دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

ولذا يفسد في حقّ القاصر بالجهل والنسيان والصغر على وجه ، وليس هنا مورد التمسّك بعموم صحّة العقود وإن قلنا بجواز التمسّك بالعامّ عند الشكّ في مصداق ما خرج عنه ؛ للعلم بخروج بعض الشبهات التدريجيّة عن العموم لفرض العلم بفساد بعضها ، فيسقط العامّ عن الظهور بالنسبة إليها ويجب الرجوع إلى أصالة الفساد.

____________________________________

على فسادها ، كما ثبت في محلّه.

ثمّ إنّ الشكّ في الصحّة والفساد في المعاملة في المقام ليس مسبّبا عن الشكّ في الإباحة والحرمة ، بل مسبّب عن الشكّ في كونها ربويّة وعدمها ، والأوّل ملازم للحرمة والفساد ، والثاني ملازم للإباحة والصحّة.

إلّا أنّ أصالة الإباحة لا تثبت عدم الربويّة الملازم للصحّة ، كما أنّ أصالة الفساد لا تثبت الربويّة الملازمة للحرمة ، لأنّ الأصل لا يثبت اللوازم العقليّة ، كما سيأتي في بحث الأصل المثبت.

(ولذا يفسد في حقّ القاصر بالجهل ... إلى آخره).

أي : لعدم الملازمة بين الفساد والحرمة (يفسد) العقد الربوي ، ولا يحرم (في حقّ القاصر بالجهل والنسيان والصغر على وجه).

أي : بناء على صحّة معاملات الصبي ، وإلّا فلا يفرّق بين ما يكون ربويّا وغيره ، إذ يكون فساد الجميع ـ حينئذ ـ مستندا إلى صغره لا إلى كون معاملته ربويّة.

وكيف كان ، يكون البيع الربوي فاسدا في حقّ هؤلاء ، ولا يكون حراما ، كما لا يخفى.

قوله : (وليس هنا مورد التمسّك بعموم صحّة العقود وإن قلنا بجواز التمسّك بالعامّ عند الشكّ في مصداق ما خرج عنه ؛ للعلم بخروج بعض الشبهات التدريجيّة عن العموم ... إلى آخره).

دفع لما يتوهّم من أنّ مقتضى القاعدة في الشكّ في صحّة المعاملة وفسادها في المقام ، هو التمسّك بعموم ما دلّ على صحّة العقود مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(٢) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، لأنّ أصالة الفساد تكون من الاصول العمليّة ، ولا يجوز

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) النساء : ٢٩.

٢٦١

اللهم إلّا أن يقال : إنّ العلم الإجمالي بين المشتبهات التدريجيّة ، كما لا يقدح في إجراء الاصول العمليّة فيها ، لا يقدح في الاصول اللفظيّة ، فيمكن التمسّك في ما نحن فيه بصحّة كلّ واحد من المشتبهات بأصالة العموم ، لكنّ الظاهر الفرق بين الاصول اللفظيّة والعمليّة ،

____________________________________

الرجوع إليها مع وجود الأدلّة الاجتهاديّة ، وهي العمومات المذكورة.

وحاصل الدفع مضافا إلى سقوط العموم عن الظهور بالنسبة إلى الشبهات التدريجيّة بواسطة العلم الإجمالي بفساد بعضها ، هو أنّ التمسّك بالعموم لا يصحّ في الشبهة المصداقيّة ، والمقام من هذا القبيل ، حيث يرجع الشكّ في كلّ معاملة إلى الشكّ في كونها مصداقا للعامّ بعد العلم الإجمالي بخروج بعض أفراده عنه.

وحينئذ يصحّ الرجوع إلى أصالة الفساد.

نعم ، التمسّك بالعموم إنّما يصحّ فيما إذا شكّ في كون العقد ـ كالعقد باللغة الفارسيّة ـ مشمولا للعامّ وهو (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أم لا؟ ، فيتمسّك ـ حينئذ ـ بالعموم ، ويحكم بصحّة العقد باللغة غير العربيّة.

(اللهم إلّا أن يقال : إنّ العلم الإجمالي بين المشتبهات التدريجيّة ، كما لا يقدح في إجراء الاصول العمليّة فيها ، لا يقدح في الاصول اللفظيّة ... إلى آخره).

وحاصل الإشكال ، هو أنّ العلم الإجمالي في الشبهات التدريجيّة لو كان مانعا عن التمسّك بالاصول اللفظيّة ، لكان مانعا عن الرجوع إلى الاصول العمليّة ، والتالي باطل لما تقدّم من الرجوع إلى أصالة الإباحة في مثال العلم الإجمالي بمعاملة ربويّة ، فالمقدّم مثله ، فيكون الحكم بعدم جواز التمسّك بالاصول اللفظيّة وجواز الرجوع إلى الاصول العمليّة تناقضا واضحا.

فالأولى أن يقال حينئذ : إنّ العلم الإجمالي في التدريجيّات ، كما لا يمنع عن إجراء الاصول العمليّة ، كذلك لا يمنع عن التمسّك بالاصول اللفظيّة ، إلّا أنّ الاصول اللفظيّة تتقدّم على الاصول العمليّة ، فحينئذ يتمسّك بالاصول اللفظيّة دون العمليّة ، فيحكم بالصحّة بالنسبة إلى الحكم الوضعي.

ثمّ أشار المصنّف قدس‌سره إلى جواب هذا الإشكال بقوله :

(لكنّ الظاهر الفرق بين الاصول اللفظيّة والعمليّة).

٢٦٢

فتأمّل.

السابع : قد عرفت أنّ المانع من إجراء الأصل في كلّ من المشتبهين بالشبهة المحصورة هو

____________________________________

فلا بدّ من بيان الفرق بينهما تارة : بالنسبة إلى الحكم التكليفي ، واخرى : بالنسبة إلى الحكم الوضعي.

أمّا الأوّل فنقول : إنّ الوجه في سقوط الاصول العمليّة هو تنجّز التكليف الواقعي في مورد العلم الإجمالي ، فلا تجري حينئذ ، فالمانع من إجراء الاصول العمليّة في مورد العلم الإجمالي هو تنجّز التكليف الواقعي وهو مفقود في التدريجيّات ، وذلك لخروج بعضها عن محلّ ابتلاء المكلّف ، وعنده لا مانع من إجراء الاصول العمليّة ، ويحكم بإباحة كلّ واحد من الأطراف ، وهذا بخلاف الاصول اللفظيّة ، حيث يكون المناط في حجيّتها والتمسّك بها هو ظهور الخطاب بالنسبة إلى الحكم التكليفي ، فظهور خطاب الشارع ـ اجتنب عن المعاملة الربويّة ـ وإن كان في الاجتناب عن جميع الأطراف ، إلّا أنّه لا يبقى هذا الظهور بعد العلم الإجمالي بخروج بعض الأطراف ، فلا يجوز التمسّك بها بعد انتفاء مناط حجيّتها وهو الظهور.

وأمّا الثاني : وهو الفرق بينهما بالنسبة إلى الحكم الوضعي ، فيظهر ممّا تقدّم من أنّه لا يبقى ظهور لعموم ما دلّ على صحّة العقود بعد العلم الإجمالي بخروج بعض الأفراد منه ، وهذا بخلاف الاصول العمليّة ، حيث يكون اعتبارها من باب التعبّد ، لا من باب الظهور ، فالمانع عنها هو تنجّز التكليف ، والمفروض انتفاؤه في التدريجيّات ، وبذلك لا يبقى مانع من إجرائها حينئذ ، فتجري أصالة الفساد ، ويحكم بفساد كلّ معاملة شكّ فيها.

(فتأمّل) لعلّه إشارة إلى أنّ الفرق المذكور بين الاصول اللفظيّة والاصول العمليّة مبني على القول بجواز التمسّك بالاصول اللفظيّة في الشبهات الموضوعيّة لأجل شمولها لها ، وأمّا على القول بعدم جواز التمسّك بها في الشبهات الموضوعيّة لعدم شمولها لها ، فلا يبقى مجال للفرق المذكور أصلا ، لأنّ الشبهة في المقام هي موضوعيّة ، فلا تشملها.

(السابع : قد عرفت أنّ المانع من إجراء الأصل في كلّ من المشتبهين بالشبهة المحصورة

٢٦٣

العلم الإجمالي بالتكليف المتعلّق بالمكلّف ، وهذا العلم قد ينشأ عن اشتباه المكلّف به ، كما في المشتبه بالخمر أو النجس أو غيرهما ، وقد يكون من جهة اشتباه المكلّف ، كما في الخنثى العالم إجمالا بحرمة أحد لباسي الرجل والمرأة عليه.

____________________________________

هو العلم الإجمالي بالتكليف المتعلّق بالمكلّف ، وهذا العلم قد ينشأ عن اشتباه المكلّف به ، كما في المشتبه بالخمر أو النجس أو غيرهما ، وقد يكون من جهة اشتباه المكلّف ، كما في الخنثى العالم إجمالا بحرمة أحد لباسي الرجل والمرأة عليه).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره هو أنّ العلم الإجمالي المانع عن إجراء الاصول في كلّ من المشتبهين بالشبهة المحصورة قد يكون ناشئا عن اشتباه المكلّف به بين أمرين أو امور ، وقد يكون ناشئا عن اشتباه المكلّف. وكان الكلام إلى الآن في الشبهة المحصورة التي يدور فيها أمر المكلّف به بين أمرين ، أو امور.

ويتعرّض المصنّف قدس‌سره في هذا الأمر السابع للشبهة المحصورة التي يدور فيها أمر المكلّف بين أمرين ، كالخنثى الذي يدور أمره بين الرجل والمرأة.

واشتباه المكلّف يكون على قسمين :

القسم الأوّل : ما يكون طرفا الشكّ احتمالين في مخاطبين ، كواجدي المني في الثوب المشترك.

والقسم الثاني : ما يكون طرفا الشكّ احتمالين في مخاطب واحد ، كالخنثى ، حيث يكون كلّ واحد من احتمالي الرجولة والانوثة راجعا إليه.

والمصنّف قدس‌سره لم يتعرّض للقسم الأوّل ، واكتفى بذكر القسم الثاني ، مع أنّ الشبهة في كليهما موضوعيّة ، ولعلّ الوجه في ذلك هو أنّ محلّ البحث في المقام هو الشكّ في المكلّف به ، فترك الأوّل لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في التكليف ، وذكر الثاني لكون اشتباه المكلّف فيه موجبا للاشتباه في المكلّف به ، إذ الخنثى بعد عدم كونه طبيعة ثالثة يشكّ في أنّ المكلّف به في حقّه هل هو ما يكون في حقّ الرجال أو النساء؟ كما يأتي تفصيل ذلك في المتن.

والشكّ في المكلّف به على ما تقدّم سابقا على قسمين :

أحدهما : ما يكون خطاب الشارع فيه معلوما تفصيلا ، وإنّما التردّد يكون في متعلّقه ،

٢٦٤

وهذا من قبيل ما لو علم أنّ هذا الإناء خمر ، أو أنّ هذا الثوب مغصوب.

وقد عرفت في الأمر الأوّل أنّه لا فرق بين الخطاب الواحد المعلوم وجود موضوعه بين المشتبهين ، وبين الخطابين المعلوم وجود موضوع أحدهما بين المشتبهين.

وعلى هذا فيحرم على الخنثى كشف كلّ من قبليه ، لأنّ أحدهما عورة قطعا ، والتكلّم مع

____________________________________

كعلم المكلّف تفصيلا بتوجّه خطاب : اجتنب عن الخمر ، إليه ، إلّا أنّ الخمر اشتبه بين الإناءين.

وثانيهما : ما يكون الخطاب فيه كالمتعلّق ، مردّدا بين الخطابين ، كعلم المكلّف إجمالا بتوجّه واحد من خطابي : اجتنب عن الخمر ، أو : اجتنب عن الغصب ، إليه ، إلّا أنّه لا يعلم تفصيلا بأنّ هذا الإناء خمر ، أو ذاك الثوب مغصوب ، فالخطاب والمتعلّق كلاهما مردّد ، ومعلوم أنّ شكّ الخنثى في المكلّف به يكون من قبيل القسم الثاني ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(وهذا من قبيل ما لو علم أنّ هذا الإناء خمر ، أو أنّ هذا الثوب مغصوب).

ولا فرق في وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة عقلا بين القسمين المذكورين ، فكما يجب الاجتناب عن جميع الأطراف فيما إذا كان الخطاب معلوما تفصيلا ، كمثال الخمر المردّد بين الإناءين ، كذلك يجب الاجتناب عن الشبهة المحصورة فيما إذا كان الخطاب مردّدا بين الخطابين ، كالمثال الثاني ، وقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(وقد عرفت في الأمر الأوّل أنّه لا فرق بين الخطاب الواحد المعلوم وجود موضوعه بين المشتبهين ، وبين الخطابين المعلوم وجود موضوع أحدهما بين المشتبهين).

ومقتضى عدم الفرق بين القسمين هو وجوب الاحتياط فيهما ، فحينئذ يجب على الخنثى الاحتياط.

(فيحرم على الخنثى كشف كلّ من قبليه ، لأنّ أحدهما عورة قطعا).

فإنّ واحدا من آلة الرجولة وآلة الانوثة عورة قطعا ، فيعلم إجمالا بتوجّه واحد من خطابي : (يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)(١) أو (يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ)(٢) إليه ، فيجب عليه حفظ

__________________

(١) النور : ٣٠.

(٢) النور : ٣١.

٢٦٥

الرجال والنساء إلّا لضرورة ، وكذا استماع صوتهما.

وإن جاز للرجال والنساء استماع صوتها ، بل النظر إليها ، لأصالة الحلّ ، بناء على عدم العموم في آية الغضّ للرجال ، وعدم جواز التمسّك بعموم آية حرمة إبداء الزينة على النساء ، لاشتباه مصداق المخصّص.

____________________________________

الفرجين عن كلتا الطائفتين.

(وإن جاز للرجال والنساء استماع صوتها ، بل النظر إليها لأصالة الحلّ ، بناء على عدم العموم في آية الغضّ للرجال ، وعدم جواز التمسّك بعموم آية حرمة إبداء الزينة على النساء ، لاشتباه مصداق المخصّص).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره هو أنّ جواز نظر كلّ من الرجال والنساء إلى الخنثى بمقتضى أصالة الحلّ مبني على عدم العموم في آية الغضّ ، وعدم جواز التمسّك به ، بعد فرض وجوده في آية حرمة إبداء الزينة ، ولا بدّ من الكلام فيهما ، حتى يتّضح ما قصده المصنّف قدس‌سره منهما.

وأمّا آية الغضّ وهي قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)(١) ، فقيل في تقريب عمومها : إنّها تشمل الرجال والنساء مع الخنثى ، إلّا أنّه قد خرج من عمومها نظر الرجل إلى مماثله من الرجال وإلى محارمه من النساء ، فتبقى حرمة نظر الرجال إلى الخنثى كسائر النساء مندرجة تحت العموم ، فلا يجوز له النظر إلى الخنثى ، كما لا يجوز له النظر إلى سائر النساء.

والجواب عمّا قيل في تقريب العموم : هو أنّ العموم فيها مبني على أنّ يكون حذف المتعلّق من أسباب إفادة العموم حتى يكون حذف متعلّق الغضّ مفيدا للعموم ، إذ ليس له سبب آخر في الآية ، إلّا أنّ كون حذف المتعلّق من أسباب إفادة العموم غير مسلّم.

فتحصّل ممّا تقدّم عدم العموم في آية الغضّ ، كما أفاده المصنّف قدس‌سره. هذا تمام الكلام في عدم العموم.

وأمّا عدم جواز التمسّك بعموم آية حرمة إبداء الزينة بعد وجود العموم ، كما يظهر من

__________________

(١) النور : ٣٠.

٢٦٦

وكذا يحرم عليه التزويج والتزوّج ؛ لوجوب إحراز الرجوليّة في الزوج والانوثيّة في الزوجة ، إذ الأصل عدم تأثير العقد ووجوب حفظ الفرج.

____________________________________

تعبير المصنّف قدس‌سره ، فلأجل كون الشبهة في المقام مصداقيّة ولا يجوز التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة.

فالآية في قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَ)(١) الآية ، وإن كان لها عموم بقرينة الاستثناء المذكور في آية النهي عن الزينة ، إلّا أنّه لا يجوز التمسّك بعمومها ، لما تقدّم من كون الشبهة مصداقيّة ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : (لاشتباه مصداق المخصّص).

ثمّ إنّ آية وجوب غضّ البصر على النساء لم يكن لها عموم كآية وجوب غضّ البصر على الرجال.

وكيف كان ، لا يجوز التمسّك بآيتي الغض وإبداء الزينة على عدم جواز نظر كلّ من الرجال والنساء إلى الخنثى ، وذلك لعدم العموم في الاولى وعدم جواز التمسّك بعموم الثانية ، لكون الشبهة مصداقيّة.

(وكذا يحرم عليه التزويج والتزوّج ؛ لوجوب إحراز الرجوليّة في الزوج والانوثيّة في الزوجة ، إذ الأصل عدم تأثير العقد ووجوب حفظ الفرج).

ويمكن أن يستدلّ على حرمة التزويج والتزوّج على الخنثى ، وعدم جوازهما عليها بوجوه :

منها : إنّ الخنثى تعلم إجمالا بحرمة أحدهما ، أي : إمّا التزويج إن كانت من النساء أو التزوّج إن كان من الرجال ، فيكون الشكّ في كلّ واحد من التزويج والتزوّج هو الشكّ في المكلّف به ، فيجب عليها الاحتياط والاجتناب عنهما ، وقد أشار إليه قدس‌سره بقوله : (يحرم عليه التزويج والتزوّج).

ومنها : إنّ مقتضى الأصل في صورة الشكّ في صحّة العقد هو عدم تأثير العقد في

__________________

(١) النور : ٣١.

٢٦٧

ويمكن أن يقال بعدم توجّه الخطابات التكليفيّة المختصّة إليها ؛ إمّا لانصرافها إلى غيرها ، خصوصا في حكم اللباس المستنبط ممّا دلّ على حرمة تشبه كلّ من الرجل والمرأة على الآخر ، وإمّا لاشتراط التكليف بعلم المكلّف بتوجّه الخطاب إليه تفصيلا ، وإن كان مردّدا بين

____________________________________

تحقّق الزوجيّة ووجوب حفظ الفرج ، كما أشار إليه بقوله : (إذ الأصل عدم تأثير العقد ووجوب حفظ الفرج).

ومنها : إنّ غرض الشارع من وجوب غضّ البصر على الرجال بالنسبة إلى النساء وبالعكس ، ومن وجوب حفظ الفرج عليهما ، هو عدم اختلاط الرجال مع النساء ، فترخيص الشارع لكلّ منهما للمخالطة مع الخنثى نقض للغرض.

(ويمكن أن يقال بعدم توجّه الخطابات التكليفيّة إليها).

إنّ المحكي عن صاحب الحدائق مع ذهابه في الشبهة المحصورة إلى الاحتياط هو البراءة في مسألة الخنثى بالنسبة إلى التكاليف المختصّة للرجال والنساء ، فلم يجب الاحتياط على الخنثى من جهة العلم الإجمالي ، وذلك لأحد وجهين :

أحدهما : ما أشار إليه بقوله :

(إمّا لانصرافها إلى غيرها).

ومنشأ الانصراف هو قلّة الخنثى وكثرة الرجال والنساء ، فتكون التكاليف المختصّة بهما منصرفة إلى الغالب (خصوصا في حكم اللباس المستنبط ممّا دلّ على حرمة تشبّه كلّ من الرجل والمرأة على الآخر) ، حيث يكون التشبّه منصرفا إلى تشبّه الرجال والنساء المتعارفين. وحينئذ يجوز للخنثى لبس كلا اللباسين المختصّين في زمان واحد ، فضلا عن زمانين ، إذ الخطابات المختصّة منصرفة إلى معلوم الذكوريّة والانوثيّة ، فالمجهول لا يتعلّق به الخطاب وإن لم يكن في الواقع خارجا عن الفريقين ، كما هو المفروض ، وذلك لعدم كون الخنثى طبيعة ثالثة.

وثانيهما : ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(وإمّا لاشتراط التكليف بعلم المكلّف بتوجّه الخطاب إليه تفصيلا).

أي : يشترط في تنجّز التكليف علم المكلّف بأصل توجّه الخطاب إليه تفصيلا ولو كان نفس الخطاب مردّدا بين خطابين ، كقول الشارع : اجتنب عن الخمر ، و : اجتنب عن مال

٢٦٨

خطابين متوجّهين إليه تفصيلا ، لأنّ الخطابين بشخص واحد بمنزلة خطاب واحد لشيئين ، إذ لا فرق بين قوله : اجتنب عن الخمر ، و : اجتنب عن مال الغير ، وبين قوله : اجتنب عن كليهما ، بخلاف الخطابين الموجّهين إلى صنفين يعلم المكلّف دخوله تحت أحدهما.

لكن كلّ من الدعويين خصوصا الأخيرة ضعيفة ، فإنّ دعوى عدم شمول ما دلّ على وجوب حفظ الفرج عن الزنا ، أو العورة عن النظر للخنثى كما ترى.

____________________________________

الغير ، هذا في مقابل علم المكلّف بتوجّه خطابين إلى صنفين يعلم دخوله في أحدهما ، حيث لا يتنجّز عليه التكليف حينئذ.

فبناء على هذا لا يتنجّز التكليف على الخنثى ، لأنّها لا تعلم بتوجّه الخطاب تفصيلا ، بل تعلم بتوجّه خطابين إلى صنفين ، وهي داخلة في أحدهما.

والعقل يحكم بوجوب الإطاعة على المكلّف فيما إذا علم بتوجّه الخطاب إليه تفصيلا ، بحيث يصحّ من المولى بأن يذمّه على مخالفته لخطابه إليه.

والمفروض هو عدم وجود مثل هذا الخطاب في المقام بالنسبة إلى الخنثى ، فيرجع شكّها في كلّ خطاب إلى الشكّ البدوي ، فتتمسّك بالبراءة إلّا في بعض الموارد ، كمسألة التزويج والتزوّج ، حيث ترجع فيها إلى أصالة عدم تأثير العقد ، لعدم إحراز الموضوع ، ومسألة ستر جميع البدن في الصلاة ، حيث يجب الاحتياط فيها ، لكون الشكّ فيها شكّا في المكلّف به.

هذا تمام الكلام في ما يمكن أن يستدلّ به على عدم وجوب الاحتياط على الخنثى بالنسبة إلى التكاليف المختصّة بالرجال والنساء ، كما ذهب إليه صاحب الحدائق ، وتقدّم الاستدلال على ذلك بالوجهين.

وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى ردّ الوجهين المذكورين بقوله :

(لكن كلّ من الدعويين خصوصا الأخيرة) وهي دعوى اشتراط تنجّز التكليف بالعلم على التوجّه التفصيلي للخطاب إلى المكلّف (ضعيفة).

ثمّ أشار إلى تعليل ضعف الدعوى الاولى بقوله :

(فإنّ دعوى عدم شمول ما دلّ على وجوب حفظ الفرج عن الزنا) ، كقوله تعالى :

٢٦٩

وكذا دعوى اشتراط التكليف بالعلم بتوجّه خطاب تفصيلي ، فإنّ المناط في وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة عدم جواز إجراء أصل البراءة في المشتبهين ، وهو ثابت في ما نحن فيه ، ضرورة عدم جواز جريان أصالة الحلّ في كشف كلّ من قبلي الخنثى ، للعلم بوجوب حفظ الفرج من النظر والزنا على كلّ أحد.

فمسألة الخنثى نظير المكلّف المردّد بين كونه مسافرا أو حاضرا ، لبعض الاشتباهات ، فلا يجوز له ترك العمل بخطابيهما.

____________________________________

(وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)(١) بالنسبة إلى الرجال ، (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ)(٢) بالنسبة إلى النساء(للخنثى كما ترى) ، لأنّ ندرة وجودها بعد فرض دخولها في أحد الفريقين لا توجب الانصراف ، بل الموجب له هو كثرة الاستعمال فيهما دونها ، وهي غير ثابتة ، بل منتفية.

نعم ، على القول بكونها طبيعة ثالثة خارجة عن الفريقين لا يبعد الانصراف المذكور لأجل ندرتها وكثرتهما.

ثمّ إنّ المصنّف قدس‌سره أشار إلى ضعف الدعوى الثانية بقوله :

(وكذا دعوى اشتراط التكليف بالعلم بتوجّه خطاب تفصيلي ... إلى آخره).

مدفوعة بأنّ المناط في وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ليس ما ذكر من العلم تفصيلا بتوجّه الخطاب إلى المكلّف ، بل المناط هو عدم جواز إجراء أصالة الإباحة في أطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة بعد حكم العقل بتنجّز التكليف بالعلم الإجمالي ، وهذا المناط موجود في المقام بالنسبة إلى الخنثى أيضا ، ولذلك لا يجوز لها إجراء أصالة الحلّ في كشف كلّ من قبليها بعد علمها إجمالا بتوجّه أحد خطابي الرجال أو النساء إليها.

(فمسألة الخنثى نظير المكلّف المردّد بين كونه مسافرا أو حاضرا ، لبعض الاشتباهات).

كما لو شكّ في كون ما قطعه من الطريق مقدار المسافة الشرعيّة أو لا ، حيث يعلم إجمالا بتوجّه أحد خطابي الحاضر أو المسافر إليه ، فكما لا يجوز له ترك العمل

__________________

(١) النور : ٣٠.

(٢) النور : ٣١.

٢٧٠

الثامن : إنّ ظاهر كلام الأصحاب التسوية بين كون الأصل في كلّ واحد من المشتبهين في نفسه هو الحلّ أو الحرمة ، لأنّ المفروض عدم جريان الأصل فيهما ، لأجل معارضته بالمثل ، فوجوده كعدمه.

____________________________________

بكلا الخطابين ، وإنّما يجب عليه الاحتياط ، فكذلك لا يجوز للخنثى ترك العمل بكلا الخطابين المختصّ أحدهما بالرجال والآخر بالنساء ، بل يجب عليها الاحتياط.

(الثامن : إنّ ظاهر كلام الأصحاب التسوية بين كون الأصل في كلّ واحد من المشتبهين في نفسه هو الحلّ أو الحرمة).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره هو عدم الفرق في الرجوع إلى قاعدة الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي ، سواء كان الأصل الجاري في أطراف العلم الإجمالي قبل حصول العلم الإجمالي هو الحلّ أو الحرمة.

وهذا الكلام من المصنّف قدس‌سره ردّ لتوهّم الفرق بين الأصلين عند الرجوع إلى قاعدة الاحتياط ، وذلك لوجود من قال بأنّ الرجوع إلى قاعدة الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي مختصّ في صورة ما إذا كان مقتضى الأصل قبل حصول العلم هو الحلّ ، وأمّا إذا كان مقتضى الأصل هو الحرمة ، فيجب الاجتناب عن كلا المشتبهين من جهة استصحاب الحرمة فيها ، لا من جهة قاعدة الاحتياط بمقتضى العلم الإجمالي بالحرمة ، بعد تساقط الاصول بالتعارض ، فتأمّل جيدا.

نعم ، يظهر الفرق بينهما فيما إذا خرج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء ، فإنّه لا يجب الاجتناب عن الباقي فيما إذا كان وجوب الاحتياط لقاعدة الاحتياط ، وذلك لعدم وجوب الاحتياط بعد خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء ، كما عرفت في التنبيه الثالث ، وهذا بخلاف ما إذا كان وجوب الاجتناب من جهة استصحاب الحرمة ، وذلك لجريان الاستصحاب في الطرف المبتلى به ، وحينئذ يجب الاجتناب عنه.

كما يظهر الفرق فيما إذا كان المشتبهان مسبوقين بالنجاسة ، ثمّ علم إجمالا بزوالها عن أحدهما ، ثمّ لاقى شيء أحدهما ، فحينئذ يجب الاجتناب عن ملاقي أحدهما ، بناء على استصحاب النجاسة ، ولا يجب الاجتناب عنه بناء على وجوب الاجتناب عن المشتبهين بقاعدة الاحتياط ، كما عرفت في التنبيه الرابع.

٢٧١

ويمكن الفرق من المجوّزين لارتكاب ما عدا مقدار الحرام وتخصيص الجواز بالصورة الاولى ، ويحكمون في الثانية بعدم جواز الارتكاب ، بناء على العمل بالأصل فيهما ، ولا يلزم هاهنا مخالفة قطعيّة في العمل ، ولا دليل على حرمتها إذا لم تتعلّق بالعمل إذا وافق الاحتياط.

____________________________________

أمّا وجوب الاجتناب عن الملاقي لو كان وجوب الاجتناب عنهما من جهة استصحاب النجاسة ، فلأنّ معنى استصحاب النجاسة هو ترتيب آثارها ، ومن جملة الآثار هي نجاسة الملاقي.

وكيف كان ، فظاهر الأصحاب هو الاستدلال على وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة بقاعدة الاحتياط بعد تساقط الاصول في أطراف العلم الإجمالي بالتعارض ، سواء كان مقتضى الأصل مع قطع النظر عن العلم الإجمالي هو الحلّ أو الحرمة.

ومثال الأوّل : ما إذا علم الزوج إجمالا بطلاق إحدى محلّلاته ، حيث يكون مقتضى استصحاب الزوجيّة حلّية كلّ منهنّ.

ومثال الثاني : ما تقدّم من كون المشتبهين مسبوقين بالنجاسة ، ثمّ علم إجمالا بزوال نجاسة أحدهما ، حيث يقتضي استصحاب النجاسة فيهما حرمة كلّ منهما.

(ويمكن الفرق من المجوّزين لارتكاب ما عدا مقدار الحرام ... إلى آخره).

وحاصل الفرق ، هو أنّ أصالة الحلّ مع قطع النظر عن العلم الإجمالي وإن كانت تقتضي ارتكاب الجميع ، إلّا أنّه لا بدّ من رفع اليد عنها في مقدار الحرام ، فيجب الاجتناب عن مقدار الحرام نظرا إلى العلم الإجمالي بوجود الحرام ، وفرارا عن مخالفته العمليّة القطعيّة.

وهذا بخلاف ما إذا كان مقتضى الأصل هو الحرمة ، فإنّه يجب الاجتناب عن كلا المشتبهين عملا بأصالة الحرمة في كلا المشتبهين ، وبذلك يخرج هذا القسم عن محلّ النزاع بين من يقول بالاحتياط ومن يقول بالبراءة ، لوجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين على كلا القولين ، ويختصّ النزاع فيما إذا كان مقتضى الأصل هو الحلّ ، كما عرفت.

ثمّ إنّ تخصيص الفرق المذكور بالمجوّزين يكون من جهة عدم مجال له على القول بوجوب الاحتياط والموافقة القطعيّة ، لفرض وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين بقاعدة الاشتغال ، بعد تساقط الاصول بالتعارض فيما إذا كان مقتضى الأصل هو الحلّ ، وبالعمل بالأصلين فيما إذا كان مقتضى الأصل هو الحرمة ، لأنّ العمل بكلا الأصلين لا يوجب

٢٧٢

إلّا أنّ استدلال بعض المجوّزين للارتكاب بالأخبار الدالّة على حلّية المال المختلط بالحرام ، ربّما يظهر منه التعميم.

وعلى التخصيص ، فيخرج عن محلّ النزاع ، كما لو علم بكون إحدى المرأتين أجنبيّة ، أو إحدى الذبيحتين ميتة ، أو أحد المالين مال الغير ، أو أحد الأسيرين محقون الدم ، أو كان الإناءان معلومي النجاسة سابقا فعلم طهارة أحدهما.

____________________________________

المخالفة العمليّة ، كما يوجب ذلك فيما إذا كان مقتضى الأصل هو الحلّ.

(إلّا أنّ استدلال بعض المجوّزين للارتكاب بالأخبار الدالّة على حلّية المال المختلط بالحرام ، ربّما يظهر منه التعميم).

أي : تعميم جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام فيما إذا كان مقتضى الأصل هو الحرمة ، وذلك لأنّ مقتضى الأصل في المال المشتبه المختلط بالحرام هو الحرمة ، لأنّ حلّية الأموال تحتاج إلى السبب الشرعي ، والأصل عدمه في مورد الشكّ ، فيظهر من استدلالهم على الجواز بهذه الأخبار جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ، حتى فيما إذا كان مقتضى الأصل هو الحرمة.

(وعلى التخصيص ، فيخرج عن محلّ النزاع).

أي : تخصيص النزاع في البراءة والاحتياط بصورة كون مقتضى الأصل في المشتبهين هو الحلّ ، وخروج ما إذا كان مقتضى الأصل هو الحرمة عن النزاع ، لوجوب الاحتياط فيه على كلا القولين كما ذكر من الأمثلة في المتن ، حيث يجب الاحتياط فيها على كلا القولين.

غاية الأمر من يقول بالاحتياط يكون وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين عنده بقاعدة الاحتياط بعد تساقط الاصول بالتعارض في أطراف العلم ، ومن يقول بالبراءة في فرض كون مقتضى الأصل هو الحلّ ، وبوجوب الاجتناب في فرض كون مقتضى الأصل هو الحرمة يجتنب عن كلا المشتبهين في الفرض الثاني من جهة أصالة الحرمة ، لا من جهة قاعدة الاحتياط ، وقد تقدّم الفرق بين وجوب الاجتناب عن المشتبهين بقاعدة الاحتياط وأصالة الحرمة واستصحاب النجاسة ، فراجع.

ثمّ إنّ الأمثلة المذكورة في المتن مشتملة على الأعراض كالمثال الأوّل ، والأموال كالمثال الثالث ، والنفوس كالمثال الرابع.

٢٧٣

وربّما يقال : إنّ الظاهر أنّ محلّ الكلام في المحرّمات الماليّة ونحوها ، كالنجس ، لا في الأنفس والأعراض ، فيستظهر أنّه لم يقل أحد فيها بجواز الارتكاب ، لأنّ المنع في مثل ذلك ضروري. وفيه نظر.

التاسع : إنّ المشتبه بأحد المشتبهين حكمه حكمهما ، لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة ، وهو ظاهر.

____________________________________

(وربّما يقال : إنّ الظاهر أنّ محلّ الكلام في المحرّمات الماليّة ونحوها ، كالنجس ، لا في الأنفس والأعراض).

فإنّ وجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة المحصورة في الأنفس والأعراض مورد للاتّفاق ، ولم يقل أحد بجواز الارتكاب فيهما ، سواء كان مقتضى الأصل في نفسه هو الحلّ ، كمهدوري الدم وصار أحدهما محقونا ، وزوجتين وصارت إحداهما مطلّقة ، أو الحرمة كمحقوني الدم وصار أحدهما مهدور الدم ، أو أجنبيّتين وصارت إحداهما زوجة.

(وفيه نظر) لأنّ كلماتهم مطلقة ، فتشمل جميع الصور والأمثلة ، فمن يقول بجواز الارتكاب لا يفرّق بين الموارد في صورة الاشتباه ، لأنّ مورد الاتّفاق في الأنفس والأعراض هو حرمتها ، لا وجوب الاجتناب عند الاشتباه.

(التاسع : إنّ المشتبه بأحد المشتبهين حكمه حكمهما ، لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة) بقياس المساواة ، وهو واضح لا يحتاج إلى البيان. هذا تمام الكلام في الشبهة المحصورة ، ثمّ يقع الكلام في الشبهة غير المحصورة.

٢٧٤

الشبهة غير المحصورة

المقام الثاني : في الشبهة الغير المحصورة.

والمعروف فيها عدم وجوب الاجتناب ، ويدلّ عليه وجوه :

الأوّل : الإجماع الظاهر المصرّح به في الروض وعن جامع المقاصد ، وادّعاه صريحا المحقّق البهبهاني رحمه‌الله في فوائده وزاد عليه نفي الريب فيه ، وأنّ مدار المسلمين في الأعصار والأمصار

____________________________________

المقام الثاني : (في الشبهة الغير المحصورة).

وكان على المصنّف قدس‌سره تقديم بيان الموضوع وهي الشبهة غير المحصورة على بيان حكمها ، بأن يبحث عمّا هو المراد بالشبهة غير المحصورة أوّلا ، ثمّ يبحث عن حكمها ثانيا ، كما هو مقتضى الترتيب الطبيعي بين الحكم والموضوع ، إلّا أنّ المصنّف قدس‌سره قدّم بيان الحكم ، ولعلّ الوجه في ذلك ما في تعليقة غلام رضا من «أنّ البحث عن الموضوع إنّما يقدّم إذا كان بعنوانه منصوصا في الأدلّة ، كما في قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) وأمثاله.

والمقام ليس كذلك ، ضرورة أنّ الموضوع فيه ـ أعني : غير المحصورة ـ ممّا لم يكن له بهذا العنوان في الأدلّة عين ولا أثر ، وإنّما هو عنوان منتزع من الموضوعات المشتبهة في الموارد المختلفة ، وفي مثله لا بدّ من تقديم البحث عن الحكم وأدلّته ، لكي يعرف مقدار سعة دائرة موضوعه» انتهى مورد الحاجة ، ولكلامه قدس‌سره ذيل تركناه تجنبا عن التطويل.

وكيف كان ، فيقع الكلام في المقام الثاني كالمقام الأوّل تارة : في وجوب الموافقة القطعيّة وعدم وجوبها ، واخرى : في جواز المخالفة القطعيّة بعد عدم وجوب الموافقة فيه.

والبحث عن جواز المخالفة سيأتي في التنبيهات إن شاء الله تعالى. وقد أشار إلى البحث عن الموافقة بقوله :

(والمعروف فيها عدم وجوب الاجتناب ، ويدلّ عليه وجوه :).

منها : الإجماع حيث صرّح به جماعة منهم المحقّق البهبهاني قدس‌سره ، حيث قال بما حاصله : من أنّ عدم وجوب الاجتناب عن غير المحصور مجمع عليه بين الكلّ ولا ريب فيه ، ومدار

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٢٧٥

عليه ، وتبعه في دعوى الإجماع غير واحد ممّن تأخّر عنه ، وزاد بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة.

وبالجملة ، فنقل الإجماع مستفيض ، وهو كاف في المسألة.

الثاني : ما استدلّ به جماعة من لزوم المشقّة في الاجتناب ، ولعلّ المراد لزومه به في أغلب أفراد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين ، فيشمله عموم قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(١) ، وقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٢) ،

____________________________________

المسلمين في الأعصار والأمصار كان على ذلك ، وهذا الكلام منه صريح في الإجماع قولا وعملا ، مع نفي الريب عنه ، إلّا أنّ كلام المصنّف قدس‌سره ظاهر في عدم جزمه بتحقّق الإجماع ، وصريح في كفاية نقل الإجماع في المسألة ، لأنّ الإجماع المذكور وإن كان منقولا ، إلّا أنّه كالمحصّل يكفي في إثبات المسألة الفرعيّة سيّما بعد انضمام دعوى الضرورة وسيرة المسلمين إليه ، والمسألة في المقام فرعيّة لا اصوليّة حتى يقال بعدم اعتبار الظنّ فيها ، مع أنّ المسلّم هو عدم اعتباره في اصول الدين لا في اصول الفقه.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ هذه المسألة وإن كانت من المسائل الفرعيّة ، إلّا أنّها تكون من المسائل المستحدثة التي لم يتعرّض لها القدماء ، فحينئذ لا يمكن فيها دعوى الإجماع من جميع العلماء ، وعلى فرض تحقّق الاتّفاق من المتأخّرين لا يكون كاشفا عن رأي الإمام عليه‌السلام. هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل

وقد أشار إلى الوجه الثاني بقوله :

(الثاني : ما استدلّ به جماعة من لزوم المشقّة في الاجتناب).

وهذا الوجه على ما في بحر الفوائد ممّا تمسّك به أكثر الأصحاب ، بل تمسّك به كلّ من تعرّض لحكم هذه المسألة ، وقد تلقّوه بالقبول.

وكيف كان ، فتقريب الاستدلال بلزوم المشقّة والحرج من وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة يتّضح بعد ذكر مقدّمة وهي :

إنّ الحرج منفي في الشرع بمقتضى ما دلّ على نفيه ، كقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) الحج : ٧٨.

٢٧٦

بناء على أنّ المراد أنّ ما كان الغالب فيه الحرج على الغالب فهو مرتفع عن جميع المكلّفين ، حتى من لا حرج بالنسبة إليه.

وهذا المعنى وإن كان خلاف الظاهر إلّا أنّه يتعيّن الحمل عليه بمعونة ما ورد من إناطة

____________________________________

الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وأمثاله من عمومات الآيات والأخبار ، والمراد بالحرج المنفي في الدين هو الحرج الغالبي بالنسبة إلى أفراد المكلّف وجزئيّات الفعل ، بأن يكون الفعل حرجيّا بالنسبة إلى غالب جزئياته في حقّ غالب المكلّفين ، فحكم هذا الفعل مرفوع عن جميع جزئياته حتى عمّا لا حرج فيه اصلا ، وكذا مرفوع عن جميع المكلّفين حتى عن المكلّف الذي لا يكون الفعل في حقّه حرجيّا.

إذا عرفت هذه المقدّمة ، يتّضح لك نفي وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة بما دلّ على نفي العسر والحرج في الشرع ، إذ يكون الاجتناب في الشبهة المحصورة من صغريات ما يستفاد من عمومات الآيات والأخبار من الكبرى الكلّية ، وهي عدم جعل الحكم الحرجي في الشرع ، وتكون نتيجة ضمّ هذه الصغرى ـ أي : كون وجوب الاجتناب عن الشبهة غير المحصورة حكما حرجيّا إلى تلك الكبرى ، إلى كون كلّ حكم حرجي منفيّا ومرفوعا ـ نفي وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة ، وعلى ما ذكرنا من أنّ المراد بالحرج المنفي هو الحرج الغالبي لا يرد ما يقال ، من أنّ مقتضى هذا الدليل رفع وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، التي يكون الاحتياط فيها حرجيّا ، فيكون الدليل أخصّ من المدّعى ، وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى دفع هذا الإيراد بقوله :

(بناء على أنّ المراد أنّ ما كان الغالب فيه الحرج على الغالب فهو مرتفع عن جميع المكلّفين ، حتى من لا حرج بالنسبة إليه).

وقد تقدّم تفصيل ذلك في تقريب هذا الدليل ، وحينئذ لا يكون الدليل أخصّ من المدّعى.

(وهذا المعنى وإن كان خلاف الظاهر) ، أي : رفع الحكم الحرجي عن جميع المكلّفين إذا كان حرجيّا على أكثرهم وإن كان على خلاف ظاهر آية الحرج ؛ لأن ظاهر ضمير الجمع المخاطب في قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) توجّه الخطاب إلى كلّ

__________________

(١) الحج : ٧٨.

٢٧٧

الأحكام الشرعيّة الكلّية وجودا وعدما بالعسر واليسر الغالبين.

وفي هذا الاستدلال نظر ، لأنّ أدلّة نفي العسر والحرج من الآيات والروايات لا تدلّ إلّا على أنّ ما كان فيه ضيق على مكلّف فهو مرتفع عنه.

وأمّا ارتفاع ما كان ضيقا على الأكثر عمّن هو عليه في غاية السهولة ، فليس فيه امتنان على أحد ، بل فيه تفويت مصلحة التكليف من غير تداركها بالتسهيل.

____________________________________

واحد من المكلّفين ، فيكون ظاهرا في نفي الحرج الشخصي لا ما ذكر في تقريب الاستدلال من نفي الحرج النوعي (إلّا أنّه يتعيّن الحمل عليه بمعونة ما ورد من إناطة الأحكام الشرعيّة الكلّية وجودا وعدما بالعسر واليسر الغالبين) ، فيرتفع عن جميع المكلّفين ما يكون حرجيّا على أغلبهم ، كما تقدّم في تقريب الاستدلال.

ثمّ إنّ ظاهر الاستدلال على نفي وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة هو أنّ المانع من وجوب الاحتياط هو العسر والحرج بعد وجود المقتضي لوجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة.

(وفي هذا الاستدلال نظر ... إلى آخره).

يتّضح بعد ذكر مقدّمة وهي :

إنّ نفي العسر والحرج في الدين عن المكلّفين ليس إلّا من باب الامتنان عليهم بالتسهيل ، فيدور الحكم مدار الامتنان ، ولا امتنان إلّا برفع العسر والحرج الشخصيّين ، إذ لا امتنان في رفعهما عن جميع المكلّفين حتى لمن لا حرج عليه ، ومنها يتّضح لك أنّ الكبرى المستفادة من الآيات والروايات هي نفي الحرج الشخصي ، كما أشار إليه بقوله :

(إنّ ما كان فيه ضيق على مكلّف فهو مرتفع عنه) لما تقدّم من أنّ المعتبر في نفي الحكم الحرجي هو الحرج الشخصي ، لا الغالبي بالمعنى الذي تقدّم في تقريب الاستدلال ، وذلك لعدم الدليل على نفي الحكم بالنسبة إلى شخص لا حرج عليه أصلا ، إذ لا امتنان على رفع الحكم عنه ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(وأمّا ارتفاع ما كان ضيقا على الأكثر عمّن هو عليه في غاية السهولة ، فليس فيه امتنان على أحد).

أي : لا على هذا الشخص ، ولا على غيره ، فلا يكون نفي التكليف عنه مع عدم كونه

٢٧٨

وأمّا ما ورد من دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب ، فلا ينفع في ما نحن فيه ، لأنّ الشبهة الغير المحصورة ليست واقعة واحدة حكم فيها بحكم حتى يدّعى أنّ الحكم بالاحتياط في أغلب مواردها عسر على أغلب الناس ، فيرتفع حكم الاحتياط فيها مطلقا ، بل هي عنوان لموضوعات متعدّدة لأحكام متعدّدة ، والمقتضي للاحتياط في كلّ موضوع هو

____________________________________

عسرا عليه ، إلّا تفويتا للواقع عليه من دون تداركه بالتسهيل لوجود التسهيل في حقّه ، ولا يجوز أن يكون ارتفاع الأحكام عن الجميع لأجل التسهيل على البعض ؛ لأنّ ذلك موجب لإبطال التكليف رأسا ، إذ لو جاز ارتفاع الأحكام الحرجيّة عن الجميع لأجل السهولة لجاز ارتفاع جميع الأحكام عن الجميع لأجل السهولة ، لأنّ حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد ، والتالي باطل لكونه موجبا لإبطال التكليف رأسا ، فالمقدّم مثله.

قوله : (وأمّا ما ورد من دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب ، فلا ينفع في ما نحن فيه ... إلى آخره).

دفع لما يتوهّم من أنّ المستفاد ممّا دلّ على دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب هو نفي الحرج الغالبي ، فلا إشكال فيما تقدّم في تقريب الاستدلال من أنّه إذا كان الحكم حرجيّا على غالب المكلّفين ، فهو مرتفع عن جميعهم ؛ وذلك مثل الصوم في السفر ، فإنّه مستلزم للعسر ، إلّا أنّ العسر فيه غالبي ، وقد ارتفع وجوب الصوم عن جميع المكلّفين ، نظرا إلى كونه حرجيّا لأكثر المكلّفين ، وكذا ارتفع وجوب الاجتناب عن الحديد مع دلالة بعض الأخبار على نجاسته ، لأنّ في الاجتناب عنه حرجا غالبيّا.

وبالجملة ، كلّ ما تعلّق به التكليف شرعا ، وكان امتثاله حرجيّا يرتفع ، غاية الأمر إن كان امتثاله حرجا غالبيّا يرتفع عن جميع المكلّفين ، وإن كان حرجا شخصيّا يرتفع عمّن عليه الحرج.

وحاصل الدفع أنّ ما دلّ على دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب إنّما يتمّ فيما إذا كان عنوان الشبهة غير المحصورة موضوعا لحكم من الأحكام ، كقول الشارع : اجتنب عن غير المحصور مثلا ، إلّا أنّه ليس موضوعا وواقعة حكم فيها بحكم حتى يقال : إنّ الحكم بوجوب الاجتناب عن هذه الواقعة في أغلب مواردها عسر لأغلب المكلّفين ، فيرتفع حكم الاحتياط فيها عن جميع المكلّفين.

(بل هي عنوان لموضوعات متعدّدة لأحكام متعدّدة).

٢٧٩

نفس الدليل الخاصّ التحريمي الموجود في ذلك الموضوع ، والمفروض أنّ ثبوت التحريم لذلك الموضوع مسلّم ، ولا يرد منه حرج على الأغلب ، وأنّ الاجتناب في صورة اشتباهه ـ أيضا ـ في غاية اليسر ، فأيّ مدخل للأخبار الواردة في أنّ الحكم الشرعي يتبع الأغلب في اليسر والعسر.

وكأنّ المستدلّ بذلك جعل الشبهة الغير المحصورة واقعة واحدة ، مقتضى الدليل فيها

____________________________________

الشبهة غير المحصورة عنوان كلّي يشمل كلّ ما يشتبه بين امور غير محصورة ، كالخمر المشتبه ، والنجس المشتبه ، وغيرهما ، حيث يكون هذا العنوان الكلّي إشارة إلى موضوعات متعدّدة لأحكام متعدّدة بتعدّد موضوعاتها.

(والمقتضي للاحتياط في كلّ موضوع هو نفس الدليل الخاصّ التحريمي الموجود في ذلك الموضوع).

كقول الشارع : اجتنب عن الخمر ، في الخمر المشتبه بين امور غير محصورة ، و : اجتنب عن النجس ، في النجس المشتبه كذلك ، وغيرهما ، ولا يرد من تحريم موضوع من الموضوعات المذكورة حرج على أغلب المكلّفين ، حتى يرتفع الحكم بوجوب الاجتناب رأسا ، بل لا يلزم الحرج في مورد اشتباه الموضوع بين امور ، فلو لزم الحرج في مورد فرضا يرتفع وجوب الاجتناب في مورد الحرج فقط.

ثمّ إنّ من استدلّ على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة بما ذكر في التوهّم من دوران الأحكام مدار السهولة الغالبيّة جعل عنوان الشبهة غير المحصورة واقعة واحدة ، كسائر الموضوعات ، ثمّ قال : إنّ مقتضى الدليل فيها وجوب الاحتياط لو لا العسر ، كما أنّ الصوم في السفر واقعة واحدة ، مقتضى الدليل فيها ـ وهو قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(١) ـ وجوبه لو لا العسر ، إلّا أنّه ارتفع وجوب الصوم في السفر للعسر الغالبي ، فكذلك في الشبهة غير المحصورة ارتفع وجوب الاحتياط للعسر الغالبي ، هذا ما أشار إليه بقوله :

(وكأنّ المستدلّ بذلك جعل الشبهة الغير المحصورة واقعة واحدة.

__________________

(١) البقرة : ١٨٣.

٢٨٠