دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

____________________________________

قلنا دعوتان ؛ أمّا الثانية بالنسبة إلى شقّها الثاني ، فلما عرفت آنفا ، وبالنسبة إلى شقّها الأوّل ؛ فلأنّ الأجزاء المقوّمة عند الأعمّي بمنزلة مطلق الأجزاء عند الصحيحي ، فكما أنّ المرجع على القول بالصحيح في الشكّ في مطلق الأجزاء هو البراءة على المختار فكذلك الأجزاء المقوّمة على القول بالأعمّ.

هذا واضح ، إنّما الإشكال في تحقيق الشبهة الحكميّة بالنسبة إلى تحقّق الأجزاء المقوّمة عند الأعمّي ، لكي يرجع فيها إلى البراءة ؛ وذلك لأنّ لأهل القول بالأعمّ في تفسير الأجزاء المقوّمة وجهين :

أحدهما : ما هو المعروف بينهم من أنّها عبارة عن معظم أجزاء لا تتمّ الهيئة الخارجيّة عند العرف بدونها ، فإن قامت بعشرة كانت هي الأجزاء المقوّمة ، وإن قامت بعشرين فكذلك ، وهكذا ، فلا خصوصيّة لبعض الأجزاء دون بعض ، بل العبرة بما قامت به الهيئة عند العرف نظير سائر المركّبات الخارجيّة مثل الدار ، والسرير ، والأيارج ، وأمثالها ، ولا ينافي ذلك كون المخترع شرعيّا ؛ لأنّ اللفظ إنّما وضع عند المخترع للجامع ، إلّا أنّ العرف أطلقه على ناقصة الأجزاء تسامحا وتوسّعا كما في باب المقادير.

وثانيهما : كونها عبارة عن عدّة أجزاء مخصوصة معيّنة في الواقع دون كلّ ما تتحقّق به الهيئة عند العرف. إذا عرفت هذا فنقول :

إنّ المناط في الأجزاء المقوّمة إن كان هو الأوّل فلا مسرح للشبهة الحكميّة فيها ، كيف والمرجع حينئذ هو العرف؟ كما في سائر المركّبات ، وليس العرف بغائب عنّا ، لكي يطرأ الشكّ في المدلول عندهم.

نعم ، يمكن تعقّلها من باب الشكّ في الاندراج ، كماء السيل بالنسبة إلى الماء المطلق ، وإن كان المناط فيها هو الثاني ، فلا شبهة في تعقّل الشبهة الحكميّة فيها ، كيف وكون تلك الأجزاء المخصوصة معيّنة في الواقع لا ينافي حصول الشكّ لنا في عددها؟ وكيف كان ، فإن فرض الشكّ في الأجزاء المقوّمة فحالها حال مطلق الأجزاء على القول بالصحيح. هذا كلّه في الدعوى الثانية.

وأمّا الاولى ، فنقول : إنّ إثباتها مبني على بيان دقيقة ، وهي أنّ ماهيّة الصلاة مثلا عند

٤٨١

____________________________________

الأعمّي ليست إلّا عبارة عن الأجزاء المقوّمة ، وسائر الأجزاء الأخر إنّما اعتبرت شروطا لها لا شطورا ، وجزئيّتها إنّما هي بالنسبة إلى الفرد ، فهي بالنسبة إلى الفرد شطور وبالنسبة إلى الماهيّة شروط ، كما في سائر المركّبات الخارجيّة ، فإنّ الشبكة في السرير ـ وما هو بمثابتها من الأجزاء غير المقوّمة ـ إنّما هي جزء الفرد دون ماهيّة السرير ، وبالنسبة إليها لا يكون إلّا بمقام الشرط ، وإذا عرفت أنّ الأجزاء غير المقوّمة بمزلة الشروط ، فنقول :

إنّ مسألة الشكّ في الشرطيّة ليست بمثابة الشكّ في الجزئيّة ، بل في جريان البراءة في تلك المسألة إشكال ليس في هذه ، كما سيأتي بيانه عند التعرّض لها ، ولذا ذهب جمع إلى الاحتياط في تلك المسألة مع كونهم قائلين بالبراءة في هذه. انتهى.

٤٨٢

المسألة الثالثة

تكافؤ النصّين

فيما إذا تعارض نصّان متكافئان في جزئيّة شيء لشيء وعدمها ، كأن يدلّ أحدهما على جزئيّة السورة والآخر على عدمها. ومقتضى إطلاق أكثر الأصحاب القول بالتخيير بعد التكافؤ ثبوت التخيير هنا.

لكن ينبغي أن يحمل هذا الحكم منهم على ما إذا لم يكن هناك إطلاق يقتضي أصالة عدم تقييده عدم جزئيّة هذا المشكوك ، كأن يكون هنا إطلاق معتبر للأمر بالصلاة بقول مطلق ، وإلّا فالمرجع بعد التكافؤ إلى هذا المطلق ، لسلامته عن المقيّد بعد ابتلاء ما يصلح لتقييده بمعارض مكافئ.

وهذا الفرض خارج عن موضوع المسألة ؛ لأنّها كأمثالها من مسائل هذا المقصد مفروضة فيما إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي سليم عن المعارض متكفّلا لحكم المسألة حتى تكون موردا للاصول العمليّة.

____________________________________

(المسألة الثالثة : فيما إذا تعارض نصّان متكافئان في جزئيّة شيء لشيء وعدمها ، كأن يدلّ أحدهما على جزئية السورة والآخر على عدمها) ، فإنّ مقتضى إطلاق أكثر الأصحاب القول بالتخيير في باب تعارض النصّين بعد تساويهما من جميع الجهات المرجّحة.

ففي المقام ـ أيضا ـ يجب أن نقول بالتخيير كذلك ؛ لأنّه من نفس القبيل ، كما حكموا به أيضا في مورد الشكّ في المكلّف به المردّد بين المتباينين ، وغيره ، إلّا أنّ الحكم بالتخيير فيما نحن فيه إنّما هو فيما إذا لم يكن إطلاق معتبر ، وإلّا فيجب الرجوع إليه عند الشكّ ، إذ لا يجوز الرجوع إلى التخيير الذي هو من الاصول العمليّة مع فرض وجود الإطلاق الذي هو من الأدلّة الاجتهاديّة ؛ وذلك لتقدّم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(لكن ينبغي أن يحمل هذا الحكم منهم على ما إذا لم يكن هناك إطلاق يقتضي أصالة عدم تقييده عدم جزئيّة هذا المشكوك) ، بأن يكون وجوب المركّب مستفادا من دليل لبّي كالإجماع مثلا.

٤٨٣

وهذا الفرض خارج عن موضوع المسألة ؛ لأنّها كأمثالها من مسائل هذا المقصد

____________________________________

وأمّا لو كان هناك إطلاق ، بأن يكون وجوب المركّب مستفادا من دليل لفظي مطلق كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(١) على القول بوضع ألفاظ العبادات للأعمّ ، وفرض ورود الخطاب المزبور في مقام البيان ، لوجب الرجوع إليه بعد تساقط الجزءين المتعارضين بالتعارض ، وسلامة المطلق عن المقيّد بعد ابتلاء ما يصلح للتقييد بالمعارض المكافئ.

فحينئذ يبقى لنا دليل اجتهادي سليم من المعارض متكفّل لحكم المسألة وهو الإطلاق ، وبوجوده لا مجال للتخيير ، بل هذا الفرض خارج عن موضوع المسألة ؛ وذلك لعدم جريان الأصل العملي مع موجود الدليل الاجتهادي.

وقد أشار المرحوم غلام رضا قدس‌سره في هذه المسألة ما مضمونه : إنّ الغرض من التعرض لهذه المسألة في باب البراءة ـ كما في المقام وباب الشكّ في التكليف بكلا قسميه من الشبهة التحريميّة والوجوبيّة ـ إنّما هو لمجرّد إبطال أنّ المرجع فيها هو الاحتياط ، دون إثبات أنّ المرجع بعد بطلانه ما هو؟.

كيف والمتكفّل لهذا إنّما هو باب التعادل والترجيح؟ فالتعرض لها في المواضع الثلاثة إنّما هو مسبوق لإثبات الجهة الاولى دون الثانية.

وكيف كان ، فالحكم في هذه المسألة بعينه ما تقدّم في المسألة الماضية حسب الأقوال والأدلّة والمختار.

إلى أن قال في ذيل قول المصنّف قدس‌سره : (لكن ينبغي أن يحمل هذا الحكم منهم ... إلى آخره) ، ما هذا نصه :

أقول : قد استدلّ لما استظهره من المشهور بوجهين :

أحدهما : ما في المتن من أنّ خروج هذا القسم من المتعارضين المتكافئين عن تحت أخبار التخيير خروج موضوعي ؛ وذلك لأنّ المأخوذ في موضوع تلك الأخبار عدم وجود الدليل الشرعي في الواقعة ، والدليل العامّ والمطلق الفوقاني الموجود فيها دليل شرعي فيكون واردا على هذه الأخبار.

__________________

(١) البقرة : ١١٠.

٤٨٤

مفروضة فيما إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي سليم عن المعارض متكفّلا لحكم المسألة حتى تكون موردا للاصول العمليّة.

____________________________________

ومنه يظهر وجه الفرق بين الاصول العمليّة والأصل اللّفظي ؛ وذلك لأنّ تلك الاصول لمّا كانت عمليّة مقرّرة لبيان حكم العمل في المسألة الفرعيّة عند فقد الدليل الشرعي فيها ، فتكون أخبار التخيير واردة عليها ، كيف وهي مجعولة في مورد هذه الاصول؟ وهذا بخلاف الأصل اللّفظي ، وجوابه أيضا في المتن ، وشرحه أنّ أخبار التخيير واردة على ذلك الدليل الفوقاني ، ولنا في إثبات وروده مقدّمتان ـ لا بدّ لمدّعي العكس من منع احداهما ، وأنّى له بذلك؟ ـ :

الاولى : عموم أخبار التخيير وشمولها للمقام لوجود المقتضي وفقدان المانع ، أمّا الأوّل فهو إطلاقات هذه الأخبار ، وأمّا الثاني ؛ فلأنّ ما يتخيّل مانعا بين أمرين :

أحدهما : إنّ جعل التخيير إنّما هو في مورد التحيّر ، وبعد وجود ذلك الدليل لم يبق تحيّر ، وهو مدفوع بأنّ التخيير المأخوذ في مورده التحيّر إنّما هو التخيير العقلي دون الشرعي ، وليس المأخوذ في مورد الثاني إلّا صرف تعارض الخبرين بطريق التكافؤ.

وثانيهما : إنّ جعل التخيير إنّما في صورة عدم الدليل ، والدليل موجود في المقام وهو مدفوع بالمنع ، كيف ولو بنى على ذلك يلزم كون هذه الأخبار الشائعة المستفيضة نادرة المورد ، بل تكون فاقدة له؟ فإنّه ليس لنا خبران متعارضان إلّا وفوقهما عموم من العمومات ، وهذا ليس بخفي لمن كان له أدنى اطّلاع في الفقه.

والثانية : بعد ثبوت العموم المزبور كون أخبار التخيير واردة على ذلك الدليل دون العكس ؛ وذلك لأنّ الخبر الخاصّ المخالف لو فرض وجوده عاريا عن المعارض فلا محالة يكون مقدّما على ذلك الدليل ، كيف وبناء العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد بمكان من البداهة؟ وكذلك بعد ابتلائه بالمعارض ؛ لأنّه بعد عروض التعارض لم يحصل تغيير في حالته ، إلّا كونه قبل التعارض واجب العمل وبعده جائز العمل ، وإلّا فلم يخرج عن موضوع الحجّية ، ومجرّد هذا التغيير لا يوجب التأمّل فيما كان ثابتا له قبل ذلك من التقديم.

وثانيهما : إنّ ذلك الدليل الفوقاني ـ إمّا من العمومات الكتابيّة أو السنّة القطعيّة نبويّة ، أو

٤٨٥

فإن قلت : فأيّ فرق بين وجود هذا المطلق وعدمه؟ وما المانع من الحكم بالتخيير هنا كما لو لم يكن مطلق؟.

فإنّ حكم المتكافئين إن كان هو التساقط ، حتى أنّ المقيّد المبتلى بمثله بمنزلة العدم فيبقى المطلق سالما ، كان اللازم في صورة عدم وجود المطلق التي حكم فيها بالتخيير هو التساقط والرجوع إلى الأصل المؤسس فيما لا نصّ فيه من البراءة والاحتياط على الخلاف.

وإن كان حكمهما التخيير كما هو المشهور نصّا وفتوى ، كان اللازم عند تعارض المقيّد للمطلق الموجود بمثله الحكم بالتخيير هاهنا ، لا تعيين الرجوع إلى المطلق الذي هو بمنزلة تعيين العمل بالخبر المعارض للمقيّد.

____________________________________

إماميّة ، أو أخبار الآحاد الظنيّة ـ لا إشكال في كونه مرجّحا على الأوّلين ؛ لما نصّ عليه في أخبار الترجيح من وجوب الأخذ بما وافق الكتاب أو السنّة القطعيّة بناء على عمومها للمقام كما هو الحقّ.

فإنّ تقديم ما وافق لا يختصّ بما إذا كانت النسبة بين المتعارضين هي التباين ، لكي يحصل التوافق بين الموافق منهما وعموم الكتاب في تمام المدلول ، بل يشمل ما إذا كان توافقهما في بعض المدلول ، كما في العامّ والخاصّ ، كيف والأوّل مستلزم لحمله على المورد النادر؟.

وأمّا الثالث ، فهو ملحق بهما بالإجماع المركّب لعدم القول بالفصل في كون الدليل الفوقاني مرجّحا بين كونه من الكتاب أو السنّة القطعيّة ، وبين كونه من أخبار الآحاد ، وإن أبيت عن تحقّق الإجماع المركّب فنلتزم بالتفصيل ، ولا نتحاشى عنه إذا وافقنا الدليل. انتهى.

(فإن قلت : فأيّ فرق بين وجود هذا المطلق وعدمه؟ وما المانع من الحكم بالتخيير هنا كما لو لم يكن مطلق؟) ، أي : لا فرق بين وجود المطلق وعدمه في مورد تعارض الدليلين على نحو التكافؤ ؛ وذلك لأنّ حكم المتعارضين على نحو التكافؤ لا يخلو من أحد احتمالين :

الأوّل : هو التساقط والرجوع إلى الإطلاق إن كان ، أو إلى الأصل العملي من البراءة أو الاحتياط ـ على خلاف ـ إن لم يكن هناك إطلاق.

٤٨٦

قلت : أمّا لو قلنا بأنّ المتعارضين مع وجود المطلق غير متكافئين ؛ لأنّ موافقة أحدهما للمطلق الموجود مرجّح له ، فيؤخذ به ويطرح الآخر ، فلا إشكال في الحكم وفي خروج مورده عن محلّ الكلام.

وإن قلنا إنّهما متكافئان والمطلق مرجع لا مرجّح ، نظرا إلى كون أصالة عدم التقييد تعبّديّا ، لا من باب الظهور النوعي ؛ فوجه عدم شمول أخبار التخيير لهذا القسم من المتكافئين دعوى ظهور اختصاص تلك الأخبار بصورة عدم وجود الدليل الشرعي في تلك الواقعة ، وأنّها مسوقة لبيان عدم جواز طرح قول الشارع في تلك الواقعة والرجوع إلى الاصول العقليّة والنقليّة المقرّرة لحكم صورة فقدان قول الشارع فيها.

____________________________________

والثاني : هو التخيير من جهة رعاية الحجّة المحتملة بالنسبة إلى كلّ منهما مع العلم بوجودها بينهما من دون فرق بين وجود المطلق وعدمه ، فما تقدّم من الرجوع إلى إطلاق المطلق مع وجوده ليس في محلّه ، مع أنّ تعيين الرجوع إلى المطلق يكون بمنزلة تعيين العمل بالخبر المعارض للمقيّد ، فيكون هذا ترجيحا للخبر النافي للجزئيّة على الخبر المثبت لها ، مع أنّ المفروض هو التكافؤ ، فتأمّل!!.

(قلت : أمّا لو قلنا بأنّ المتعارضين مع وجود المطلق غير متكافئين ... إلى آخره).

الجواب ، هو أنّ المتعارضين مع فرض وجود المطلق لا يخلو عن أحد أمرين أيضا :

الأوّل : هو خروجهما عن كونهما متكافئين ؛ لأنّ المطلق الموافق لأحدهما مرجّح له على فرض اعتبار المطلق من باب الظهور المفيد للظنّ النوعي ، فحينئذ يؤخذ بما هو الموافق للمطلق ويطرح الآخر ، وهذا الفرض خارج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ محلّ الكلام في الحكم بالتخيير هو صورة التكافؤ.

الثاني : هو عدم خروجهما عن التكافؤ بموافقة المطلق لأحدهما ، بأن يكون اعتبار المطلق من باب التعبّد ، فلا يكون ـ حينئذ ـ المطلق مرجّحا لما يأتي في باب التعارض من أنّ الأصل التعبّدي لا يوجب ترجيح ما يوافقه من أحد المتعارضين.

إلّا أنّ الإطلاق يكون مرجعا لكونه حاكما على التخيير ؛ وذلك بدعوى اختصاص أخبار التخيير بصورة عدم وجود الدليل الشرعي المبيّن لحكم المسألة المتعارض فيها النصّان.

٤٨٧

والمفروض وجود قول الشارع هنا ، ولو بضميمة أصالة الإطلاق المتعبّد بها عند الشكّ في المقيّد.

والفرق بين هذا الأصل وبين تلك الاصول الممنوع في هذه الأخبار عن الرجوع إليها وترك المتكافئين ، هو أنّ تلك الاصول عمليّة فرعيّة مقرّرة لبيان العمل في المسألة الفرعيّة عند فقد الدليل الشرعي فيها ، وهذا الأصل مقرّر لإثبات كون الشيء ـ وهو المطلق دليلا ـ وحجّة عند فقد ما يدلّ على عدم ذلك.

فالتخيير مع جريان هذا الأصل تخيير مع وجود الدليل الشرعي المعيّن لحكم المسألة المتعارض فيها النصّان ، بخلاف التخيير مع جريان تلك الاصول ، فإنّه تخيير بين المتكافئين عند فقد دليل ثالث في موردهما ، هذا.

____________________________________

(والمفروض) في المقام هو (وجود قول الشارع) المعيّن لحكم المسألة وهو : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، (ولو بضميمة أصالة الإطلاق المتعبّد بها عند الشكّ في المقيّد) ، وبذلك ظهر الفرق بين وجود المطلق وعدمه بناء على احتمال التخيير في باب التعارض حيث يحكم بالتخيير فيما إذا لم يكن هناك إطلاق وإلّا فلا.

وبذلك يظهر ـ أيضا ـ أنّ ما ذكر في الإشكال من عدم الفرق واضح الفساد ، إلّا أنّه يرد هنا سؤال عن الفرق بين هذا الأصل اللّفظي وبين سائر الاصول العمليّة بعد كون اعتبارهما من باب التعبّد وعدم الترجيح بهما.

ويقول السؤال : لما ذا يحكم بالتخيير في مورد سائر الاصول العمليّة ولا يحكم به في مورد هذا الأصل؟ وإنّما يجب الرجوع إلى الإطلاق مع كون كلّ واحد منهما دليلا شرعيّا تعبّديا ، فلو كان مورد التخيير هو عدم وجود الدليل الشرعي لما يجري في كلا الموردين ، بل كان الأصلان حاكمين على التخيير ، فلا بدّ من الفرق بين هذا الأصل وسائر الاصول ، حتى يكون موجبا لكون أخبار التخيير حاكمة على سائر الاصول ، كالبراءة والاحتياط ، ومحكومة لأصالة الإطلاق.

وخلاصة الفرق كما في بحر الفوائد وشرح الاستاذ الاعتمادي ، هو أنّ موضوع تلك الاصول العمليّة عدم الدليل الاجتهادي في المسألة ، ومفاد أخبار التخيير هو البناء على كون أحد المتعارضين دليلا اجتهاديّا ، فينتفي حينئذ معه موضوع تلك الاصول ، فتكون

٤٨٨

ولكنّ الإنصاف : إنّ أخبار التخيير حاكمة على هذا الأصل وإن كان جاريا في المسألة الاصوليّة ، كما أنّها حاكمة على تلك الاصول الجارية في المسألة الفرعيّة ؛ لأنّ مؤدّاها بيان حجيّة أحد المتعارضين كمؤدّى أدلّة حجّيّة الأخبار.

ومن المعلوم حكومتها على مثل هذا الأصل ، فهي دالّة على مسألة اصوليّة ، وليس مضمونها حكما عمليّا صرفا.

فلا فرق بين أن يرد في مورد هذا الدليل المطلق : «اعمل بالخبر الفلاني المقيّد لهذا المطلق» وبين قوله : «اعمل بأحد هذين المقيّد أحدهما له».

____________________________________

أخبار التخيير واردة أو حاكمة على تلك الاصول على الخلاف في المبنى.

وهذا بخلاف أصالة الإطلاق حيث إنّ مفادها البناء على وجود قول الشارع وهو : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(١) مثلا في المسألة التي تعارض فيها النصّان ، فتكون واردة أو حاكمة على أخبار التخيير ؛ لأنّ موضوعها هو المتحيّر الفاقد للدليل في المسألة ، وأصالة الإطلاق تجعل قول الشارع دليلا مخرجا عن التحيّر في تلك المسألة.

(ولكنّ الإنصاف : إن أخبار التخيير حاكمة على هذا الأصل وإن كان جاريا في المسألة الاصوليّة) وإن كان اعتباره من باب الظنّ والظهور دون التعبّد ؛ لأنّ الإطلاق معلّق على عدم الدليل على التقييد ، وأخبار التخيير تقتضي حجيّة الخبر المخالف للمطلق ، فتجعله مقيّدا ، فكيف يرجع إلى الإطلاق بعد ثبوت التقييد بأخبار التخيير؟ ، فتجويز الأخذ بالخبر المخالف بمقتضى التخيير ينافي البناء على أصالة الإطلاق.

وبالجملة ، إنّ أخبار التخيير كما تكون حاكمة على الاصول العمليّة الجارية في المسألة الفرعيّة كذلك تكون حاكمة على هذا الأصل وإن كان جاريا في المسألة الاصولية ، إذ مع الدليل على التقييد لا تجري أصالة الإطلاق ، سواء كان الدليل على التقييد على نحو التخيير أو على نحو التعيين ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(فلا فرق بين أن يرد في مورد هذا الدليل المطلق : «اعمل بالخبر الفلاني المقيّد لهذا المطلق») ، كخبر زرارة الدالّ على وجوب الاستعاذة مثلا (وبين قوله : «اعمل بأحد هذين

__________________

(١) البقرة : ١١٠.

٤٨٩

فالظاهر أنّ حكم المشهور في المقام بالرجوع إلى المطلق ، وعدم التخيير مبنيّ على ما هو المشهور فتوى ونصّا من ترجيح أحد المتعارضين بالمطلق أو العامّ الموجود في تلك المسألة ، كما يظهر من ملاحظة النصوص والفتاوى.

وسيأتي توضيح ما هو الحقّ من المسلكين في باب التعادل والتراجيح إن شاء الله تعالى.

____________________________________

المقيّد أحدهما له») ، كما هو في باب التعارض.

قوله : (فالظاهر أنّ حكم المشهور في المقام بالرجوع إلى المطلق ، وعدم التخيير مبنيّ على ما هو المشهور ... إلى آخره).

دفع لما يتوهّم من أنّ حكم المشهور في المقام بالرجوع إلى الإطلاق يكون دليلا على تقديم أصالة الإطلاق على أخبار التخيير بالورود أو الحكومة.

وحاصل الدفع أنّ هذا الحكم منهم يكون من باب ترجيح أحد المتعارضين بالمطلق ، لا من باب حكومة المطلق على أخبار التخيير ، فتأمّل جيدا.

٤٩٠

المسألة الرابعة

الشبهة في الموضوع الخارجي

فيما إذا شكّ في جزئيّة شيء للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي ، كما إذا امر بمفهوم مبيّن مردّد مصداقه بين الأقلّ والأكثر ، ومنه ما إذا وجب صوم شهر هلالي ـ وهو ما بين الهلالين ـ فشكّ في أنّه ثلاثون أو ناقص ، ومثل ما امر بالطهور لأجل الصلاة ، أعني : الفعل الرافع للحدث أو المبيح للصلاة ، فشكّ في جزئيّة شيء للوضوء أو الغسل الرافعين.

واللازم في المقام الاحتياط ؛ لأنّ المفروض تنجّز التكليف بمفهوم مبيّن معلوم تفصيلا ، وإنّما الشكّ في تحقّقه بالأقلّ ، فمقتضى أصالة عدم تحقّقه وبقاء الاشتغال عدم الاكتفاء به ولزوم الإتيان بالأكثر.

ولا يجري هنا ما تقدّم من الدليل العقلي والنقلي الدال على البراءة ؛ لأنّ البيان الذي

____________________________________

(المسألة الرابعة : فيما إذا شكّ في جزئيّة شيء للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي ، كما إذا امر بمفهوم مبيّن مردّد مصداقه بين الأقلّ والأكثر ، ومنه ما إذا وجب صوم شهر هلالي ـ وهو ما بين الهلالين ـ فشكّ في أنّه ثلاثون أو ناقص) ، بأن يكون متعلّق الأمر مفهوما مبيّنا معلوما تفصيلا وهو الصوم بين الهلالين ، وكان مجموع الصوم عبادة واحدة لا الصوم في كلّ يوم يعدّ عبادة مستقلة.

فيكون الشكّ ـ في كون يوم الشكّ من آخر رمضان منه ، حتى يكون المكلّف به هو الأكثر ، أو من شوّال حتى يكون المأمور به هو الأقلّ ـ شكّا في محصّله ، ويكون المرجع فيه هو الاحتياط وقاعدة الاشتغال.

وكذا الأمر في المثال الثاني وهو تعلّق الأمر بالطهور لأجل الصلاة ، حيث يكون مفهوم الطهارة مبيّنا ومعلوما تفصيلا ، ووقع الشكّ في جزئيّة شيء للوضوء أو الغسل ، من جهة الشكّ في كون شيء في ظاهر البدن حتى يكون المأمور به هو الأكثر أو باطنه حتى يكون هو الأقلّ.

فيرجع الشكّ فيه ـ أيضا ـ إلى الشكّ في المحصّل ، فيجب الاحتياط فيه ، إذ مقتضى أصالة عدم تحقّق المأمور به في المثالين بإتيان الأقلّ هو وجوب الإتيان بالأكثر.

(ولا يجري هنا ما تقدّم من الدليل العقلي والنقلي الدال على البراءة ؛ لأنّ البيان الذي

٤٩١

لا بدّ منه في التكليف قد وصل من الشارع فلا تقبح المؤاخذة على ترك ما بيّنه تفصيلا ، فإذا شكّ في تحقّقه في الخارج فالأصل عدمه ، والعقل ـ أيضا ـ يحكم بوجوب القطع بإحراز ما علم وجوبه تفصيلا ، أعني : المفهوم المعيّن المبيّن المأمور به ، ألا ترى أنّه لو شكّ في وجود باقي الأجزاء المعلومة ، كأن لم يعلم أنّه أتى بها أم لا كان مقتضى العقل والاستصحاب وجوب الإتيان بها.

والفارق بين ما نحن فيه وبين الشبهة الحكميّة من المسائل المتقدّمة التي حكمنا فيها بالبراءة ، هو أنّ نفس متعلّق التكليف مردّد بين اختصاصه بالمعلوم وجوبه تفصيلا وبين تعلّقه بالمشكوك.

وهذا الترديد لا حكم له بمقتضى العقل ؛ لأنّ مرجعه إلى المؤاخذة على ترك المشكوك وهي قبيحة بحكم العقل.

فالعقل والنقل الدالّان على البراءة مبيّنان لمتعلّق التكليف من أوّل الأمر في مرحلة الظاهر ، وأمّا ما نحن فيه فمتعلّق التكليف فيه مبيّن معيّن معلوم تفصيلا ، لا تصرّف للعقل والنقل فيه ، وإنّما يشكّ في تحقّقه في الخارج بإتيان الأجزاء المعلومة ، والعقل والنقل المذكوران لا يثبتان تحقّقه في الخارج ، بل الأصل عدم تحقّقه ، والعقل ـ أيضا ـ مستقلّ بوجوب الاحتياط مع الشكّ في التحقّق.

____________________________________

لا بدّ منه في التكليف قد وصل من الشارع فلا قبح المؤاخذة على ترك ما بيّنه تفصيلا ... إلى آخره) ، فلا شكّ في وجوب الاحتياط في المقام إذا بعد تنجّز التكليف بمفهوم مبيّن معلوم تفصيلا وكون الشكّ في محصلة ؛ لأنّ مقتضى الاشتغال اليقيني هو الامتثال اليقيني ، والامتثال كذلك لا يحصل إلّا بإتيان الأكثر.

(والفارق بين ما نحن فيه وبين الشبهة الحكميّة من المسائل المتقدّمة التي حكمنا فيها بالبراءة) هو انحلال العلم الإجمالي بالتكليف فيها إلى علم تفصيلي بالنسبة إلى الأقلّ وشكّ بدويّ بالنسبة إلى الأكثر ، وعدم انحلاله في المقام.

ولهذا تجري البراءة النقليّة والعقليّة في المسائل المتقدّمة ؛ لأنّ مرجع حكم العقل بالاحتياط فيها إلى المؤاخذة على ترك المشكوك (وهي قبيحة بحكم العقل) ؛ لأنّ المأمور به بعد انحلال العلم الإجمالي يتعيّن في الأقلّ عقلا وشرعا ، فالأكثر يكون مشكوكا فلا يكون العقاب على تركه قبيحا عقلا.

٤٩٢

القسم الثاني

الشك في كون الشيء قيدا للمأمور به

وأمّا القسم الثاني : وهو الشكّ في كون الشيء قيدا للمأمور به ، فقد عرفت أنّه على قسمين ؛ لأنّ القيد قد يكون منشؤه فعلا خارجيّا مغايرا للمقيّد في الوجود الخارجي ، كالطهارة الناشئة من الوضوء ، وقد يكون قيدا متحدا معه في الوجود الخارجي.

أمّا الأوّل : فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدّم ، فلا نطيل بالإعادة.

____________________________________

وهذا بخلاف ما نحن فيه ، حيث إنّ متعلّق التكليف مبيّنا معلوما تفصيلا ولا تصرّف للعقل ولا للنقل فيه ، وإنّما الشكّ في تحقّقه خارجا بإتيان الأقلّ ، والعقل كالنقل لا يحكم بتحقّقه في الخارج في الأقلّ ، فتجري معه أصالة عدم التحقّق ، فيجب الاحتياط بإتيان الأكثر.

هذا إلّا أنّ ما ذكر من المثالين مورد للمناقشة ؛ لأنّ الحقّ في المثال الأوّل هو تعلّق الحكم بصوم كلّ يوم من أيام شهر رمضان لا بالمجموع الكلّي الواقع ما بين الهلالين ، فيكون الأقلّ والأكثر حينئذ استقلاليين لا ارتباطيين ، ومحلّ الكلام هو الثاني دون الأوّل.

وهكذا مثال الطهارة أيضا خارج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ الشبهة فيه حكميّة لا موضوعيّة ، إذ بعد كونها من الامور التوقيفيّة لا بدّ من أن يصل فيها بيان الشارع.

فالمثال الصحيح كما في بحر الفوائد ، هو تردّد اليوم الذي يجب فيه الصوم مع تبيّن مفهومه بين الأقلّ والأكثر من جهة الشكّ في حصول المغرب من جهة الشبهة الموضوعيّة ، لا من جهة الاختلاف في معنى الغروب الذي هو غاية اليوم وعدم فهم المراد منه.

(وأمّا القسم الثاني : وهو الشكّ في كون الشيء قيدا للمأمور به ، فقد عرفت أنّه على قسمين ؛ لأنّ القيد قد يكون منشؤه فعلا خارجيّا مغايرا للمقيّد في الوجود الخارجي ، كالطهارة الناشئة من الوضوء ، وقد يكون قيدا متحدا معه في الوجود الخارجي) ، كالإيمان في الرقبة مثلا.

والمصنّف قدس‌سره شرع في بيان حكم الجزء الذهني وهو القيد إذا شكّ فيه بعد الفراغ عن

٤٩٣

وأمّا الثاني : فالظاهر اتحاد حكمهما.

____________________________________

حكم الجزء الخارجي للمأمور به ، والفرق بينهما أنّ الجزء الخارجي يكون من مقولة الكم يزيد في المركّب الخارجي باعتباره جزء له ، بخلاف الجزء الذهني حيث إنّه من مقولة الكيف المتّحد مع المركّب بحسب الوجود الخارجي ، ثمّ إنّ القيد على ما تقدّم سابقا على قسمين :

الأوّل : ما يكون ناشئا ومنتزعا من فعل خارجي مغاير للمقيّد في الوجود الخارجي ، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، فإنّها منتزعة من أفعال الوضوء والغسل المغايرة للصلاة في الوجود الخارجي.

والثاني : ما يكون متّحدا مع المقيّد في الخارج وفي الوجود الخارجي ، كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة مثلا.

والمصنّف قدس‌سره يلحق حكم القسم الأوّل بالحكم المتقدّم في الشكّ في الجزء الخارجي في مسألة دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر ، حيث قلنا هناك بالبراءة في جميع المسائل التي كانت الشبهة فيها حكميّة ، وبوجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة ، ووجه الشبه بين هذه المسألة وتلك ـ حيث حكمنا بالبراءة والاشتغال هنا أيضا ـ هو انحلال العلم الإجمالي في الشبهة الحكميّة وعدم انحلاله في الشبهة الموضوعيّة.

فيقال في المقام : إنّ هناك متيقّنا وهو الصلاة ومشكوكا وهو الوضوء ، فيؤخذ بالمتيقّن ويترك المشكوك ، فإذا انتفى وجوب الوضوء ينتفي وجوب الطهارة بانتفاء منشأ انتزاعه في الظاهر ، ولهذا حكم المصنّف قدس‌سره من دون ترديد بجريان ما تقدّم في الجزء الخارجي في القسم الأوّل في المقام.

ثمّ قال : (وأمّا الثاني : فالظاهر اتّحاد حكمهما) ، بمعنى أنّ ما تقدّم في مسألة دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر ـ من البراءة في الشبهة الحكميّة والاحتياط في الشبهة الموضوعيّة ـ يجري في كلا القسمين أيضا فيحكم بالبراءة فيهما.

أمّا البراءة في القسم الأوّل فواضح كما عرفت ؛ لأنّ المكلّف به يكون أمره دائرا بين الإطلاق والتقييد ، فتجري البراءة بالنسبة إلى اشتراط القيد لكون الاشتراط به ضيّقا على المكلّف فيرفع بأدلّة البراءة.

٤٩٤

وقد يفرّق بينهما بإلحاق الأوّل بالشكّ في الجزئيّة دون الثاني ، نظرا إلى جريان العقل والنقل الدالّين على عدم المؤاخذة على ما لم يعلم من الشارع المؤاخذة عليه في الأوّل ، فإنّ وجوب الوضوء إذا لم يعلم المؤاخذة عليه كان التكليف به ولو مقدّمة منفيّا بحكم العقل والنقل ، والمفروض أنّ الشرط الشرعي إنّما انتزع من الأمر بالوضوء في الشريعة ، فينتفي بانتفاء منشأ انتزاعه في الظاهر.

وأمّا ما كان متحدا مع المقيّد في الوجود الخارجي كالإيمان في الرقبة المؤمنة فليس ممّا يتعلّق به وجوب وإلزام مغاير لوجوب أصل الفعل ولو مقدّمة ، فلا يندرج فيما حجب الله

____________________________________

وأمّا البراءة في القسم الثاني وهو تردّد الرقبة الواجب عتقها بين كونها خصوص المؤمنة وبين الأعمّ منها ومن الكافرة ، فلأجل أنّ تعلّق التكليف بالطبيعي المردّد بين الإطلاق والتقييد معلوم بالعلم الإجمالي ، فيؤخذ بالمتيقّن وهو نفس الطبيعة ، وتجري البراءة بالنسبة إلى اشتراط القيد لكونه ضيّقا على المكلّف أيضا.

ثمّ إنّ النزاع في القسم الثاني مبني على القول بالبراءة في الأجزاء والشرائط ، وأمّا على القول بوجوب الاحتياط فيهما فلا نزاع في وجوب الاحتياط فيه لكونه أولى بوجوب الاحتياط منهما ، وكيف كان فيمكن التفريق بين القسمين من حيث جريان البراءة وعدمه ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(وقد يفرّق بينهما بإلحاق الأوّل بالشكّ في الجزئيّة) فتجري فيه البراءة (دون الثاني) فلا تجري فيه البراءة ، ووجه جريان البراءة في الأوّل ما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(نظرا إلى جريان العقل والنقل الدالّين على عدم المؤاخذة على ما لم يعلم من الشارع المؤاخذة عليه في الأوّل) ، كما تقدّم من أنّ المتيقّن هو وجوب المطلق وهو الصلاة ، وأمّا وجوب الوضوء فهو مشكوك لم يعلم من الشارع المؤاخذة على تركه ، فينتفي وجوب الطهارة بانتفاء منشأ انتزاعه.

أمّا وجه عدم البراءة في الثاني فهو ما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(وأمّا ما كان متحدا مع المقيّد في الوجود الخارجي كالإيمان في الرقبة المؤمنة فليس ممّا يتعلّق به وجوب وإلزام مغاير لوجوب أصل الفعل ولو مقدّمة) ، إذ تعدّد الوجوب فرع لتعدّد الوجود ، والإيمان لا وجود له في الخارج غير وجود الرقبة ، فكيف يتصوّر له وجوب

٤٩٥

علمه عن العباد (١).

والحاصل : إنّ أدلّة البراءة من العقل والنقل إنّما تنفي الكلفة الزائدة الحاصلة من فعل المشكوك والعقاب المترتّب على تركه ، مع إتيان ما هو معلوم الوجوب تفصيلا ، فإنّ الآتي بالصلاة بدون التسليم المشكوك في وجوبه معذور في ترك التسليم لجهله ، وأمّا الآتي بالرقبة الكافرة فلم يأت في الخارج بما هو معلوم له تفصيلا حتى يكون معذورا في الزائد المجهول ، بل هو تارك للمأمور به رأسا.

وبالجملة : فالمطلق والمقيّد من قبيل المتباينين لا الأقلّ والأكثر.

____________________________________

حتى يقال وجوب الرقبة متيقّن ووجوب الإيمان مشكوك ، فالعقاب والمؤاخذة عليه قبيح.

(ولو مقدّمة) ، أي : ولا يعقل للإيمان وجود مقدّمي ؛ لأنّ الرقبة المؤمنة فرد لمطلق الرقبة ، ومن المعلوم أنّ الفرد ليس مقدّمة للكلّي (فلا يندرج فيما حجب الله علمه عن العباد) ، يعني : لا يندرج القيد عند الشكّ في وجوب المقيّد فيما حجب علمه عن العباد ؛ لعدم استقلاله في الوجود حتى يتعلّق به العلم أو الجهل.

فالذي عتق الرقبة الكافرة لم يكن معذورا على تقدير كون الواجب في الواقع هو عتق الرقبة المؤمنة ، بل تارك للمأمور به رأسا ، فحينئذ يكون المطلق والمقيّد من قبيل المتباينين ، فيجب فيه الاحتياط ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(وبالجملة : فالمطلق والمقيّد من قبيل المتباينين لا الأقلّ والأكثر).

وحاصل الفرق بين الشكّ في شرطيّة شيء كالطهارة للصلاة وبين قيديّة الشيء كالإيمان للرقبة هو أنّ الشكّ في الشرطيّة يكون من قبيل الشكّ في الجزئيّة ، حيث إنّ وجود الشرط ولو باعتبار منشأ انتزاعه مغاير لوجود المشروط ، فيكون الشكّ في وجوبه شكّا في وجوب أمر زائد على المتيقّن وهو وجوب المشروط.

ولهذا تجري فيه البراءة كما تجري في الشكّ في الجزئيّة ، وهذا بخلاف الشكّ في القيديّة في المطلق ، حيث إنّ القيد ليس مغايرا للمقيّد في الوجود الخارجي ، بل متحد معه ، فلا يكون الشكّ في وجوبه شكّا في أمر زائد على وجوب المقيّد حتى تجري فيه

__________________

(١) التوحيد : ٤١٣ / ٩. الوسائل ٢٧ : ١٦٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٣٣.

٤٩٦

وكان هذا هو السر فيما ذكره بعض القائلين بالبراءة عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ، كالمحقّق القمّي رحمه‌الله في باب المطلق والمقيّد ، من تأييد استدلال العلّامة رحمه‌الله في النهاية على وجوب حمل المطلق على المقيّد بقاعدة الاشتغال. وردّ ما اعترض عليه بعدم العلم بالشغل حتى يستدعي العلم بالبراءة بقوله :

____________________________________

البراءة.

وهذا الفرق هو الوجه لمن أيّد استدلال العلّامة قدس‌سره على وجوب حمل المطلق على المقيّد في باب المطلق والمقيّد ، كالمحقّق القمّي قدس‌سره مع ذهابه إلى البراءة في الشكّ في الشرطيّة ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(وكان هذا هو السر فيما ذكره بعض القائلين بالبراءة عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ، كالمحقّق القمّي رحمه‌الله في باب المطلق والمقيّد ، من تأييد استدلال العلّامة رحمه‌الله في النهاية على وجوب حمل المطلق على المقيد بقاعدة الاشتغال).

وحاصل الكلام في هذا المقام ، هو أنّ المستفاد من العلّامة والمحقّق القمّي قدس‌سرهما هو التفصيل بين الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة وبين الشكّ في القيديّة ، حيث يظهر منهما القول بالبراءة في الأوّلين والاحتياط في الثالث.

وذلك لأنّ العلّامة قدس‌سره استدلّ على وجوب حمل المطلق على المقيّد بقاعدة الاشتغال ، وهي أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية ، وهي لا تحصل إلّا بإتيان المقيّد مع كونه من القائلين بالبراءة في مسألة الشكّ في الجزئيّة.

والمحقّق القمّي قدس‌سره أيّد الاستدلال المذكور مع أنّه من القائلين بالبراءة في الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ، بل ردّ ما اعترض به على استدلال العلّامة قدس‌سره فأشار إليه قدس‌سره بقوله :

(وردّ ما اعترض عليه بعدم العلم بالشغل حتى يستدعي العلم بالبراءة) ، ولا بدّ أوّلا من بيان الاعتراض ثمّ بيان الردّ.

وحاصل الاعتراض ، هو عدم العلم باشتغال الذمّة حتى يقال بأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة ؛ لأنّ اليقين بالاشتغال إنّما هو بالنسبة إلى الرقبة لا الإيمان فيكفي الإتيان بالمطلق.

وحاصل ردّ المحقّق القمّي قدس‌سره عليه هو :

٤٩٧

«وفيه أنّ المكلّف به ـ حينئذ ـ هو المردّد بين كونه نفس المقيّد أو المطلق ، ونعلم أنّا مكلّفون بأحدهما ، لاشتغال الذمّة بالمجمل ، ولا تحصل البراءة إلّا بالمقيّد.

إلى أن قال : وليس هنا قدر مشترك يقيني يحكم بنفي الزائد عنه بالأصل ؛ لأنّ الجنس الموجود في ضمن المقيّد لا ينفكّ عن الفصل ، ولا تفارق لهما ، فليتأمّل». انتهى.

هذا ، ولكنّ الإنصاف عدم خلوّ المذكور عن النظر ، فإنّه لا بأس بنفي

____________________________________

(أنّ المكلّف به ـ حينئذ ـ هو المردّد بين كونه نفس المقيّد أو المطلق) ، فالمكلّف يعلم باشتغال ذمّته بأحدهما ، ولذلك لا يحصل العلم بالبراءة إلّا بإتيان المقيّد ، إذ لو أتى بالكافرة بأن أعتقها وكان الواجب في الواقع هي المؤمنة لا تحصل براءة الذمّة ؛ لأنّ الكافرة مباينة للمأمور به ـ حينئذ ـ التي هي المؤمنة.

(إلى أن قال : وليس هنا قدر مشترك يقيني يحكم بنفي الزائد عنه بالأصل) كما هو كذلك في الشكّ في جزئيّة شيء للمأمور به وذلك لوحدة الوجود.

(لأنّ الجنس) والمراد به هو الرقبة لا ينفكّ وجودا عن الفصل ، والمراد به هو الإيمان حتى يكون الجنس متيقّنا والفصل مشكوكا يرجع فيه إلى البراءة.

(فليتأمّل) لعلّه إشارة إلى أنّ الحكم لو لم نقل بالاحتياط ـ بحمل المطلق على المقيّد ـ هو التخيير بين العمل بالمطلق والعمل بالمقيّد ؛ لأنّ المأمور به مردّد بين كونه مطلقا أو مقيّدا ، فيتعارض احتمال كونه مطلقا مع احتمال كونه مقيّدا ، والحكم في باب التعارض هو التخيير.

أو هو إشارة إلى الدقّة حتى لا يتوهّم انحلال العلم الإجمالي ، وكيف كان فيمكن توجيه كلام العلّامة قدس‌سره بأحد وجهين :

أحدهما : هو أنّ تمسّكه في هذه المسألة بقاعدة الاشتغال ليس من باب الاعتماد عليها في الاستدلال ، بل من باب التأييد.

وثانيهما : بأنّ الشكّ في مثل هذا الشرط عنده يوجب دوران المأمور به بين المتباينين ، وهو من القائلين بوجوب الاحتياط في مسألة دوران الواجب بين المتباينين.

(ولكنّ الإنصاف عدم خلوّ المذكور عن النظر).

وحاصل وجه النظر ، هو عدم الفرق بين الشكّ في الشرطيّة وبين الشكّ في القيديّة من

٤٩٨

القيود المشكوكة للمأمور به بأدلّة البراءة من العقل والنقل ؛ لأنّ المنفي فيها الإلزام بما لا يعلم ورفع كلفته.

ولا ريب أنّ التكليف بالمقيّد مشتمل على كلفة زائدة وإلزام زائد على ما في التكليف بالمطلق ، وإن لم يزد المقيّد الموجود في الخارج على المطلق الموجود في الخارج ، ولا فرق عند المتأمّل بين إتيان الرقبة الكافرة وإتيان الصلاة بدون الوضوء.

مع أنّ ما ذكره ـ من تغاير وجود منشأ حصول الشرط مع وجود المشروط في الوضوء واتحادهما في الرقبة المؤمنة ـ كلام ظاهري ، فإنّ الصلاة حال الطهارة بمنزلة الرقبة المؤمنة في كون كلّ منهما أمرا واحدا في مقابل الفرد الفاقد للشرط.

____________________________________

حيث الحكم بالبراءة أو الاحتياط ، فما ذكر من الفرق بينهما من حيث الحكم وهو جريان البراءة في الأوّل والاحتياط في الثاني غير صحيح ، بل الحقّ عنده قدس‌سره هو جريان البراءة فيهما ؛ وذلك لوجود مناط البراءة فيهما ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(لا بأس بنفي القيود المشكوكة للمأمور به بأدلّة البراءة من العقل والنقل ؛ لأنّ المنفي فيها الإلزام بما لا يعلم ورفع كلفته) ، فإنّ التكليف بالمقيّد مشتمل على كلفة زائدة وإلزام زائد على ما في التكليف بالمطلق ، فيصح جريان البراءة لنفي هذه الكلفة.

(وإن لم يزد المقيّد الموجود في الخارج على المطلق الموجود في الخارج ، ولا فرق عند المتأمّل بين إتيان الرقبة الكافرة وإتيان الصلاة بدون الوضوء) ، فلو قيل بأنّ الآتي بالرقبة الكافرة لم يكن آتيا بالمأمور به على تقدير كونه رقبة مؤمنة ، لقيل بأنّ الآتي بالصلاة بدون الطهارة لم يكن آتيا بالمأمور به أصلا على تقدير كونه صلاة مع الطهارة.

وكذا لو قيل بأنّ الشكّ في القيديّة في مثال الرقبة وتردّد الواجب فيه بين مطلق الرقبة والرقبة المؤمنة يرجع إلى تردّده بين المتباينين ، لقيل في مثال الصلاة نفس ما ذكر ، فيرجع تردّد الواجب في كلا المثالين إلى تردّده بين المتباينين ، فيجب الاحتياط فيهما معا ، وبذلك لا يبقى فرق بين المسألتين.

(مع أنّ ما ذكره ـ من تغاير وجود منشأ حصول الشرط مع وجود المشروط في الوضوء واتحادهما في الرقبة المؤمنة ـ كلام ظاهري ، فإنّ الصلاة حال الطهارة بمنزلة الرقبة المؤمنة في كون كلّ منهما أمرا واحدا).

٤٩٩

وأمّا وجوب إيجاد الوضوء مقدّمة لتحصيل ذلك المقيّد في الخارج ، فهو أمر يتفق بالنسبة إلى الفاقد للطهارة ، ونظيره قد يتفق في الرقبة المؤمنة حيث إنّه قد يجب بعض المقدّمات لتحصيلها في الخارج ، بل قد يجب السعي في هداية الرقبة الكافرة إلى الإيمان مع التمكّن ، إذا لم يوجد غيرها وانحصر الواجب في العتق.

وبالجملة : فالأمر بالمشروط بشيء لا يقتضي بنفسه إيجاد أمر زائد مغاير له في الوجود الخارجي ، بل قد يتفق وقد لا يتفق ، وأمّا الواجد للشرط فهو لا يزيد في الوجود الخارجي على الفاقد له.

____________________________________

وهذا هو ردّ ما ذكر في الفرق بين الشرط والقيد ، من أنّ الشرط كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة مغاير مع المشروط في الوجود الخارجي ، ولو باعتبار منشأ انتزاعه ، والقيد كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة ليس مغايرا في الوجود الخارجي مع المقيّد.

وحاصل الردّ ، هو أنّ الفرق المذكور فاسد جدا ؛ لأنّ الشرط مع المشروط كالقيد مع المقيّد موجود بوجود واحد في الخارج ؛ وذلك لأنّ المشروط هي الصلاة المقيّدة بكونها حال الطهارة ومعها أمر واحد وموجود بوجود واحد كالرقبة والإيمان ، فكما أنّ الرقبة مع الإيمان موجودة بوجود واحد في مقابل فاقد الإيمان كذلك الصلاة حال الطهارة ومعها موجودة بوجود واحد في مقابل فاقد الطهارة.

وهكذا ، كما يجب تحصيل الطهارة ـ على من لم يكن واجدا لها ـ للصلاة كذلك يجب تحصيل الرقبة المؤمنة بالسعي في هداية الكافرة إذا لم يوجد غيرها وانحصر الواجب في عتق الرقبة المؤمنة ، وكان المكلّف متمكّنا من تحصيل المؤمنة ولو بالهداية.

قوله : (وأمّا وجوب إيجاد الوضوء مقدّمة لتحصيل ذلك المقيّد في الخارج ، فهو أمر يتفق بالنسبة إلى الفاقد).

هذا دفع لما ربّما يتوهّم من أنّ إيجاب الصلاة حال الطهارة قد يقتضي وجوب إيجاد الوضوء مقدّمة لتحصيل ذلك المقيّد وهو الصلاة حال الطهارة ، فيدخل الشكّ في الشرطيّة في الأقلّ والأكثر ، فالأوّل هو الصلاة بلا وضوء والثاني هي الصلاة معه ، وهذا بخلاف الرقبة المؤمنة والرقبة الكافرة حيث لا يتصوّر فيهما تعدّد الوجوب حتى يدخل في الأقلّ والأكثر.

٥٠٠