دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

الشك في الجزء الخارجي

أمّا مسائل القسم الأوّل : وهو الشكّ في الجزء الخارجيّ :

المسألة الاولى

عدم النص المعتبر

فالمسألة الاولى : منها أن يكون ذلك مع عدم النصّ المعتبر في المسألة ، فيكون ناشئا من ذهاب جماعة إلى جزئيّة الأمر الفلاني ، كالاستعاذة قبل القراءة في الركعة الاولى مثلا ، على ما ذهب إليه بعض فقهائنا.

وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا ، فصرّح بعض متأخّري المتأخّرين بوجوبه ، وربّما يظهر من كلام بعض القدماء كالسيّد ، والشيخ قدس‌سرهما ، لكن لم يعلم كونه مذهبا لهما.

بل ظاهر كلماتهم الأخر خلافه ، وصريح جماعة إجراء أصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط ، والظاهر أنّه المشهور بين العامّة والخاصّة المتقدّمين منهم والمتأخّرين ، كما يظهر

____________________________________

(فالمسألة الاولى : منها أن يكون ذلك مع عدم النصّ المعتبر في المسألة) ، بأن يكون احتمال جزئيّة شيء ، كالاستعاذة ناشئا من ذهاب جماعة إلى الجزئيّة ، وكيف كان فهذه المسألة مورد للخلاف ؛ وذلك لثبوت القول بكلّ من الاحتياط والبراءة فيها ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا ، فصرّح بعض متأخري المتأخّرين) كالمحقّق السبزواري والمولى البهبهاني ، وصاحب هداية المسترشدين قدس‌سرهم (بوجوبه ، وربّما يظهر من كلام بعض القدماء كالسيّد والشيخ قدس‌سرهم ، لكن لم يعلم كونه مذهبا لهما) ، أي : لم يعلم كون وجوب الاحتياط مذهبا للسيّد والشيخ قدس‌سرهما ، لأنّ مجرّد ذكرهما له لا يدلّ على كون الاحتياط مذهبا لهما ؛ وذلك لاحتمال أن يكون ذكر الاحتياط من باب تأييد الدليل لا المبنى.

(بل ظاهر كلماتهم الأخر خلافه) ، أي : خلاف وجوب الاحتياط ، (وصريح جماعة إجراء أصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط ، والظاهر أنّه المشهور بين العامّة والخاصّة).

أي : عدم وجوب الاحتياط وإجراء أصالة البراءة هو المشهور بين العامّة والخاصّة قال

٤٠١

من تتّبع كتب القوم ، كالخلاف والسرائر وكتب الفاضلين والشهيدين ، والمحقّق الثاني ومن تأخّر عنهم.

بل الإنصاف : إنّه لم أعثر في كلمات من تقدّم ـ على المحقّق السبزواري ـ على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط ، وإن كان فيهم من يختلف كلامه في ذلك ، كالسيّد والشيخ بل الشهيدين قدس‌سرهم ، وكيف كان فالمختار جريان أصل البراءة ، ولنا على ذلك حكم العقل وما ورد من النقل.

أمّا العقل : فلاستقلاله بقبح مؤاخذة من كلّف بمركّب لم يعلم من أجزائه إلّا عدّة أجزاء ، ويشكّ في أنّه هو هذا أو له جزء آخر ، وهو الشيء الفلاني ، ثمّ بذل جهده في طلب الدليل على جزئيّة ذلك الأمر فلم يقتدر ، فأتى بما علم وترك المشكوك ، خصوصا مع اعتراف المولى بأنّي ما نصبت لك عليه دلالة.

فإنّ القائل بوجوب الاحتياط لا ينبغي أن يفرّق في وجوبه بين أن يكون الآمر لم ينصب دليلا أو نصب واختفى ، غاية الأمر أنّ ترك النصب من الآمر قبيح ، وهذا لا يرفع التكليف

____________________________________

المحقّق القمّي قدس‌سره في بحث كون ألفاظ العبادات أسامي موضوعة للصحيح أو الأعمّ : إنّه لا خلاف في عدم وجوب الاحتياط بين الأوائل والأواخر. وحكى الفاضل الأصفهاني في حاشية المعالم عن بعضهم نسبة القول بالاحتياط إلى المشهور أيضا.

وكيف كان يقول المصنّف قدس‌سره : (إنّه لم أعثر في كلمات من تقدّم ـ على المحقّق السبزواري ـ على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط) إلى أن يقول : (فالمختار جريان أصل البراءة ، ولنا على ذلك حكم العقل وما ورد من النقل).

والحاصل إنّ المصنّف قدس‌سره قد استدلّ على ما اختاره من البراءة بوجهين :

الأوّل : هو حكم العقل بقبح مؤاخذة من يأخذ بالأقلّ المتيقّن بعد الفحص التامّ عن الدليل على وجوب الأكثر ، وعدم وجدان الدليل على وجوب المشكوك ، فتركه حيث يكون العقاب على ترك المشكوك قبيحا ، خصوصا مع اعتراف المولى بعدم نصب الطريق على وجوب المشكوك ، فإنّ حكم العقل بقبح المؤاخذة عند فقد الطريق المنصوب من قبل المولى مع اعترافه بعدم نصب الطريق في غاية الوضوح.

قوله : (فإنّ القائل بوجوب الاحتياط لا ينبغي أن يفرّق في وجوبه بين أن يكون الآمر لم

٤٠٢

بالاحتياط عن المكلّف.

فإن قلت : إنّ بناء العقلاء على وجوب الاحتياط في الأوامر العرفيّة الصادرة من الأطبّاء أو الموالي ، فإنّ الطبيب إذا أمر المريض بتركيب معجون ، فشكّ في جزئيّة شيء له مع العلم بأنّه غير ضارّ له فتركه المريض مع قدرته عليه استحقّ اللّوم ، وكذا المولى إذا أمر عبده بذلك.

____________________________________

ينصب دليلا أو نصب واختفى) هذا دفع لما يتوهّم من الفرق بين فرض عدم نصب الطريق من قبل المولى وبين نصبه واختفائه على العبد ، بأنّ حكم العقل بقبح المؤاخذة إنّما هو يصح في الصورة الاولى دون الثانية ، فحينئذ تصحّ دعوى وجوب الاحتياط في الثانية والبراءة في الاولى ، وما نحن فيه من قبيل الثانية دون الاولى ، فيجب الاحتياط فيه ، ولا يلزم من القول بالبراءة في الاولى القول بها في الثانية ، وخلاصة التوهّم هو وجوب الاحتياط فيما نحن فيه.

وحاصل الدفع هو عدم الفرق بين الصورتين على القول بالبراءة والاحتياط ، فإن قيل بالبراءة في إحداهما قيل بها في الاخرى وبالعكس.

غاية الأمر على القول بالبراءة تكون المؤاخذة في الصورة الاولى أقبح من المؤاخذة في الصورة الثانية ، ووجه التسوية وعدم الفرق بين الصورتين على القول بالبراءة واضح ، وأمّا على القول بالاحتياط فغاية ما يتصوّر من الفرق بينهما هو قبح ترك نصب الطريق في الصورة الاولى ، إلّا أنّ هذا لا يوجب رفع التكليف بالاحتياط عن المكلّف على فرض كون العلم الإجمالي بالتكليف علّة تامّة لحكم العقل بوجوب الاحتياط ، كما هو كذلك في دوران الواجب بين المتباينين.

(فإن قلت : إنّ بناء العقلاء على وجوب الاحتياط في الأوامر العرفيّة الصادرة من الأطبّاء أو الموالي ... إلى آخره).

ربّما يستدلّ على وجوب الاحتياط وعدم جريان البراءة العقليّة في المقام بما ملخّصه : إنّ العقل يحكم مستقلا بوجوب الاحتياط في المقام ؛ وذلك من جهة إلزامه بوجوب دفع الضرر المحتمل المنكشف من بناء العقلاء على الاحتياط في الأوامر العرفيّة الصادرة من الموالي إلى العبيد ومن الأطباء إلى المرضى ، فكما أنّ المريض المأمور من قبل الطبيب

٤٠٣

قلت : أمّا أوامر الطبيب فهي إرشاديّة ، ليس المطلوب فيها إلّا إحراز الخاصيّة المترتّبة على ذات المأمور به ، ولا يتكلم فيها من حيث الإطاعة والمعصية ، ولذا لو كان بيان ذلك الدواء بجملة خبريّة غير طلبيّة كان اللّازم مراعاة الاحتياط فيها وإن لم يترتّب على مخالفته وموافقته ثواب أو عقاب.

____________________________________

بتركيب معجون يستحق الذم لو ترك ما شكّ في جزئيّته له ، مع العلم بأنّه غير ضار ، كذلك المكلّف يستحق العقاب لو ترك ما شكّ في جزئيّته للمأمور به ، مع العلم بأنّه غير ضار بالمأمور به.

(قلت : أمّا أوامر الطبيب فهي إرشاديّة ، ليس المطلوب فيها إلّا إحراز الخاصيّة المترتّبة على ذات المأمور به ، ولا يتكلم فيها من حيث الإطاعة والمعصية).

وحاصل الجواب هو الفرق بين أوامر الطبيب وأوامر الموالي العرفيّة ، ومن هذا الفرق ـ الذي يأتي تفصيله ـ يظهر وجه القول بوجوب الاحتياط في أوامر الطبيب وإن لم تكن بصيغة الأوامر المولويّة ، دون أوامر الموالي ، بحيث تجري فيها البراءة.

وبيان الفرق أنّ الغرض والمطلوب من أوامر الطبيب هو إحراز الخاصيّة المترتّبة على المأمور به ، فلهذا تكون إرشاديّة ، ومن الواضح أنّ حصول ذلك الغرض موقوف على حصول جميع أجزاء المأمور به حتى الأجزاء المشكوكة ، ولذلك يجب العمل فيها بالاحتياط لكي يحصل اليقين بحصول الغرض وما هو المطلوب في نظر الطبيب ، وهذا بخلاف أوامر الموالي إلى العبيد حيث تكون مولويّة.

ومن المعلوم أنّ الفرض المطلوب من الأمر المولوي هو الإطاعة وتخلّص العبد من العقاب على المخالفة والترك ، وحينئذ إذا أتى العبد بما هو المتيقّن مع تركه للجزء المشكوك فقد حصل الغرض المذكور ، بعد اعتماده على البراءة العقليّة القاضية عقلا بقبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى الجزء المشكوك ، ومن هنا لا يجب الاحتياط في الأجزاء المشكوكة.

وبعبارة اخرى اعتمادا على ما جاء في شرح الاستاذ الاعتمادي دامت إفاداته : إنّ محلّ البحث في البراءة والاحتياط عند الشكّ في الجزء ؛ إمّا هو في الأمر المولوي الذي قصد به إطاعة المولى بإتيان المأمور به ؛ لأنّ امتثال هذا الأمر طاعة وتركه معصية ، فيتكلم فيه من

٤٠٤

والكلام في المسألة من حيث قبح عقاب الآمر على مخالفة المجهول وعدمه.

وأمّا أوامر الموالي الصادرة بقصد الإطاعة ، فنلتزم فيها بقبح المؤاخذة إذا عجز العبد عن تحصيل العلم بجزء فاطّلع عليه المولى وقدر على رفع جهله ، ولو على بعض الوجوه الغير المتعارفة.

إلّا أنّه اكتفى بالبيان المتعارف فاختفى على العبد لبعض العوارض.

____________________________________

حيث إنّ الجزء المشكوك يصح العقاب على تركه أم لا؟ وإمّا الأمر الإرشادي وهو ما لم يقصد به طاعة الأمر ، بل قصد به الوصول إلى شيء آخر ، كأمر الطبيب بتركيب المعجون ، فإنّه لا يريد به طاعة المريض له بتركيب المعجون ، بل يريد الوصول إلى إسهال الصفراء ، فخارج عن محلّ البحث ، إذ ليس امتثاله طاعة وتركه معصية حيث يبحث في أنّ الجزء المشكوك يصح العقاب على تركه أم لا؟.

نعم ، يبحث فيه من جهة اخرى ، وهي أنّه إذا تعلّقت الإرادة بحصول غرض وشكّ في أنّه يحصل بالمركّب الواجد لهذا الجزء أو بالمركّب الفاقد له ، يجب الاحتياط بحكم العقل والعقلاء ، بمعنى أنّه لو ترك الاحتياط استحقّ ملامة الناس وذمّهم إن كان قاصد الغرض هو مثل الطبيب أو نفس المريض ، واستحق العقاب الدنيوي إن كان قاصده المولى العرفي ، واستحق العقاب الاخروي إن كان قاصده الشارع.

(والكلام في المسألة من حيث قبح عقاب الآمر على مخالفة المجهول وعدمه) ، أي : الكلام في مسألة الشكّ في الجزء لعدم النصّ المعتبر من حيث قبح عقاب الآمر على المخالفة يكون في الأمر المولوي ، فيجري فيه حكم العقل بقبح العقاب على مخالفة المجهول ؛ لكونه عقابا من دون بيان ، وليس محلّ البحث من قبيل تحصيل غرض المولى من الأمر الإرشادي حتى يجب فيه الاحتياط.

(وأمّا أوامر الموالي الصادرة بقصد الإطاعة ، فنلتزم فيها بقبح المؤاخذة إذا عجز العبد عن عن تحصيل العلم بجزء فاطّلع عليه المولى وقدر على رفع جهله ، ولو على بعض الوجوه الغير المتعارفة) ، كالإلهام وخلق الصوت وأمثالهما.

(إلّا أنّه اكتفى بالبيان المتعارف فاختفى على العبد لبعض العوارض) ، كنسيان المحفوظ وتحريف المكتوب مثلا.

٤٠٥

نعم ، قد يأمر المولى بمركّب يعلم أنّ المقصود منه تحصيل عنوان يشكّ في حصوله إذا أتى بذلك المركّب بدون ذلك الجزء المشكوك ، كما إذا أمر بمعجون وعلم أنّ المقصود منه إسهال الصفراء ، بحيث كان هو المأمور به في الحقيقة ، أو علم أنّه الغرض من المأمور به ، فإنّ تحصيل العلم بإتيان المأمور به لازم ، كما سيجيء في المسألة الرابعة.

فإن قلت : إنّ الأوامر الشرعيّة كلّها من هذا القبيل لابتنائها على مصالح في المأمور به ، فالمصلحة فيها إمّا من قبيل العنوان في المأمور به أو من قبيل الغرض.

____________________________________

(نعم ، قد يأمر المولى بمركّب يعلم أنّ المقصود منه تحصيل عنوان يشكّ في حصوله إذا أتى بذلك المركّب بدون ذلك الجزء المشكوك ... إلى آخره).

وهذا الاستدراك من المصنّف قدس‌سره إشارة إلى تفصيل منه قدس‌سره بين ما إذا كان المركّب المأمور به ممّا لا يقصد منه تحصيل عنوان أو غرض ، وبين ما إذا كان ذو العنوان أو ذو الغرض ، إذ ما ذكر من البراءة لدى الشكّ في جزئيّة شيء للمأمور به المركّب هو الأوّل.

وأمّا الثاني ، فالمرجع فيه هو الاحتياط سواء كان المراد من المركّب هو تحصيل العنوان أو تحصيل الغرض ، بأن يكون أمر المولى بمعجون باعتبار كونه سببا لإسهال الصفراء ، بحيث يكون المأمور به في الحقيقة هو عنوان إسهال الصفراء ، وتعلّق الأمر بالمركّب في الظاهر كان من باب الأمر بالسبب وإرادة المسبّب ، وكان الغرض من الأمر بالمركّب هو تحصيل العنوان المذكور ، وعلى كلا التقديرين يجب الاحتياط فيما إذا شكّ في حصول العنوان أو الغرض بإتيان المركّب بدون ذلك الجزء المشكوك ؛ لكون الشكّ شكّا في حصول العنوان المذكور ، مع أنّ تحصيل العلم بحصول العنوان لازم عند العقلاء في كلتا الصورتين ، والعلم بحصول العنوان موقوف على إتيان الجزء المشكوك ، فيجب الإتيان به.

وبالجملة إنّ مقتضى القاعدة في الشكّ في المحصّل هو الاحتياط دون البراءة.

(فإن قلت : إنّ الأوامر الشرعيّة كلّها من هذا القبيل).

وهذا الإشكال يتصيّد ممّا ذكره المصنّف قدس‌سره من وجوب الاحتياط فيما إذا كان المقصود من الأمر بالمركّب تحصيل عنوان بحيث يكون هو المأمور به حقيقة ، أو كان الغرض من المأمور به حصول ذلك العنوان حيث يمكن أن يقال فيه : بأن الأوامر الشرعيّة كلّها تكون من هذا القبيل ، فيجب فيها الاحتياط ؛ وذلك أنّ الأوامر الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد

٤٠٦

وبتقرير آخر : المشهور بين العدليّة أنّ الواجبات الشرعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة ، فاللّطف إمّا هو المأمور به حقيقة أو غرض للآمر ، فيجب تحصيل العلم بحصول اللّطف ، ولا يحصل إلّا بإتيان كلّ ما شكّ في مدخليّته.

قلت : أوّلا : مسألة البراءة والاحتياط غير مبنيّة على كون كلّ واجب فيه مصلحة وهو

____________________________________

عند العدليّة ، والمصلحة فيها لا تخلو عن أحد احتمالين ؛ لأنّها تكون إمّا من قبيل العنوان أو من قبيل الغرض ، وعلى كلا الاحتمالين يجب الاحتياط إذا شكّ في أنّ محصّل العنوان أو الغرض هل هو الأقلّ أو الأكثر؟ فيأتي بالأكثر لكي يحصل العلم بحصول العنوان أو الغرض.

(وبتقرير آخر : المشهور بين العدليّة أنّ الواجبات الشرعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة) ، أي : الواجبات الشرعيّة إنّما وجبت لكونها مقرّبة للعبد إلى الواجبات العقليّة التي استقلّ بها العقل مع قطع النظر عن أمر الشارع ، كردّ الوديعة ، ومنها حكم العقل بإطاعة المولى الحقيقي ، فمعنى كون الواجب الشرعي مقرّبا إلى الواجب العقلي هو أنّ امتثاله موجب لامتثال الواجب العقلي ، إذ بامتثال الأمر الشرعي تتحقّق الإطاعة التي هي واجب عقلي ، فيكون العبد مع امتثال الأمر الشرعي أقرب إلى الإطاعة.

أو معنى كون الواجبات الشرعيّة (ألطافا في الواجبات العقليّة) كما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّها منطبقة في الواجبات العقليّة ، حيث إنّ العقل يحكم بوجوب تحصيل المصلحة الملزمة فيحكم إجمالا بوجوب كلّ فعل فيه مصلحة ملزمة ، إلّا أنّ صغريات هذه الكبرى بعضها معلومة تفصيلا في نظرنا كردّ الوديعة وبعضها مجهولة كالصلاة ، فإذا أوجبها الشارع بملاحظة المصلحة فيها ينطبق ذلك على الواجب العقلي ، ويعلم تفصيلا أنّها ممّا قد حكم العقل بوجوبها ، وهذا معنى ما قيل في قاعدة التلازم : بأنّه كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل.

وكيف كان (فاللّطف إمّا هو المأمور به حقيقة أو غرض للآمر ، فيجب تحصيل العلم بحصول اللّطف) سواء كان اللّطف بمعنى المقرّب إلى الطاعة أو بمعنى الواجب الشرعي المطابق للواجب العقلي.

(قلت : أولا : مسألة البراءة والاحتياط غير مبنيّة على كون كلّ واجب فيه مصلحة وهو

٤٠٧

لطف في غيره ، فنحن نتكلّم فيها على مذهب الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح رأسا ، أو مذهب بعض العدليّة المكتفين بوجود المصلحة في الأمر وإن لم يكن في المأمور به.

____________________________________

لطف في غيره).

وقبل بيان ما أورده المصنّف قدس‌سره على الإشكال المذكور من الوجهين ، نذكر ما ذكره الاستاذ الاعتمادي ردّا لما ذكر في ذيل الإشكال المذكور ، وهو قوله : (فاللّطف إمّا هو المأمور به حقيقة أو غرض للآمر).

وتقريب الإشكال والردّ هو أنّ اللّطف ليس مأمورا به ولا غرضا للآمر ، بل المأمور به هو نفس العبادة المطلوب بها الطاعة ، فما ذكر من أنّ (اللّطف إمّا هو المأمور به أو غرض للآمر) لا يرجع إلى محصّل صحيح.

هذا مضافا إلى ما ذكره المصنّف قدس‌سره من الوجهين ، وقد أشار إلى الأوّل بقوله : (مسألة البراءة والاحتياط غير مبنيّة على كون كلّ واجب فيه مصلحة) كما يقول به العدليّة ، بل يبحث عنها على مذهب الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح العقليين ، فلا تكون الأحكام ـ حينئذ ـ تابعة للمصالح والمفاسد ، بل هي معلولة لإرادة الله تعالى من غير لحاظ المصالح والمفاسد فيها ، وبذلك لا يبقى ـ حينئذ ـ مجال لما ذكر من وجوب الاحتياط ، حتى يحصل العلم بحصول المصلحة التي يكون المقصود من الآمر تحصيلها ؛ إمّا لأجل كونها من قبيل العنوان أو من قبيل الغرض.

هذا ، إلّا أنّ ابتناء هذه المسألة على مذهب الأشاعرة مورد للإشكال أوّلا ، لبطلان ما ذهب إليه الأشاعرة من إنكار التحسين والتقبيح العقليين ، وثانيا أنّ بناء المسألة على هذا المذهب يتنافى مع التمسّك بالبراءة العقليّة استنادا إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وكيف كان فيمكن الجواب عن أصل الإشكال بأن المسألة وإن لم تكن مبتنية على مذهب الأشاعرة ، إلّا أنّها يمكن أن تكون مبنيّة على مذهب بعض العدليّة كما أشار إليه بقوله : (أو مذهب بعض العدليّة) كالمحقّق الخوانساري والسيد الصدر وصاحب الفصول قدس‌سرهم على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي دامت إفاداته.

(المكتفين بوجود المصلحة في الأمر وإن لم يكن في المأمور به) كتوطين النفس ، وتحمّل المشاق لينالوا بذلك السعادة الأبديّة ، كما أنّ الأمر كذلك في الأوامر الامتحانيّة والظاهريّة

٤٠٨

وثانيا : إنّ نفس الفعل من حيث هو ليس لطفا ، ولذا لو اتي به لا على وجه الامتثال لم يصحّ ولم يترتّب عليه لطف ولا أثر آخر من آثار العبادة الصحيحة ، بل اللطف إنّما هو في الإتيان به على وجه الامتثال ، وحينئذ فيحتمل أن يكون اللّطف منحصرا في امتثاله التفصيلي مع معرفة وجه الفعل ليوقع الفعل على وجهه ، فإنّ من صرّح من العدليّة بكون العبادات السمعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة ، قد صرّح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به ، وهذا متعذّر في ما نحن فيه ؛ لأنّ الآتي بالأكثر لا يعلم أنّه الواجب أو الأقلّ المتحقّق من ضمنه ، ولذا صرّح بعضهم كالعلّامة رحمه‌الله ، ويظهر من آخر منهم وجوب تميّز الأجزاء الواجبة من المستحبّات ليوقع كلّا على وجهه.

وبالجملة : فحصول اللّطف بالفعل المأتي به من الجاهل في ما نحن فيه غير معلوم ـ وإن احرز الواقع ـ بل ظاهرهم عدمه ، فلم يبق عليه إلّا التخلّص من تبعة مخالفة الأمر الموجّه عليه ، فإنّ هذا واجب عقلي في مقام الإطاعة والمعصية ، ولا دخل له بمسألة اللّطف ، بل هو جار على فرض عدم اللّطف وعدم المصلحة في المأمور به رأسا.

____________________________________

على قول ، والصادرة لتقية كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

(وثانيا : إنّ نفس الفعل من حيث هو ليس لطفا ... إلى آخره) ، وتوضيح هذا الوجه يحتاج إلى بيان مقدّمة وهي : إنّ للأمر الشرعي جهتين :

الجهة الاولى : هي كون الأمر تابعا للمصلحة ، والواجب لطفا في غيره على مذهب العدليّة ، فإنّ الأمر من هذه الجهة يكون للإرشاد كما لا يخفى.

والجهة الثانية : هي مرحلة امتثال الأمر ، إذ يكون الأمر من هذه الجهة مولويّا مستلزما لوجوب الإطاعة وحرمة المعصية. وبعد هذه المقدّمة نقول : إنّ المطلوب في الأوامر العباديّة أمران :

أحدهما : تحصيل اللّطف والمصلحة نظرا إلى الجهة الاولى.

وثانيهما : وجوب الإطاعة وحرمة المعصية نظرا إلى الجهة الثانية ، فلا بدّ فيها من إحراز أمرين :

أحدهما : هو إحراز حصول اللّطف والمصلحة والغرض.

وثانيهما : إحراز سقوط الأمر بالامتثال وعدم استحقاق العقاب والمؤاخذة ، والأوّل

٤٠٩

وهذا التخلّص يحصل بالإتيان بما يعلم أنّ مع تركه يستحقّ العقاب والمؤاخذة ، وأمّا الزائد فيقبح المؤاخذة عليه مع عدم البيان.

____________________________________

متعذّر في المقام ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (إنّ نفس الفعل من حيث هو ليس لطفا) ومشتملا على المصلحة ، بل اللّطف هو امتثال الأمر والإتيان بالفعل بجميع ما له دخل في كونه لطفا ، ومنها قصد الوجه المتوقّف على الامتثال التفصيلي ، وهذا الامتثال التفصيلي متعذّر في المقام لكون الواجب مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، ومع هذا الاحتمال لا يجدي الاحتياط في تحقّق المصلحة وحصول الغرض ، فلا يجب الاحتياط ، ثمّ إنّ الأمر ـ حينئذ ـ يدور بين سقوط أصل الأمر وبين عدم سقوطه والإتيان بالواجب مجرّدا عن قصد الوجه ، ومقتضى القاعدة وإن كان هو الأوّل ؛ لأنّ الشكّ في حصول الغرض يرجع إلى الشكّ في أصل الأمر ، فتجري فيه أصالة البراءة ، إلّا أنّ الإجماع قام على عدم سقوط الأمر فيه ، وحينئذ لا يجوز له ترك الواجب والتمسّك بالبراءة ، بل يجب على المكلّف إتيان الأقلّ خروجا عن مخالفة الإجماع وتخلّصا من العقاب على مخالفة الأمر الموجّه إليه بحكم العقل.

(وهذا التخلّص يحصل بالإتيان بما يعلم أنّ مع تركه يستحقّ العقاب والمؤاخذة ، وأمّا الزائد فيقبح المؤاخذة عليه مع عدم البيان).

والحاصل إنّ الإطاعة وسقوط الأمر تحصل بإتيان الأقلّ المعلوم وجوبه على المكلّف ، وأمّا الجزء المشكوك فليس وجوبه معلوما فيصح له تركه تمسّكا بالبراءة المستفادة من دليل (رفع ... ما لا يعلمون) (١) وقبح العقاب بلا بيان. هذا ملخّص الكلام في هذا المقام ، ومن يريد النقض والإبرام في هذه المسألة فعليه بالكتب المبسوطة ، ولكنّنا نذكر بعض ما في تعليقة المرحوم غلام رضا قدس‌سره من الإشكال إتماما للفائدة.

قال قدس‌سره : فإن قلت : إنّ كون الواجب الشرعي لطفا لا يختص بالعبادات ، بل هو ثابت في التوصليّات أيضا ، وما ذكره قدس‌سره من الجواب إنّما يرفع الإشكال بالنسبة إلى الأوّل دون الثاني.

وحينئذ فهو رحمه‌الله ؛ إمّا أن يلتزم بالتفصيل بينهما ، بأن جعل المرجع في العبادات البراءة

__________________

(١) الخصال : ٤١٧ / ٩. التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤. الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، أبواب جهاد النفس ، ب ٥٦ ، ح ١.

٤١٠

____________________________________

وفي التوصليّات الاحتياط ، أو يقول بالبراءة مطلقا بإلحاق التوصليّات بالعبادات من باب الإجماع المركّب ، وفي كلّ منهما مجال للمناقشة.

أمّا الأوّل : فأوّلا : بأنّه خلاف ما اختاره رحمه‌الله في صدر المسألة من البراءة مطلقا.

وثانيا : بأنّه خرق للإجماع المركّب ؛ لعدم وجود القول بالفصل فيها.

وثالثا : بأنّه لو بنى على التفصيل فالعكس أولى ؛ لأنّ العبادات أقرب إلى الاحتياط ، فالتفصيل المزبور من الغرائب.

وأمّا الثاني : فبأنّ هذا ليس أولى من العكس بأن يقال في التوصليّات بالبراءة ويلحق العبادات بها بالإجماع المركّب ، ولا ترجيح في البين ، فيحصل التعارض بين قاعدتي الاشتغال والبراءة ، وقاعدة الاشتغال إمّا حاكمة على البراءة ، كما إذا شكّ بعد مضي برهة من الزمان في إتيان صلاة الظهر مثلا أم لا ، بل يكون التعارض بينهما حقيقيا ، كما في المقام.

وعلى التقديرين فالمرجع هو الأوّل ، أي : قاعدة الاشتغال ، أمّا على الأوّل ـ أي : حكومة قاعدة الاشتغال على البراءة ـ فواضح ، وأمّا على الثاني ـ أي : التعارض بينهما ـ فلأنّه بعد التساقط يكون احتمال الضرر باقيا والحال هذه فلا بدّ من الإتيان.

إلى أن قال : فإن قلت : إنّ ما ذكره قدس‌سره في مقام الجواب إنّما يتم على مذهب من اعتبر نيّة الوجه وتحصيل العلم التفصيلي في مقام الامتثال ، وهو رحمه‌الله غير قائل باعتبارهما ، والاحتياط بنفسه محصّل لما هو الغرض من التكليف ، أعني : اللّطف ، فيكون واجبا.

قلت : إنّ عدم اعتبار نيّة الوجه عنده رحمه‌الله إنّما هو من جهة عدم الدليل على الاعتبار ، لا ثبوت الدليل على عدمها في الواقع ، وهذا لا ينافي احتمال اعتبارها في الواقع ، وهذا الاحتمال وإن لم يثمر في إزالة الجزم بعدم الاعتبار في مقام العمل لكنّه بمحلّ الثمرة في مثل هذه المسألة العقليّة التي كنّا فيها ، فإنّه بعد قيام هذا الاحتمال يحتمل انحصار قيام اللّطف بالفعل مع معرفة وجهه ، والمفروض عدم إمكانها.

إلى أن قال : إنّ معنى كلام العدليّة ـ حيث قالوا : إنّ التكاليف الشرعيّة ألطاف في العقليات ـ محتمل بين وجوه :

أحدها : أن يكون معناه إنّ امتثال الواجب السمعي باعث على امتثال الواجب العقلي ،

٤١١

فإن قلت : إنّ ما ذكر في وجوب الاحتياط في المتباينين بعينه موجود هنا ، وهو

____________________________________

فإنّ من امتثل الواجبات السمعيّة كان أقرب إلى امتثال الواجبات العقليّة ، وإليه يشير قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(١).

وثانيها : إنّ الواجبات السمعيّة بأنفسها ألطاف ومؤكدات في الواجبات العقليّة بأنفسها ؛ لأنّ أسباب ثبوت الحكم إذا تعدّدت توجب تأكّد اليقين بثبوته.

وثالثها : ما يستفاد من استدلال منكري الملازمة على مقالتهم ، حيث ذكروا أنّ أصحابنا والمعتزلة قالوا بأنّ التكليف فيما يستقل به العقل بمعنى الخطاب به في ظاهر الشريعة لطف ، وأنّ العقاب بدون اللّطف قبيح.

ورابعها : أن يكون قولهم هذا إشارة إلى ما هو المذكور في طرف العكس من القضية المعنويّة في باب الملازمة ، أعني : إنّ كلّ ما حكم به الشرع فقد حكم به العقل ، بأن يقال : إنّ المراد بقولهم في العقليّات هو الأحكام العقليّة الصادرة من العقل بحسب الإجمال ، فإنّ الصلاة مثلا مشتملة على مصلحة افرض كونها عبارة عن أنّ الإتيان بها وامتثالها يوجب بناء القصور وخلقة الحور ، وغرس الأشجار وتربية الثمار ، فإذا حكم الشارع بوجوبها فيوجب حكمه هذا امتثالها ، وامتثالها هذا لطف ومصلحة يوجب حكم العقل بحسنها على تقدير اطّلاعها على تلك المصلحة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المناسب منها في عبارة المصنّف قدس‌سره ـ حيث جمع بين هذه القاعدة وقاعدة كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، بانضمام أنّ مقصده إنّما هو إثبات أنّ المأمور به ذو مصلحة هي ؛ إمّا من قبيل العنوان في المأمور به أو من قبيل الغرض ـ هو الوجه الأخير دون السابقة عليه ووجهه يظهر بأدنى تأمّل. انتهى.

(فإن قلت : إنّ ما ذكر في وجوب الاحتياط في المتباينين بعينه موجود هنا) ؛ وذلك لرجوع الأقلّ والأكثر الارتباطيّين إلى المتباينين عند التحقيق ؛ وذلك لأنّ اعتبار الأقلّ بشرط(لا) يباين الأكثر الذي يندرج فيه الأقلّ ، فلا يبقى بينهما جامع متيقّن يؤخذ به وينفي وجوب الزائد بالأصل.

__________________

(١) العنكبوت : ٤٥.

٤١٢

أنّ المقتضي ـ وهو تعلّق الوجوب الواقعي بالأمر الواقعي المردّد بين الأقلّ والأكثر ـ موجود ، والجهل التفصيلي به لا يصلح مانعا ، لا عن المأمور به ولا عن توجّه الأمر ،

____________________________________

وإن شئت قلت : إنّ العلم الإجمالي بالتكليف منجّز على المكلّف ، غاية الأمر يدور أمر الواجب بين الطبيعة المشتملة على الأقلّ أو المشتملة على الأكثر ، فكما أنّ وجوب الأكثر بخصوصه مشكوك فتجري فيه أصالة البراءة وكذلك الأقلّ ، وبعد تعارض الأصل في الطرفين وسقوط كلّ منهما يجب العمل بالاحتياط وذلك بإتيان الأكثر ؛ لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة وهي لا تحصل إلّا بإتيان الأكثر ، وقياس المقام بالأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ـ كما مسألة في الدين ـ قياس مع الفارق ؛ وذلك لأنّ الأقلّ في مسألة الدين واجب نفسي متيقّن على كلّ تقدير ، بحيث لو اقتصر على إتيانه يحصل الامتثال بالنسبة إليه ولو كان الواجب في الواقع هو الأكثر.

وهذا بخلاف المقام حيث لا يكون وجوب الأقلّ متيقّنا بعد فرضه مباينا للأكثر وكونه طبيعة خاصة والأكثر طبيعة خاصة اخرى ، ومجرّد دخول أجزاء الأقلّ في الأكثر لا يوجب رفع اليد عن الاختلاف الحاصل بين الطبيعتين ، وحينئذ فلا يحصل اليقين بفراغ الذمة بإتيان الأقلّ ، فيجب الإتيان بالأكثر حتى يحصل اليقين بالامتثال.

وبالجملة ، إنّ المقتضي لوجوب الاحتياط في المقام موجود والمانع عنه مفقود ؛ ولذلك يجب التمسّك به. أمّا وجود المقتضي فقد أشار إليه قدس‌سره بقوله : (إنّ المقتضي وهو تعلّق الوجوب الواقعي بالأمر الواقعي) ، أي : بالواجب الواقعي لا بالواجب المعلوم وجوبه تفصيلا ؛ لأنّه مستلزم للدور والتصويب ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

وأمّا عدم المانع فقد أشار إليه بقوله : (والجهل التفصيلي به لا يصلح مانعا ، لا عن المأمور به ولا عن توجّه الأمر) ، بمعنى أنّ العلم ليس شرطا لتنجّز التكليف ، لا من جهة كونه شرطا لوجود المأمور به ؛ لأنّ القصد التفصيلي لا يعتبر في صحة المأمور به إلّا مع العلم التفصيلي.

ولا من جهة قبح عقاب الجاهل ، وإلّا لزم محذوران : أحدهما : جواز المخالفة القطعيّة ، وثانيهما : قبح عقاب الجاهل المقصّر مع أنّ عقابه ليس بقبيح.

ولا من جهة لزوم التكليف بالمجمل لجوازه في الجملة ، والإجمال عرضي لا يمنع من التكليف ، ودفع الضرر المحتمل واجب عقلا ، ودلالة أدلّة البراءة على جواز ترك الكلّ

٤١٣

كما تقدّم في المتباينين حرفا بحرف.

قلت : نختار هنا أنّ الجهل مانع عقلي عن توجّه التكليف بالمجهول إلى المكلّف ، لحكم العقل بقبح المؤاخذة على ترك الأكثر المسبّب عن ترك الجزء المشكوك من دون بيان ، ولا يعارض بقبح المؤاخذة على ترك الأقلّ من حيث هو من دون بيان.

إذ يكفي في البيان المسوّغ للمؤاخذة عليه العلم التفصيلي ، بأنّه مطلوب للشارع بالاستقلال أو في ضمن الأكثر ، ومع هذا العلم لا تقبح المؤاخذة.

____________________________________

منافية لحكم العقل ومعارضة مع مفهومها ، كما عرفت سابقا ، ولا دلالة فيها على جعل البدل (كما تقدّم في المتباينين حرفا بحرف). هذا ما أفاده الاستاذ الاعتمادي ولقد أجاد فيما أفاده في هذا المقام.

(قلت : نختار هنا أنّ الجهل مانع عقلي عن توجّه التكليف بالمجهول إلى المكلّف).

أي : أنّ الجهل في ما نحن فيه مانع عقلي عن توجه التكليف بالمجهول ـ وهو الجزء المشكوك ـ إلى المكلّف ؛ لأنّ المراد بالتكليف ليس مجرّد التكليف الواقعي ؛ وذلك لكون ثبوته ليس محلّا للإنكار ، بل المراد هو التكليف الفعلي المستلزم لاستحقاق العقاب على الترك والمخالفة ، والتكليف بهذا المعنى بالنسبة إلى الأقلّ معلوم تفصيلا ؛ لأنّ تركه مستلزم للعقاب والمؤاخذة قطعا ؛ إمّا لأجل ترك نفسه إن كان الواجب الواقعي هو الأقلّ ، أو لكون تركه موجبا لترك الواجب الواقعي هو الأكثر.

فحينئذ لا تجري أصالة البراءة بالنسبة إلى وجوب الأقلّ لكونه معلوما ، وتجري في طرف الأكثر لكونها سليمة عن المعارض ، حيث يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان على ترك الجزء المشكوك على تقدير جزئيّته في الواقع.

(ولا يعارض بقبح المؤاخذة على ترك الأقلّ من حيث هو) ، أي : من حيث الشكّ في وجوبه النفسي.

(إذ يكفي في البيان المسوّغ للمؤاخذة عليه العلم التفصيلي ، بأنّه مطلوب للشارع بالاستقلال) ، بأن يكون وجوب الأقلّ نفسيا(أو في ضمن الأكثر) ، بأن يكون وجوبه غيريّا وضمنيّا وكان الواجب في الواقع هو الأكثر ، وعلى التقديرين نعلم تفصيلا بأنّ ترك الأقلّ مستلزم للعقاب والمؤاخذة كما عرفت ، (ومع هذا العلم لا تقبح المؤاخذة) لكونه بيانا

٤١٤

وما ذكر في المتباينين ـ سندا لمنع كون الجهل مانعا من استلزامه لجواز المخالفة القطعيّة وقبح خطاب الجاهل المقصّر ، وكونه معذورا بالنسبة إلى الواقع ، مع أنّه خلاف المشهور ، أو المتّفق عليه ـ غير جار في ما نحن فيه.

____________________________________

مسوّغا لصحة المؤاخذة كما عرفت.

(وما ذكر في المتباينين سندا لمنع كون الجهل مانعا) ، إذ أنّ الجهل ليس مانعا من توجّه التكليف إلى المكلّف في مسألة دوران الواجب بين المتباينين ؛ وذلك لأنّ الجهل لو كان مانعا عن التكليف يلزم منه أحد أمرين :

أحدهما : جواز المخالفة القطعيّة ، إذ لو لم يكن التكليف منجّزا من جهة كون الجهل مانعا جازت مخالفته القطعيّة.

وثانيهما : قبح عقاب الجاهل المقصّر وكونه معذورا بالنسبة إلى الواقع ، والتالي بكلا قسميه باطل فالمقدّم مثله ، والاستدلال بالقياس الاستثنائي يتوقف على إثبات أمرين :

أحدهما : الملازمة بين المقدّم والتالي.

وثانيهما : رفع التالي حتى ينتج رفع المقدّم ، والملازمة في المقام واضحة وإنّما الكلام في إثبات بطلان التالي بكلا قسميه ، أمّا بطلان القسم الأوّل وهو جواز المخالفة القطعيّة فواضح ؛ لأنّ حرمة المخالفة القطعيّة اتفاقيّة ، وأمّا بطلان القسم الثاني وهو قبح خطاب الجاهل المقصّر وكونه معذورا بالنسبة إلى الواقع ، فلكونه مخالفا للمشهور ؛ وذلك لأنّ المشهور هو عدم كون الجاهل المقصّر معذورا بالنسبة إلى الواقع ، فلا يكون خطابه ولا عقابه قبيحا.

ولقد خالف المشهور في هذه المسألة صاحب المدارك وشيخه قدس‌سرهما على ما في شرح التنكابني ، حيث ذهبا إلى قبح خطاب الجاهل المقصّر وكونه معذورا بالنسبة إلى الواقع ، وأنّ العقاب إنّما هو على ترك التعلّم ، لا على ترك الواقع المجهول ، هذا وأنّ عدم قبح الخطاب وكون الجاهل المقصّر معذورا بالنسبة إلى الواقع مخالف للاتفاق ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (مع أنّه خلاف المشهور ، أو المتّفق عليه) ، إلّا أنّ هذا الإجماع يحمل على الإجماع الدخولي ، فمخالفة صاحب المدارك وشيخه قدس‌سرهما لا تضر بالإجماع لكونهما معلومي النسب.

٤١٥

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ عدم جواز المخالفة القطعيّة لكونها مخالفة معلومة بالتفصيل ، فإنّ وجوب الأقلّ بمعنى استحقاق العقاب بتركه معلوم تفصيلا وإن لم يعلم أنّ العقاب لأجل ترك نفسه أو لترك ما هو سبب في تركه وهو الأكثر.

____________________________________

وكيف كان ، فالاستدلال المذكور يثبت عدم كون الجهل مانعا عن التكليف في مسألة دوران الواجب بين المتباينين ، فلذا يجب الاحتياط هناك ، إلّا أنّ هذا الاستدلال لا يأتي في ما نحن فيه من دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (غير جار في ما نحن فيه) ، وحينئذ لا بدّ من الفرق بين ما نحن فيه وبين مسألة دوران الواجب بين المتباينين.

وحاصل الفرق هو أنّ الجهل لو كان مانعا عن تنجّز التكليف الواقعي في مسألة دوران الواجب بين المتباينين لكان ذلك مستلزما لجواز المخالفة القطعيّة ، إذ مع عدم التنجّز يدور أمر المشتبهين تركا وفعلا بين امور واحتمالات متعددة :

منها : جواز ترك أحدهما المعيّن عندنا.

ومنها : جواز ترك أحدهما لا بعينه ومخيّرا.

ومنها : جواز ترك كليهما.

ومن الواضح أنّه لا يمكن الالتزام بهذه الاحتمالات الثلاثة بعد إجراء أصالة البراءة ؛ وذلك لأنّ الالتزام بالأوّل مستلزم للترجيح من دون مرجّح ، والثاني خارج عن مدلول الخطاب الواقعي ، والثالث مستلزم للمخالفة القطعيّة مع أنّ حرمتها اتفاقيّة ، بينما لا يلزم أيّ محذور من هذه الثلاثة لو كان الجهل مانعا عن تنجّز التكليف في مسألة دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي في ما نحن فيه ينحلّ إلى علم تفصيلي بالنسبة إلى الأقلّ وهو العلم بمطلوبيّة الأقلّ وشكّ بدوي بالنسبة إلى الأكثر ، فيؤخذ بالأقلّ لكونه متيقّنا وينفي وجوب الأكثر بأصالة البراءة من دون لزوم المخالفة القطعيّة ، كما أشار إليه قدس‌سره :

(أمّا الأوّل) ، أي : عدم لزوم جواز المخالفة القطعيّة (فلأنّ عدم جواز المخالفة القطعيّة لكونها مخالفة معلومة بالتفصيل) ، أي : المخالفة القطعيّة تتحقّق بترك الأقلّ ، وهذه المخالفة غير جائزة أصلا لكونها مخالفة تفصيليّة ، وهي قبيحة عقلا ومحرّمة شرعا.

٤١٦

فإنّ هذا العلم غير معتبر في إلزام العقل بوجوب الإتيان ، إذ مناط تحريك العقل إلى فعل الواجبات وترك المحرّمات دفع العقاب ، ولا يفرّق في تحريكه بين علمه بأنّ العقاب لأجل هذا الشيء أو لما هو مستند إليه.

وأمّا عدم معذوريّة الجاهل المقصّر ، فهو للوجه الذي لا يعذر من أجله الجاهل بنفس التكليف المستقل ، وهو العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، وأنّه لولاه لزم إخلال الشريعة ، لا العلم الإجمالي الموجود في المقام ، إذ الموجود في المقام علم تفصيلي ، وهو وجوب الأقلّ بمعنى ترتّب العقاب على تركه وشكّ في أصل وجوب الزائد ولو مقدّمة.

____________________________________

وبالجملة لا يلزم من كون الجهل مانعا عن تنجّز التكليف بالواقع وإجراء البراءة بالنسبة إلى الأكثر للترجيح بلا مرجّح ؛ وذلك لكون الأقلّ متيقّنا فيكون مرجّحا ، فيجب الأخذ به وإجراء البراءة في الأكثر.

لا يقال إنّ مطلوبيّة الأقلّ مردّدة بين المطلوبيّة النفسيّة والغيريّة ؛ لأنّ الواجب في الواقع إن كان هو الأقلّ كان واجبا نفسيّا وإن كان هو الأكثر كان الأقلّ مطلوبا في ضمنه من باب المقدّمة ، والباعث للعقل على الامتثال هو العلم بترتّب العقاب أو احتماله على المخالفة ، والواجب في الواقع إن كان هو الأقل كان العقاب مترتّبا على مخالفته وإن كان هو الأكثر كان مترتّبا على مخالفته دون الأقلّ ، فلا يكون الأقلّ مطلوبا على وجه يترتّب العقاب على مخالفته على كلّ تقدير ، فلا يكون متيقّنا في المقام ، ومجرّد العلم بمطلوبيّته لنفسه أو لغيره غير مجد عند العقل ؛ لأنّا نقول إنّ الأقلّ وإن لم يعلم كونه مطلوبا لنفسه أو غيره ، إلّا أنّ كون تركه سببا لترتّب العقاب ؛ إمّا لأجل نفسه أو لأجل كونه مفضيا إلى ترك الواجب ، وهو الأكثر معلوم بالتفصيل.

وهذا القدر كاف في إلزام العقل بعدم جواز تركه ؛ لأنّ العلم بجهة ترتّب العقاب تفصيلا غير معتبر في إلزام العقل بالتكليف ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (فإنّ هذا العلم غير معتبر ... إلى آخره) ، كما في الأوثق.

والمتحصّل من جميع ما ذكر ، هو عدم لزوم محذور جواز المخالفة القطعيّة في المقام على تقدير كون الجهل مانعا عن تنجّز التكليف ، كما يلزم في المتباينين.

٤١٧

وبالجملة فالعلم الإجمالي في ما نحن فيه غير مؤثّر في وجوب الاحتياط ، لكون أحد طرفيه معلوم الإلزام تفصيلا ، والآخر مشكوك الإلزام رأسا.

ودوران الإلزام في الأقلّ بين كونه مقدّميّا أو نفسيّا لا يقدح في كونه معلوما بالتفصيل ، لما ذكرنا من أنّ العقل يحكم بوجوب القيام بما علم إجمالا أو تفصيلا إلزام المولى به على أيّ وجه كان ، ويحكم بقبح المؤاخذة على ما شكّ في إلزامه.

والمعلوم إلزامه تفصيلا هو الأقلّ ، والمشكوك إلزامه رأسا هو الزائد ، والمعلوم إلزامه إجمالا هو الواجب النفسي المردّد بين الأقلّ والأكثر.

____________________________________

بقي الكلام في المحذور الثاني ، وهو معذورية الجاهل المقصّر على تقدير كون الجهل مانعا عن تنجّز التكليف ، فلا بدّ أوّلا من بيان لزوم هذا المحذور في المتباينين لكي نرى بأنّه هل يجري في المقام أم لا؟

فنقول : إنّ الشكّ في المتباينين لا ينحلّ إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، بل كان طرفا الشبهة متساويين من حيث تحقّق احتمال المعلوم بالإجمال وانطباقه على كلّ واحد منهما ، فيكون نظير الشكّ الحاصل للجاهل المقصّر العالم إجمالا بوجود واجبات ومحرّمات في الشرع فينجّزه عليه ، فحينئذ تكون معذوريّة الجاهل في المتباينين مستلزمة لمعذوريّة الجاهل المقصّر بالنسبة إلى الواقع ؛ لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، مع أنّ معذوريّة الجاهل المقصّر بالنسبة إلى الواقع مخالف للمشهور أو الإجماع على ما عرفت.

وهذا بخلاف المقام حيث ينحلّ الشكّ إلى علم تفصيلي بالنسبة إلى الأقلّ وشكّ بدويّ بالنسبة إلى الأكثر ، فلا يكون الجاهل مثل الجاهل المقصّر ، فمعذوريّة الجاهل في المقام بالنسبة إلى المشكوك لا يلازم الحكم بمعذوريّة المقصّر ، للفرق بينهما ، فلا يلزم من كون الجهل مانعا عن تنجّز التكليف في المقام المحذور الثاني ، وهو معذوريّة الجاهل المقصّر بالنسبة إلى الواقع.

وبالجملة ، فإنّ الشكّ في المتباينين لمّا كان في المكلّف به ولم ينحلّ إلى العلم التفصيلي والشكّ البدوي كان نظير الشكّ الحاصل للجاهل المقصّر ، فيمكن الحكم بمعذوريّة الجاهل في المتباينين مطلقا ، لكن لا يكون المقام نظير ذلك حتى يحكم بوحدة

٤١٨

ولا عبرة به بعد انحلاله إلى معلوم تفصيلي ومشكوك كما في كلّ معلوم إجمالي كان كذلك ، كما لو علم إجمالا بكون أحد من الإنائين اللّذين أحدهما المعيّن نجس خمرا ، فإنّه يحكم بحلّيّة الطاهر منهما ، والعلم الإجمالي لا يؤثّر في وجوب الاجتناب عنه.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه يمكن التمسّك في عدم وجوب الأكثر بأصالة عدم وجوبه ، فإنّها سليمة في هذا المقام عن المعارضة بأصالة عدم وجوب الأقلّ ؛ لأنّ وجوب الأقلّ معلوم تفصيلا فلا يجري فيه الأصل ، وتردّد وجوبه بين الوجوب النفسي والغيري مع العلم

____________________________________

الحكم بقاعدة وحدة الأمثال في الحكم.

(ولا عبرة به بعد انحلاله إلى معلوم تفصيلي ومشكوك ... إلى آخره) ، أي : ولا اعتبار بالعلم الإجمالي هنا في إيجابه الاحتياط بعد انحلاله إلى معلوم تفصيلي بالنسبة إلى الأقلّ ومشكوك بدوي بالنسبة إلى الأكثر ؛ وذلك لجريان أصالة البراءة بالنسبة إلى المشكوك من دون معارضة بأصالة البراءة بالنسبة إلى الأقلّ ؛ لعدم جريانها في طرف الأقلّ لكونه معلوما تفصيلا.

ثمّ إنّ المذكور في شرح التنكابني في هذا المقام هو أنّ هنا أشياء ثلاثة ؛ معلوم الإلزام تفصيلا ، ومعلوم الإلزام إجمالا ، ومشكوك الإلزام رأسا ، والأوّل هو الأقلّ والثاني هو الواجب النفسي المردّد بين الأقلّ والأكثر ، والثالث هو الأكثر.

والمعلوم بالإجمال المذكور مع قطع النظر عن كونه نفسيّا ينحلّ إلى معلوم تفصيلي ومشكوك رأسا ، ومع ملاحظة وجوبه النفسي لا يمكن الانحلال ، إذ لا بدّ فيه من العلم بكون الأقلّ واجبا نفسيا ، نعم ، الانحلال المذكور إنّما يتصوّر في الأقلّ والأكثر الاستقلاليين ، فقوله : (ولا عبرة به بعد انحلاله إلى معلوم تفصيلي ومشكوك) ليس بالوجه ، إلّا أن يريد به ما ذكرنا من قطع النظر عن النفسيّة والغيريّة. انتهى.

ومن المعلوم أنّ نظر المصنّف قدس‌سره في الانحلال هو نفس الوجوب مع قطع النظر عن كونه نفسيّا أو غيريّا ، وإلّا لم يعقل الانحلال ، فتأمّل جيدا.

(وممّا ذكرنا يظهر أنّه يمكن التمسّك في عدم وجوب الأكثر بأصالة عدم وجوبه ، فإنّها سليمة في هذا المقام عن المعارضة بأصالة عدم وجوب الأقلّ ... إلى آخره).

أي : ممّا ذكرنا من انحلال العلم الإجمالي لا يبقى مجال للحكم بالاحتياط في المقام ،

٤١٩

التفصيلي لورود الخطاب التفصيلي بوجوبه بقوله : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)(١) وقوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ)(٢) وقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ)(٣) وقوله : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)(٤) وغير ذلك من الخطابات المتضمّنة للأمر بالأجزاء لا يوجب جريان أصالة عدم الوجوب وأصالة البراءة.

لكنّ الإنصاف إنّ التمسّك بأصالة عدم وجوب الأكثر لا ينفع في المقام ، بل هو قليل الفائدة ؛ لأنّه إن قصد به نفي أثر الوجوب الذي هو استحقاق العقاب بتركه ، فهو وإن كان غير معارض بأصالة عدم وجوب الأقلّ كما ذكرنا.

إلّا أنّك قد عرفت فيما تقدّم في الشكّ في التكليف المستقلّ أنّ استصحاب عدم التكليف المستقلّ وجوبا أو تحريما لا ينفع في رفع استحقاق العقاب على الترك أو الفعل ،

____________________________________

إذ يكون المقام مسرحا لجريان البراءة يظهر جواز التمسّك بالاستصحاب للحكم بوجوب الأكثر ، وهو ما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (بأصالة عدم وجوبه) ، أي : الأكثر ، وهذا الاستصحاب يكون سليما عن المعارض لعدم جريانه في طرف الأقلّ بعد كون وجوبه معلوما تفصيلا.

قوله : (وتردّد وجوبه بين الوجوب النفسي والغيري ... إلى آخره) دفع لما يتوهّم من أنّ وجوب الأقلّ مردّد بين كونه نفسيّا أو غيريّا ، فحينئذ تكون أصالة عدم وجوب الأكثر النفسي معارضة بأصالة عدم وجوب الأقلّ النفسي ، فما ذكر من عدم معارضة أصالة عدم وجوب الأكثر بأصالة عدم وجوب الأقلّ غير صحيح.

وحاصل الدفع : إنّ تردّد وجوب الأقلّ بين الوجوب النفسي والغيري لا يضر بكون وجوبه معلوما تفصيلا مع قطع النظر عن الخصوصيّة ، فالمقصود من الوجوب المعلوم تفصيلا في طرف الأقلّ هو أصل الوجوب مع قطع النظر عن الخصوصيّة ، وهو معلوم تفصيلا للأدلّة الدالّة على وجوب أجزاء الصلاة ، كما في المتن.

(لكنّ الإنصاف إنّ التمسّك بأصالة عدم وجوب الأكثر لا ينفع في المقام ... إلى آخره).

__________________

(١) المدّثّر : ٣.

(٢) البقرة : ٢٣٨.

(٣) المزّمّل : ٢٠.

(٤) الحج : ٧٧.

٤٢٠