دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

وليس فيه ـ أيضا ـ مخالفة عمليّة معلومة ولو إجمالا ، مع أنّ مخالفة المعلوم إجمالا في العمل فوق حدّ الإحصاء في الشبهات الموضوعيّة.

هذا تمام الكلام في المقامات الثلاثة ، أعني : دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة ، وعكسه ، ودوران الأمر بينهما.

وأمّا دوران الأمر بين ما عدا الوجوب والحرمة من الأحكام فيعلم بملاحظة ما ذكرنا.

وملخّصه : إنّ دوران الأمر بين طلب الفعل والترك وبين الإباحة نظير المقامين الأوّلين.

____________________________________

نعم ، فيه مخالفة احتماليّة ، (وليس فيه ـ أيضا ـ مخالفة عمليّة معلومة ولو إجمالا ، مع أنّ مخالفة المعلوم إجمالا في العمل فوق حدّ الإحصاء في الشبهات الموضوعيّة) ، ولهذا نكتفي بما ذكره الاستاذ الاعتمادي دامت إفاداته من الأمثلة ، مثل جواز الاقتداء في صلاتين لواجدي المني في الثوب المشترك ، ومثل طهارة البدن ، وبقاء الحدث عند التوضّؤ غفلة بمائع مشتبه فيما إذا كانت الشبهة محصورة ، ومثل وجوب النفقة وحرمة الوطء لمن ادّعى زوجيّة امرأة ، وأنكرت ، وأمثالها.

(هذا تمام الكلام في المقامات الثلاثة ، أعني : دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة ، وعكسه ، ودوران الأمر بينهما).

وقد تقدّم البحث في المقامات الثلاثة مفصّلا ، مع أنّ الاحتمالات والصور كما تقدّمت في الجداول لا تنحصر فيها ، ولذا يقول المصنّف قدس‌سره : إنّ حكم ما عدا الوجوب والحرمة من الأحكام يعلم بملاحظة ما ذكرنا ، إلى أن قال :

(وملخّصه : إنّ دوران الأمر بين طلب الفعل والترك وبين الإباحة نظير المقامين الأوّلين).

أي : دوران الأمر بين الاستحباب والإباحة يكون نظير دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة ، ودوران الأمر بين الكراهة والإباحة يكون نظير دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ، فالأوّل يكون نظير الشبهة الوجوبيّة ، والثاني نظير الشبهة التحريميّة ، فالقائل بالبراءة فيهما يقول بها هنا ، والقائل بالاحتياط في السابق يقول به هنا ، غاية الأمر بعنوان الاستحباب لا الوجوب.

١٤١

ودوران الأمر بين الاستحباب والكراهة نظير المقام الثالث ، ولا إشكال في أصل هذا الحكم ، إلّا إنّ إجراء أدلّة البراءة في صورة الشكّ في الطلب الغير الإلزامي فعلا أو تركا قد يستشكل فيه ، لأنّ ظاهر تلك الأدلّة نفي المؤاخذة والعقاب ، والمفروض انتفاؤهما في غير الواجب والحرام ، فتدبّر.

____________________________________

(ودوران الأمر بين الاستحباب والكراهة نظير المقام الثالث) ، وهو دوران الأمر بين المحذورين ، فتأتي الأقوال المتقدّمة هنا أيضا.

(ولا إشكال في أصل هذا الحكم) أي : نفي الاستحباب والكراهة بالأصل كما في شرح الاعتمادي ، (إلّا أنّ إجراء أدلّة البراءة في صورة الشكّ في الطلب الغير الإلزامي فعلا أو تركا قد يستشكل فيه) ، لأنّ ظاهر تلك الأدلّة هو نفي المؤاخذة والعقاب ، ولا عقاب في مخالفة الحكم غير الإلزامي.

(فتدبّر) لعلّه إشارة إلى أنّ ظاهر بعض أدلّة البراءة هو نفي الحكم ، فتجري في الحكم غير الإلزامي أيضا.

أو إشارة إلى أنّه قد يترتب على الاستحباب والكراهة أثر شرعي ، فيجري فيهما الأصل نظرا إلى ذلك الأثر ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي. هذا تمام الكلام في البراءة ، ويقع بعده الكلام في أصالة الاحتياط والشكّ في المكلّف به.

***

١٤٢

الموضع الثاني

في الشكّ في المكلّف به

مع العلم بنوع التكليف ؛ بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ، ويشتبه الحرام أو الواجب ، ومطالبه ـ أيضا ـ ثلاثة :

المطلب الأوّل

دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب

ومسائله أربع :

____________________________________

(الموضع الثاني : في الشكّ في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف ؛ بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ، ويشتبه الحرام أو الواجب ، ومطالبه ـ أيضا ـ ثلاثة :

المطلب الأوّل : دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ، ومسائله أربع).

الموضع الثاني كالموضع الأوّل يكون مشتملا على المطالب الثلاثة ، ثمّ كلّ مطلب يشتمل على أربع مسائل.

وإجمال المطالب الثلاثة هي :

١ ـ اشتباه الحرام بغير الواجب.

٢ ـ واشتباه الواجب بغير الحرام.

٣ ـ واشتباه الحرام بالواجب.

ويجري في الموضع الثاني وهو الشكّ في المكلّف به جميع ما تقدّم في الموضع الأوّل ، وهو الشكّ في التكليف من الصور والاحتمالات التي تقدّمت في الموضع الأوّل في الجداول الثلاثة ، ولذلك يمكن تطبيق الصور والاحتمالات هنا على الجداول الثلاثة المتقدّمة بلا حاجة إلى الجداول الجديدة ، غاية الأمر يوضع مكان كلّ من الحرمة والوجوب والاستحباب والكراهة والإباحة ، الحرام والواجب والمستحبّ والمكروه والمباح.

نعم ، تتصوّر هنا صور لم يكن لها مورد في الموضع الأوّل ، وهي :

١٤٣

____________________________________

تردّد المكلّف به بين المتباينين ، أو الأقلّ والأكثر.

وعلى التقدير الأوّل ؛ تارة : يكون الاشتباه بين امور محصورة ، واخرى : بين امور غير محصورة ، فعلى الأوّل تسمّى الشبهة محصورة ، وعلى الثاني غير محصورة.

وعلى التقدير الثاني وهو تردّد المكلّف به بين الأقلّ والأكثر ؛ تارة : يكون مردّدا بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، واخرى : بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، والأوّل ما لا يسقط التكليف به بإتيان الأقلّ إن كان في الواقع هو الأكثر ، والثاني ما يسقط التكليف به بإتيان الأقلّ ولو كان في الواقع متعلّقا بالأكثر ، كما يأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ؛ تارة : تكون الكثرة خارجيّة ، واخرى : ذهنيّة ، ويعبّر عن الشكّ في الكثرة الخارجيّة بالشكّ في الجزئيّة ، وعن الشكّ في الكثرة الذهنيّة بالشكّ في الشرطيّة ، كما في بحر الفوائد مع تصرّف منّا.

ثمّ ما ذكره المصنّف قدس‌سره من الترتيب بين المطالب الثلاثة هنا يكون عين ما ذكره من الترتيب في الموضع الأوّل ، حيث قدّم الشبهة التحريميّة على الوجوبيّة ، وقدّم الشبهة الوجوبيّة على دوران الأمر بين المحذورين ، إلّا أنّه قدّم هنا الشبهة الموضوعيّة على الشبهة الحكميّة ، حيث يقول في وجه تقديمها عليها :

١٤٤

المسألة الاولى

لو علم التحريم وشكّ في الحرام من جهة اشتباه الموضوع الخارجي

وإنّما قدّمنا الشبهة الموضوعيّة هنا لاشتهار عنوانها في كلام العلماء ، بخلاف عنوان الشبهة الحكميّة.

ثمّ الحرام المشتبه بغيره ؛ إمّا مشتبه في امور محصورة ، كما لو دار بين أمرين أو امور محصورة ، ويسمّى بالشبهة المحصورة ، وإمّا مشتبه في امور غير محصورة.

أمّا المقام الأوّل [الشبهة المحصورة] ، فالكلام فيه يقع في مقامين :

أحدهما : جواز ارتكاب كلا الأمرين أو الامور ، وطرح العلم الإجمالي وعدمه ، وبعبارة اخرى : حرمة المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم وعدمها.

الثاني : وجوب اجتناب الكلّ وعدمه ، وبعبارة اخرى : وجوب الموافقة القطعيّة للتكليف

____________________________________

(وإنّما قدّمنا الشبهة الموضوعيّة هنا لاشتهار عنوانها في كلام العلماء ، بخلاف عنوان الشبهة الحكميّة. ثمّ الحرام المشتبه بغيره ؛ إمّا مشتبه في امور محصورة ، كما لو دار بين أمرين) ، كالخمر المردّد بين الإنائين (أو امور محصورة) ، كالخمر المردّد بين أواني معدودة كالعشر مثلا ، والشبهة ـ حينئذ ـ تسمّى بالشبهة المحصورة.

(وإمّا مشتبه في امور غير محصورة) والشبهة تسمّى بالشبهة غير المحصورة.

(أمّا المقام الأوّل) وهي [الشبهة المحصورة] فالكلام فيه يقع في مقامين :

[أحدهما هل يجوز المخالفة القطعية أم لا]

أحدهما : جواز ارتكاب كلا الأمرين أو الامور ، وطرح العلم الإجمالي).

فيكون حكمه حكم الشكّ البدوي في كونه غير مانع عن جريان الاصول في أطرافه.

(وعدمه) أي : عدم جواز ارتكاب جميع أطرافه ، لئلّا تلزم المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم إجمالا ، بناء على القول بحرمة المخالفة القطعيّة.

فقوله : (حرمة المخالفة القطعيّة) عبارة اخرى لقوله : (وعدمه).

كما أنّ قوله : (وعدمها) ، أي : عدم حرمة المخالفة القطعيّة عبارة اخرى لقوله : (جواز ارتكاب كلا الأمرين ... إلى آخره).

(الثاني : وجوب اجتناب الكلّ وعدمه) ، أي : عدم وجوب اجتناب الكلّ.

ثمّ إنّ قوله : (وجوب الموافقة القطعيّة ... إلى آخره) عبارة اخرى لقوله : (وجوب اجتناب

١٤٥

المعلوم وعدمه.

____________________________________

الكلّ).

كما أنّ قوله : (وعدمه) ، أي : عدم وجوب الموافقة القطعيّة للتكليف المعلوم عبارة اخرى لقوله : (وعدمه) ، أي : عدم وجوب اجتناب الكلّ.

ثمّ إن لازم وجوب الموافقة القطعيّة هو حرمة المخالفة مطلقا ، قطعيّة كانت أو احتماليّة ، ولازم حرمة المخالفة القطعيّة هو وجوب الموافقة الاحتماليّة فقط ، إذ يكفي في الاجتناب عن المخالفة القطعيّة تحصيل الموافقة الاحتماليّة.

والوجه لكلّ واحد من وجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة وعدمهما هو : إنّ العلم الإجمالي إن كان مانعا عن جريان الاصول في جميع أطراف العلم الإجمالي بحيث لا تجري الاصول الترخيصيّة الشرعيّة في شيء منها أصلا ، لوجبت ـ حينئذ ـ الموافقة القطعيّة لتنجّز التكليف في جميع أطراف العلم الإجمالي ، وإن لم يكن العلم الإجمالي مانعا عن جريان الاصول أصلا ، كما لو كان بمنزلة الشكّ البدوي ، فتجري الاصول في جميع أطرافه ، لجاز ارتكاب جميع الأطراف ، وإن كان مانعا عن جريانها في بعض الأطراف دون بعضها الآخر لحرمت المخالفة القطعيّة ، ولا تجب الموافقة القطعيّة.

وتقدّم أنّ لازم وجوب الموافقة القطعيّة هو حرمة المخالفة مطلقا ، وليس لازم حرمة المخالفة القطعيّة وجوب الموافقة القطعيّة ، بل لازمها هو وجوب الموافقة الاحتماليّة ، وحينئذ إذا قلنا : بأنّ العلم الإجمالي يقتضي حرمة المخالفة القطعيّة بقي المجال لأن يقال : بأنّه هل يقتضي وجوب الموافقة القطعيّة أيضا أم لا؟.

وأمّا إذا قلنا : بأنّه يقتضي وجوب الموافقة القطعيّة فلا يبقى مجال لأن يقال : بأنّه هل يقتضي حرمة المخالفة القطعيّة أم لا؟ إذ تقدّم أنّ حرمة المخالفة مطلقا لازمه لوجوب الموافقة القطعيّة.

١٤٦

الشبهة المحصورة

أمّا المقام الأوّل : [وهو جواز ارتكاب الأمرين أو عدمه] فالحقّ فيه عدم الجواز وحرمة المخالفة القطعيّة ، وحكي عن ظاهر بعض جوازه.

لنا على ذلك وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها.

أمّا ثبوت المقتضي ، فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه ، فإنّ قول الشارع : اجتنب عن الخمر ، يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الإنائين أو أزيد ، ولا وجه لتخصيصه

____________________________________

(أمّا المقام الأوّل : [وهو جواز ارتكاب الأمرين أو عدمه] فالحق فيه عدم الجواز وحرمة المخالفة القطعيّة).

والأقوال في المقامين أربعة :

الأوّل : ما اختاره المصنّف قدس‌سره ، حيث قال : (فالحق فيه عدم الجواز) ، أي : عدم جواز الارتكاب ، (وحرمة المخالفة القطعيّة).

والثاني : هو جواز ارتكاب الكلّ ، ونسب هذا القول إلى العلّامة المجلسي ، وأشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : (وحكي عن ظاهر بعض جوازه) ، أي : جواز المخالفة القطعيّة.

والثالث : هو جواز الارتكاب إلى أن يبقى من أطراف العلم الإجمالي مقدار الحرام ، ونسب هذا القول إلى جماعة ، كصاحب المدارك والذخيرة والرياض والقوانين ، كما في الأوثق.

والرابع : هو إخراج الحرام بالقرعة ، ونسب هذا القول إلى السيد ابن طاوس.

(لنا على ذلك وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها).

ويستدلّ المصنّف قدس‌سره على عدم الجواز بوجود المقتضي وعدم المانع ، ومن البديهي أنّ وجود المقتضي وعدم المانع يكفي في تحقّق شيء ، سواء كان من الامور الخارجيّة أو من الامور الاعتباريّة.

إلّا أنّ الكلام في ثبوت المقتضي وعدم المانع ، فقد أشار إلى الأوّل بقوله :

(أمّا ثبوت المقتضي ، فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه) ، كعنوان الخمر في قول الشارع : (اجتنب عن الخمر) حيث يشمل الخمر المعلوم إجمالا قطعا ، سواء كانت الألفاظ

١٤٧

بالخمر المعلوم تفصيلا ، مع أنّه لو خصّ الدليل بالمعلوم تفصيلا خرج الفرد المعلوم إجمالا عن كونه خمرا واقعيّا وكان حلالا واقعيّا ، ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك حتى من يقول بكون الألفاظ أسامي للامور المعلومة ، فإنّ الظاهر إرادتهم الأعمّ من المعلوم إجمالا.

وأمّا عدم المانع ، فلأنّ العقل لا يمنع من التكليف عموما أو خصوصا بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه في أمرين أو امور ، والعقاب على مخالفة هذا التكليف.

____________________________________

موضوعة لذات المعاني من دون تقييد بكونها معلومة ، كما هو الحقّ ، أو كانت موضوعة للمعاني المعلومة كما قيل.

وأمّا على الأوّل فواضح ، وأمّا على الثاني ، فلأنّ المراد من وضع الألفاظ للمعاني المعلومة هو الأعمّ من العلم تفصيلا ، فيشمل ـ حينئذ ـ الخمر المعلوم إجمالا أيضا.

(ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلا).

ومضافا إلى ما ذكر من عدم الوجه لتخصيص الخمر بالمعلوم تفصيلا(أنّه لو خصّ الدليل بالمعلوم تفصيلا) وضعا لزم خروج فرد الخمر المعلوم إجمالا عن كونه خمرا في الواقع ، فيكون ـ حينئذ حلالا واقعيّا ، ولم يلتزم به أحد.

فالحاصل يكون ثبوت المقتضي.

ثمّ إنّ المراد به هو الأدلّة الأوّليّة المثبتة لأحكام الأشياء بعناوينها الأوّليّة.

فمن يقول بالحلّية الظاهريّة في أطراف العلم الإجمالي في الشبهة التحريميّة يقول بها لتوهّم وجود المانع لا لعدم المقتضي.

(وأمّا عدم المانع ، فلأنّ العقل لا يمنع من التكليف عموما أو خصوصا بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه في أمرين أو امور ... إلى آخره).

المانع الذي يخرج به مورد العلم الإجمالي عن الأدلّة الأوّليّة فتخصّص به على قسمين : منه عقلي ، ومنه شرعي ، ولا بدّ من إثبات عدم كلّ واحد منهما.

أمّا عدم المانع العقلي ، فلانتفاء ما يقال : بأنّه مانع عقلا في المقام ؛ وذلك لأنّ المانع العقلي لا يخلو من أحد امور :

منها : قبح العقاب من دون بيان.

ومنها : قبح التكليف بما لا يطاق.

١٤٨

وأمّا الشرع فلم يرد فيه ما يصلح للمنع عدا ما ورد من قولهم عليهم‌السلام : (كلّ شيء حلال حتى تعرف أنّه حرام بعينه) (١) ، و (كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه) (٢) ، وغير ذلك.

____________________________________

ومنها : التكليف بخطاب مجمل.

أمّا عدم الأوّل فواضح ، لأنّ التكليف بالاجتناب عن الحرام المشتبه بين أمرين أو امور ليس تكليفا من غير بيان حتى يكون قبيحا عقلا ؛ وذلك لوجود البيان ؛ إمّا عموما بالأدلّة الأوّليّة ، كقول الشارع : اجتنب عن الخمر مثلا ؛ أو خصوصا بالأدلّة الثانويّة ، كالأمر بالاجتناب عن الخمر المشتبه بين الإنائين أو أكثر ، وقوله عليه‌السلام : (من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات) (٣) ، فالعقاب على مخالفة التكليف بوجوب الاجتناب عن الحرام المشتبه ليس قبيحا عقلا ، لعدم كونه بلا بيان.

وأمّا عدم الثاني ، أي : عدم لزوم التكليف بما لا يطاق ، فأوضح من سابقه ، لأنّ التكليف بالاجتناب عن أمرين أو امور محصورة ليس تكليفا بما لا يطاق حتى يكون قبيحا عقلا.

وأمّا الثالث ، وهو التكليف بخطاب مجمل ، فإنّه وإن كان يلزم في المقام بناء على بيان التكليف بالأدلّة الثانويّة ، كقول الشارع : اجتنب عن الحرام المشتبه في أمرين أو امور ، إلّا أنّه غير مانع عقلا بعد إمكان الاحتياط ، وتمكّن المكلّف من الامتثال.

(وأمّا الشرع ، فلم يرد فيه ما يصلح للمنع عدا ما ورد من قولهم عليهم‌السلام : (كلّ شيء حلال حتى تعرف أنّه حرام بعينه) ، و (كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه) ، وغير ذلك).

يقول المصنّف قدس‌سره في مقام بيان عدم المانع شرعا بما حاصله : من أنّه لم يقم دليل شرعي على جواز ارتكاب أطراف العلم الإجمالي في الشبهة التحريميّة عدا أخبار البراءة ،

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠. التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٩. الوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

(٢) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩. الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٢. التهذيب ٧ : ٢٦٦ / ٩٨٨ ، السرائر ٣ : ٥٩٤ ، الوسائل ١٧ : ٨٨ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ١.

(٣) الكافي ١ : ٦٨ / ١٠. الفقيه ٣ : ٦ / ١٨. التهذيب ٦ : ٣٠٢ / ٨٤٥. الوسائل ٢٧ : ١٥٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٩.

١٤٩

بناء على أنّ هذه الأخبار كما دلّت على حلّيّة المشتبه مع عدم العلم الإجمالي وإن كان محرّما في علم الله سبحانه ، كذلك دلّت على حلّية المشتبه مع العلم الإجمالي ، ويؤيّده إطلاق الأمثلة المذكورة في بعض هذه الروايات ، مثل الثوب المحتمل للسّرقة ، والمملوك المحتمل للحرّيّة ، والمرأة المحتملة للرضيعة ، فإنّ إطلاقها يشمل الاشتباه مع العلم الإجمالي ، بل الغالب ثبوت العلم الإجمالي ، لكن مع كون الشبهة غير محصورة.

ولكن هذه الأخبار لا تصلح للمنع ، لأنّها كما تدلّ على حلّية كلّ واحد من المشتبهين ، كذلك تدلّ على حرمة ذلك المعلوم إجمالا ، لأنّه ـ أيضا ـ شيء علم حرمته.

____________________________________

وهي على قسمين :

منها : ما هي ظاهرة في الشبهات الحكميّة ، كحديث السعة ، والحجب ونحوهما ، وهذه خارجة عن المقام ، لأنّ الشبهة في المقام موضوعيّة ، ولهذا لم يذكرها المصنّف قدس‌سره.

ومنها : ما هي ظاهرة في الشبهات الموضوعيّة ، مثل ما تقدّم من أخبار الحلّ.

وهي بإطلاقها تشمل الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، فتدلّ على حلّية المشتبه المقرون بالعلم الإجمالي كما تدلّ على حلّية المشتبه المجرّد عنه ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(بناء على أنّ هذه الأخبار كما دلّت على حلّية المشتبه مع عدم العلم الإجمالي ... إلى آخره).

ثمّ أشار المصنّف قدس‌سره إلى ما يؤيّد شمول هذه الأخبار موارد العلم الإجمالي بقوله :

(ويؤيّده إطلاق الأمثلة المذكورة ... إلى آخره).

أي : يؤيّد ما ذكر ـ من دلالة هذه الأخبار على حلّية المشتبه المقرون بالعلم الإجمالي ـ إطلاق الأمثلة المذكورة في رواية مسعد بن صدقة ، والأمثلة المذكورة فيها هي الثوب المحتمل للسرقة ، والمملوك المحتمل للحريّة ، والمرأة المحتملة للرضيعة ، حيث يشمل إطلاقها الاشتباه مع العلم الإجمالي ، كما يشمل الاشتباه غير المشوب به.

(بل الغالب ثبوت العلم الإجمالي) من جهة وجود الثوب المسروق في السوق ، إلّا أنّ هذه الأخبار لا تصلح للمنع ، لاختصاصها بالشبهات البدويّة لئلّا يلزم التناقض.

(لأنّها كما تدلّ على حلّية كلّ واحد من المشتبهين) ، إذ كلّ واحد منهما بخصوصه

١٥٠

فإن قلت : إنّ غاية الحلّ معرفة الحرام بشخصه ، ولم يتحقّق في المعلوم الإجمالي.

قلت : أمّا قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه) (١) ، فلا يدلّ على ما ذكرت ، لأنّ قوله عليه‌السلام : (بعينه) تأكيد للضمير ، جيء به للاهتمام في اعتبار العلم ، كما يقال : رأيت زيدا نفسه بعينه ، لدفع توهّم وقوع الاشتباه في الرؤية ، وإلّا فكلّ شيء علم حرمته فقد علم حرمة

____________________________________

مشكوك فيه كالشكّ البدوي ، (كذلك تدلّ على حرمة ذلك المعلوم إجمالا) بمقتضى مفهوم الغاية وهي قوله : (حتى تعرف الحرام) ، لأنّ المعلوم بالإجمال شيء علم تحريمه ، فيلزم ـ حينئذ ـ التناقض بين الصدر والذيل ، إذ الحكم الظاهري وهو الحلّية في الصدر يكون مغيّا بغاية وهو مطلق العلم والمعرفة وهي حاصلة في مورد العلم الإجمالي ، فيكون مقتضى حصول الغاية حرمة المشتبه المعلوم إجمالا ، فلا بدّ من اختصاص هذه الأخبار بالشبهة البدويّة ، وعدم شمولها لأطراف العلم الإجمالي ، حتى يكون الحكم فى أطراف العلم الإجمالي هو الحرمة فقط ، لئلّا يلزم ما ذكر من التناقض.

(فإن قلت : إنّ غاية الحلّ معرفة الحرام بشخصه ، ولم يتحقّق في المعلوم الإجمالي).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره هو أنّ غاية الحلّ في هذه الأخبار لم تكن مطلق العلم الشامل للعلم الإجمالي ، بل هي العلم التفصيلي بقرينة قوله : (بعينه) حيث قال عليه‌السلام : (كلّ شيء حلال حتى تعرف الحرام بعينه) ، أي : حتى تعرف أنّه حرام معيّنا وتفصيلا ، فلا يلزم ـ حينئذ ـ تناقض بين الصدر والذيل ، لأنّ الحكم بالحلّية يكون مغيّا بالعلم التفصيلي وهو غير حاصل ، فيكون الحكم منحصرا بالحلّية.

وبالجملة ، إنّ المانع من شمول هذه الأخبار موارد العلم الإجمالي هو لزوم التناقض ، وهو منتف لأنّه مبني على أن يكون المراد بالعلم أعمّ من العلم التفصيلي ، والإجمالي ، وليس الأمر كذلك ، كما تقدّم لظهور(بعينه) في العلم التفصيلي.

(قلت : أمّا قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه) ، فلا يدلّ على ما ذكرت ، لأنّ قوله عليه‌السلام : (بعينه) تأكيد للضمير جيء به للاهتمام في اعتبار العلم ... إلى آخره).

وتوضيح ما ذكره في الجواب يحتاج إلى مقدّمة وهي : إنّ التقييد باعتبار ما يرجع إليه

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠. التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٩. الوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

١٥١

نفسه ، فإذا علم نجاسة إناء زيد وطهارة إناء عمرو فاشتبه الإناءان ، فإناء زيد شيء علم حرمته بعينه.

نعم ، يتّصف هذا المعلوم المعيّن بكونه لا بعينه إذا اطلق عليه عنوان أحدهما ، فيقال : أحدهما لا بعينه ، في مقابل أحدهما المعيّن عند القائل.

وأمّا قوله عليه‌السلام : (فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه) ، فله ظهور في ما ذكر ، حيث إنّ قوله : (بعينه) قيد للمعرفة ، فمؤدّاه اعتبار معرفة الحرام بشخصه ، ولا يتحقّق ذلك إلّا إذا أمكنت الإشارة الحسيّة إليه.

وأمّا إناء زيد المشتبه بإناء عمرو في المثال ، وإن كان معلوما بهذا العنوان ، إلّا أنّه مجهول باعتبار الامور المميّزة له في الخارج عن إناء عمرو ، فليس معروفا بشخصه ، إلّا أنّ بقاء الصحيحة على هذا الظهور يوجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه ، مثل قوله : اجتنب عن الخمر.

____________________________________

القيد لا يخلو عن أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون ما يرجع إليه القيد كلّيا.

والثاني : أن يكون جزئيّا.

ثمّ إن التقييد في الأوّل ظاهر في الانقسام ، أي : انقسام الكلّي المقيّد إلى المقيّد بالقيد المذكور والمقيّد بضدّه ، مثل تقييد الإنسان بالعالم يوجب انقسامه إلى العالم وضدّه وهو الجاهل ، وأمّا التقييد في الثاني وهو كون المقيّد جزئيّا فليس ظاهرا في الانقسام ، لعدم إمكان الانقسام ، فلا بدّ ـ حينئذ ـ من أن يكون للتأكيد.

إذا عرفت هذه المقدّمة يتّضح لك أنّ التقييد في الرواية الاولى ـ وهي : قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه) ـ يرجع إلى ضمير(أنّه) الراجع إلى الشيء الخارجي الجزئي ، فيكون التقييد للتأكيد جيء به للاهتمام في اعتبار العلم الأعمّ من التفصيلي والإجمالي ، نظير ما يقال : رأيت زيدا نفسه بعينه ، فجيء بلفظ(نفسه) و (بعينه) تأكيدا لتحقّق الرؤية.

وذلك (لدفع توهّم وقوع الاشتباه في الرؤية) لئلّا يتوهّم السامع رؤية غلام زيد مثلا ، وحينئذ فلا تدلّ الرواية على اعتبار العلم التفصيلي بالحرمة ، بل تدلّ على اعتبار مطلق

١٥٢

لأنّ الإذن في كلا المشتبهين ينافي المنع عن عنوان مردّد بينهما يوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم إجمالا في متن الواقع.

وهو ممّا يشهد الاتّفاق والنصّ على خلافه حتى نفس هذه الأخبار ، حيث إنّ مؤدّاها ثبوت الحرمة الواقعيّة للأمر المشتبه.

____________________________________

العلم في وجوب الاجتناب عن الحرام ، فيعود محذور لزوم التناقض لو قلنا بدلالتها على الحلّية في أطراف العلم الإجمالي ، فلا بدّ من اختصاصها بالشبهة البدويّة لئلّا يلزم التناقض ، كما عرفت.

نعم ، لو كان لفظ(بعينه) في الرواية قيدا للعلم المستفاد من قوله : (تعلم) لكان ظاهرا في الانقسام ، لأنّ العلم كلّي ينقسم إلى التفصيلي والإجمالي ، فيكون مفاد الرواية اعتبار العلم التفصيلي في الحرمة ووجوب الاجتناب عن الحرام المعلوم تفصيلا ، وبذلك يعود الإشكال إلّا أنّ القيد يكون قيدا للذات ، وهو الضمير الراجع إلى مصداق الشيء الموجود في الخارج ، كما هو كذلك في نظيره ، وهو بعينه في رأيت زيدا نفسه بعينه ، حيث يكون لفظ(بعينه) قيدا للذات وهو زيد ، لا للفعل وهو الرؤية.

فالمتحصّل من جميع ما ذكرنا هو أنّ الرواية الاولى لا تدلّ على ما ذكر في الإشكال من أنّ غاية الحلّ معرفة الحرام معيّنا وتفصيلا.

وأمّا الرواية الثانية وهي : قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعلم الحرام منه بعينه) (١) ، وإن كانت ظاهرة في رجوع لفظ بعينه إلى المعرفة ، فيكون مفاد الرواية ـ حينئذ ـ هو معرفة الحرام بشخصه تفصيلا فتدلّ على أنّ غاية الحلّ هو العلم التفصيلي ، ولا يجب الاجتناب عن الخمر المعلوم إجمالا ، إلّا أنّ هذا الظهور ينافي ما دلّ على حرمة الخمر مطلقا ، كقول الشارع : اجتنب عن الخمر ، حيث يشمل الخمر المشتبه بين أمرين أو امور ، كما عرفت ، فلا بدّ من رفع اليد ـ حينئذ ـ عن هذا الظهور ، لأنّه يقتضي عدم الحكم بحرمة الخمر المعلوم إجمالا في متن الواقع.

(وهو ممّا يشهد الاتّفاق والنصّ على خلافه حتى نفس هذه الأخبار ، حيث إنّ مؤدّاها

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩. الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٢. التهذيب ٧ : ٢٦٦ / ٩٨٨. السرائر ٣ : ٥٩٤.

١٥٣

فإن قلت : مخالفة الحكم الظاهري للحكم الواقعي لا توجب ارتفاع [الحكم] الواقعي ، كما في الشبهة المجرّدة عن العلم الإجمالي ، مثلا قول الشارع : اجتنب عن الخمر ، شامل للخمر الواقعي الذي لم يعلم به المكلّف ولو إجمالا ، وحلّيته في الظاهر لا يوجب خروجه عن العموم المذكور حتى لا يكون حراما واقعيّا ، فلا ضير في التزام ذلك في الخمر الواقعي المعلوم إجمالا.

____________________________________

ثبوت الحرمة الواقعيّة للأمر المشتبه).

فنقول : إنّ لفظ(بعينه) تأكيد لضمير(منه) جيء به للاهتمام في اعتبار العلم والمعرفة ، فيبقى العلم على إطلاقه الشامل للعلم الإجمالي ، وحينئذ لا تدلّ هذه الرواية على حلّية أطراف العلم الإجمالي للزوم التناقض ، فتكون مختصّة بالشبهة البدويّة كالرواية الاولى ، فتأمّل تعرف.

(فإن قلت : مخالفة الحكم الظاهري للحكم الواقعي لا توجب ارتفاع [الحكم] الواقعي ، كما في الشبهة المجرّدة عن العلم الإجمالي).

فلا بدّ من ذكر ما يرجع إليه هذا الإشكال ممّا تقدّم عن المصنّف قدس‌سره ، فنقول :

إنّ ما تقدّم منه ممّا يوهم ارتفاع الحكم الواقعي بالحكم الظاهري هو قوله :

(لأنّ الإذن في كلا المشتبهين ينافي المنع عن عنوان مردّد بينهما يوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم إجمالا في متن الواقع).

وهذا الكلام صريح في ارتفاع حرمة الخمر عن متن الواقع بعد الحكم الظاهري ، وهو إذن الشارع في ارتكاب كلا المشتبهين ، فيتوجّه إلى هذا الكلام ما ذكر من الإشكال من أنّ مخالفة الحكم الظاهري للحكم الواقعي لا توجب ارتفاع الحكم الواقعي ، حتى يقال بأنّ الحكم الواقعي ثابت بالاتّفاق والنصّ.

فلا بدّ من رفع اليد عن ظهور الرواية في ثبوت الحكم الظاهري في مورد العلم الإجمالي ، وحملها على مورد الشبهة البدويّة لكون ظهورها مخالفا للنصّ والإجماع ، بل الحكم الواقعي ثابت في الواقع ولو جعل في الظاهر حكم على خلافه ، كما في موارد الشبهات البدويّة ، حيث يجتمع الحكم الواقعي مع الحكم الظاهري فيها ولا منافاة بينهما لتعدّد الموضوع ، فكذلك في موارد العلم الإجمالي.

فحينئذ نأخذ بظهور الرواية ، وهي تدلّ على الحلّية في أطراف العلم الإجمالي ، ولا

١٥٤

قلت : الحكم الظاهري لا يقدح مخالفته للحكم الواقعي في نظر الحاكم مع جهل المحكوم بالمخالفة ، لرجوع ذلك إلى معذوريّة المحكوم الجاهل ، كما في أصالة البراءة ، وإلى بدليّة الحكم الظاهري عن الواقع أو كونه طريقا مجعولا إليه على الوجهين في الطرق الظاهريّة المجعولة ، وأمّا مع علم المحكوم بالمخالفة فيقبح من الجاعل جعل كلا الحكمين ؛ لأنّ العلم بالتحريم يقتضي وجوب الامتثال بالاجتناب عن ذلك المحرّم ، فإذن الشارع في فعله ينافي حكم العقل بوجوب الإطاعة.

____________________________________

موجب لطرح ظهورها في إذن الشارع لارتكاب كلا المشتبهين.

(قلت : الحكم الظاهري لا يقدح مخالفته للحكم الواقعي في نظر الحاكم مع جهل المحكوم بالمخالفة ، لرجوع ذلك إلى معذوريّة المحكوم الجاهل).

وحاصل الجواب أنّ جعل الحكم الظاهري على خلاف الحكم الواقعي لا مانع منه مع جهل المكلّف بالمخالفة ، لرجوع جعل الحكم الظاهري على خلاف الحكم الواقعي إلى معذوريّة المكلّف الجاهل في مورد أصالة البراءة (وإلى بدليّة الحكم الظاهري عن الواقع) في مورد الأمارات الظنيّة المعتبرة على القول باعتبارها على نحو السببيّة ، حيث يجعل مؤدّاها أحكاما ظاهريّة بدلا عن الواقع ، ويتدارك فوت الواقع بالمصلحة التي تكون في السلوك على طبق هذه الأمارات.

(أو كونه طريقا مجعولا إليه).

أي : كون الحكم الظاهري طريقا مجعولا إلى الواقع على القول باعتبار الأمارات من باب الطريقيّة من جهة كونها أكثر مطابقة للواقع من القطع ، فيكون المجعول نفس الطريقيّة وهو الحكم الظاهري.

والحاصل إنّ جعل الحكم الظاهري على خلاف الحكم الواقعي مع جهل المكلّف بالمخالفة لا مانع منه ، إلّا أنّه قبيح عقلا بعد علمه بالمخالفة ، (لأنّ العلم بالتحريم يقتضي وجوب الامتثال) والإطاعة بمقتضى حكم العقل بوجوب الإطاعة بالنسبة إلى التكليف المعلوم ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، حيث يعلم المكلّف بالتحريم ، فيجب الامتثال لحكم العقل بوجوب الإطاعة ، وحينئذ يجب الاجتناب عن الحرام الموجود في المشتبهين.

فإذن الشارع في ارتكاب كلا المشتبهين وإن لم يكن منافيا للحكم الواقعي إلّا أنّه يكون

١٥٥

فإن قلت : إذن الشارع في فعل المحرّم مع علم المكلّف بتحريمه إنّما ينافي حكم العقل من حيث إنّه إذن في المعصية والمخالفة ، وهو إنّما يقبح مع علم المكلّف بتحقّق المعصية حين ارتكابها حينئذ.

والإذن في ارتكاب المشتبهين ليس كذلك إذا كان على التدريج ، بل هو إذن في المخالفة مع عدم علم المكلّف بها إلّا بعدها ، وليس في العقل ما يقبّح ذلك وإلّا لقبح الإذن في ارتكاب جميع المشتبهات بالشبهة غير المحصورة أو في ارتكاب مقدار يعلم عادة بكون الحرام فيها ،

____________________________________

منافيا لحكم العقل بوجوب الامتثال والإطاعة ، لأنّ إذنه ترخيص في المعصية ، فينافي حكم العقل بقبح المعصية ووجوب الإطاعة.

(فإن قلت : إذن الشارع في فعل المحرّم مع علم المكلّف بتحريمه إنّما ينافي حكم العقل من حيث إنّه إذن في المعصية والمخالفة ، وهو إنّما يقبح مع علم المكلّف بتحقّق المعصية حين ارتكابها حينئذ).

وحاصل الإشكال ، هو أنّ ما ذكرت ـ من أنّ إذن الشارع وترخيصه في ارتكاب كلا المشتبهين ترخيص في المعصية ، فينافي حكم العقل بقبح المعصية ـ صحيح في الجملة ، أي : فيما إذا كان الارتكاب معصية في علم المكلّف حين الارتكاب ، بأن يرتكب المشتبهين دفعة ، ولا يتحقّق ذلك فيما إذا كان الارتكاب تدريجا ، لعدم علم المكلّف حين الارتكاب بكونه معصية ومخالفة.

نعم ، يحصل له العلم بالمعصية والمخالفة بعد ارتكاب جميع الأطراف تدريجا ، إلّا أنّه لا يكفي مجرّد العلم بالمخالفة ولو بعد الارتكاب في حكم العقل بالقبح.

ولهذا ذهب غير واحد من الاصوليّين إلى جواز ارتكاب المشتبهين بالتدريج ، ولا يكون ما ذكرت من التنافي بين ترخيص الشارع وحكم العقل ردّا لهذا القول ، نعم يكون ردّا لمن يقول بجواز الارتكاب مطلقا ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، إنّ إذن الشارع في المخالفة مع عدم علم المكلّف بها ليس قبيحا عقلا ، حتى ينافي حكم العقل بالقبح ، والشاهد عليه وقوع نظائره في الشرع ، فإنّه لو كان إذن الشارع في المخالفة مطلقا قبيحا ، لكان إذنه في ارتكاب جميع المشتبهات بالشبهة غير المحصورة قبيحا كذلك ، وكان إذنه في ارتكاب مقدار يعلم عادة بكون الحرام فيها قبيحا

١٥٦

وفي ارتكاب الشبهة المجرّدة التي يعلم المولى اطّلاع العبد بعد الفعل على كونه معصية ، وفي الحكم بالتخيير الاستمراري بين الخبرين أو فتوى المجتهدين.

قلت : إذن الشارع في أحد المشتبهين ينافي ـ أيضا ـ حكم العقل بوجوب امتثال التكليف المعلوم المتعلّق بالمصداق المشتبه ؛ لإيجاب العقل ـ حينئذ ـ الاجتناب عن كلا المشتبهين.

____________________________________

أيضا ، وكان إذنه في ارتكاب الشبهة المجرّدة مع علم المولى باطّلاع العبد بعد الارتكاب على المخالفة قبيحا ، كما كان الحكم بالتخيير الاستمراري بين الخبرين أو فتوى المجتهدين مع علم المكلّف بعد الأخذ بكلا الخبرين بالمخالفة قبيحا.

فمن وقوع إذن الشارع في المخالفة في هذه الموارد نكشف أنّ العقل لا يحكم بقبح مطلق المخالفة ، بل يحكم بقبح ما يعلم المكلّف به حال الارتكاب ، فالتالي في الجميع ـ وهو كون قبح الإذن عقلا ـ باطل ، فالمقدّم وهو قبح الإذن في المخالفة مطلقا ـ أيضا ـ باطل ، فحينئذ تكون النتيجة عدم قبح الإذن في المخالفة مطلقا ، بل يكون قبيحا إذا علم المكلّف بها حال الارتكاب.

(قلت : إذن الشارع في أحد المشتبهين ينافي ـ أيضا ـ حكم العقل بوجوب امتثال التكليف المعلوم المتعلّق بالمصداق المشتبه ؛ لإيجاب العقل ـ حينئذ ـ الاجتناب عن كلا المشتبهين).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره في مقام الجواب عن الإشكال المذكور هو أنّ إذن الشارع في ارتكاب بعض أطراف العلم الإجمالي أيضا ـ أي : كإذنه في ارتكاب جميع الأطراف ـ ينافي حكم العقل بوجوب امتثال التكليف المعلوم بالإجمال ، وذلك لأنّ الاجتناب عن الحرام المشتبه في أمرين أو امور يتوقّف على الاجتناب عن جميع الأطراف ، فيحكم بالاجتناب عن الجميع مقدّمة للاجتناب عن الحرام ، كما أشار إليه بقوله : لإيجاب العقل ـ حينئذ ـ الاجتناب عن كلا المشتبهين.

والحاصل ، إنّ إذن الشارع في المخالفة قبيح عقلا من غير فرق بين أن يكون الإذن في ارتكاب جميع الأطراف دفعة أو تدريجا ، لأنّ المناط في حكم العقل بالقبح ـ وهو الإذن في المخالفة والمعصية ـ موجود في كلا الموردين.

بقي الجواب عن الأمثلة المذكورة في الإشكال فنقول :

١٥٧

نعم ، لو أذن الشارع في ارتكاب أحدهما مع جعل الآخر بدلا عن الواقع في الاجتزاء بالاجتناب عنه جاز ، فإذن الشارع في أحدهما لا يحسن إلّا بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر بدلا ظاهريّا عن الحرام الواقعي ، فيكون المحرّم الظاهري هو أحدهما على التخيير ، وكذا المحلّل الظاهري ، ويثبت المطلوب ، وهو حرمة المخالفة القطعيّة بفعل المشتبهين ، [وحاصل معنى تلك الصحيحة (١) أنّ كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف أنّ في ارتكابه

____________________________________

إن إذن الشارع في الموارد المذكورة ليس من الإذن في المخالفة والمعصية حتى ينافي حكم العقل ، وذلك أمّا في الشبهة المجرّدة عن العلم الإجمالي فلأجل عدم حكم العقل بوجوب الامتثال أصلا ، لعدم ثبوت التكليف مع فرض عدم العلم.

وأمّا في أطراف العلم الإجمالي فلأجل جعل البدل ، حيث يجعل الشارع بعض أطراف العلم الإجمالي بدلا عن الحرام الواقعي ، فيكتفي بالاجتناب عنه عن الاجتناب عن الحرام الواقعي ، ويجوز ارتكاب ما عداه ، وكذلك في مورد التخيير ، حيث يجعل أحدهما بدلا عن الواقع ، والآخر حلالا ظاهريّا ، كما هو مبيّن في المتن تفصيلا ، فالتخيير ـ حينئذ ـ بدوي كما لا يخفى ، لأنّ التخيير الاستمراري مستلزم للمخالفة القطعيّة ، هذا مضافا إلى أنّ إذن الشارع مع جعل البدل ليس من الإذن في المعصية.

وبعبارة اخرى : إنّ حكم العقل بوجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين تعليقي ، لأنّه معلّق على عدم ورود حكم من الشارع على خلاف حكم العقل ، فيرتفع بعد إذن الشارع في ارتكاب بعض الأطراف ، بعد جعله بعضه الآخر بدلا عن الواقع ، وهذا بخلاف حكم العقل بقبح المخالفة القطعيّة ، حيث يكون حكما تنجيزيّا لا يقبل ورود حكم من الشارع على خلافه ، وهو الإذن في المخالفة والمعصية.

فالمخالفة القطعيّة محرّمة شرعا ، كما هي قبيحة عقلا ، كما أشار إلى حرمتها بقوله : (ويثبت المطلوب ؛ وهو حرمة المخالفة القطعيّة بفعل المشتبهين).

ثمّ يرجع المصنّف قدس‌سره إلى الرواية حيث يقول :

(وحاصل معنى تلك الصحيحة أنّ كلّ شيء فيه حلال) كالخل (وحرام) كالخمر ، (فهو

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩. الفقيه ٣ : ١٢٦ / ١٠٠٢. التهذيب ٧ : ٢٦٦ / ٩٨٨. السرائر ٣ : ٥٩٤.

١٥٨

فقط ، أو في ارتكابه المقرون مع ارتكاب غيره ارتكابا للحرام ، والأوّل في العلم التفصيلي والثاني في العلم الإجمالي].

فإن قلت : إذا فرضنا المشتبهين ممّا لا يمكن ارتكابهما إلّا تدريجا ، ففي زمان ارتكاب أحدهما يتحقّق الاجتناب عن الآخر قهرا ، فالمقصود من التخيير ـ وهو ترك أحدهما ـ حاصل مع الإذن في ارتكاب كليهما ، إذ لا يعتبر في ترك الحرام القصد ، فضلا عن قصد الامتثال.

____________________________________

لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه).

أي : تعرف بأنّ هذا الإناء خمر ، كما في مورد العلم التفصيلي ، أو تعرف أنّ هذا الإناء أو الآخر خمر في مورد العلم الإجمالي ، فيحكم بالحرمة ووجوب الاجتناب بعد المعرفة والعلم مطلقا ، أي : سواء كان العلم تفصيليّا أو إجماليّا.

(فإن قلت : إذا فرضنا المشتبهين ممّا لا يمكن ارتكابهما إلّا تدريجا ، ففي زمان ارتكاب أحدهما يتحقّق الاجتناب عن الآخر قهرا ، فالمقصود من التخيير ـ وهو ترك أحدهما ـ حاصل مع الإذن في ارتكاب كليهما ، إذ لا يعتبر في ترك الحرام القصد ، فضلا عن قصد الامتثال).

والإشكال يرجع إلى ما ذكره المصنّف قدس‌سره في الجواب عن الإشكال السابق من الجمع بين جعل البدل والتخيير.

ثمّ إنّ هذا الإشكال يتّضح بعد ذكر مقدّمة مشتملة على امور :

منها : إنّ إذن الشارع في أحدهما لا يحسن إلّا بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر بدلا عن الحرام الواقعي ، فيكون المحرّم هو أحدهما على التخيير ، كما تقدّم في كلام المصنّف قدس‌سره ، ولازم هذا الأمر هو عدم جواز الإذن من الشارع في ارتكاب أحدهما بدون جعل البدل ، فضلا عن الإذن في ارتكابهما معا.

ومنها : إنّ ما ذكره من التخيير مطلق يشمل التخيير الاستمراري ، والمراد منه هو ترك أحدهما حال ارتكاب الآخر من دون قصد امتثال الأمر بالاجتناب ؛ لعدم اعتبار القصد في ترك الحرام فضلا عن قصد الامتثال.

ومنها : إنّ المشتبهين على قسمين :

أحدهما : ما لا يمكن ارتكابهما دفعة ، كما إذا نذر أحد ترك وطء إحدى زوجتيه حيث لا يمكن وطؤهما دفعة.

١٥٩

قلت : الإذن في فعلهما في هذه الصورة ـ أيضا ـ ينافي الأمر بالاجتناب عن العنوان الواقعي المحرّم ، لما تقدّم من أنّه مع وجود دليل حرمة ذلك العنوان المعلوم وجوده في المشتبهين لا يصحّ الإذن في أحدهما إلّا بعد المنع عن الآخر بدلا عن المحرّم الواقعي ، ومعناه

____________________________________

وثانيهما : ما يمكن ارتكابهما دفعة كشرب الإنائين المشتبهين بالخمر.

ومن هذه المقدّمة يتّضح لك الإشكال فيما إذا فرضنا المشتبهين ممّا لا يمكن ارتكابهما دفعة ، فنقول :

إنّ الغرض وهو الاجتناب عن أحدهما حال ارتكاب الآخر حاصل قهرا على هذا الفرض من دون حاجة إلى جعله بدلا عن الواقع ، ثمّ الأمر بالاجتناب عنه.

فما ذكر من أنّ إذن الشارع في أحدهما لا يحسن إلّا بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر ... إلخ ، لا يرجع إلى محصّل ، بل إذن الشارع في ارتكاب كليهما ليس بقبيح ، فضلا عن إذنه في أحدهما ، فكما يصحّ من الشارع الإذن في ارتكابهما تدريجيا على نحو التخيير الاستمراري ، كذلك يصحّ إذنه في ارتكابهما دفعة في محلّ الفرض ، لأنّ الغرض من التخيير وهو ترك الآخر حين الارتكاب حاصل قهرا ، كما عرفت.

وعلى هذا فيجوز الإذن في ارتكاب كلا المشتبهين من دون حاجة إلى النهي عن أحدهما ، ولازمه جواز المخالفة القطعيّة التدريجيّة ، فيكون هذا الإشكال دليلا لمن يقول بجواز المخالفة القطعيّة فيما لا يمكن ارتكاب الأطراف دفعة ، كما هو ظاهر الرواية الثانية على ما عرفت.

وبالجملة ، إنّ ما ذكر في الجواب عن الإشكال السابق من أنّ إذن الشارع في أحدهما لا يحسن إلّا بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر بدلا عن الحرام الواقعي لا يتمّ على إطلاقه ، بل إنّما يتمّ في صورة واحدة ، وهي فيما إذا أمكن ارتكابهما دفعة دون غيرها.

(قلت : الإذن في فعلهما في هذه الصورة) ، أي : صورة عدم إمكان ارتكاب المشتبهين دفعة (أيضا ينافي الأمر بالاجتناب عن العنوان الواقعي المحرّم ... إلى آخره).

وهذا الجواب من المصنّف قدس‌سره يتّضح بعد بيان أنّ التكليف بغير المقدور قبيح عقلا ، ولا يجوز شرعا ، فلا بدّ من أن يكون متعلّق التكليف مقدورا للمكلّف أيضا ، والمراد من المقدور ما يتمكّن المكلّف من فعله وتركه معا.

١٦٠