دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

المركّب المشتمل على ذلك الجزء ثانيا.

وأمّا ما استشهد به من فهم الأصحاب وما ظهر بالتفحّص ، ففيه : إنّ : أوّل ما يظهر للمتفحّص في هذا المقام أنّ العلماء لم يستندوا في الأصلين المذكورين إلى هذه الأخبار ، أمّا أصل العدم ، فهو الجاري عندهم في غير الأحكام الشرعيّة أيضا من الأحكام اللفظيّة ، كأصالة عدم القرينة وغيرها ، فكيف يستند فيه بالأخبار المتقدّمة؟.

____________________________________

شرعيّا غير الحكم التكليفي ... إلى آخره).

وحاصل ما أورده المصنّف قدس‌سره ثانيا : هو أنّ الأحكام الوضعيّة ليست مجعولة على نحو الاستقلال شرعا ، بل امور منتزعة من الأحكام التكليفيّة ، حيث تكون الجزئيّة منتزعة من حكم تكليفي ، وهو ما أشار إليه بقوله : (إيجاب المركّب المشتمل على ذلك الجزء) ، فإذا لم تكن مجعولة لا ترفع بأخبار البراءة ؛ لأنّ الشارع يرفع ما يكون مجعولا له بالأصالة ، وهو ليس كذلك.

وأمّا الجهة الثانية فقد أشار إليها قدس‌سره بقوله :

(وأمّا ما استشهد به من فهم الأصحاب وما ظهر بالتفحّص ، ففيه : إنّ أوّل ما يظهر للمتفحّص في هذا المقام أنّ العلماء لم يستندوا في الأصلين المذكورين إلى هذه الأخبار) ؛ لأنّ مورد أصل العدم أعمّ من نفي الأحكام التكليفيّة والوضعيّة ، حيث يجري في الأحكام اللفظيّة كأصالة عدم القرينة وعدم النقل ، فكيف يكون مستندا إلى أخبار البراءة المختصّة بالأحكام الشرعيّة مطلقا لو لم نقل باختصاصها بنفي الأحكام التكليفيّة فقط؟.

فحينئذ لا يصحّ أن يكون أصل العدم مستندا إلى أخبار البراءة حتى يقال بأنّهم فهموا منها العموم ، وقد أشار إلى عموم مورد أصل العدم بقوله : (أمّا أصل العدم ، فهو الجاري عندهم في غير الأحكام الشرعيّة أيضا). هذا تمام الكلام في أصل العدم ، حيث لم يكن مستندا إلى أخبار البراءة على ما تخيّله صاحب الفصول قدس‌سره ، وهكذا أصل عدم الدليل دليل العدم لم يكن مستندا إلى أخبار البراءة ، بل يكون مستندا إلى شيء آخر وهو حصول القطع بعدم الشيء بعد الفحص عن وجود دليل دالّ عليه ؛ وذلك لأنّ المجتهد الخبير بالمدارك الشرعيّة إذا بذل جهده في تحصيل الدليل ولم يجده يحصل له القطع أو الظنّ الاطمئناني بعدم وجود الدليل ، ويحصل منه القطع أو الظنّ بعدم الحكم في الواقع ، هذا

٤٤١

وأمّا عدم الدليل دليل للعدم ، فالمستند فيه عندهم شيء آخر ، ذكره كلّ من تعرّض لهذه القاعدة ، كالشيخ وابن زهرة والفاضلين والشهيد وغيرهم ، ولا اختصاص له بالحكم التكليفي والوضعي.

____________________________________

هو مستند عدم الدليل دليل العدم.

ويمكن أن يقال : إنّ مستند أصل العدم ـ أيضا ـ هو شيء آخر ، وهو أدلّة الاستصحاب في باب الأحكام الشرعيّة وبناء العقلاء وأهل اللّسان في باب الألفاظ ، فكما لا اختصاص لأصل العدم بالأحكام الشرعيّة ـ كما عرفت ـ فكذلك لا اختصاص لعدم الدليل دليل العدم بالحكم التكليفي والوضعي ، بل يجري في مسألة النبوّة وأمثالها أيضا ، فإذا لم يأت من يدّعي النبوة بمعجزة تدلّ على صدق دعواه يحصل من عدم الدليل على نبوّته القطع بعدم النبوّة.

ولغلام رضا قدس‌سره في هذا المقام كلام لا بأس بذكره ، حيث قال في شرح قول المصنّف قدس‌سره : (ففيه : إنّ أوّل ما يظهر للمتفحّص في هذا المقام) ما هذا لفظه : «أقول : شرح هذا الكلام موقوف على بيان النسبة بين مفاد هذه الأخبار ومورد الأصلين المذكورين ، وهي لا تخلو عن أحد وجوه :

أحدها : أن تكون النسبة بينهما هي التباين الكلّي ، بأن يقال : إنّ مورد هذه الروايات ـ كما هو المستفاد من لفظ الرفع والوضع المأخوذ فيها ـ إنّما هو ما إذا كان المقتضي للحكم موجودا تحقيقا ، فيرتفع في صورة الجهل والخطأ والنسيان بهذه الأخبار ، وهذا بخلاف الأصلين فإنّ موردهما صورة عدم المقتضي للحكم ولو توهّم ثبوته.

وثانيها : أن يكون مورد الروايات أعمّ ممّا وجد فيه المقتضي من موردهما ، ولعلّ قوله قدس‌سره : (مع تباينهما الجزئي) إشارة إليه وإن لم يكن التعبير به جاريا على اصطلاح أهل الميزان ، بأن يقال : إنّ مورد الروايات أعمّ ممّا وجد فيه المقتضي للحكم تحقيقا أو توهّما ، بخلاف الأصلين ، وحينئذ تكون جميع موارد الأصلين موردا للأخبار ، ولا عكس ، كما إذا وجد فيه المقتضي للتكليف والحكم الوضعي محقّقا ، فإنّه تجري فيه الأخبار بخلاف الأصلين.

ثالثها : أن تكون النسبة بينهما عموما من وجه ، مادّة الافتراق من طرف الأخبار ما مضى

٤٤٢

وبالجملة : فلم نعثر على من يستدلّ بهذه الأخبار في هذين الأصلين ، أمّا رواية الحجب (١) ونظائرها فظاهر ، وأمّا النبويّ (٢) المتضمّن لرفع الخطأ والنسيان وما لا يعلمون ، فأصحابنا بين من يدّعي ظهورها في رفع المؤاخذة ولا ينفي به غير الحكم التكليفي ، كأخواته من رواية الحجب وغيرها ، وهو المحكيّ عن أكثر الاصوليين.

وبين من يتعدّى عن ذلك إلى الأحكام الغير التكليفيّة ، لكن في موارد وجود الدليل على ذلك الحكم وعدم جريان الأصلين المذكورين ، بحيث لو لا النبويّ لقالوا بثبوت ذلك الحكم.

____________________________________

ومن طرف الأصلين جريانهما في الأحكام اللفظيّة ، كأصالة عدم القرينة وغيرها ، وعلى كلّ تقدير لا يجوز التمسّك بهذه الأخبار لاعتبار الأصلين ، أمّا على الأوّل والأخير فواضح ، وأمّا على الثاني ، فلأنّ الدليل ـ وإن كان كثيرا ـ أعمّ من المدّعى ، لكنّ المفروض في المقام اختلاف الحيثيّة ، فإنّ حيثيّة اعتبار الأصلين عدم وجود المقتضي وإن كان في موردهما توهّم ثبوته ، وحيثيّة جريان الأخبار وجود المقتضي ولو توهّما ، فلا يجوز التمسّك لاعتبار الأوّل بالحيثيّة المأخوذة فيه بالثاني ، أترى من نفسك إذا حصل الاختلاف في وجوب إكرام زيد العالم من حيث كونه زيدا لا من حيث علمه التمسّك بقوله : أكرم العلماء حاشا؟». انتهى. والكلام في شرح العبارات على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

(وبالجملة ، فلم نعثر على من يستدلّ بهذه الأخبار في هذين الأصلين ، أمّا رواية الحجب ونظائرها) كرواية السعة (فظاهر) لعدم فهم الأصحاب منها إلّا رفع الحكم التكليفي ، فلا تدلّ على نفي الحكم الوضعي.

(وأمّا النبويّ المتضمّن لرفع الخطأ والنسيان وما لا يعلمون ، فأصحابنا بين من يدّعي ظهورها في رفع المؤاخذة ولا ينفي به غير الحكم التكليفي) ، فلا يدلّ إلّا على نفي الحكم التكليفي ، كأخواته.

(وبين من يتعدّى عن ذلك إلى الأحكام الغير التكليفيّة) ، أي : الأحكام الوضعيّة ، كنفي الحدود والقصاص والجزئيّة ، (لكن في موارد وجود الدليل على ذلك الحكم وعدم جريان الأصلين المذكورين) بأن يكون مورد الأصلين مباينا مع مورد النبويّ ؛ لأنّ موردهما هو ما

__________________

(١) التوحيد : ٤١٣ / ٩. الوسائل ٢٧ : ١٦٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٣٣.

(٢) الخصال : ٤١٧ / ٩. التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤. الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، أبواب جهاد النفس ، ب ٥٦ ، ح ١.

٤٤٣

ونظرهم في ذلك أنّ النبويّ ، بناء على عمومه لنفي الحكم الوضعي حاكم على تلك الأدلّة المثبتة لذلك الحكم الوضعي ، ومع ما عرفت ، كيف يدّعي أنّ مستند الأصلين المذكورين المتّفق عليهما هو هذه الروايات التي ذهب الأكثر إلى اختصاصها بنفي المؤاخذة؟.

نعم ، يمكن التمسّك به ـ أيضا ـ في مورد جريان الأصلين المذكورين ، بناء على أنّ صدق رفع أثر هذه الامور ـ أعني : الخطأ والنسيان وأخواتهما ـ كما يحصل بوجود المقتضي لذلك

____________________________________

إذا لم يكن هناك دليل أصلا ، كما إذا شكّ في حرمة التتن ، فيقال الأصل عدم الحرمة ، أو أنّ عدم الدليل على الحرمة دليل عدم الحرمة ، ومورد النبوي هو ما إذا كان هناك دليل عام شامل للتسعة وما يقابلها ، حتى يصدق الرفع عليه ، (بحيث لو لا النبويّ لقالوا بثبوت ذلك الحكم) كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى)(١) فإنّه شامل للعامد والخاطئ ، والحديث يرفعه عن الخاطئ.

وكقوله عليه‌السلام : (لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب) (٢) فإنّه شامل للذاكر والناسي ، والحديث يرفعه عن الناسي ، وكقوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ)(٣) الآية ، فإنّه شامل للعالم بخمريّة شيء والجاهل به ، والحديث يرفعه عن الجاهل ، ولا يجري الأصلان في مثل هذه الموارد التي قام عليها الدليل في الجملة.

(ونظرهم في ذلك) إلى (أنّ النبويّ بناء على عمومه لنفي الحكم الوضعي حاكم على تلك الأدلّة المثبتة لذلك الحكم الوضعي) على ما عرفت من حكومة رفع الخطأ على عموم القتل بالقتل ، ورفع النسيان على عموم (لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب).

(ومع ما عرفت) من تباين المورد(كيف يدّعي أنّ مستند الأصلين المذكورين المتّفق عليهما هو هذه الروايات التي ذهب الأكثر إلى اختصاصها بنفي المؤاخذة؟) فقط.

(نعم ، يمكن التمسّك به ـ أيضا ـ في موارد جريان الأصلين المذكورين بناء على أنّ صدق

__________________

(١) البقرة : ١٧٨.

(٢) غوالي اللئالئ ٣ : ٨٢ / ٦٥ ، والحديث فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقريب منه في الكافي ٣ : ٣١٧ / ٢٨ ، وقريب منه أيضا في التهذيب ٢ : ١٤٦ / ٥٧٣ ، ٥٧٤ ، ٥٧٥ ، وكذلك الوسائل ٦ : ٣٧ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ١ ، ح ١ ، وفي صحيح مسلم ١ : ٢٤٧ / ٣٩٤ : (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).

(٣) المائدة : ٩٠.

٤٤٤

الأثر تحقيقا ، كما في موارد ثبوت الدليل المثبت لذلك الأثر الشامل لصورة الخطأ والنسيان ، كذلك يحصل بتوهّم ثبوت المقتضي ولو لم يكن عليه دليل ولا له مقتض محقّق ، لكنّ تصادق بعض موارد الأصلين والرواية ـ مع تباينهما الجزئي ـ لا يدلّ على الاستناد لهما بها ، بل يدلّ على العدم.

ثمّ إنّ في الملازمة التي صرّح بها في قوله : «وإلّا لدلّت هذه الأخبار على نفي حجّيّة الطرق الظنيّة كخبر الواحد وغيره» ، منعا واضحا ، ليس هنا محلّ ذكره ، فافهم.

____________________________________

رفع أثر هذه الامور ـ أعني : الخطأ والنسيان وأخواتهما ـ كما يحصل بوجود المقتضي لذلك الأثر تحقيقا ، كما في موارد ثبوت الدليل المثبت لذلك الأثر الشامل لصورة الخطأ والنسيان ، كذلك يحصل بتوهّم ثبوت المقتضي ولو لم يكن عليه دليل ولا له مقتض محقّق).

وحاصل جميع ما ذكر ، هو أنّ الرفع في حديث الرفع أعمّ من الدفع ، إلّا أنّ مجرّد تصادق بعض موارد الأصلين مع الرواية ـ مع تباينهما الجزئي ـ لا يكون دليلا على استناد الأصلين إليها ، كما عرفت سابقا في تعليقة غلام رضا قدس‌سره.

وحاصل الكلام في هذا المقام كما في شرح الاستاذ الاعتمادي والأوثق والتنكابني ، هو أنّ النسبة بين مورد الرواية ومورد الأصلين وإن لم تكن تباينا كليّا ، بل هي التباين الجزئي ، والمراد منه هو العموم من وجه ، فمادّة الافتراق من جانب النبوي هي موارد وجود المقتضي ، كما عرفت أمثلة ذلك ، ومادّة الافتراق من جانب الأصلين هي الاصول اللفظيّة ، كأصالة عدم القرينة وعدم النقل والاشتراك ، ومادّة الاجتماع هي موارد توهّم ثبوت المقتضي ، كشرب التتن المشكوك تحريمه ، وكالآثار المختصّة من الأوّل بالعامد والذاكر مثلا ، فإنّ العقل لا يقبّح تنجّز هذه التكاليف بواسطة إيجاب التحفّظ والاحتياط في الدين ، فيجري فيها النبوي والأصلان.

وكيف كان ، فإنّ الوجه في التصادق على نحو التباين الجزئي لا يدلّ على الاستناد ، بل يدلّ على العدم ، هو أنّ الدليل يجب أن يكون مساويا للمدلول أو أعمّ منه ، ولا يجوز أن يكون أخصّ منه ولو على نحو العموم من وجه.

(ثمّ إنّ في الملازمة التي صرّح بها في قوله : «وإلّا لدلّت هذه الأخبار على نفي حجيّة الطرق الظنيّة كخبر الواحد وغيره» ، منعا واضحا ليس هنا محلّ ذكره) ، هذا الكلام ردّ من

٤٤٥

____________________________________

المصنّف قدس‌سره لما تقدّم عن صاحب الفصول قدس‌سره من تقديم أدلّة الاحتياط على أخبار البراءة ؛ لأنّ موضوع البراءة هو عدم الطريق على الحكم الشرعي نفيا أو إثباتا ، وأدلّة الاحتياط طرق شرعيّة فتكون حاكمة على البراءة ، إذ لا يصدق الحجب معها (وإلّا لدلّت) ، أي : لو لم يكن الأمر كذلك لكانت أدلّة البراءة مقدّمة على أدلّة الاحتياط.

ومن هنا يتولّد قياس استثنائي وهو أنّه لو كانت أدلّة البراءة مقدّمة على أدلّة الاحتياط لكانت مقدّمة على الأمارات الظنيّة كخبر الواحد أيضا ، والتالي باطل قطعا ، إذ لم يقل أحد بتقديم أدلّة البراءة على الأمارات الظنيّة ، فالمقدّم مثله ، أي : تقديم أدلّة البراءة على أدلّة الاحتياط ، فيكون الأمر بالعكس وهو تقديم أدلّة الاحتياط على البراءة.

هذا ما تقدّم من صاحب الفصول قدس‌سره فردّه المصنّف قدس‌سره بما حاصله : بأنّ الملازمة غير ثابتة وذلك للفرق بين أدلّة الاحتياط والأمارات ، فنظرا إلى هذا الفرق تنتفي الملازمة المذكورة في القياس الاستثنائي ، فحكومة أدلّة البراءة حينئذ على أدلّة الاحتياط لا تستلزم حكومتها على الأمارات أيضا ، بل الأمر بالعكس وهو حكومة الأمارات على البراءة ، ومع ذلك تكون أدلّة البراءة حاكمة على أدلّة الاحتياط ، أي : قاعدة الاشتغال.

وحاصل الفرق : إنّ الشارع نزّل مؤدّيات الأمارات بمنزلة الواقع ، وقد ألغى احتمال الخلاف فيها ، وجعلها ـ بأدلّة اعتبارها ـ بمنزلة القطع ، فكأنّه قال الشارع : كلّ ما أدّت إليه هذه الأمارات افرضه نفس الواقع ، بإلغاء احتمال تخلّفها عنه ، وترتيب آثار الواقع عليه ، هذا معنى اعتبار الأمارات شرعا ، ومعنى قاعدة الاشتغال هو حكم العقل بالاحتياط دفعا للعقاب المحتمل المترتّب على مخالفة المأمور به وتحصيلا للأمن عن العقاب.

فإذا دلّ دليل على عدم وجوب الأكثر في المقام كأخبار البراءة لحصل الأمن من العقاب بها على ترك الأكثر ، وينتفي احتمال العقاب ، فكيف يحكم العقل بالاحتياط دفعا للعقاب؟.

وحينئذ فالمتحصل ، إنّ حكومة أخبار البراءة مقدّمة على قاعدة الاشتغال لأجل حصول الأمن بها عن العقاب على ترك الأكثر ، وإن كان واجبا في الواقع لا تستلزم حكومتها على الأمارات وأخبار الآحاد حتى يستدلّ بالقياس الاستثنائي على تقديم أدلّة الاحتياط على أدلّة البراءة ، ويقال : إنّه لو كانت أدلّة البراءة مقدّمة على أدلّة الاحتياط لكانت مقدّمة

٤٤٦

واعلم أنّ هنا اصولا ربما يتمسّك بها على المختار.

منها : أصالة عدم وجوب الأكثر ، وقد عرفت سابقا حالها.

ومنها : أصالة عدم وجوب الشيء المشكوك في جزئيّته ، حاله حال سابقه بل أردأ ، لأنّ الحادث المجعول هو وجوب المركّب المشتمل عليه.

____________________________________

على الأمارات أيضا ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

وبالجملة ، إنّ الأمارات الظنيّة حاكمة على البراءة ، وأدلّة البراءة حاكمة على أدلّة الاحتياط ؛ ذلك لأنّ وجوب الاحتياط يكون من جهة وجوب دفع العقاب المحتمل ، وهذا الاحتمال ينتفي بأصالة البراءة ، ومعها لا يبقى احتمال العقاب حتى تجري قاعدة الاشتغال.

(فافهم) لعلّه إشارة إلى ردّ كلام صاحب الفصول قدس‌سره من جهة اخرى ، وهي قلب ما ذكر من القياس الاستثنائي عليه ، بأن يقال : إنّه لو كانت أدلّة الاحتياط مقدّمة على أدلّة البراءة لكانت مقدّمة على الأمارات الظنيّة أيضا ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

(واعلم أنّ هنا اصولا ربّما يتمسّك بها على المختار) وهذه الاصول كلّها داخلة في استصحاب العدم ، إلّا أنّ بعضها يجري في نفي الحكم وبعضها في نفي الموضوع ، ثمّ إنّ الاصول الحكميّة على أقسام :

منها : ما أشار إليه بقوله : (منها : أصالة عدم وجوب الأكثر ، وقد عرفت سابقا حالها) فراجع شرح قول المصنّف : (لكنّ الإنصاف : إنّ التمسّك بأصالة عدم وجوب الأكثر لا ينفع في المقام ، بل هو قليل الفائدة) ، حيث قلنا هناك بأنّ أصالة عدم وجوب الأكثر بالوجوب النفسي معارضة مع أصالة عدم وجوب الأقلّ كذلك ، وأصالة عدم مطلق الوجوب تكون قليلة الفائدة.

(ومنها : أصالة عدم وجوب الشيء المشكوك في جزئيّته ، حاله حال سابقه ... إلى آخره) ، وتوضيح الإشكال على هذا الأصل وكونه أردأ من الأصل الأوّل يحتاج إلى ذكر مقدّمة ، وهي أنّ لوجوب الجزء معاني عديدة :

منها : أن يكون المراد منه وجوبه الضمني والتبعي وهو عين وجوب الكلّ ، غاية الأمر أنّ الوجوب المتعلّق بالمركّب منبسط على سائر الأجزاء ، فيكون وجوب الجزء عين

٤٤٧

فوجوب الجزء في ضمن الكلّ عين وجوب الكلّ ، ووجوبه المقدّمي بمعنى اللّابدّيّة لازم له غير حادث بحدوث مغاير كزوجيّة الأربعة ، وبمعنى الطلب الغيري حادث مغاير ، لكن لا

____________________________________

وجوب الكلّ ، والفرق بينهما اعتباري ، وقد أشار إلى وجوب الجزء بهذا المعنى بقوله : (فوجوب الجزء في ضمن الكلّ عين وجوب الكلّ).

ومنها : أن يكون المراد منه هو الوجوب اللغوي للجزء ، بمعنى اللّابدّية ، أي : لا بدّ من وجود الجزء للإتيان بالكلّ ، كما أشار إليه بقوله : (ووجوبه المقدّمي بمعنى اللّابدّيّة لازم له ... إلى آخره).

ومنها : أن يكون المراد منه هو الوجوب الغيري الذي وقع النزاع فيه في مسألة مقدّمة الواجب ، كما أشار إليه بقوله : (وبمعنى الطلب الغيري حادث مغاير ... إلى آخره).

وبعد هذه المقدّمة نقول : إنّ أصالة عدم وجوب الجزء في جميع المعاني المذكورة محلّ اشكال.

أمّا المعنى الأوّل ؛ فلأنّ أصالة عدم وجوب الجزء بهذا المعنى يرجع إلى أصالة عدم وجوب الكل ـ أعني : الأكثر ـ وقد تقدّم الإشكال فيه في الأصل الأوّل.

وأمّا المعنى الثاني ، فيردّ عليه :

أوّلا : إنّ الوجوب بهذا المعنى يكون لازما لماهيّة الجزء ، كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة ، فلا يتصوّر فيه عدم الوجوب المنفكّ عن الجزئيّة حتى يجري فيه استصحاب عدم الوجوب ، وهذا الإشكال يرجع إلى عدم الحالة السابقة المتيقّنة لعدم الوجوب بهذا المعنى.

وثانيا : إنّه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب نفسه حكما شرعيّا أو ممّا يترتّب عليه أثر شرعيّ ، والمستصحب في المقام ـ أعني : اللّابدّيّة ـ ليس حكما شرعيّا حتى يستصحب عدمه ، بل هو أمر انتزاعيّ لا يترتّب عليه أيّ أثر شرعي.

وأمّا المعنى الثالث ، فيردّ عليه بأنّه أصل مثبت ، إذ لا يترتّب على استصحاب عدم وجوب الجزء إلّا تعيين الماهيّة في الأقلّ ، وهو أثر عقليّ لا يترتّب على المستصحب إلّا على القول بحجيّة الأصل المثبت.

هذا تمام الكلام في الإشكال على هذا الأصل ، وبما تقدّم يظهر وجه كون هذا الأصل

٤٤٨

يترتّب عليه أثر يجدي فيما نحن فيه إلّا على القول باعتبار الأصل المثبت ، ليثبت بذلك كون

____________________________________

أردأ من الأصل الأوّل ، وهو أنّ وجوب الأكثر في الأصل الأوّل يكون مسبوقا بالعدم ، وأمّا وجوب الجزء ببعض المعاني المذكورة لم يكن مسبوقا بالعدم كما عرفت.

وهنا نورد كلام المرحوم غلام رضا قدس‌سره إتماما للفائدة ، حيث قال في مقام شرح قول المصنّف قدس‌سره : (واعلم أنّ هنا اصولا) : إنّها بين طائفتين : اصول حكميّة واصول موضوعيّة.

أمّا الاولى ، فهي بين خمسة :

منها : أصالة عدم وجوب الأكثر ، وقد عرفت ما فيه.

ومنها : أصالة عدم وجوب الشيء المشكوك جزئيّته.

ومنها : أصالة عدم وجوبه المقدّمي بمعنى اللابدّية.

ومنها : أصالة عدم وجوبه المعلولي ، أعني : وجوبه من حيث التولّد عن وجوب ذي المقدّمة المعبّر عنه بالتبعي.

ومنها : أصالة عدم وجوبه الغيري الأصلي.

وفي الكلّ نظر ، وقبل بيان وجه النظر لا بدّ من الفرق بينها ، فنقول : إنّ الجزء له اعتباران :

أحدهما : لحاظه باعتبار عنوانه الثانوي ، أعني : لحاظه من حيث اتّصافه بصفة الجزئيّة وكونه جزء من الكلّ ، وبعبارة اخرى كونه واجبا بانضمام سائر الأجزاء الأخر.

وثانيهما : لحاظه باعتبار عنوان المقدّميّة مع قطع النظر عن وصف الجزئيّة ، وهذا أيضا ؛ تارة : يلاحظ بعنوان وجوبه العقلي بمعنى اللّابدّيّة ، واخرى : بعنوان وجوبه المعلولي المتولّد من الأمر بذي المقدّمة ، وثالثة : بعنوان وجوبه الغيري الأصلي ، أعني : ما يأتي به تحت الخطاب المستقلّ لكن للغير ، كما في قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)(١) ، وقوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ)(٢) ، وقوله : (وَارْكَعُوا) و (اسْجُدُوا)(٣) ، إلى غير ذلك.

إذا عرفت هذا فنقول :

أمّا الأوّل ، ففيه أنّ وجوب الجزء بهذا اللّحاظ عين وجوب الكلّ ، والمراد ليس هو

__________________

(١) المدّثّر : ٣.

(٢) البقرة : ٢٣٨.

(٣) الحج : ٧٧.

٤٤٩

الماهيّة هي الأقل.

____________________________________

الاتحاد في المفهوم أو التصادق بحسب المصداق ، كيف وخلافه ضروري ، بل المراد اتحادهما بحسب الانتزاع والمصلحة الباعثة للطلب ، أمّا الأوّل ؛ فلأنّ انتزاع الجزئيّة من الجزء لا يكون إلّا بعد لحاظ سائر الأجزاء ، فكما أنّ انتزاع صفة الكلّيّة من الأجزاء بعد لحاظها ، فكذلك انتزاع الجزئيّة أيضا من الجزء إنّما هو بعد لحاظها ، وأمّا الثاني ؛ فلأنّ كلّا من الكلّ والجزء بحسب المصلحة الباعثة للطلب في عرض واحد ، ولذا يرتفع الكلّ بارتفاع بعض الأجزاء ، وكيف كان فجريان الأصل في الجزء بهذا اللحاظ تابع لجريانه في الكلّ ، وقد عرفت ما في الثاني ، فكذلك الأوّل.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ وجوبه بمعنى اللّابدّيّة من لوازم الماهيّات ، نظير زوجيّة الأربعة وحلاوة التمر مثلا ، فليس من الحوادث لكي يأتي في حيّز الأصل.

وأمّا الثالث ؛ فلكونه فاقدا للحالة السابقة ؛ لأنّه ليس لنا زمان يعلم فيه عدم وجوبه المعلولي من حيث كونه متولّدا من وجوب ذي المقدّمة حتى يستصحب ، نعم ، كان مسبوقا بالعدم الأزلي لكنّه غير وجوبه بهذا العنوان.

وأمّا الرابع ؛ فلأنّ أثره ليس إلّا إثبات كون الماهيّة هي الأقلّ ، فهو من الاصول المثبتة.

وأمّا الثانية ـ أعني بها : ما يكون مجراه غير الحكم الشرعي ـ فهي بين أربعة :

منها : أصالة عدم جزئيّة الشيء المشكوك للمركّب الواقعي ، هذا ثابت على ما هو التحقيق من أنّ الجزئيّة ليست من الأحكام الوضعيّة.

ومنها : أصالة عدم صيرورته جزء لمركّب.

ومنها : أصالة عدم دخله وملاحظته في المركّب.

ومنها : أصالة عدم جزئيّة الشيء في التفات الآمر إلى هذا الجزء حين تصوّر المركّب.

وفي الكلّ مجال للمناقشة ، أمّا الأوّل ففيه أنّه فاقد للحالة السابقة ، وأمّا الثاني فهو من الاصول المثبتة ، وأمّا الثالث فالفرق بينه وبين سابقه نظير الفرق بين الوجوب والإيجاب ، فإنّ الجزئيّة من صفات الأفعال والأعيان الخارجيّة ، وهذا بخلاف الدخل فإنّه من صفات الجاعل والمخترع.

وشرح كلام المصنّف قدس‌سره في جريان هذا الأصل أنّ الآمر إذا أراد الأمر بمركّب فله عالم

٤٥٠

____________________________________

في مقام الإنشاء وجعل الوجوب وعالم في مقام اختراعه للمركّب وجعل تركيبه ، أعني به : ملاحظة عدّة أجزاء لا ارتباط بينها في أنفسها ولا وحدة تجمعها شيئا واحدا ، والأصل في طرف الأكثر وإن لم يكن جاريا بالنسبة إلى عالم الأوّل كما عرفت سابقا ، لكن لجريانه بالنسبة إلى عالم الثاني كلّ المجال ، بأن يقال : إنّ الماهيّات المركّبة لمّا كان تركيبها جعليّا واختراعيّا توقف جزئيّة شيء لها على ملاحظته معها ، فتكون الملاحظة بالنسبة إلى كلّ جزء حادثا من الحوادث ، فإذا جاءت بمقام الشكّ تأتي في حيّز الأصل ، وإذا ثبت عدمها في الظاهر يترتّب عليه كون الماهيّة المأمور بها هي الأقلّ ؛ لأنّ تعيين الماهيّة في ضمن الأقلّ يحتاج إلى جنس وجودي وهي الأجزاء المعلومة وفصل عدمي وهو عدم ملاحظة غيرها معها ، والجنس موجود بالفرض والفصل ثابت بالأصل ، فتتعيّن الماهيّة في ضمن الأقلّ.

وهذا نظير إثبات الغرّة بالأصل وانحصار الوارث في الموجود إلى غير ذلك ممّا اشتمل على جنس وجودي محقّق الثبوت وفصل عدمي مشكوك الحصول ، فإنّ الغرّة عبارة عن يوم لا يسبقه يوم ، والأوّل موجود بالعيان والثاني محرز بالأصل ، وهكذا غيرها ، وكيف كان ، فحاصل مناقشته قدس‌سره فيه أنّه معارض بالمثل.

وتقرير المعارضة : إنّ ماهيّة الأقلّ عبارة عن عدّة أجزاء لا يكون للغير مدخل فيها ، وماهيّة الأكثر عبارة عنها بلحاظ الجزء المشكوك معها ، فتكون إحدى الماهيّتين ضدّا للاخرى ، وجريان الأصل في الثاني لكي يثبت به الأوّل ليس أولى من العكس.

وفيه : إنّ ما ذكره قدس‌سره إنّما هو متعيّن في المركّبات التي كانت دفعيّة الحصول ، كما إذا خلق حيوان ولم يعلم أنّه ذات أرجل أو رجلين ، وهذا بخلاف المركّبات التدريجيّة كما في المقام ، فإنّ الملاحظة والدخل بالنسبة إلى الأقلّ متيقّن وبالنسبة إلى الجزء الزائد مشكوك ، فيندفع بالأصل.

ودعوى : إنّ عنوان المركّب في الأقلّ مغاير لعنوانه في الأكثر ، مدفوعة بأنّ هذا العنوان ما نشأ إلّا من صرف الانتزاع ، كيف والموجود في الخارج ليس إلّا صرف الأجزاء؟ فالأولى في مقام دفع هذا الأصل أن يقال : إنّه من الاصول المثبتة ، كيف والثابت به إنّما هو تعيين

٤٥١

ومنها : أصالة عدم جزئيّة الشيء المشكوك ، وفيه : إنّ جزئيّة الشيء المشكوك ـ كالسورة للمركّب الواقعي وعدمها ـ ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم.

وإن اريد أصالة عدم صيرورة السورة جزء لمركّب مأمور به ، ليثبت بذلك خلوّ المركّب المأمور به منه ، ومرجعه إلى أصالة عدم الأمر بما يكون هذا جزء منه ، ففيه ما مرّ من أنّه

____________________________________

الماهيّة في ضمن الأقلّ؟.

وأمّا الرابع ، فالفرق بينه وبين سابقه أنّ الالتفات إنّما هو من مقدّمات الدخل ، فإنّ الجاعل لا بدّ له أوّلا من الالتفات إلى الجزء لكي يدخله في المركّب ، والمناقشة فيه مذكورة في المتن. انتهى.

(ومنها : أصالة عدم جزئيّة الشيء المشكوك) وهذا الأصل من الاصول الموضوعيّة.

(وفيه : إنّ جزئيّة الشيء المشكوك ـ كالسورة للمركّب الواقعي وعدمها ـ ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم).

وتوضيح إشكال المصنّف قدس‌سره يحتاج إلى بيان معنى الجزئيّة ، فنقول : إنّ الجزئيّة لها أربعة معان كما في شرح الاستاذ الاعتمادي :

أحدها : هو المعنى المعروف المقابل للكلّيّة.

وثانيها : هو تعلّق الأمر به منضمّا إلى سائر الأجزاء.

وثالثها : هو اعتبار الوحدة بينه وبين سائر الأجزاء.

ورابعها : هو الالتفات إليه عند الالتفات إلى سائر الأجزاء. وإجراء أصالة عدم الجزئيّة في الكلّ فاسدة.

أمّا الأوّل ؛ فلأجل ما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (إنّ جزئيّة الشيء المشكوك) إلى أن قال : (ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم) حتى تجري فيها أصالة عدم الجزئيّة ؛ وذلك لأنّ الجزئيّة قبل جعل الكلّ كانت معدومة قطعا بسبب عدم الكلّ ، فالجزئيّة متأخرة في مقام الجعل عن جعل الكلّ ومنتزعة منه ، فليست لعدم الجزئيّة حالة سابقة متيقّنة عرض لها الشكّ حتى تجري فيها أصالة العدم.

وأمّا الثاني ؛ فلأجل ما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (وإن اريد أصالة عدم صيرورة السورة جزء لمركّب مأمور ، به ليثبت بذلك خلوّ المركّب المأمور به منه) إلى قوله : (ففيه ما مرّ من أنّه

٤٥٢

أصل مثبت.

وإن اريد أصالة عدم دخل هذا المشكوك في المركّب عند اختراعه له ، الذي هو عبارة عن ملاحظة عدّة أجزاء غير مرتبطة في نفسها شيئا واحدا ، ومرجعها إلى أصالة عدم ملاحظة هذا الشيء مع المركّب المأمور به شيئا واحدا ، فإنّ الماهيّات المركّبة لمّا كان تركّبها جعليّا حاصلا بالاعتبار ، وإلّا فهي أجزاء لا ارتباط بينها في أنفسها ولا وحدة تجمعها إلّا باعتبار معتبر ، توقّف جزئيّة شيء لها على ملاحظته معها واعتبارها مع هذا الشيء أمرا واحدا ، فمعنى جزئيّة السورة للصلاة ملاحظة السورة مع باقي الأجزاء شيئا واحدا ، وهذا معنى اختراع الماهيّات وكونها مجعولة ، فالجعل والاختراع فيها من حيث التصوّر والملاحظة لا من حيث الحكم حتى تكون الجزئيّة حكما شرعيّا وضعيّا في مقابل الحكم التكليفي ، كما اشتهر في ألسنة جماعة ، إلّا أن يريدوا بالحكم الوضعي هذا المعنى.

وتمام الكلام يأتي في باب الاستصحاب إن شاء الله تعالى ، عند ذكر التفصيل بين الأحكام الوضعيّة والأحكام التكليفيّة ، ثمّ إنّه إذا شكّ في الجزئيّة بالمعنى المذكور فالأصل عدمها ، فإذا ثبت عدمها في الظاهر يترتّب عليه كون الماهيّة المأمور بها هي الأقلّ ؛ لأنّ تعيّن الماهيّة في الأقلّ يحتاج إلى جنس وجودي وهي الأجزاء المعلومة ، وفصل عدمي هو عدم جزئيّة غيرها وعدم ملاحظته معها ، والجنس موجود بالفرض والفصل ثابت بالأصل ، فتعيّن المأمور به ، فله وجه.

____________________________________

أصل مثبت) ، أي : ما مرّ في الإشكال على الأصل الحكمي من أنّ تعيين الماهيّة المأمور بها في الأقلّ بالأصل لا يصحّ إلّا على القول باعتبار الأصل المثبت.

وأمّا الثالث ؛ فلأجل ما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (وإن اريد أصالة عدم دخل هذا المشكوك في المركّب عند اختراعه له ... إلى آخره) إلى أن قال : (فله وجه) جواب للشرط وهو قوله : (وإن اريد ... إلى آخره) ؛ وذلك لعدم كون الأصل ـ حينئذ ـ مثبتا ، فإنّ الماهيّة المأمور بها ـ وهي الأقلّ ـ لها جزء وجودي يكون جنسا لها وهو الأجزاء المعلومة ، وفصل عدمي وهو عدم ملاحظة غيرها معها ، فالجنس موجود بالفرض والفصل محرز بالأصل ، وبذلك يتعيّن المأمور به في الأقلّ من دون أن يكون الأصل مثبتا ، إذ المقصود من الأصل هو إثبات عدم الجزئيّة فقط لا شيء آخر حتى يقال بأنّه مثبت ، فإذا ثبت عدم جزئيّة المشكوك بالأصل

٤٥٣

إلّا أن يقال : إنّ جزئيّة الشيء مرجعها إلى ملاحظة المركّب منه ومن الباقي شيئا واحدا ، كما أنّ عدم جزئيّته راجع إلى ملاحظة غيره من الأجزاء شيئا واحدا ، فجزئيّة الشيء وكلّيّة المركّب المشتمل عليه مجعول بجعل واحد ، فالشكّ في جزئيّة الشيء شكّ في كلّيّة الأكثر ونفي جزئيّة الشيء نفي لكلّيّته ، فإثبات كلّيّة الأقلّ بذلك إثبات لأحد الضدّين بنفي الآخر ، وليس أولى من العكس.

____________________________________

فينضمّ إليه جزئيّة سائر الأجزاء المعلومة ، فتكون النتيجة هي كون المأمور به هو الأقلّ.

ثمّ أشار قدس‌سره إلى الإيراد على هذا بقوله :

(إلّا أن يقال : إنّ جزئيّة الشيء مرجعها إلى ملاحظة المركّب منه ومن الباقي شيئا واحدا ، كما أنّ عدم جزئيّته راجع إلى ملاحظة غيره من الأجزاء شيئا واحدا ... إلى آخره).

فيكون المركّب من الجزء المشكوك ومن الباقي مغايرا مع المركّب من الباقي فقط ، ثمّ إنّ الجزئيّة بمعنى ملاحظة المركّب منه ومن الباقي شيئا واحدا مع الكلّيّة مجعولة بجعل واحد ، بمعنى أنّ الجاعل يلاحظ عشرة أو تسعة أجزاء معا ويجعلها شيئا واحدا.

وتقدّم أنّ المركّب من العشرة مغاير مع المركّب من التسعة بل هما ضدّان ، فيكون ـ حينئذ ـ الشكّ في جزئيّة الشيء شكّا في كلّيّة الأكثر ، ونفي جزئيّة الشيء بالأصل نفي لكلّيّة الأكثر ، فإثبات كلّيّة الأقلّ بالأصل إثبات لأحد الضدّين بنفي الآخر.

(وليس أولى من العكس).

أي : كما يقال : إنّ الأصل عدم جزئيّة السورة بمعنى عدم ملاحظة العشرة شيئا واحدا حتى تثبت كلّيّة الأقلّ ، كذلك يقال : إنّ الأصل عدم ملاحظة التسعة شيئا واحدا حتى تثبت كلّيّة الأكثر ، فأحد الأصلين ليس بأولى من الآخر ، فما ذكر من تعيين المأمور به في الأقلّ بجنس وجودي معلوم بالوجدان وفصل عدمي ثابت بالأصل لا يرجع إلى محصّل صحيح ، إذ عرفت أنّ تعيين الماهيّة المأمور بها في الأقلّ يحصل من ملاحظة التسعة شيئا واحدا لا من مجرّد عدم جزئيّة الشيء ، فحينئذ لا يبقى نفي الجزئيّة فصلا لتعيين الأقلّ ، بل هو نفي لتعيين الأكثر ، ويلزمه وجوب الأقلّ ، هكذا جاء في شرح الاستاذ الاعتمادي بتلخيص وتوضيح منّا.

وأمّا الرابع فقد أشار إليه قدس‌سره بقوله :

٤٥٤

ومنه يظهر عدم جواز التمسّك بأصالة عدم التفات الآمر حين تصوّر المركّب إلى هذا الجزء حتى يكون بملاحظته شيئا واحدا مركّبا من ذلك ومن باقي الأجزاء ؛ لأنّ هذا ـ أيضا ـ لا يثبت أنّه اعتبر بالتركيب بالنسبة إلى باقي الأجزاء.

هذا ، مع أنّ أصالة عدم الالتفات لا تجري بالنسبة إلى الشارع المنزّه عن الغفلة ، بل لا تجري مطلقا فيما دار أمر الجزء بين كونه جزء واجبا أو جزء مستحبّا لحصول الالتفات فيه قطعا ، فتأمّل.

____________________________________

(ومنه يظهر عدم جواز التمسّك بأصالة عدم التفات الآمر حين تصوّر المركّب إلى هذا الجزء ... إلى آخره).

بمعنى أنّ الجاعل لم يكن حين تصوّر المركّب ملتفتا إلى هذا الجزء حتى يكون المركّب ما هو المركّب منه ومن باقي الأجزاء ، فيكون مرجع الشكّ في جزئيّة الشيء إلى الشكّ في الالتفات إليه ، وتجري فيه أصالة عدم الالتفات ، فيترتّب عليه تعيين المأمور به في الأقلّ ، إلّا أنّه يرد عليه :

أوّلا : ما تقدّم من الإيراد في الوجه الثاني ، وهو إثبات أحد الضدّين بنفي الآخر بالأصل ؛ وذلك لأنّ جزئيّة السورة مثلا وكون الماهيّة المأمور بها هو الأكثر مبنيّة على التفات الجاعل إلى العشرة وعدم الجزئيّة ، وكون الماهيّة المأمور بها هو الأقلّ مبنيّ على الالتفات إلى التسعة ، فحينئذ تتعارض أصالة عدم الالتفات إلى هذا الجزء المشكوك الراجعة إلى عدم الالتفات إلى العشرة ، كي يثبت به تعيين المأمور به في الأقلّ مع أصالة عدم الالتفات إلى التسعة ، كي يثبت بها تعيين المأمور به في الأكثر ، ومن الواضح أنّه ليس أحد الأصلين أولى من الآخر.

وثانيا : ما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (مع أنّ أصالة عدم الالتفات لا تجري بالنسبة إلى الشارع المنزّه عن الغفلة) ؛ لأنّ المفروض أنّ الجاعل في المقام هو الشارع المنزّه عن الغفلة ، فكيف يجري في حقّه أصالة عدم الالتفات المستلزم للغفلة؟.

(بل لا تجري مطلقا) ، أي : لا بالنسبة إلى الشارع ولا بالنسبة إلى غيره (فيما دار أمر الجزء بين كونه جزء واجبا أو جزء مستحبا لحصول الالتفات فيه قطعا ، فتأمّل) لعلّه إشارة إلى ردّ ما ذكره من عدم جريان أصالة عدم الالتفات فيما دار أمر الجزء بين كونه واجبا أو مستحبا.

٤٥٥

____________________________________

وحاصل الردّ : إنّ حصول القطع بالالتفات ـ حينئذ ـ مبني على كفاية جعل واحد في الأجزاء الواجبة والمستحبة ، وليس الأمر كذلك ، بل كلّ منهما يحتاج إلى جعل على حدة ، فالالتفات إلى الأجزاء الواجبة في مقام الجعل مغاير للالتفات إلى الأجزاء المستحبّة ، وحينئذ يكون الجاري في تردّد الجزء بين كونه واجبا أو مستحبا أصلان متعارضان لا أصل واحد ، حتى يقال بعدم جريانه بعد العلم بالالتفات ، إلّا أنّ خصوصيّة الالتفات مشكوكة فيجري فيها الأصلان معا ، أي : أصالة عدم الالتفات إلى الأجزاء الواجبة بالخصوص وأصالة عدم الالتفات إلى الأجزاء المستحبة كذلك.

أو هو إشارة إلى ردّ ما ذكره من أنّ جريان أصالة عدم الالتفات تنافي تنزّه الشارع عن الغفلة.

وحاصل الردّ : إنّ المنفي بالأصل هو الالتفات الخاصّ الذي يقع مقدّمة لاعتبار وحدة الأجزاء ، ونفي هذا الالتفات لا يستلزم الغفلة ، وبذلك لا يتنافى مع أدلّة تنزّه الشارع عن الغفلة ، فتأمّل.

٤٥٦

المسألة الثانية

إجمال الدليل

ما إذا كان الشكّ في الجزئيّة ناشئا من إجمال الدليل ، كما إذا علّق الوجوب في الدليل اللفظي بلفظ مردّد بأحد أسباب الإجمال بين مركّبين يدخل أقلّهما جزء تحت الأكثر ، بحيث يكون الآتي بالأكثر آتيا بالأقلّ.

والإجمال قد يكون في المعنى العرفي ، كأن وجب غسل ظاهر البدن ، فيشكّ في أنّ الجزء الفلاني ـ كباطن الاذن أو عكنة البطن ـ من الظاهر أو الباطن ، وقد يكون في المعنى الشرعي كالأوامر المتعلّقة في الكتاب والسنّة بالصّلاة وأمثالها ، بناء على أنّ هذه الألفاظ

____________________________________

(المسألة الثانية : ما إذا كان الشكّ في الجزئيّة ناشئا من إجمال الدليل ، كما إذا علّق الوجوب في الدليل اللفظي بلفظ مردّد بأحد أسباب الإجمال) كأن يشترك اللّفظ بين معنيين ويتردد المراد بين المعنيين مثلا(بين مركّبين يدخل أقلّهما جزء تحت الأكثر ، بحيث يكون الآتي بالأكثر آتيا بالأقلّ) إشارة إلى ما هو محلّ الكلام من المراد بالأقلّ ، فإنّ الأقلّ ؛ تارة : يلاحظ مشروطا بعدم الزيادة بنحو (بشرط لا) والأكثر في مقابله يلاحظ بشرط الزيادة بنحو (بشرط شيء).

ومن المعلوم أنّ الماهيّة (بشرط لا) كالصّلاة قصرا مباينة معها(بشرط شيء) كالصّلاة تماما ، فالأقلّ والأكثر بهذا المعنى داخلان في المتباينين ، ولا يحصل الاحتياط بإتيان الأكثر ، إذ الآتي به ليس آتيا بالأقلّ.

واخرى : يلاحظ غير مشروط بعدم الزيادة ، بحيث إذا تحقّقت الزيادة فعلا فإنّها لا تكون مبطلة على تقدير كون الواجب في الواقع هو الأقلّ ، وهنا يمكن التمسّك بالاحتياط والإتيان بالأكثر ؛ لأنّ الآتي به هنا يكون آتيا بالأقلّ أيضا. هذا هو محلّ الكلام هنا.

(والإجمال قد يكون في المعنى العرفي).

والمراد بالمعنى العرفي هو المقابل للمعنى الشرعي ، فيشمل العرفي الخاصّ والعامّ بل واللّغة أيضا ، (كأن وجب غسل ظاهر البدن ، فيشكّ في أنّ الجزء الفلاني ، كباطن الاذن أو عكنة البطن) بالضمّ ، وهو ما انطوى من لحم البطن ويطلق عليه «پيچ شكم» بالفارسية.

٤٥٧

موضوعة للماهيّة الصحيحة ، يعني : الجامعة لجميع الأجزاء الواقعيّة.

والأقوى هنا ـ أيضا ـ جريان أصالة البراءة ، لعين ما أسلفناه في سابقه من العقل والنقل.

____________________________________

(وقد يكون في المعنى الشرعي كالأوامر المتعلّقة في الكتاب والسنّة بالصلاة وأمثالها ... إلى آخره) وإجمال أسامي العبادات ـ كالصّلاة وأمثالها ـ مبنيّا على القول بكون ألفاظ العبادات موضوعة للماهيّة الصحيحة لا الأعمّ ، والصحيح العبادي هو تامّ الأجزاء والشرائط على قول وتامّ الأجزاء فقط على قول آخر.

والمراد من الأجزاء على كلا القولين هو الركن المقوّم للعبادة بشكل يكون انتفاء أحدها موجبا لانتفاء صدق المركّب عليه.

فمثلا إذا فقدت الصلاة جزء من أجزائها الركنيّة يشك في أنّها تسمّى صلاة بعد فقدانها لهذا الجزء أم لا ، وبذلك يصبح لفظ الصلاة مجملا بمعنى أنّ حقيقة الصلاة هل هي عبارة عن الماهيّة المركّبة من تسعة أجزاء حتى تصدق على فاقدة الاستعاذة مثلا ، أو هي مركبّة من عشرة أجزاء وعندها لا تصدق على فاقدة الاستعاذة؟.

فهنا نشكّ ويسري هذا الشكّ في جزئيّة شيء لها شكّا في صدق الصلاة على فاقدة أو عدمه ، هذا الصدق مساوق لصحتها أو بطلانها ، هذا بخلاف القول بكون ألفاظ العبادات موضوعة للأعمّ من الصحيح والفاسد ، حيث يرجع الشكّ في جزئيّة شيء للمأمور به إلى الشكّ في تقييد المطلق أو عدمه ، لا إلى الشكّ في الصدق وعدمه ؛ وذلك لفرض الصدق وتحقّق الموضوع له حتى مع فقدان الجزء ، وبذلك لا يبقى إجمال في متعلّق الأوامر.

ثمّ إنّ الفرق بين ما ذكره المصنّف قدس‌سره من مثال الإجمال في المعنى العرفي وبين ما ذكره من مثال الإجمال في المعنى الشرعي ، حيث يكون الإجمال في لفظ ظاهر البدن ناشئا من التركيب كما في قوله تعالى : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ)(١) حيث يتردّد حقّ العفو بين الزوج ومطلق الولي ، وهذا بخلاف الإجمال في لفظ الصلاة ، فإنّ الإجمال في هذا المثال يكون في الصلاة بنفسها ، هكذا في التعليقة بتصرّف منّا.

ثمّ إنّ المصنّف قدس‌سره قال : (والأقوى هنا ـ أيضا ـ جريان أصالة البراءة ، لعين ما أسلفناه في

__________________

(١) البقرة : ٢٣٧.

٤٥٨

وربّما يتخيّل جريان قاعدة الاشتغال هنا ، وإن جرت أصالة البراءة في المسألة المتقدّمة ، لفقد الخطاب التفصيلي المتعلّق بالأمر المجمل في تلك المسألة ووجوده هنا ، فيجب الاحتياط بالجمع بين محتملات الواجب المجمل ، كما هو الشأن في كلّ خطاب تعلّق بأمر مجمل.

ولذا فرّعوا على القول بوضع الألفاظ للصحيح ـ كما هو المشهور ـ وجوب الاحتياط في أجزاء العبادات وعدم جواز إجراء أصل البراءة فيها.

____________________________________

سابقه) ، أي : في مورد فقدان النصّ ، ويجري ـ أيضا ـ في مسألة إجمال النصّ كما جرى في مسألة فقدان النصّ عقلا ونقلا ، فتأمّل.

(وربّما يتخيّل جريان قاعدة الاشتغال هنا ، وإن جرت أصالة البراءة في المسألة المتقدّمة ... إلى آخره).

ووجه التخيّل ، هو الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة ؛ وذلك لأنّ الخطاب والبيان كان منتفيا في مسألة فقدان النصّ ، فيجري فيها حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، وحكم الشرع برفع ما لا يعلم ، وهذا بخلاف مسألة إجمال الدليل حيث إنّ الخطاب موجود ومعلوم فيها بالتفصيل.

غاية الأمر يكون الإجمال في متعلّق الخطاب ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (ووجوده هنا) ، أي : وجود الخطاب في هذه المسألة ، وهو قاطع للعذر وكاف في كونه بيانا ، والإجمال لا يصلح للعذر بعد ثبوت التكليف بالخطاب المعلوم تفصيلا ، وتمكّن المكلّف من امتثاله ولو بالاحتياط.

(فيجب الاحتياط بالجمع بين محتملات الواجب المجمل ، كما هو الشأن في كلّ خطاب تعلّق بأمر مجمل) ، أي : يجب الاحتياط بالجمع بين محتملات الواجب إن كان متردّدا بين المتباينين ، ويجب الاحتياط بإتيان الأكثر إن كان متردّدا بين الأقلّ والأكثر ، كما نحن فيه.

(ولذا فرّعوا على القول بوضع الألفاظ للصحيح ـ كما هو المشهور ـ وجوب الاحتياط في أجزاء العبادات ... إلى آخره) ، أي : لما ذكرنا من وجوب الاحتياط في مورد إجمال متعلّق الخطاب فرّعوا وجوب الاحتياط في أجزاء العبادات على القول بوضع ألفاظها للصحيح المستلزم لإجمال متعلّق الخطاب ، كما عرفت.

٤٥٩

وفيه : إنّ وجوب الاحتياط في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر ممنوع ؛ لأنّ المتيقّن من مدلول هذا الخطاب وجوب الأقلّ بالوجوب المردّد بين النفسي والمقدّمي ، فلا محيص عن الإتيان به ؛ لأنّ تركه مستلزم للعقاب ، وأمّا وجوب الأكثر فلم يعلم من هذا الخطاب فيبقى مشكوكا ، فسيجيء فيه ما مرّ من الدليل العقلي والنقلي.

والحاصل : إنّ مناط وجوب الاحتياط عدم جريان أدلّة البراءة في واحد معيّن من المحتملين ، لمعارضته بجريانها في المحتمل الآخر ، حتى تخرج المسألة بذلك عن مورد البراءة ويجب الاحتياط فيها ، لأجل تردّد الواجب المستحقّ على تركه العقاب بين أمرين لا معيّن لأحدهما ، من غير فرق في ذلك بين وجود خطاب تفصيلي في المسألة متعلّق بالمجمل وبين وجود خطاب مردّد بين خطابين وإذا فقد المناط المذكور وأمكن البراءة في واحد معيّن لم يجب الاحتياط ، من غير فرق في ذلك بين الخطاب التفصيلي وغيره.

____________________________________

(وفيه : إنّ وجوب الاحتياط في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر ممنوع) ؛ وذلك لما تقدّم من انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بالنسبة إلى الأقلّ وشكّ بدوي بالنسبة إلى الأكثر ، فتجري البراءة في وجوب الأكثر.

نعم ، يجب الاحتياط في الخطاب المجمل المردّد متعلّقه بين الأمرين المتباينين ؛ وذلك لعدم انحلال العلم الإجمالي فيه ، فحينئذ يقتضي العلم الإجمالي وجوب الاحتياط.

(والحاصل : إنّ مناط وجوب الاحتياط عدم جريان أدلّة البراءة في واحد معيّن من المحتملين ، لمعارضته بجريانها في المحتمل الآخر ، حتى تخرج المسألة بذلك عن مورد البراءة ويجب الاحتياط فيها).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره هو أنّ مناط وجوب الاحتياط ليس وجود الخطاب التفصيلي المتعلّق بالأمر المجمل ، بل هو أحد أمرين :

أوّلهما : كون العلم الإجمالي مانعا من جريان البراءة في مورده رأسا ، فلا تشمل ـ حينئذ ـ أدلّة البراءة لمورد العلم الإجمالي ، كما هو مذهب المصنّف قدس‌سره ، ثمّ يجب الاحتياط نظرا إلى العلم الإجمالي بثبوت التكليف.

وثانيهما : هو تعارض الأصل الجاري في أحد المشتبهين مع الأصل الجاري في الآخر وتساقطهما بالتعارض ، ثمّ يجب الرجوع إلى الاحتياط نظرا إلى العلم الإجمالي بالتكليف ،

٤٦٠