دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

الوجوب ، وأدلّة نفي التكليف عمّا لم يعلم نوع التكليف لا تفيد إلّا عدم المؤاخذة على الترك أو الفعل وعدم تعيين الحرمة أو الوجوب. وهذا المقدار لا ينافي وجوب الأخذ بأحدهما مخيّرا فيه.

نعم ، هذا الوجوب يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، فاللّازم هو التوقّف وعدم الالتزام إلّا بالحكم الواقعي على ما هو عليه في الواقع.

ولا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن حكم ظاهري إذا لم يحتج إليه في العمل ،

____________________________________

الوجوب ... إلى آخره).

وهذا الكلام من المصنّف قدس‌سره ردّ لما تقدّم منه إلى الآن ، وهو الحكم بالإباحة الظاهريّة في دوران الأمر بين المحذورين.

وحاصل الردّ أنّ الإباحة الظاهريّة وإن كانت ممكنة في حدّ نفسها ، إلّا أنّ أدلّة الإباحة والبراءة لا تشملها ، وذلك لأنّ أدلّة الإباحة والبراءة على قسمين :

قسم منها : مفادها هو الإباحة والحلّيّة في محتمل الحرمة.

وقسم منها : مفادها نفي العقاب على التكليف المحتمل.

أمّا القسم الأوّل فلا يشمل المقام لانصرافه إلى محتمل الحرمة ، وغير الوجوب فيما إذا كان احتمال الحرمة مع احتمال الإباحة ، كقوله عليه‌السلام : (كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه) (١) ، وقوله عليه‌السلام : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) (٢) ، بل يمكن أن يقال : إنّ دوران الأمر بين المحذورين خارج عن هذا القسم مع قطع النظر عن الانصراف.

وأمّا القسم الثاني فإنّه وإن كان شاملا لما نحن فيه ، إلّا أنّه لا يدلّ على أزيد من عدم العقاب على الفعل والترك ، وهذا لا ينافي وجوب الأخذ بأحدهما مخيّرا.

نعم ، وجوب الأخذ بأحدهما يحتاج إلى دليل ، لئلّا يلزم التشريع ، والدليل مفقود في المقام ، (فاللّازم هو التوقّف) من حيث الحكم ، والالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه.

قوله : (ولا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن حكم ظاهري ... إلى آخره).

دفع لما قد يقال من أنّ كلّ واقعة لا تخلو عن حكم شرعي ، وكذلك الواقعة التي يدور

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠. التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٩. الوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

(٢) الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٧. الوسائل ٢٧ : ١٧٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٧.

١٢١

نظير ما لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب.

ثمّ على تقدير وجوب الأخذ ، هل يتعيّن الأخذ بالحرمة ، أو يتخيّر بينه وبين الأخذ بالوجوب؟ وجهان ، بل قولان :

يستدلّ على الأوّل بعد قاعدة الاحتياط ، حيث يدور الأمر بين التخيير والتعيين ، بظاهر ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة ، فإنّ الظاهر من التوقّف ترك الدخول في

____________________________________

حكمها بين الوجوب والحرمة في المقام لا يمكن أن تكون خالية من الحكم ، فلا بدّ من الحكم ـ حينئذ ـ بالإباحة ، أو وجوب الأخذ بالوجوب ، أو الحرمة تخييرا.

وحاصل الدفع ما أشار إليه بقوله :

(ولا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن حكم ظاهري).

والذي قام عليه الإجماع ودلّت عليه الأخبار هو عدم جواز خلو الواقعة عن الحكم الواقعي.

(إذا لم يحتج إليه في العمل).

أي : لا بأس بخلوّ الواقعة عن الحكم الظاهري إذا لم يحتج إليه في العمل ، كالمفروض في ما نحن فيه من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التوصّليّين ، حيث يكون التخيير العقلي بين الفعل والترك كافيا ، فلا حاجة إلى حكم ظاهري.

نعم ، إذا احتيج إلى الالتزام بالحكم الظاهري في مقام العمل ، كما كان دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعبّديين ، فحينئذ يجب الأخذ بأحدهما ، ليتمكّن المكلّف من قصد الامتثال ، إذ يلزم من ترك قصد الامتثال المخالفة العمليّة.

(ثمّ على تقدير وجوب الأخذ ، هل يتعيّن الأخذ بالحرمة ، أو يتخيّر بينه وبين الأخذ بالوجوب؟ وجهان ، بل قولان).

أي : على تقدير وجوب الأخذ بأحدهما ، وعدم جواز الرجوع إلى البراءة ، ففيه قولان :

قول بوجوب الأخذ بالحرمة معيّنا.

وقول بالتخيير بين الأخذ بالحرمة والوجوب.

(يستدلّ على الأوّل بعد قاعدة الاحتياط ، حيث يدور الأمر بين التخيير والتعيين ، بظاهر ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة ... إلى آخره).

١٢٢

الشبهة.

وبأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، لما عن النهاية :

«إنّ الغالب في الحرمة دفع مفسدة ملازمة للفعل ، وفي الوجوب تحصيل مصلحة

____________________________________

وحاصل ما ذكره المصنّف قدس‌سره أنّه استدلّ على القول الأوّل بوجوه :

منها : إنّ مقتضى قاعدة الاحتياط هو الأخذ بجانب التعيين فيما إذا دار الأمر بين التخيير والتعيين ، كما إذا دار أمر صلاة الظهر يوم الجمعة بين كونها واجبة تعيينا أو تخييرا بينها وبين صلاة الجمعة ، فيجب على المكلّف أن يصلّي الظهر يوم الجمعة ، حتى يحصل له العلم ببراءة الذمّة على كلّ تقدير.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ لو أخذ بالحرمة لحصل العلم ببراءة الذمّة ، إذ على القول بالتعيين فقد أخذ به ، وعلى القول بالتخيير فقد أخذ بأحد طرفي التخيير ، وهذا بخلاف ما إذا أخذ بالتخيير وقدّم جانب الوجوب على الحرمة حيث لا يحصل العلم بالبراءة لاحتمال صحّة القول بالتعيين.

ومنها : ما أشار إليه بقوله : (بظاهر ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة).

أي : يستدلّ على القول الأوّل بظاهر ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة.

وتقريبه : إنّ ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة يشمل جانب الحرمة دون الوجوب ، لأنّ التوقّف في مقام العمل عبارة عن ترك الدخول في الفعل بارتكاب الشبهة.

وهذا المعنى لا يحصل إلّا بأخذ جانب الحرمة ، لأنّ أخذ جانب الوجوب لازمه هو الفعل ، وبهذا لا يتحقّق معنى التوقّف ، فيتعيّن الأخذ بالحرمة ، لشمول أخبار التوقّف لها ، والأخذ بجانب الوجوب مخالف لها فيتعيّن تركه.

ومنها : ما أشار إليه بقوله : (وبأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ... إلى آخره).

لأنّ المفسدة من القبائح الذاتيّة يحكم العقل بدفعها ، بخلاف جلب المنفعة حيث يحكم العقل بحسنه ، لكونه موافقا للطبع ، فلا يحكم العقل بحسن جلب المنفعة مجرّدا عن علاقة الطبيعة ، ويحكم بقبح المفسدة مجرّدا عن علاقة الطبيعة ، فيكون دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، كما في تعليقة غلام رضا على الرسائل مع توضيح منّا.

ثمّ يذكر صاحب النهاية ما يكون شاهدا ومؤيّدا لما ذكره من دفع المفسدة أولى من

١٢٣

لازمة للفعل ، واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أتمّ ، ويشهد له ما ارسل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من : أنّ (اجتناب السيّئات أولى من اكتساب الحسنات) (١) وقوله عليه‌السلام : (اجتناب السيّئات أفضل من اكتساب الحسنات) (٢). ولأنّ إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتمّ من إفضاء الوجوب إلى مقصوده ؛ لأنّ الحرمة تتأتّى بالترك ، سواء كان مع قصد أم غفلة ، بخلاف فعل ، الواجب» ، انتهى.

وبالاستقراء ، بناء على أنّ الغالب في موارد اشتباه مصاديق الواجب والحرام تغليب الشارع لجانب الحرمة ، ومثّل له بأيّام الاستظهار ، وتحريم استعمال الماء المشتبه بالنجس.

____________________________________

جلب المنفعة ، حيث يقول :

(ويشهد له ما ارسل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من أنّ (اجتناب السيّئات أولى من اكتساب الحسنات) وقوله عليه‌السلام : (اجتناب السيّئات أفضل من اكتساب الحسنات)).

ومنها : ما أشار إليه بقوله : (ولأنّ إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتمّ من إفضاء الوجوب إلى مقصوده).

لأنّ المقصود من الحرمة هو الترك ، والمقصود من الوجوب هو الفعل ، والترك أسهل من الفعل ، لعدم احتياج الترك إلى القصد والالتفات ، بل يحصل من دون قصد ، بل يحصل حتى مع الغفلة ، بينما الفعل يحتاج إلى القصد والالتفات ، كما لا يخفى.

ومنها : ما أشار إليه بقوله : (وبالاستقراء ، بناء على أنّ الغالب في موارد اشتباه مصاديق الواجب والحرام تغليب الشارع لجانب الحرمة).

أي : يستدلّ على القول الأوّل وهو الأخذ بالحرمة معيّنا بالاستقراء ، بمعنى : إنّنا إذا تتبّعنا من أوّل الفقه إلى آخره موارد اشتباه مصاديق الواجب مع الحرام نرى أنّ الشارع قد غلّب جانب الحرمة على الوجوب فقدّمها عليه.

(ومثّل له بأيّام الاستظهار ، وتحريم استعمال الماء المشتبه بالنجس).

وتوضيح المثال الأوّل كما في شرح الاستاذ الأعظم الاعتمادي دامت إفاداته ما حاصله :

__________________

(١) غرر الحكم ودرر الكلم : ٨١ / ١٥٥٩.

(٢) غرر الحكم ودرر الكلم : ١٩٦ / ٢٢٥ ، وفيه : (أفضل من اكتساب الحسنات اجتناب السيّئات).

١٢٤

ويضعّف الأخير بمنع الغلبة.

____________________________________

إنّ الشارع حكم بحرمة العبادة على المرأة في أيّام الاستظهار ، مع أنّ أمر العبادة في هذه الأيّام يدور بين كونها حراما إذا كانت المرأة في الواقع حائضا ، وواجبة إذا لم تكن كذلك ، فغلّب الشارع جانب الحرمة على الوجوب ، وإلّا لم يحكم بحرمة العبادة في أيّام الاستظهار ، وهي أيّام أوّل الدم لغير ذات العادة الوقتيّة تستظهر في هذه الأيام ، أي : تطلب ظهور حالها ، فإن استمر الدم فهو حيض ، وإن انقطع قبل إكمال الثلاثة فاستحاضة ، وأخّر الدم لذات العادة العدديّة ، فإذا تجاوز دمها العادة حتى العشر ، فالزائد عن العادة حتى العشر ، فالزائد عن العادة استحاضة ، وإلّا فكلّه حيض.

وهكذا تحريم الشارع استعمال الماء المشتبه بالنجس تغليب لجانب الحرمة ، مع دوران استعماله بين كونه واجبا إذا كان لتحصيل الطهارة مع كونه طاهرا في الواقع ، وبين كونه حراما إذا كان نجسا في الواقع ، لأنّ استعمال الماء النجس في الطهارة حرام. هذا تمام الكلام في الوجوه التي استدلّ بها على القول الأوّل وهو الأخذ بالحرمة معيّنا.

(ويضعّف الأخير بمنع الغلبة).

أي : بمنع غلبة تقديم جانب الحرمة على الوجوب شرعا إن كان المراد بالاستقراء هو الاستقراء التام ، ومنع اعتبار الظنّ على تقدير حصوله من الغلبة إن كان المراد به هو الناقص ، وأما الثاني فواضح لا يحتاج إلى البيان.

وأمّا الأوّل فلأنّ المقدّم في موارد اشتباه مصاديق الواجب والحرام لم يكن جانب الحرمة غالبا ، كما تقدّم في الاستدلال ، بل تقديم جانب الحرمة يكون مساويا لتقديم جانب الوجوب إن لم نقل بالعكس ، أي : بأنّ تقديم جانب الوجوب أكثر وأغلب من تقديم جانب الحرمة ، وذلك لأنّا نرى تغليب الشارع لجانب الوجوب على الحرمة في موارد عديدة :

منها : ما لو كان لكلّ من الرجلين درهم عند الودعي ، فتلف أحدهما حيث حكم بتنصيف الدرهم الباقي ، وليس هذا الحكم مع تردّد أمر كلّ نصف بين الوجوب والحرمة ، كما لا يخفى ، إلّا من جهة تغليب جانب الوجوب على الحرمة.

ومنها : ما لو تداعيا عينا مع عدم بيّنة في البين حيث حكم ـ حينئذ ـ بتنصيف العين ،

١٢٥

وما ذكر من الأمثلة مع عدم ثبوت الغلبة بها خارج عن محلّ الكلام ،

____________________________________

وهذا الحكم مع تردّد أمر كلّ نصف بين الوجوب والحرمة ليس إلّا لأجل تقديم جانب الوجوب على الحرمة.

ومنها : الصلاة إلى أربع جهات في اشتباه القبلة بينها مع تردّد أمر الصلاة إلى كلّ جهة بين الوجوب والحرمة ، لأنّ الصلاة في كل جهة على فرض كونها قبلة تكون واجبة ، وإلّا فتكون حراما ، فإنّ الصلاة إلى غير جهة القبلة تكون حراما بالحرمة التشريعيّة ، فالحكم بالصلاة إلى أربع جهات مع تردّد أمرها في كلّ جهة بين الوجوب والحرمة ، ليس إلّا من جهة تقديم جانب الوجوب على الحرمة.

ومنها : الصلاة في ثوبين اشتبه طاهرهما بالنجس ، فيكون أمرها في كلّ ثوب مردّدا بين الوجوب والحرمة ، لأنّ الصلاة في الثوب الطاهر واجبة ، وفي الثوب النجس حرام.

فالحكم بالصلاة في الثوبين ليس إلّا من جهة تقديم جانب الوجوب على الحرمة.

والحاصل أنّ الاستقراء لم يكن دليلا على القول الأوّل ، بل يكون دليلا على ردّه.

ثمّ إنّ المصنّف قدس‌سره ردّ ما ذكر من الأمثلة بأنّها خارجة عن محلّ الكلام حيث يقول :

(وما ذكر من الأمثلة مع عدم ثبوت الغلبة بها خارج عن محلّ الكلام).

فلا بدّ من ذكر الأمثلة إجمالا ، ثمّ البحث عن كلّ واحد منها تفصيلا ، فنقول : هنا أمثلة ثلاثة :

أحدها : ترك العبادة في أيّام الاستظهار بعد انقضاء العادة ، كما تقدّم.

وثانيها : ترك العبادة في أيّام الاستظهار بمجرّد رؤية الدم إن لم تكن لها عادة بحسب الوقت.

وثالثها : ترك الوضوء بالإناءين المشتبهين.

وأمّا خروج المثال الأوّل عن محلّ الكلام ، فيتّضح بعد ذكر مقدّمة وهي : إنّ محلّ الكلام هو دوران الأمر بين الوجوب والحرمة الذاتيين ، لا بين الوجوب الذاتي والحرمة التشريعيّة.

ومنها يتّضح لك خروج المثال الأوّل عن محلّ الكلام ، لأنّ في العبادة أيّام الاستظهار ليس إلّا احتمال الوجوب فقط ، وليس فيها احتمال الحرمة الذاتيّة أصلا عند المشهور ،

١٢٦

فإنّ ترك العبادة في أيّام الاستظهار ليس على سبيل الوجوب عند المشهور ، ولو قيل بالوجوب ، ولعلّه لمراعاة أصالة بقاء الحيض وحرمة العبادة. وأمّا ترك غير ذات الوقت العبادة بمجرّد الرؤية فهو للإطلاقات ، وقاعدة كلّ ما أمكن ، وإلّا فأصالة الطهارة وعدم الحيض هي المرجع.

____________________________________

(فإنّ ترك العبادة في أيّام الاستظهار ليس على سبيل الوجوب) عندهم حتى يكون فعلها حراما ، بل يكون الترك مستحبّا ، لاحتمال عدم الأمر واحتمال الحرمة التشريعيّة ، فإنّ الصلاة حال الحيض محرّمة من جهة عدم الأمر بها ، فتكون حرمتها ـ حينئذ ـ تشريعيّة ، وهي كما قلنا : خارجة عن محلّ الكلام.

نعم ، هناك قول بوجوب ترك العبادة في أيّام الاستظهار ، كما أشار إليه بقوله :

(ولو قيل بالوجوب ، ولعلّة لمراعاة أصالة بقاء الحيض وحرمة العبادة).

ولعلّ وجوب ترك العبادة وحرمتها على هذا القول يكون لأجل استصحاب الحيض ، فالحرمة من جهة الاستصحاب وإن كانت ذاتيّة ، إلّا أنّ الحكم بالحرمة ليس من جهة تقديم جانب الحرمة على الوجوب ، وذلك لعدم احتمال الوجوب أصلا حينئذ ، فينتفي دوران الأمر بين المحذورين. هذا أوّلا.

وثانيا : على فرض تسليم احتمال الوجوب نقول : إنّ نظر الشارع في الحكم بالحرمة كان إلى القاعدة الكليّة التي جعلها للشاكّ في مقام العمل ، لا إلى تقديم جانب الحرمة على الوجوب.

هذا تمام الكلام في المثال الأوّل.

وأمّا خروج المثال الثاني عن محلّ الكلام ، فللإطلاقات الدالّة على كون الدم حيضا ، وقاعدة كلّ ما أمكن أن يكون حيضا فيحكم بكونه حيضا.

ومقتضى الإطلاقات والقاعدة هو كون هذا الدم حيضا ، فيحكم بحرمة الصلاة فقط من دون أن يكون هناك احتمال الوجوب ، فلا يكون الحكم بالحرمة من باب تقديم جانب الحرمة على الوجوب أصلا.

(وإلّا فأصالة الطهارة وعدم الحيض هي المرجع).

أي : لو لا الإطلاقات والقاعدة المجمع عليها لكان المرجع هو أصالة الطهارة وعدم

١٢٧

وأمّا ترك الإنائين المشتبهين في الطهارة ، فليس من دوران الأمر بين الواجب والحرام ، لأنّ الظاهر ـ كما ثبت في محلّه ـ أنّ حرمة الطهارة بالماء النجس تشريعيّة لا ذاتيّة. وإنّما منع عن الطهارة مع الاشتباه لأجل النصّ ، مع أنّه لو كانت ذاتيّة فوجه ترك الواجب ـ وهو الوضوء ـ ثبوت البدل له وهو التيمّم ، كما لو اشتبه إناء ذهب بغيره مع انحصار الماء في المشتبهين.

وبالجملة ، فالوضوء من جهة ثبوت البدل له لا يزاحم محرّما ، مع أنّ القائل بتغليب جانب الحرمة لا يقول بجواز المخالفة القطعيّة في الواجب لأجل تحصيل الموافقة القطعيّة في

____________________________________

الحيض ، ثمّ الحكم بوجوب العبادة فقط لانتفاء احتمال الحرمة على هذا الفرض.

وأمّا خروج المثال الثالث عن محلّ الكلام ، فلما تقدّم في المثال الأوّل من أنّ محلّ الكلام هو دوران الأمر بين الوجوب والحرمة الذاتيّين ، والحرمة في هذا المثال الثالث تشريعيّة لا ذاتيّة ؛ وذلك لأنّ الوضوء بالماء النجس حرام بالحرمة التشريعيّة ، فيكون مورد هذا المثال خارجا عن محلّ الكلام.

وثانيا : إنّ المثال خارج عن محلّ الكلام من جهة اخرى ، وهي : إنّ المثال ممّا يدور الأمر فيه بين الواجب والحرام ، وما نحن فيه ممّا يدور الأمر فيه بين الوجوب والحرمة.

وثالثا : لو أغمضنا عن الإيراد الأوّل وقلنا : إنّ الحرمة في مورد المثال ذاتيّة ، فالوجه لترك الواجب هو ثبوت البدل له ، ومن المعلوم أنّ ما ليس له بدل يقدّم على ما له بدل ، وتقديم الحرمة على الوجوب الذي يكون له بدل لا يدلّ على تقديمها عليه مطلقا.

ورابعا : (مع أنّ القائل بتغليب جانب الحرمة لا يقول بجواز المخالفة القطعيّة في الواجب لأجل تحصيل الموافقة القطعيّة في الحرام).

وهذا الجواب الرابع عن المثال الثالث يتّضح بعد بيان الفرق بين ما نحن فيه ، وبين مورد هذا المثال وهو :

إنّ العلم الإجمالي في المقام يكون بثبوت أحد الحكمين ، أي : إمّا الوجوب أو الحرمة ، فلا يمكن فيه تحقّق المخالفة القطعيّة ، كما لا يمكن تحقّق الموافقة القطعيّة.

وأمّا العلم الإجمالي في المثال فيكون بثبوت كليهما ، ولذا يمكن فيه تحقّق المخالفة القطعيّة ، كما يمكن تحقّق الموافقة القطعيّة ، وحينئذ يكون تقديم جانب الحرمة في المقام

١٢٨

الحرام ؛ لأنّ العلماء والعقلاء متّفقون على عدم جواز ترك الواجب تحفّظا عن الوقوع في الحرام ، فهذا المثال أجنبي عمّا نحن فيه قطعا.

ويضعّف ما قبله بأنّه يصلح وجها لعدم تعيين الوجوب ، لا لنفي التخيير ، وأمّا أولويّة دفع المفسدة فهي مسلّمة.

لكنّ المصلحة الفائتة بترك الواجب ـ أيضا ـ مفسدة ، وإلّا لم يصلح للإلزام ، إذ مجرّد

____________________________________

موجبا لموافقة احتماليّة ، كما فيه مخالفة احتماليّة.

ولكن في تقديم جانب الحرمة في المثال موافقة قطعيّة للحرام ، ومخالفة قطعيّة للواجب ، ولم يقل أحد بجواز المخالفة القطعيّة في الواجب ، لتحصيل الموافقة القطعيّة في الحرام ، (لأنّ العلماء والعقلاء متّفقون على عدم جواز ترك الواجب تحفّظا عن الوقوع في الحرام ، فهذا المثال) الثالث (أجنبي عمّا نحن فيه) ، فيكون الحكم بتقديم جانب الحرمة فيه تعبّد محض.

(ويضعّف ما قبله).

أي : ما قبل الاستقراء ، وهو كون إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتمّ من إفضاء الوجوب إلى مقصوده.

(بأنّه يصلح وجها لعدم تعيين الوجوب ، لا لنفي التخيير).

لأنّ الأسهليّة لم تكن مرجّحة حتى تتعيّن الحرمة بها ، وإلّا لم يذهب الأكثر إلى تقديم الخبر الناقل على المقرّر ، مع أنّ الأسهليّة مع المقرّر هذا أوّلا.

وثانيا : لا فرق في المقام بين الوجوب والحرمة في الأسهليّة ، بعد فرض كليهما توصّليّا ، لأنّ الواجب التوصّلي يتأتّى مع الغفلة ـ أيضا ـ كالحرام ، إلّا أن يقال : إنّ نفس الترك أسهل من نفس الفعل.

(وأمّا أولويّة دفع المفسدة فهي مسلّمة).

لأنّ العقل يحكم ـ كما تقدّم ـ بهذه الأولويّة عند التعارض بين المفسدة والمنفعة ، إلّا أنّ هذه الأولويّة لا تنفع في المقام ، حيث تكون في المصلحة الفائتة بترك الواجب مفسدة مساوية لمفسدة الحرام.

(وإلّا لم يصلح للإلزام).

١٢٩

فوات المنفعة عن الشخص وكون حاله بعد الفوت كحاله فيما قبل الوجوب عليه لا يصلح وجها لإلزام شيء على المكلّف ما لم يبلغ حدّا يكون في فواته مفسدة ، وإلّا لكان أصغر المحرّمات أعظم من ترك أهمّ الفرائض ، مع أنّه جعل ترك الصلاة أكبر الكبائر.

وبما ذكر يبطل قياس ما نحن فيه على دوران الأمر بين فوت المنفعة الدنيويّة وترتّب المضرّة الدنيويّة ، فإنّ فوات النفع من حيث هو نفع لا يوجب ضررا.

____________________________________

أي : وإن لم تكن في ترك الواجب مفسدة مساوية لمفسدة الحرام ، وكان ترك الواجب مجرّد فوت منفعة لم تكن موجبة للوجوب.

(إذ مجرّد فوات المنفعة عن الشخص وكون حاله بعد الفوت كحاله فيما قبل الوجوب عليه لا يصلح وجها لإلزام شيء على المكلّف ما لم يبلغ حدّا يكون في فواته مفسدة ، وإلّا) أي : لو كان وجوب الفعل لمصلحة لا تكون في فواتها مفسدة (لكان أصغر المحرّمات أعظم من ترك أهم الفرائض) لحصول المفسدة في ارتكاب الحرام دون ترك الواجب ، وإن كان الواجب من أهمّ الواجبات كالصلاة مثلا(مع أنّه) أي : المستدلّ (جعل ترك الصلاة أكبر الكبائر) ، فجعل تركها من أكبر الكبائر يكون أقوى شاهد على أنّ في ترك الواجب مفسدة مساوية لمفسدة الحرام.

(وبما ذكر يبطل قياس ما نحن فيه على دوران الأمر بين فوت المنفعة الدنيويّة وترتّب المضرّة الدنيوية ... إلى آخره).

أي : بما ذكرنا من المفسدة في فوت مصلحة الواجب يبطل قياس ما نحن فيه ... إلى آخره ، بأن يقال : إنّ ما نحن فيه ـ يعني : فوت مصلحة الواجب بترك الواجب ـ يكون نظير فوت المنفعة الدنيويّة ، ومفسدة الحرام بارتكابه تكون نظير ترتّب المضرّة الدنيويّة.

فكما أنّ فوت المنفعة الدنيويّة جائزة عند العقلاء ، كذلك فوت مصلحة الواجب ، وهكذا ، وأيضا كما يجب دفع المضرّة الدنيويّة المحتملة ، كذلك يجب دفع المفسدة المحتملة في المقام.

وحاصل القياس هو تعيين الأخذ بجانب الحرمة وترك جانب الوجوب ، لجواز ترك الواجب حينما يدور الأمر بينه وبين الحرمة من جهة وجوب دفع المفسدة المحتملة ، كالمضرّة الدنيويّة.

١٣٠

وأمّا الأخبار الدالّة على التوقّف ، فظاهرة فيما لا يحتمل الضرر في تركه ، كما لا يخفى.

وظاهر كلام السيّد الشارح للوافية جريان أخبار الاحتياط ـ أيضا ـ في المقام ، وهو بعيد. وأمّا قاعدة الاحتياط عند الشكّ في التخيير والتعيين فغير جار في أمثال المقام ، ممّا يكون

____________________________________

وحاصل ما يقال في بطلان القياس : إنّه قياس مع الفارق ، لأنّ فوت النفع من حيث هو نفع لا يوجب ضررا ، وأمّا فوت مصلحة الواجب فيكون موجبا للضرر ، كما تقدّم ، فقياس فوات المنفعة الدنيويّة بفوات مصلحة الواجب باطل.

(وأمّا الأخبار الدالّة على التوقّف ، فظاهرة فيما لا يحتمل الضرر في تركه).

فلا تشمل ما نحن فيه ، بل ظاهرة في دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ، وذلك لأنّ المستفاد من التعليل المذكور فيها ـ وهو قوله عليه‌السلام : (فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) (١) ـ هو انحصار الهلكة بدخول الشبهة وارتكابها لاحتمال الحرمة ، وليس في تركها وعدم الدخول فيها اقتحام في الهلكة حتى تشمل محتمل الوجوب ، كما لا يخفى.

(وظاهر كلام السيّد الشارح للوافية جريان أخبار الاحتياط ـ أيضا ـ في المقام).

فيكون مقتضى أخبار الاحتياط على تقدير جريانها في المقام تقديم الحرمة على الوجوب ، إلّا أنّ جريانها في المقام بعيد ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : (وهو بعيد).

وذلك لعدم إمكان الاحتياط في دوران الأمر بين المحذورين ، هذا إن كان المراد منه الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، وكونه على خلاف ظاهر أخبار الاحتياط إن كان المراد منه الاحتياط في المسألة الاصوليّة ، فإنّ الاحتياط في المسألة الاصوليّة ، وهي دوران الأمر بين التخيير والتعيين وإن كان ممكنا ، إلّا أنّه على خلاف ظاهر أخبار الاحتياط ، لأنّ ظاهرها هو الاحتياط في المسألة الفقهيّة.

فالحاصل أنّ جريان أخبار الاحتياط في المقام بعيد.

(وأمّا قاعدة الاحتياط عند الشكّ في التخيير والتعيين فغير جار في أمثال المقام ، ممّا

__________________

(١) التهذيب ٧ : ٤٧٤ / ١٩٠٤. الوسائل ٢٧ : ٢٥٩ ، أبواب مقدمات النكاح وآدابه ، ب ١٥٧ ، ح ٢.

١٣١

الحاكم فيه العقل ، فإنّ العقل إمّا أن يستقلّ بالتخيير ، وإمّا أن يستقلّ بالتعيين. فليس في المقام شكّ على كلّ تقدير ، وإنّما الشكّ في الأحكام التوقيفيّة التي لا يدركها العقل.

إلّا أن يقال : إنّ احتمال أن يرد من الشارع حكم توقيفي في ترجيح جانب الحرمة ، ولو لاحتمال شمول أخبار التوقّف لما نحن فيه ، كاف في الاحتياط والأخذ بالحرمة.

____________________________________

يكون الحاكم فيه العقل ... إلى آخره).

بقي في المقام الجواب عن قاعدة الاحتياط.

وحاصل الجواب عن هذه القاعدة ، هو

أنّ الحاكم في المقام ـ بعد إبطال القول بالإباحة الظاهريّة ، والقول بالتوقّف ـ هو العقل ، حيث يحكم جزما ؛ إمّا بالتخيير ، أو التعيين ، ولا يعقل الشكّ في مورد حكم العقل أصلا ، لأنّ العقل لا يعقل أن يحكم بشيء إلّا بعد إحراز الموضوع مع جميع قيوده ، وعلى هذا لا يبقى موضوع لقاعدة الاحتياط لأنّ موضوعه هو التردّد بين التخيير والتعيين ، ولا يتصوّر التردّد بينهما في المقام الذي لا يكون الحاكم فيه إلّا العقل.

نعم ، يتصوّر الشكّ في الأحكام التوقيفيّة التي تتوقّف على بيان الشارع ، كدوران الأمر في مسألة التقليد بين تقليد الأعلم معيّنا ، أو التخيير بينه وبين غيره ، ومثل دوران كفّارة إفطار قضاء رمضان بعد الزوال بين إطعام العشر معيّنا ، أو مخيّرا بينه وبين صيام ثلاثة أيّام.

إلّا أن يقال : بأنّ حكم العقل معلّق بعدم حكم الشرع في المقام ، فيزول مع احتمال ورود حكم تعبّدي من الشارع في ترجيح جانب الحرمة ، وهذا الاحتمال كاف في الاحتياط وتعيين الحرمة ، ولو كان منشؤه شمول أخبار التوقّف لما نحن فيه ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(إلّا أن يقال : إنّ احتمال أن يرد من الشارع ... إلى آخره).

ومع احتمال تعيين الحرمة شرعا تخرج المسألة عن كونها عقليّة ، ولو كان الحاكم بالاحتياط ـ حينئذ ـ هو العقل.

نعم ، إلّا أن يقال : إنّ احتمال شمول أخبار التوقّف لما نحن فيه لا يضرّ بحكم العقل ، لأنّ هذه الأخبار تكون في عرض حكم العقل ، وحينئذ إن كانت موافقة لحكم العقل كانت مؤكّدة له ، وإن كانت مخالفة لكان شمولها لما نحن فيه مجرّد احتمال ، وهو لا يمنع من

١٣٢

ثمّ لو قلنا بالتخيير ، فهل هو في ابتداء الأمر فلا يجوز له العدول عمّا اختار ، أو مستمرّ فله العدول مطلقا ، أو بشرط البناء على الاستمرار؟ وجوه.

يستدلّ للأوّل بقاعدة الاحتياط ، واستصحاب حكم المختار ، واستلزام العدول للمخالفة القطعيّة المانعة عن الرجوع ، التي لم يرجع إلى الإباحة من أوّل الأمر حذرا منها.

____________________________________

حكم العقل بقبح العقاب على مجهول الحرمة والوجوب ، كما لا يقدح احتمال تضمّن الكذب في مورد للمصلحة في حكم العقل بقبحه ، كما في الأوثق بتوضيح منّا.

(ثمّ لو قلنا بالتخيير ، فهل هو في ابتداء الأمر فلا يجوز له العدول عمّا اختار ، أو مستمر فله العدول مطلقا ، أو بشرط البناء على الاستمرار؟).

أي : على قصد استمرار ما اختاره أوّلا ـ كما في شرح الاستاذ الاعتمادي ـ لا على قصد استمرار التخيير كما قيل ، إذ على تقدير قصد استمرار التخيير من الأوّل يكون حكم الشرع هو التخيير الابتدائي رغما لأنف هذا الشخص ، لأنّ لازم قصد استمرار التخيير هو عدم مبالاته للدين مع علمه بلزوم المخالفة القطعيّة من استمراره.

وكيف كان ، فإنّ المراد من التخيير إن كان شرعيّا ـ حيث تدلّ عليه أخبار التخيير الواردة في باب تعارض الخبرين ، كما في بحر الفوائد ـ فيأتي فيه ما ذكره المصنّف قدس‌سره من الوجوه ، وأمّا بناء على التخيير العقلي كما يقول به المصنّف قدس‌سره فلا يجري ما ذكره من الوجوه ؛ وذلك لأنّ الشكّ لا يعقل في مورد حكم العقل كما عرفت ، حتى يرجع فيه إلى الأصل ، بل العقل ؛ إمّا يحكم بالتخيير الاستمراري أو الابتدائي على نحو الجزم والقطع.

وكيف كان ، (يستدلّ للأوّل بقاعدة الاحتياط ، واستصحاب حكم المختار ، ... إلى آخره).

واستدلّ على الأوّل ، وهو التخيير في ابتداء الأمر بوجوه :

منها : قاعدة الاحتياط ، ومقتضى هذه القاعدة بعد ما اختار المكلّف أحدهما هو تعيين الحكم المختار ، لحصول اليقين ببراءة الذمّة على تقدير الأخذ به ، لأنّه واجب معيّنا ، أو مخيّرا بينه وبين غيره ، وهذا بخلاف التخيير الاستمراري والأخذ بغير ما اختاره أوّلا حيث لا يحصل اليقين بالبراءة ، لأنّ براءة الذمّة تحصل فيما لو كان الحكم هو التخيير فقط.

ومنها : استصحاب حكم المختار ، وهو واضح لا يحتاج إلى الشرح.

ومنها : إنّ العدول عمّا اختاره أولا إلى غيره ـ كما هو مقتضى التخيير الاستمراري ـ

١٣٣

ويضعّف الأخير بأنّ المخالفة القطعيّة في مثل ذلك لا دليل على حرمتها ، كما لو بدا للمجتهد في رأيه ، أو عدل المقلّد عن مجتهده لعذر من موت ، أو جنون ، أو فسق ، أو اختيار على القول بجوازه.

ويضعّف الاستصحاب بمعارضة استصحاب التخيير الحاكم عليه.

____________________________________

مستلزم للمخالفة القطعيّة العمليّة التدريجيّة ، وهذه المخالفة القطعيّة العمليّة تكون مانعة عن التخيير الاستمراري كما كانت مانعة عن الرجوع إلى الإباحة من أوّل الأمر ، بجامع لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة التدريجيّة في كلا الموردين.

(ويضعّف الأخير بأنّ المخالفة القطعيّة في مثل ذلك لا دليل على حرمتها ... إلى آخره).

وحاصل الجواب عن الوجه الأخير أنّ المخالفة القطعيّة العمليّة التدريجيّة وإن كانت محرّمة ولكن لا مطلقا ، بل إذا لم يلتزم بأحد الحكمين في كلّ واقعة ، وأمّا إذا التزم في كلّ واقعة بأحد الحكمين المحتمل لكونه مطابقا للواقع ، فلا دليل على حرمة المخالفة القطعيّة العمليّة ، وما نحن فيه يكون من هذا القبيل ، حيث يلتزم المكلّف بالوجوب عند اختياره إيّاه ، وكذلك جانب الحرمة.

قال الاستاذ الأعظم الاعتمادي دامت إفاداته ، ما لفظه : ومجرّد أخذ أحد الحكمين في الواقعة الاولى لا يوجب ترجيحه على الآخر بالضرورة ، فيحكم بالتخيير استمرارا ، وعلى تقدير استفادة التخيير هنا من الأخبار العلاجيّة ، فإمكان استمراره في غاية الوضوح ، لأنّ مرجعه إلى جعل الشارع الالتزام بالحكم المحتمل في كلّ واقعة ، امتثالا وتداركا للحكم الواقعي ، بخلاف الإباحة أو التوقّف ، فإنّ مرجعهما إلى تجويز المخالفة من دون تدارك. انتهى كلامه.

(ويضعّف الاستصحاب بمعارضة استصحاب التخيير الحاكم عليه).

أوّلا : بمعارضة استصحاب التخيير ، واستصحاب التخيير حاكم على استصحاب حكم المختار ؛ وذلك لأنّ الشكّ في بقاء الحكم المختار مسبّب عن الشكّ في بقاء التخيير ، فاستصحاب التخيير أصل سببي ، واستصحاب الحكم المختار أصل مسبّبي ، وقد ثبت في محله تقديم الأصل السببي على الأصل المسبّبي ، وذلك لعدم جريان الأصل في المسبّب بعد جريانه في السبب ، كما يأتي التفصيل في بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

١٣٤

ويضعّف قاعدة الاحتياط بما تقدّم من أنّ حكم العقل بالتخيير عقلي ، لا احتمال فيه حتى يجري فيه الاحتياط.

ومن ذلك يظهر عدم جريان استصحاب التخيير ، إذ لا إهمال في حكم العقل حتى يشكّ في بقائه في الزمان الثاني. فالأقوى هو التخيير الاستمراري ، لا للاستصحاب ، بل لحكم العقل في الزمان الثاني كما حكم به في الزمان الأوّل.

____________________________________

وثانيا : إنّ التخيير في المقام حكم عقلي لا يعقل فيه الشكّ حتى يرجع فيه إلى الأصل ، وكما تأتي الإشارة إليه في الجواب عن قاعدة الاحتياط.

(ويضعّف قاعدة الاحتياط بما تقدّم من أنّ حكم العقل بالتخيير عقلي ، لا احتمال فيه حتى يجري فيه الاحتياط).

وحينئذ فلا مجال للوجوه الثلاثة القائمة على ترجيح التخيير الابتدائي.

ومنها : قاعدة الاحتياط ، إذ يرجع إليها عند الشكّ ، ولا يعقل الشكّ فيما إذا كان التخيير عقليّا ، كما عرفت غير مرّة.

(ومن ذلك يظهر عدم جريان استصحاب التخيير ... إلى آخره).

أي : من عدم تصوّر الشكّ في مورد حكم العقل يظهر عدم جريان استصحاب التخيير لإثبات استمرار التخيير ، وذلك لانتفاء موضوع الاستصحاب وهو الشكّ.

***

١٣٥

المسألة الثانية

إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدليل

إمّا حكما ، كالأمر المردّد بين الإيجاب والتهديد ، أو موضوعا ، كما امر بالتحرّز عن أمر مردّد بين فعل الشيء وتركه ، فالحكم فيه كما في المسألة السابقة.

____________________________________

(المسألة الثانية : إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدليل).

ويكفي في البحث عن هذه المسألة ما ذكره الاستاذ الأعظم الاعتمادي ، حيث قال ما حاصله : من أنّ إجمال الدليل ؛ تارة يكون من جهة الهيئة الدالّة على الحكم ، (كالأمر المردّد بين الإيجاب والتهديد ، أو موضوعا) ، أي : من جهة اللفظ الدالّ على الموضوع ، (كما أمر بالتحرّز عن أمر مردّد بين فعل الشيء وتركه) ، كقوله : تحرّز عن رغبة النكاح ، حيث يحتمل إرادة التحرّز عن إعراض النكاح ليفيد الوجوب لو كان التقدير تحرّز عن رغبته عن النكاح ، لأنّ كلمة الرغبة إذا كانت متعدّية ب(عن) تكون بمعنى الإعراض ، وب(في) تكون بمعنى الميل ، ويحتمل إرادة التحرّز عن الميل إلى النكاح ليفيد الحرمة ، والمقدّر ـ حينئذ ـ هو رغبة في النكاح ، كما عرفت.

(فالحكم فيه كما في المسألة السابقة) فيجري في هذه المسألة كلّ ما جرى في تلك المسألة من الوجوه مع أدلّتها ، وأجوبتها.

والمختار عند المصنّف قدس‌سره هنا ـ أيضا ـ هو التخيير العقلي مع تعدّد الواقعة ، والتوقّف مع وحدتها ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي دامت بركاته.

١٣٦

المسألة الثالثة

لو دار الأمر بين الوجوب والتحريم من جهة تعارض الأدلّة

فالحكم هنا التخيير ، لإطلاق الأدلّة ، وخصوص بعض منها الوارد في خبرين ؛ أحدهما أمر ، والآخر نهي ، خلافا للعلّامة رحمه‌الله في النهاية ، وشارح المختصر ، والآمدي ، فرجّحوا ما دلّ على النهي ، لما ذكرنا سابقا ، ولما هو أضعف منه.

وفي كون التخيير هنا بدويّا ، أو استمراريّا مطلقا ، أو مع البناء من أوّل الأمر على الاستمرار ، وجوه تقدّمت ، إلّا أنّه قد يتمسّك هنا للاستمرار بإطلاق الأخبار.

____________________________________

(المسألة الثالثة : لو دار الأمر بين الوجوب والتحريم من جهة تعارض الأدلّة).

يقول المصنّف قدس‌سره : (فالحكم هنا التخيير ، لإطلاق الأدلّة).

أي : أدلّة التخيير في باب تعارض الخبرين ، حيث تشمل بإطلاقها تعارض الخبرين كما لو كان أحدهما دالّا على الوجوب ، والآخر دالّا على الحرمة.

(خلافا للعلّامة رحمه‌الله في النهاية ، وشارح المختصر ، والآمدي ، فرجّحوا ما دلّ على النهي ، لما ذكرنا سابقا).

حيث تقدم قول العلّامة ، وأوّل ما ذكره هو : إنّ الغالب في الحرمة دفع مفسدة ... إلخ ، إلى أن قال : ولأنّ إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتمّ ... إلخ ، وقد تقدّم ضعف الجميع.

(ولما هو أضعف منه).

أي : رجّحوا ما دلّ على النهي لما هو أضعف ممّا ذكرنا من أنّ دلالة النهي أقوى من دلالة الأمر ، حيث يقتضي النهي انتفاء جميع الأفراد ، والأمر يقتضي إيجاد فرد واحد ، فقول الشارع : لا تشرب الخمر ، يقتضي الانتهاء عن جميع أفراد الخمر ، وقوله : صلّ ، يقتضي إيجاد فرد من الصلاة.

والوجه في كون هذا الوجه أضعف من الجميع هو أنّ النهي والأمر متساويان من حيث الدلالة ، لأنّ النهي لا يقتضي إلّا نفي الطبيعة ، كما أنّ الأمر لا يقتضي إلّا إيجادها ، غاية الأمر الطبيعة لا تنتفي إلّا بانتفاء جميع الأفراد ، وتوجد بإيجاد فرد واحد فيها.

(وفي كون التخيير هنا بدويّا ، أو استمراريّا مطلقا ، أو مع البناء من أوّل الأمر على الاستمرار ، وجوه تقدّمت) في المسألة الاولى مع أدلّتها.

١٣٧

ويشكل بأنّها مسوقة لبيان حكم المتحيّر في أوّل الأمر ، ولا تعرّض لها لحكمه بعد الأخذ بأحدهما.

نعم ، يمكن هنا استصحاب التخيير ، حيث إنّه ثبت بحكم الشارع القابل للاستمرار ، إلّا أن يدّعى أنّ موضوع المستصحب أو المتيقّن من موضوعه هو المتحيّر ، وبعد الأخذ بأحدهما لا تحيّر ، فتأمّل.

وسيتضح هذا في بحث الاستصحاب. وعليه فاللّازم الاستمرار على ما اختار ، لعدم ثبوت التخيير في الزمان الثاني.

____________________________________

(إلّا أنّه قد يتمسّك هنا للاستمرار بإطلاق الأخبار).

لأنّ مقتضى إطلاق أخبار التخيير هو التخيير الاستمراري.

(ويشكل بأنّها) ، مجملة لا مطلقة ، لأنّها(مسوقة لبيان حكم المتحيّر في أوّل الأمر ، ولا تعرّض لها لحكمه بعد الأخذ بأحدهما).

فيعود احتمال استمرار التخيير وعدمه ، كما في شرح الاعتمادي.

(نعم ، يمكن هنا استصحاب التخيير ... إلى آخره).

لأنّ التخيير هنا شرعي مستفاد من أخبار التخيير فيمكن فيه الشكّ ، فيجري فيه الاستصحاب ، (إلّا أن يدّعى أنّ موضوع المستصحب أو المتيقّن من موضوعه هو المتحيّر).

وهو ينتفي بعد الأخذ بأحدهما ، إذ لا يبقى المكلّف متحيّرا بعد الأخذ بأحد الحكمين ، فلا يجري الاستصحاب ، لاشتراط بقاء الموضوع فيه ، والمفروض عدم بقائه.

(فتأمّل) لعلّه إشارة إلى ردّ ما ذكر من عدم بقاء الموضوع ، بل الموضوع يكون باقيا ، لأنّ موضوع التخيير هو التحيّر بمعنى : عدم العلم بالحكم ، وهو حاصل وثابت بعد الأخذ بأحدهما ، كما هو كذلك قبل الأخذ بأحدهما ، هذا مع أنّ المناط في بقاء الموضوع هو نظر العرف لا الدقّة العقليّة ، والموضوع عند العرف هو المكلّف ، وهو باق بلا إشكال.

(وعليه ، فاللّازم الاستمرار على ما اختار ، لعدم ثبوت التخيير في الزمان الثاني).

أي : بناء على عدم بقاء موضوع التخيير فلا يجري استصحاب التخيير ، فاللّازم حينئذ هو الاستمرار على ما اختاره أوّلا ، ولا يجوز العدول عنه إلى غيره لعدم ثبوت التخيير في الزمان الثاني ، وحينئذ فما في شرح الاستاذ الاعتمادي ـ حيث قال في الشرح : (وعليه) أي : بناء على بقاء موضوع التخيير ـ ليس في محلّه ، ولعلّه خطأ من المطبعة ، فتنبّه!!

١٣٨

المسألة الرابعة

لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة اشتباه الموضوع

وقد مثّل بعضهم له باشتباه الحليلة الواجب وطؤها بالأصالة ، أو لعارض من نذر ، أو غيره بالأجنبيّة ، وبالخلّ المحلوف على شربه المشتبه بالخمر.

ويرد على الأوّل أنّ الحكم في ذلك هو تحريم الوطء ، لأصالة عدم الزوجيّة بينهما ، وأصالة عدم وجوب الوطء.

____________________________________

(المسألة الرابعة : لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة اشتباه الموضوع.

وقد مثّل بعضهم له باشتباه الحليلة الواجب وطؤها بالأصالة) لمضي أربعة أشهر ، كما في الفقه ، (أو لعارض من نذر ، أو غيره بالأجنبيّة ، وبالخلّ المحلوف على شربه المشتبه بالخمر).

ولمّا كان محلّ الكلام هو دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، لا الواجب والحرام ، فلا بدّ من أن يفرض كون محلّ الابتلاء في المثال الأوّل امرأة واحدة ، وفي المثال الثاني إناء واحدا.

وذلك لأنّه لو فرض كون محلّ الابتلاء امرأتين في المثال الأوّل أو إناءين في المثال الثاني ، لخرج كلا المثالين عن اشتباه الوجوب بالحرمة ، ويدخل كلاهما في اشتباه الواجب بالحرام ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، (ويرد على الأوّل أنّ الحكم في ذلك هو تحريم الوطء ، لأصالة عدم الزوجيّة بينهما ، وأصالة عدم وجوب الوطء).

وذلك لما تقدّم في تنبيهات الشبهة التحريميّة الموضوعيّة من أنّ الحكم بالإباحة في الشبهة الموضوعيّة مشروط بعدم أصل موضوعي يقضي بالحرمة ، فمثل المرأة المردّدة بين الزوجة والأجنبيّة خارج عن محلّ الكلام ، لأصالة عدم علاقة الزوجيّة المقتضية للحرمة ، والمقام من هذا القبيل ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : (لأصالة عدم الزوجيّة بينهما) ، مضافا إلى وجود أصل موضوعي آخر ، وهو ما أشار إليه بقوله : (وأصالة عدم وجوب الوطء) فينتفي بهما احتمال وجوب الوطء بالنذر أو غيره.

١٣٩

وعلى الثاني أنّ الحكم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته ، جمعا بين أصالتي الإباحة ، وعدم الحلف على شربه.

والأولى فرض المثال فيما إذا وجب إكرام العدول ، وحرم إكرام الفسّاق ، واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة ، والحكم فيه كما في المسألة الاولى من عدم وجوب الأخذ بأحدهما في الظاهر ، بل هنا أولى ، إذ ليس فيه اطراح لقول الإمام عليه‌السلام ، إذ ليس الاشتباه في الحكم الشرعي الكلّي الذي بيّنه الإمام عليه‌السلام.

____________________________________

(وعلى الثاني أنّ الحكم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته ، جمعا بين أصالتي الإباحة ، وعدم الحلف على شربه).

أي : ويرد على المثال الثاني بأنّ الحكم هو عدم وجوب الشرب بمقتضى أصالة عدم تعلّق الحلف على شربه ، فيشكّ في التحريم ، ثمّ يرتفع بمقتضى أصالة الإباحة ، فمقتضى كلا الأصلين هو نفي الوجوب والحرمة ، ولازمه هو الحكم بالإباحة ، ثمّ الرجوع إلى الأصلين المذكورين وإن كان مستلزما للمخالفة القطعيّة إلّا أنّها مخالفة بحسب الالتزام فقط دون العمل ، فتأمّل جيدا!!

(والأولى فرض المثال فيما إذا وجب إكرام العدول ، وحرم إكرام الفسّاق ، واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة).

وهذا المثال مبني على أن يكون زيد غير مسبوق بالعلم بالفسق أو العدالة ، وإلّا يستصحب ما كان زيد متّصفا به من الفسق أو العدالة سابقا.

(والحكم فيه كما في المسألة الاولى).

حيث اختار المصنّف قدس‌سره فيها الحكم بالتوقّف ، ولازمه عقلا جواز الفعل والترك بحسب العمل ، فلا يجب الأخذ بأحدهما في الظاهر.

(بل هنا أولى ، إذ ليس فيه اطراح لقول الإمام عليه‌السلام).

أي : بل عدم وجوب الأخذ بالوجوب أو الحرمة في الشبهة الموضوعيّة أولى من عدم وجوب الأخذ بهما في المسألة الاولى ، حيث تكون الشبهة فيها حكميّة ، إذ لا يلزم من عدم الالتزام بوجوب إكرام زيد أو بحرمة إكرامه مخالفة الحكم الشرعي الواقعي عملا.

١٤٠