ ركابه ، وإن قدم من السفر فاستقبله ، وإن تزوّجت فلا تضيع حقّ زوجتك ، وإذا قرأت الدرس فاحفظه.

قال الله سبحانه : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)(١) ، (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها)(٢) ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

____________________________________

الموضوع في الحكم.

ومنها : إنّ القضية الشرطية تنقسم إلى قسمين :

قسم له مفهوم نحو : إن جاءك زيد فأكرمه.

وقسم لا يكون له مفهوم ، وهو ما إذا كان مفهومه سالبة بانتفاء الموضوع كما في المقام ، حيث كان الموضوع هو مجيء الفاسق ، والحكم هو وجوب التبيّن.

فيكون المفهوم ـ حينئذ ـ هو عدم وجوب التبيّن عند عدم مجيء الفاسق بنبإ ، فيكون انتفاء وجوب التبيّن بانتفاء الموضوع كما أشار إليه بقوله :

(وعدم التبيّن هنا لأجل عدم ما يتبيّن) ، أي : الموضوع ، وهو مجيء الفاسق بنبإ ، فحينئذ تكون القضية الشرطية لبيان تحقّق الموضوع لا للمفهوم ، كما قال المصنّف رحمه‌الله.

فالجملة الشرطية ـ هنا ـ مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ، وقد ذكر لها أمثلة متعدّدة :

منها : إن رزقت ولدا فاختنه ، فانتفاء الشرط يستلزم انتفاء الموضوع ، ويكون انتفاء الحكم في الجزاء لأجل انتفاء الموضوع ، فانتفاء وجوب الختان في المثال المذكور يكون لانتفاء الولد ، وقس عليه بقية الأمثلة المذكورة في المتن.

ومنها : بيان ما هو النكتة والسرّ لعدم المفهوم ، فيما إذا كانت القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ، وكان مفهومها سالبة بانتفاء الموضوع.

ويتضح ذلك بعد تقديم مقدمة ، وهي أنّ التكليف سواء كان مستفادا من المفهوم أو المنطوق يكون مشروطا على أن يكون ما تعلق به التكليف مقدورا للمكلف ، ثمّ المقدور ما يكون وجوده وعدمه ممكنا للمكلف ، فما لا يكون عدمه وتركه أو فعله مقدورا لا يعد

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٤.

(٢) النساء : ٨٦.

١٧

وممّا ذكرنا ظهر فساد ما يقال تارة :

إنّ عدم مجيء الفاسق يشمل ما لو جاء العادل بنبإ ، فلا يجب تبيّنه فيثبت المطلوب.

____________________________________

مقدورا كحركة يد المرتعش وخلق الحيوان وغيرهما.

إذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك أنّه إذا كان مفهوم الشرط سالبة بانتفاء الموضوع لكان التكليف في جانب المفهوم بما هو غير مقدور للمكلّف كما لا يخفى.

ففي المثال المذكور في المتن : إذا رزقت ولدا فاختنه ، حيث يكون المفهوم إن لم ترزق ولدا لا تختنه ، يكون التكليف بترك الختان بالنهي عنه في فرض عدم وجود الولد تكليفا بما هو غير مقدور ، إذ المكلّف لا يتمكن من الختان من جهة عدم وجود الولد.

وتقدّم أنّ ما لا يكون فعله مقدورا لا يكون تركه مقدورا ، فلا يجوز التكليف في جانب المفهوم ولهذا لا مفهوم لها.

هذا بخلاف مثال : إن جاءك زيد فأكرمه ، حيث يكون المفهوم : إن لم يجئك زيد لا تكرمه ، فإنّ التكليف بترك الإكرام في جانب المفهوم ، كالتكليف بالإكرام في جانب المنطوق ، يكون بما هو مقدور للمكلّف ، إذ يتمكن المكلّف من إكرام زيد على تقدير عدم المجيء بالذهاب إلى بيته ، فيكون ترك الإكرام ـ أيضا ـ مقدورا ، فيصح أن ينهى عنه بالمفهوم.

إذا عرفت هذه الامور يتضح لك ما ذكره المصنّف رحمه‌الله ، من عدم المفهوم للقضية الشرطية في الآية الشريفة لأنّها مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ، فيكون مفهومها سالبة بانتفاء الموضوع ، ولم يكن لبيان التكليف حتى يسمّى مفهوما اصطلاحيا. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الإشكال على مفهوم الشرط.

(وممّا ذكرنا ظهر فساد ما يقال تارة : إنّ عدم مجيء الفاسق يشمل ما لو جاء العادل بنبإ ، فلا يجب تبيّنه فيثبت المطلوب) ، فظهر ممّا ذكرنا ـ من أنّ الجملة الشرطية في المقام مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ، فلا يعقل أن يكون لها مفهوم أصلا ـ فساد [فاعل ظهر] ما قيل : بثبوت المفهوم في المقام تارة بأنّ مفهوم : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) هو إن لم يجئكم فاسق بنبإ فلا تتبيّنوا ، وهذا المفهوم يشمل ما إذا لم يكن هناك خبر أصلا ، لا من الفاسق ولا من العادل ، وما إذا كان هناك خبر جاء به العادل فلا يجب تبيّنه ، فيثبت

١٨

واخرى : إنّ جعل مدلول الآية هو عدم وجوب التبيّن في خبر الفاسق لأجل عدمه يوجب حمل السالبة على المنتفية بانتفاء الموضوع ، وهو خلاف الظاهر.

وجه الفساد : إنّ الحكم إذا ثبت لخبر الفاسق بشرط مجيء الفاسق به ، كان المفهوم بحسب الدلالة العرفيّة أو العقليّة انتفاء الحكم المذكور في المنطوق عن الموضوع المذكور فيه عند انتفاء الشرط المذكور فيه. ففرض مجيء العادل بنبإ عند عدم الشرط ـ وهو مجيء الفاسق بالنبإ ـ لا يوجب انتفاء التبيّن عن خبر العادل الذي جاء به ؛ لأنّه لم يكن مثبتا في المنطوق حتى ينفى في المفهوم ، فالمفهوم في الآية وأمثالها ليس قابلا لغير السالبة بانتفاء

____________________________________

المطلوب.

(واخرى) بأن جعل مفهوم الآية سالبة بانتفاء الموضوع يكون خلاف الظاهر ، وذلك إذا دار الأمر بين كون القضية السالبة سالبة بانتفاء الموضوع وبين كونها سالبة بانتفاء المحمول ، وجب حملها على الثاني لكونها ظاهرة فيه.

وفي المقام يدور أمر المفهوم ، وهو إن لم يجئكم فاسق بنبإ فلا تتبيّنوا ، بين السلب بانتفاء الموضوع ، وهو ما إذا لم يكن هناك خبر أصلا ، لا من الفاسق ولا من العادل ، وبين السلب المحصّل ، وهو ما إذا كان هناك خبر جاء به العادل ، فيحمل على الثاني لكون السلب ظاهرا في السلب المحصّل ، فيكون المفهوم عدم وجوب التبيّن عند مجيء العادل بالنبإ ، وهو المطلوب.

وبالجملة ، إن تصحيح المفهوم يمكن بأحد الوجهين :

الأول : من جهة الشمول ، أي : شمول المفهوم لخبر العادل.

والثاني : من جهة الظهور ، أي : ظهور المفهوم في السلب المحصّل ، فيجب حمله عليه.

ثمّ وجه فساد كلا الوجهين كما أشار إليه بقوله : (وجه الفساد ... إلى آخره) يظهر ممّا ذكرنا في بيان كيفية أخذ المفهوم من القضية الشرطية ؛ من أنّ المفهوم هو تبديل كل من الشرط والجزاء بالنقيض ، مع إبقاء الموضوع على حاله ، فيكون الموضوع في المفهوم عين ما هو الموضوع في المنطوق ؛ لأنّ المنطوق هو إثبات الحكم المذكور للموضوع المذكور عند تحقّق الشرط المذكور ، فيكون المفهوم هو انتفاء الحكم المذكور في المنطوق عن الموضوع المذكور في المنطوق الباقي في المفهوم عند انتفاء الشرط المذكور في

١٩

الموضوع ، وليس هنا قضيّة لفظيّة سالبة دار الأمر بين كون سلبها لسلب المحمول عن الموضوع الموجود ، أو لانتفاء الموضوع.

____________________________________

المنطوق.

فحينئذ يكون المفهوم في الآية الشريفة هو انتفاء الحكم المذكور ، أي : وجوب التبيّن عن الموضوع المذكور ـ أعني : خبر الفاسق ـ عند انتفاء الشرط المذكور ـ أعني : مجيء الفاسق بالنبإ ـ فلا يشمل المفهوم خبر العادل أصلا ؛ لأنّ الموضوع في المنطوق هو خبر الفاسق ، فلا بدّ أن يكون الموضوع في المفهوم ـ أيضا ـ هو خبر الفاسق ، وحكمه هو عدم وجوب التبيّن.

غاية الأمر يكون انتفاء التبيّن عن خبر العادل أجنبيّا عن الشرط ؛ لأنّ الشرط هو مجيء الفاسق بالنبإ ، فبانتفائه ينتفي نبأ الفاسق وخبره الموضوع لوجوب التبيّن في المنطوق.

فالحاصل : إنّ انتفاء التبيّن عن خبر العادل أجنبي عن الشرط في الآية ، ولا يرتبط به أصلا ، فما ذكر من تصحيح المفهوم بشموله لخبر العادل فاسد قطعا.

ثمّ السلب في جانب المفهوم لا يمكن أن يكون بانتفاء المحمول ، فما ذكر في الوجه الثاني من حمل السلب على السلب المحصّل باطل ، إذ حمل السلب على المحصّل يصحّ فيما إذا يمكن الحمل عليه ، ولكن المفهوم في الآية ليس قابلا لغير السالبة بانتفاء الموضوع ، وتقدّم أنّ كل جملة شرطية يكون مفهومها سالبة بانتفاء الموضوع لا مفهوم لها ، بل سيقت لبيان تحقّق الموضوع.

(وليس هنا قضيّة لفظيّة سالبة دار الأمر بين كون سلبها لسلب المحمول ... إلى آخره) ، وما ذكر من تصحيح المفهوم بأنّ الأمر لو دار بين كون القضية السالبة سالبة بانتفاء الموضوع ، وكونها سالبة بانتفاء المحمول ، وجب حملها على الثاني يكون صحيحا في نفسه.

ولكنّ القضية السالبة في المقام لا تصلح إلّا للسلب بانتفاء الموضوع ، فلا يدور أمرها بين السلب المحمولي والسلب الموضوعي حتى يحمل على الأول دون الثاني ، وما ذكر في الوجه الثاني إنّما يتمّ فيما إذا كانت القضية السالبة صالحة للسلب بانتفاء المحمول والموضوع معا ، فلا يجري في المقام ، كما لا يخفى.

٢٠