دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

على الميّت ، بخلاف ما لم يعلم بوجوبه عليه.

وكيف كان ، فالتوجيه المذكور ضعيف. وأضعف منه التمسّك في ما نحن فيه بالنصّ الوارد ب (أنّ من عليه من النافلة ما لا يحصيه من كثرته قضى حتى لا يدري كم صلّى من كثرته) (١) ، بناء على أنّ ذلك طريق لتدارك ما فات ولم يحص ، لا أنّه مختصّ بالنافلة ، مع أنّ الاهتمام في النافلة بمراعاة الاحتياط يوجب ذلك في الفريضة بطريق أولى ، فتأمّل.

____________________________________

الإتيان بذلك المقدار المعيّن الذي كان واجبا على الميت ظاهرا.

(بخلاف ما لم يعلم بوجوبه عليه).

أي : لا يجب على الولي القضاء عن الميت بمقدار يظنّ أو يعلم معه بالفراغ ما لم يعلم بوجوب ذلك المقدار من جهة الشكّ في مقدار ما فات (وكيف كان ، فالتوجيه المذكور ضعيف).

ومنها : أي : ومن الوجوه التي يمكن جعلها وجها لما ذهب إليه المشهور من وجوب القضاء حتى يظنّ أو يعلم بالفراغ ما أشار إليه بقوله :

(وأضعف منه التمسّك في ما نحن فيه بالنصّ الوارد ب (أنّ من عليه من النافلة ما لا يحصيه من كثرته قضى حتى لا يدري كم صلّى من كثرته)).

واستفادة حكم المقام من هذا النصّ الوارد في قضاء ما فات من النافلة ، مبنيّة على أن يكون المراد من النصّ بيان طريق القضاء مطلقا ، بأن يقضي ما يتمكّن منه من حيث الكثرة بمقدار لا يحصيه ، ولا يكتفي بالأقل المتيقّن ، سواء كان ما فات عنه نافلة أو فريضة.

وبالجملة ، إنّ النصّ يبيّن طريق تدارك ما فات ، وهو الأخذ بجانب الكثرة لا القلّة ، ولم يكن مختصّا بالنافلة (مع أنّ الاهتمام في النافلة بمراعاة الاحتياط يوجب ذلك في الفريضة بطريق أولى) لأنّ الفريضة أولى بالاحتياط فيها من النافلة على فرض اختصاص النصّ بالنافلة.

(فتأمّل) إشارة إلى وجه ضعف التمسّك بهذا النصّ على وجوب الإتيان بالأكثر في ما نحن فيه ، لأنّ الاحتياط في النافلة لا يوجب المشقّة ، لجواز الترك. وهذا بخلاف إيجاب

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٥٤ / ١٣. الفقيه ١ : ٣٥٩ / ١٥٧٧. التهذيب ٢ : ١١ / ٢٥. الوسائل ٤ : ٧٦ ، أبواب أعداد الفرائض ، ب ١٨ ، ح ٢. ورد في جميعها معنى الحديث.

١٠١

____________________________________

الاحتياط في قضاء الفريضة ، حيث يكون مستلزما للمشقّة ، فلا وجه للتمسّك بالنصّ المذكور على وجوب الاحتياط في قضاء الفريضة.

ثمّ ما ذكر من الأولويّة غير صحيح أصلا ؛ لأنّ المراد من التمسّك بالأولويّة إن كان إثبات حسن الاحتياط في الفريضة فهو ثابت بحكم العقل به مستقلّا من دون حاجة إلى الأولويّة المذكورة.

وإن كان المراد منه إثبات وجوب الاحتياط في الفريضة ، ففيه : إنّ الحكم بحسن الاحتياط في النافلة لا يقتضي الحكم بوجوبه في الفريضة ، خصوصا مع اقتضاء وجوبه في الفريضة وقوع الناس في الحرج.

هذا تمام الكلام في المطلب الثاني.

١٠٢

المطلب الثالث

فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والحرمة

وفيه مسائل :

المسألة الاولى

في حكم دوران الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة عدم الدليل على تعيين أحدهما بعد قيام الدليل على أحدهما.

كما إذا اختلفت الامّة على القولين بحيث علم عدم الثالث.

____________________________________

(المطلب الثالث : في ما دار الأمر فيه بين الوجوب والحرمة ، وفيه مسائل :

المسألة الاولى : في حكم دوران الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة عدم الدليل على تعيين أحدهما بعد قيام الدليل على أحدهما. كما إذا اختلفت الامّة على القولين بحيث علم عدم الثالث).

كما إذا ذهب بعضهم إلى وجوب صلاة الجمعة ، وبعضهم إلى حرمتها ، حيث يعلم عدم استحبابها.

وقبل البحث في حكم هذه المسألة لا بدّ من تحرير محلّ النزاع في هذا المطلب الثالث ، ومحلّ الكلام فيه يتّضح بعد ذكر امور :

منها : إنّ دوران الفعل بين الوجوب والحرمة على قسمين :

أحدهما : أن يكون أمره دائرا بين الوجوب والحرمة فقط.

وثانيهما : أن يكون أمره دائرا بينهما ، مع احتمال اتّصافه بغيرهما من الأحكام غير الإلزاميّة ، كما تقدّم هذا القسم في الجدول الذي تقدّم آنفا.

ومنها : إنّ كل واحد من الوجوب والحرمة الذين يدور حكم الفعل بينهما يمكن أن يكون توصّليّا ويمكن أن يكون تعبّديّا ، ويمكن أن يكون أحدهما توصّليّا والآخر تعبّديّا.

ومنها : إنّ الواقعة في دوران الأمر بين المحذورين ؛ تارة تكون واحدة ، واخرى تكون

١٠٣

فلا ينبغي الإشكال في إجراء أصالة عدم كلّ من الوجوب والحرمة ، بمعنى نفي الآثار المتعلّقة بكلّ واحد منهما بالخصوص إذا لم يلزم مخالفة علم تفصيلي ، بل ولو استلزم ذلك على وجه تقدّم في أوّل الكتاب في فروع اعتبار العلم الإجمالي.

____________________________________

متعدّدة.

إذا عرفت هذه الامور ، فنقول : إنّ محلّ النزاع هو ما إذا كان دوران الفعل بين الوجوب والحرمة التوصّليّين مع وحدة الواقعة ، بحيث لا يكون احتمال اتّصافه بحكم آخر في البين ، وإلّا يكون موردا للبراءة بلا إشكال ، كدوران الفعل بين الحرمة مع غير الوجوب ، والوجوب مع غير الحرمة ، لأنّ الملاك في جواز الرجوع إلى البراءة هو ما إذا لم يكن الرجوع إليها مستلزما للمخالفة القطعيّة العمليّة ، وهي لازمة من الرجوع إلى البراءة في صورة تعدّد الواقعة ، إذ لازم البراءة هو ترك الفعل في واقعة ، وارتكابه في واقعة اخرى لجواز الفعل والترك بمقتضى البراءة ، وهكذا يكون الرجوع إلى البراءة مستلزما للمخالفة القطعيّة العمليّة فيما إذا كان كلاهما أو أحدهما تعبّديّا ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، إنّ محلّ النزاع هو دوران الفعل بين الوجوب والحرمة التوصّليّين في الواقعة الواحدة ، فيما إذا لم يكن احتمال غيرهما معهما. هذا تمام الكلام في تحرير محلّ الكلام في المقام.

(فلا ينبغي الإشكال في إجراء أصالة عدم كلّ من الوجوب والحرمة) لا بمعنى نفيهما واقعا ، ثمّ نفي الآثار مطلقا وإن كانت مشتركة بينهما ، بل (بمعنى نفي الآثار المتعلّقة بكلّ واحد منهما بالخصوص إذا لم يلزم مخالفة علم تفصيلي) ، كما إذا نذر شخص درهما للفقير بإتيان واجب ، أو بترك حرام ، حيث يجوز له استصحاب عدم وجوب صلاة الجمعة ، لأجل أن يترتّب عليه نفي وجوب الدرهم ، أو استصحاب عدم حرمتها كذلك.

ومن المعلوم أنّه لا يلزم من استصحاب عدم وجوب صلاة الجمعة ونفي وجوب الدرهم مخالفة علم تفصيلي ، لاحتمال عدم وجوبها واقعا ، (بل ولو استلزم ذلك على وجه تقدّم في أوّل الكتاب) ، بل يجوز الرجوع إلى الاستصحاب ، ولو كان مستلزما لمخالفة علم تفصيلي متولّد من العلم الإجمالي على ما تقدّم في أوّل الكتاب من عدم اعتباره ، فراجع.

١٠٤

وإنّما الكلام هنا في حكم الواقعة من حيث جريان أصالة البراءة وعدمه ، فإنّ في المسألة وجوها ثلاثة : الحكم بالإباحة ظاهرا ، نظير ما يحتمل التحريم وغير الوجوب ، والتوقّف بمعنى عدم الحكم بشيء لا ظاهرا ولا واقعا ، والتخيير.

____________________________________

نعم ، لا يصحّ استصحاب عدمهما لنفي الآثار المشتركة بينهما ، وذلك ما إذا فرضنا أنّ شخصا نذر درهما للفقير ، إلّا أنّه لا يعلم بأنّ نذره هذا تعلّق بفعل واجب ، أو بترك حرام ، ثمّ صلّى الجمعة تارة ، وتركها اخرى ، فلا يصحّ له استصحاب عدم وجوب الجمعة ، وعدم حرمتها لنفي وجوب الدرهم ، لأنّ ترك دفع الدرهم للفقير مخالفة قطعيّة عمليّة ، كما لا يخفى.

ثمّ الكلام في هذا المقام لم يكن في الاستصحاب ، وعدمه ، (وإنّما الكلام هنا في حكم الواقعة من حيث جريان أصالة البراءة وعدمه ، فإنّ في المسألة وجوها ثلاثة :).

الأوّل : ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(الحكم بالإباحة ظاهرا ، نظير ما يحتمل التحريم وغير الوجوب).

والثاني : ما أشار إليه بقوله :

(والتوقّف بمعنى عدم الحكم بشيء لا ظاهرا) ، لعدم الدليل على الإباحة ، ولا على وجوب الأخذ بالوجوب أو الحرمة ، (ولا واقعا) بتعيين أحدهما ، لعدم الدليل عليه ، ولا بالتخيير الواقعي الذي يظهر من الشيخ قدس‌سره لفساده ، كما تقدّم في بحث القطع في مسألة اختلاف الامّة على قولين ، فراجع.

ثمّ إنّ مرجع التوقّف إلى إلغاء الشارع لكلا الاحتمالين فيجوز الفعل والترك ، إذ [لا حرج في الفعل ، ولا في الترك بحكم العقل ، وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح] ، أي : لو لم يحكم العقل بنفي الحرج عن الفعل والترك معا مع تساويهما عند الشارع من جهة إلغائه كلا الاحتمالين ، بل لو حكم بالحرج في الفعل مثلا لزم الترجيح بلا مرجّح.

والثالث : ما أشار إليه بقوله : [ووجوب الأخذ ... إلى آخره] ، ثمّ هذا الوجه الثالث على قسمين :

أحدهما : وجوب الأخذ بأحدهما بعينه ، كالأخذ بالحرمة.

وثانيهما : وجوب الأخذ بأحدهما لا بعينه ، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر بين الأخذ

١٠٥

ومحلّ هذه الوجوه ما لو كان كلّ من الوجوب والتحريم توصّليّا ، بحيث يسقط بمجرّد الموافقة ، إذ لو كانا تعبّديّين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف أو كان أحدهما المعيّن كذلك لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة : لأنّها مخالفة قطعيّة عمليّة.

وكيف كان ، فقد يقال في محلّ الكلام بالإباحة ظاهرا ، لعموم أدلّة الإباحة الظاهريّة ، مثل قولهم : (كلّ شيء لك حلال) (١) ، وقولهم : (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع) (٢) ،

____________________________________

بالوجوب والحرمة ، ثمّ إنّ التخيير على قسمين :

أحدهما : هو التخيير ابتداء.

وثانيهما : هو التخيير استمرارا ، والتخيير الاستمراري على قسمين :

أحدهما : هو التخيير استمرارا مطلقا.

وثانيهما : هو التخيير استمرارا بشرط البناء عليه من الأوّل. هذا تمام الكلام في الوجوه الثلاثة إجمالا ، والأكثر منها تفصيلا ، كما لا يخفى.

(ومحلّ هذه الوجوه ما لو كان كلّ من الوجوب والتحريم توصّليّا ... إلى آخره).

كما تقدّم في بيان محلّ النزاع ، بحيث يسقط كلّ من الوجوب والحرمة بمجرّد الموافقة من دون قصد القربة ، كما هو شأن كون التكليف توصّليّا ، فلا يلزم ـ حينئذ ـ من الرجوع إلى البراءة والقول بالإباحة مخالفة قطعيّة عمليّة ، لاحتمال كون ما فعله واجبا ، وما تركه حراما ، وهذا بخلاف ما إذا كانا تعبّديّين أو أحدهما تعبّديّا ، حيث يلزم من طرحهما والرجوع إلى الإباحة مخالفة قطعيّة عمليّة ، سواء فعل أو ترك ، وذلك لفوات قصد القربة ، إذ لا يمكن قصد القربة مع الالتزام بالإباحة.

(وكيف كان ، فقد يقال في محلّ الكلام بالإباحة ظاهرا ، لعموم أدلّة الإباحة الظاهريّة ... إلى آخره).

والأقوال في محلّ الكلام ـ وهو كون كلّ منهما توصّليّا ـ متعدّدة :

منها : تقديم جانب الحرمة بحجّة أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠. التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٩. الوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

(٢) الكافي ١ : ١٦٤ / ٣. التوحيد : ٤١٣ / ٩. الوسائل ٢٧ : ١٦٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٣٣.

١٠٦

فإنّ كلّا من الوجوب والحرمة قد حجب عن العباد علمه. وغير ذلك من أدلّته ، حتى قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه أمر أو نهي) (١) ، على رواية الشيخ رحمه‌الله إذ الظاهر ورود أحدهما بحيث يعلم تفصيلا ، فيصدق هنا أنّه لم يرد أمر ولا نهي.

هذا كلّه ، مضافا إلى حكم العقل بقبح المؤاخذة على كلّ من الفعل والترك ، فإنّ الجهل بأصل الوجوب علّة تامّة عقلا بقبح العقاب على الترك من غير مدخليّة لانتفاء احتمال

____________________________________

ومنها : الحكم بالتخيير بينهما شرعا.

ومنها : الحكم بالإباحة شرعا ، والتخيير عقلا.

ومنها : التخيير بينهما عقلا من غير الالتزام بالحكم الظاهري شرعا.

ومنها : ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : (فقد يقال في محلّ الكلام بالإباحة ظاهرا) بحجّة شمول أدلّتها للمقام وهي : (قولهم عليهم‌السلام : (كلّ شيء لك حلال) ، وقولهم عليهم‌السلام : (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع) ... إلى آخره) ، و (قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي أو أمر) على رواية الشيخ رحمه‌الله) حيث اضيف فيها قوله عليه‌السلام : (أو أمر) إلى قوله : (نهي) ، وأمّا على رواية غيره (٢) ، حيث لم يكن فيها قوله : (أو أمر) ، فالرواية لا تشمل المقام ، لأنّها مختصّة ـ حينئذ ـ بالشبهة التحريميّة.

وتقريب الاستدلال بالروايات المتقدّمة على الإباحة الظاهريّة في المقام مبني على أن يكون المراد بالعلم الذي جعل غاية للحلّيّة الظاهريّة في رواية الحلّ علما تفصيليّا كما هو كذلك بقرينة (بعينه) في قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه ... إلى آخره) ، وأن يكون المراد من حديث الحجب : (ما حجب الله علمه) تفصيلا(عن العباد ، فهو موضوع عنهم).

وأن يكون المراد بقوله : (كلّ شيء مطلق) ، أي : محكوم بالحلّيّة حتى يرد فيه النهي أو الأمر تفصيلا حتى يصدق في ما نحن فيه عدم ورودهما كذلك ، إذ لم يرد في المقام أمر تفصيلا ، ولا نهي كذلك.

(هذا كلّه ، مضافا إلى حكم العقل بقبح المؤاخذة على كلّ من الفعل والترك ، فإنّ الجهل

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٦٦٩ / ١٤٠٥.

(٢) الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٧. الوسائل ٢٧ : ١٧٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٧.

١٠٧

الحرمة فيه ، وكذا الجهل بأصل الحرمة. وليس العلم بجنس التكليف المردّد بين نوعي الوجوب والحرمة كالعلم بنوع التكليف المتعلّق بأمر مردّد حتى يقال : إنّ التكليف في المقام معلوم إجمالا.

____________________________________

بأصل الوجوب) مع قطع النظر عن احتمال الحرمة ، وهكذا الجهل بأصل الحرمة مع قطع النظر عن احتمال الوجوب نظرا إلى الشكّ في أصل التكليف دون المكلّف به (علّة تامّة عقلا بقبح العقاب على الترك) في صورة الجهل بأصل الوجوب ، وعلى الفعل في صورة الجهل بأصل الحرمة.

فحاصل ما يستفاد من كلام المصنّف قدس‌سره هو جريان البراءة الشرعيّة ، والعقليّة في المقام.

قوله : (وليس العلم بجنس التكليف المردّد بين نوعي الوجوب والحرمة كالعلم بنوع التكليف المتعلّق بأمر مردّد ... إلى آخره).

دفع لما يقال من أنّ العلم بجنس التكليف في المقام مانع من جريان البراءة مطلقا ، كما أنّ العلم بنوع التكليف المتعلّق بأمر مردّد بين أمرين ، مثل العلم بوجوب صلاة مردّدة بين الظهر والجمعة ، مانع عن جريان البراءة مطلقا ، فوجب ـ حينئذ ـ الاحتياط ، وحيث لا يمكن أخذ كليهما ، فلا بدّ من أخذ أحدهما.

وحاصل الدفع أنّ العلم بنوع التكليف وإن كان مانعا عن جريان البراءة إلّا أنّ العلم بجنس التكليف لم يكن مانعا عن البراءة مطلقا ، وذلك للفرق بين العلم بجنس التكليف والعلم بنوعه ، حيث يكون الرجوع إلى البراءة في المورد الثاني مستلزما للمخالفة القطعيّة العمليّة ، كما إذا علم بحرمة الخمر المردّد بين الإنائين ، حيث يكون ارتكابهما بعد الحكم بالإباحة مخالفة قطعيّة عمليّة ، لقول الشارع : اجتنب عن الخمر ، وهذا بخلاف مورد العلم بجنس التكليف ـ كما في المقام ـ حيث لا يكون الرجوع إلى البراءة مستلزما للمخالفة القطعيّة العمليّة ، فيما إذا كانت الواقعة واحدة ، كما هو المفروض في محلّ الكلام ، حيث لا يخلو المكلّف فيها من الفعل المطابق لاحتمال الوجوب والترك الموافق لاحتمال الحرمة واقعا ، بل لا يمكن تحقّق المخالفة القطعيّة العمليّة في المقام ، فيكون هذا الفرق موجبا لوجوب الاحتياط في مورد العلم بنوع التكليف ، وجواز الرجوع إلى البراءة في مورد العلم بجنس التكليف.

١٠٨

وأمّا دعوى «وجوب الالتزام بحكم الله تعالى ، لعموم دليل وجوب الانقياد للشرع».

ففيها : إنّ المراد بوجوب الالتزام : إن اريد وجوب موافقة حكم الله فهو حاصل في ما نحن فيه ، فإنّ في الفعل موافقة للوجوب وفي الترك موافقة للحرمة ، إذ المفروض عدم توقّف الموافقة على قصد الامتثال ، وإن اريد وجوب الانقياد والتديّن بحكم الله فهو تابع للعلم بالحكم ، فإن علم تفصيلا وجب التديّن به كذلك ، وإن علم إجمالا وجب التديّن بثبوته في الواقع. ولا ينافي ذلك التديّن ـ حينئذ ـ الحكم بإباحته ظاهرا ، إذ الحكم الظاهري لا يجوز أن يكون معلوم المخالفة تفصيلا للحكم الواقعي من حيث العمل ، لا من حيث التديّن به.

____________________________________

(وأمّا دعوى «وجوب الالتزام بحكم الله تعالى ، لعموم دليل وجوب الانقياد للشرع).

ففيها : إنّ المراد بوجوب الالتزام ... إلى آخره).

وحاصل الدعوى أنّ الرجوع إلى البراءة والحكم بالإباحة في المقام ينافي وجوب الالتزام بحكم الله الواقعي ، فلا يجوز الحكم بالإباحة ، لأنّه مستلزم للمخالفة القطعيّة الالتزاميّة ، لعدم كون الحكم في الواقع إباحة ، بل ؛ إمّا الوجوب أو الحرمة ، فلا بدّ من الاحتياط بوجوب الالتزام بأحدهما.

وأشار إلى دفعها بقوله :

(ففيها : إنّ المراد بوجوب الالتزام : إن اريد وجوب موافقة حكم الله فهو حاصل في ما نحن فيه).

وحاصل ما أفاده المصنّف قدس‌سره ، في دفع الدعوى المذكورة هو أنّ المراد بوجوب الالتزام بحكم الله تعالى إن كانت موافقته عملا فهي حاصلة فيما نحن فيه ، وذلك لأنّ الموافقة العمليّة القطعيّة غير ممكنة في المقام ، فلا تكون واجبة قطعا ، وأمّا الممكن منها ، وهي الموافقة العمليّة الاحتماليّة ، فحاصلة لأنّ المكلّف لا يخلو من الفعل الموافق لاحتمال الوجوب ، أو الترك الموافق لاحتمال الحرمة ، وإن كان المراد بوجوب الالتزام الانقياد والتديّن قلبا بالحكم الواقعي فهو يكون تابعا للعلم بالحكم ، فإن علم به تفصيلا وجب التديّن والالتزام به تفصيلا ، وإن علم به إجمالا وجب التديّن به كذلك ، والالتزام بالحكم الواقعي في المقام إجمالا لا ينافي الحكم بالإباحة ظاهرا ، لجواز المخالفة الالتزاميّة للحكم الواقعي ، وما لا يجوز وهي المخالفة للحكم الواقعي من حيث العمل غير لازم في

١٠٩

ومنه يظهر اندفاع ما يقال من : «أنّ الالتزام وإن لم يكن واجبا بأحدهما إلّا أنّ طرحهما والحكم بالإباحة طرح لحكم الله الواقعي وهو محرّم ، وعليه يبنى عدم جواز إحداث القول الثالث إذا اختلفت الامّة على القولين ، يعلم دخول الإمام عليه‌السلام في أحدهما».

وتوضيح الاندفاع : إنّ المحرّم ـ وهو الطرح في مقام العمل ـ غير متحقّق.

والواجب في مقام التديّن الالتزام بحكم الله على ما هو عليه في الواقع ، وهو ـ أيضا ـ متحقّق ، فلم يبق إلّا وجوب تعبّد المكلّف وتديّنه والتزامه بما يحتمل الموافقة للحكم الواقعي ، وهذا ممّا لا دليل على وجوبه أصلا.

والحاصل أنّ الواجب شرعا هو الالتزام والتديّن بما علم أنّه حكم الله الواقعي ، ووجوب الالتزام بخصوص الوجوب بعينه أو الحرمة بعينها من اللوازم العقليّة للعلم العادي التفصيلي يحصل من ضمّ صغرى معلومة تفصيلا إلى تلك الكبرى ، فلا يعقل وجوده

____________________________________

المقام.

(ومنه يظهر اندفاع ما يقال من : «أنّ الالتزام وإن لم يكن واجبا بأحدهما إلّا أنّ طرحهما والحكم بالإباحة طرح لحكم الله الواقعي وهو محرّم).

وممّا ذكرنا من أنّ المحرّم هو المخالفة من حيث العمل ، وهي غير لازمة في المقام (يظهر اندفاع ما يقال من أنّ الالتزام ... إلى آخره).

وحاصل ما يقال : إنّ الحكم بالإباحة موجب لطرح حكم الله الواقعي ، وهو محرّم بدليل عدم جواز إحداث القول الثالث ، فيما إذا اختلفت الامّة على قولين يعلم دخول الإمام عليه‌السلام في أحدهما ؛ معلّلا بأنّ إحداث القول الثالث طرح لحكم الله الواقعي ، وهذا التعليل شامل لما نحن فيه ، كما ذكرنا من أنّ الحكم بالإباحة طرح لحكم الله الواقعي ، وهو إمّا الوجوب أو الحرمة ، فلا بدّ من أخذ أحدهما لا الحكم بالإباحة.

(وتوضيح الاندفاع : إنّ المحرّم ـ وهو الطرح في مقام العمل ـ غير متحقّق).

لما تقدّم من أنّ المكلّف في مقام العمل لا يخلو من الفعل الموافق للوجوب احتمالا ، أو الترك الموافق للحرمة كذلك ، (والواجب في مقام التديّن الالتزام بحكم الله) الواقعي وهو ـ أيضا ـ حاصل ، كما ذكرنا.

(فلم يبق إلّا وجوب تعبّد المكلّف ... إلى آخره).

١١٠

مع انتفائه ، وليس حكما شرعيّا ثابتا في الواقع حتى يجب مراعاته ولو مع الجهل التفصيلي.

____________________________________

بأحدهما بالخصوص ، بأن يلتزم بالوجوب فقط ، لاحتمال موافقته للحكم الواقعي ، أو بالحرمة كذلك ، وهذا ممّا لم يدلّ عليه دليل أصلا.

قوله : (وليس حكما شرعيّا ثابتا في الواقع حتى يجب مراعاته ولو مع الجهل التفصيلي) دفع لما قد يتوهّم من أنّ التديّن والالتزام بخصوص الوجوب ، أو الحرمة واجب شرعا ، فإذا علم بالوجوب أو الحرمة تفصيلا وجب الالتزام بكلّ واحد منهما ، كذلك.

وأمّا إذا لم يعلم المكلّف بهما تفصيلا ، بل يعلم بأحدهما إجمالا ، كما في المقام ، حيث لا يعلم أنّ الحكم الواقعي هو الوجوب حتى يجب الالتزام به أو الحرمة حتى يجب الالتزام بها ، كان مقتضى العلم الإجمالي هو وجوب الاحتياط في مورد الشكّ في المكلّف به ، لأنّ وجوب الالتزام معلوم ، والشكّ في متعلّقه بأنّه هل هو الوجوب ، أو الحرمة؟ كما أنّ وجوب الصلاة يوم الجمعة معلوم ، والشكّ في متعلّقه بأنّه هل هو الظهر أو الجمعة؟ وحيث لا يمكن الاحتياط بالجمع بينهما في المقام ، فيجب الأخذ بأحدهما تخييرا ، فيجب الالتزام بالوجوب أو الحرمة تخييرا.

وحاصل الدفع هو أنّ وجوب الالتزام بخصوص أحدهما ليس حكما شرعيّا حتى يرجع الشكّ إلى الشكّ في المكلّف به ، فيجب فيه الاحتياط.

بل الحكم بوجوب الالتزام عقلي ، يحكم به تفصيلا فيما إذا كان كلّ من الوجوب والحرمة معلوما تفصيلا ، فيحصل حكمه بوجوب الالتزام تفصيلا بعد ضمّ صغرى معلومة تفصيلا ، وهي : وجوب الصلاة تفصيلا ، وحرمة الخمر كذلك ، إلى تلك الكبرى فيقال : هذا الوجوب حكم الله الواقعي ، وكلّ حكم الله الواقعي يجب الالتزام به ، فهذا الوجوب يجب الالتزام به ، وهكذا في الحرمة.

(فلا يعقل وجوده مع انتفائه).

أي : لا يعقل وجود وجوب الالتزام التفصيلي مع انتفاء ضمّ الصغرى المعلومة تفصيلا إلى الكبرى ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، مع تصرّف في الجملة.

١١١

ومن هنا يبطل قياس ما نحن فيه بصورة تعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجيّة ؛ الدالّ أحدهما على الأمر ، والآخر على النهي ، كما هو مورد بعض الأخبار الواردة في تعارض الخبرين.

ولا يمكن أن يقال : إنّ المستفاد منه بتنقيح المناط هو وجوب الأخذ بأحد الحكمين وإن لم يكن على كلّ واحد منهما دليل معتبر معارض بدليل الآخر.

____________________________________

(ومن هنا يبطل قياس ما نحن فيه بصورة تعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجيّة ؛ الدالّ أحدهما على الأمر ، والآخر على النهي).

أي : ومن عدم كون وجوب الالتزام حكما شرعيّا واقعيّا ـ كما تقدّم في دفع التوهّم السابق ـ يكون قياس ما نحن فيه بصورة تعارض الخبرين باطلا.

وبطلان قياس المقام بالخبرين المتعارضين يتّضح بعد تقريب أصل القياس.

وملخّصه أنّه كما أنّ الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين واجب شرعا لما دلّ على حجيّة خبر الثقة مطلقا ، إذ لازم حجيّة كلّ خبر هو وجوب الأخذ والعمل به ، ولمّا كان الأخذ بكلا الخبرين غير ممكن في فرض التعارض ، فلا بدّ عقلا من الأخذ بأحدهما تخييرا ، فكذلك في المقام يجب الالتزام شرعا بكلّ حكم بخصوصه ، فلمّا لم يكن الالتزام بالوجوب والحرمة معا معقولا ، وذلك للعلم بوجود أحدهما فقط ، كان الالتزام بأحدهما واجبا.

وتوضيح البطلان : إنّ هذا القياس مع الفارق ، فيكون باطلا.

والفرق هو وجود الدليل على وجوب الأخذ بأحدهما تخييرا في باب التعارض دون ما نحن فيه ، وقد تقدّم الدليل الدالّ على وجوب الأخذ بأحدهما في باب التعارض ، وهو ما دلّ على حجيّة خبر الثقة مطلقا ، ولم يدلّ دليل على وجوب الالتزام بخصوص أحدهما في المقام ، بل دلّ على الالتزام بحكم الله الواقعي ، ويكفي في المقام الالتزام بالواقع على ما هو عليه ، ولا يجب الالتزام بخصوص الوجوب أو الحرمة إلّا في مورد العلم بهما تفصيلا.

(ولا يمكن أن يقال : إنّ المستفاد منه بتنقيح المناط هو وجوب الأخذ بأحد الحكمين وإن لم يكن على كلّ واحد منهما دليل معتبر معارض بدليل الآخر).

وحاصل ما يقال : إنّ المستفاد من بعض الأخبار الواردة في تعارض الخبرين هو :

١١٢

فإنّه يمكن أن يقال : إنّ الوجه في حكم الشارع ـ هناك ـ بالأخذ بأحدهما هو أنّ الشارع أوجب الأخذ بكلّ من الخبرين المفروض استجماعهما لشرائط الحجيّة ، فإذا لم يمكن الأخذ بهما معا فلا بدّ من الأخذ بأحدهما. وهذا تكليف شرعي في المسألة الاصوليّة غير التكليف المعلوم تعلّقه إجمالا في المسألة الفرعيّة بواحد من الفعل والترك ، بل ولو لا النصّ الحاكم هناك بالتخيير أمكن القول به من هذه الجهة ، بخلاف ما نحن فيه ، إذ لا تكليف إلّا بالأخذ بما صدر واقعا في هذه الواقعة ، والالتزام به حاصل من غير حاجة إلى الأخذ بأحدهما بالخصوص.

ويشير إلى ما ذكرنا من الوجه قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : (بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك) (١). وقوله عليه‌السلام : (من باب التسليم) إشارة إلى أنّه لمّا وجب على المكلّف

____________________________________

وجوب الأخذ بأحد الحكمين المستفادين من الخبرين المتعارضين بمناط رعاية الشارع للأحكام الواقعيّة ، فيجب الأخذ بها على قدر الإمكان ، وهو الأخذ بأحدهما في فرض تعارض الخبرين ، وهذا المناط جار في مطلق دوران الأمر بين المحذورين ، (وإن لم يكن على كلّ واحد منهما دليل معتبر معارض بدليل الآخر) كما في المقام ، حيث يكون دوران الأمر بين المحذورين ناشئا عن عدم النصّ ، فيجب الأخذ والالتزام بأحدهما لذلك المناط.

(فإنّه يمكن أن يقال : إنّ الوجه في حكم الشارع ـ هناك ـ بالأخذ بأحدهما) بالخصوص ليس بمناط رعاية الأحكام الواقعيّة كما توهّم ، بل المناط لوجوب الأخذ بأحدهما هو حجيّتهما بعد فرض اجتماع شرائط الحجيّة فيهما ، فإذا لم يمكن الأخذ بهما معا مع كون كلاهما حجّة ، فلا بدّ من الأخذ بأحدهما.

(وهذا تكليف شرعي في المسألة الاصوليّة) بخلاف ما نحن فيه ، حيث تكون المسألة مسألة فرعيّة.

(إذ لا تكليف إلّا بالأخذ بما صدر واقعا ... إلى آخره).

والالتزام بالواقع حاصل كما تقدّم ، والالتزام بأحدهما بالخصوص لم يدلّ عليه الدليل.

(ويشير إلى ما ذكرنا من الوجه ... إلى آخره) للتخيير في الخبرين المتعارضين

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٦ / ٧. الوسائل ٢٧ : ١٠٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٦.

١١٣

التسليم لجميع ما يرد عليه بالطرق المعتبرة من أخبار الأئمّة عليهم‌السلام ، كما يظهر ذلك من الأخبار الواردة في باب التسليم لما يرد من الأئمّة عليهم‌السلام ، منها قوله : (لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنّا ثقاتنا) (١) ، وكان التسليم لكلا الخبرين الواردين بالطرق المعتبرة المتعارضين ممتنعا وجب التسليم لأحدهما مخيّرا في تعيينه.

ثمّ إنّ هذا الوجه وإن لم يخل عن مناقشة أو منع ، إلّا أنّ مجرّد احتماله يصلح فارقا

____________________________________

(قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار) ـ الواردة في علاج التعارض بين الخبرين ـ : (بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك) ، أي : يجوز لك ، حيث يكون التعبير بالأخذ(من باب التسليم) إشارة إلى وجوب تسليم المكلّف لجميع ما يرد عليه من الأئمة عليهم‌السلام بالطرق المعتبرة ، ولمّا كان التسليم لكلا الخبرين المتعارضين غير ممكن ، وجب التسليم لأحدهما مخيّرا.

(ثمّ إنّ هذا الوجه وإن لم يخل عن مناقشة أو منع ... إلى آخره).

لأنّ وجوب الأخذ بأحد المتعارضين تخييرا مبني على أن يكون اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة ، حيث تحدث المصلحة في المؤدّى بعد قيام الخبر ، فيكون تعارض الخبرين ـ حينئذ ـ من باب تزاحم المصلحتين ، فيحكم العقل بالتخيير ، ويكون حكم الشرع بالتخيير مؤكّدا لحكم العقل ، فلا يتعدّى الحكم بالتخيير من مورد تعارض الخبرين إلى ما نحن فيه ، كما لا يخفى.

وأمّا على القول باعتبار الأخبار من باب الطريقيّة ، كما هو الأظهر ، فمقتضى الأصل الأوّلي ـ نظرا إلى حكم العقل فقط ، مع قطع النظر عن أخبار التخيير ـ وإن كان هو التساقط على تقدير عدم شمول أدلّة الاعتبار للمتعارضين ، أو التوقّف على فرض شمولها لهما ، إلّا أنّ حكم الشارع على خلاف الأصل والقاعدة ، وهو التخيير ـ نظرا إلى أخبار التخيير ـ ليس إلّا رعاية للأحكام الواقعيّة ، ورجحان الأخذ بها قدر الإمكان ، وهذا المناط موجود في ما نحن فيه ، فيتعدّى من موردها إلى ما نحن فيه ، فحينئذ يمنع ما ذكر من عدم جواز التعدّي من مورد الخبرين المتعارضين إلى ما نحن فيه ، ولهذا قال المصنّف قدس‌سره : (إنّ هذا الوجه وإن

__________________

(١) رجال الكشّي ٢ : ٨١٦ / ١٠٢٠. الوسائل ٢٧ : ١٥٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٤٠.

١١٤

بين المقامين مانعا عن استفادة حكم ما نحن فيه من حكم الشارع بالتخيير في مقام التعارض ، فافهم.

فالأقوى في المسألة التوقّف واقعا وظاهرا ، فإنّ الأخذ بأحدهما قول بما لا يعلم ، لم يقم عليه دليل ، والعمل على طبق ما التزمه على أنّه كذلك لا يخلو من التشريع.

وبما ذكرنا يظهر حال قياس ما نحن فيه على حكم المقلّد عند اختلاف المجتهدين في الوجوب والحرمة.

____________________________________

لم يخل عن مناقشة أو منع).

ثمّ قال المصنّف قدس‌سره : (إلّا أنّ مجرّد احتماله).

أي : احتمال اعتبار كلّ من المتعارضين من باب السببيّة يكفي في منع استفادة حكم ما نحن فيه من حكم الشارع بالتخيير في مقام التعارض ، لعدم تعدّي الحكم المذكور من مورد التعارض إلى ما نحن فيه على هذا الاحتمال ، فيصلح فارقا بين المقامين.

(فافهم) لعلّه إشارة إلى أنّ احتمال اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة وإن كان في البين ، إلّا أنّ احتمال اعتبارها من باب الطريقيّة أظهر وأقوى ، فيؤخذ به ويتعدّى من موردها في باب التعارض إلى ما نحن فيه ، كما تقدّم في المناقشة المذكورة.

(وبما ذكرنا يظهر حال قياس ما نحن فيه على حكم المقلّد عند اختلاف المجتهدين في الوجوب والحرمة).

أي : بما ذكرنا من وجه التخيير بين المتعارضين ـ حيث قلنا : إنّ التخيير بينهما يمكن أن يكون من جهة حجيّة الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة ، فلا يجري في المقام ـ يظهر بطلان قياس ما نحن فيه على حكم المقلّد عند اختلاف المجتهدين في الوجوب والحرمة ، بأن يفتي أحدهما بوجوب صلاة الجمعة مثلا ، والآخر بحرمتها ، مع تساويهما في العلم وغيره ، فكما يجب على المقلّد أخذ أحد القولين ، كذلك يجب على المجتهد في المقام الأخذ بأحد الحكمين ، لأنّ الملاك في كلا الموردين هو رعاية الحكم الواقعي ووجوب الأخذ به قدر الإمكان.

ثمّ وجه بطلان القياس المذكور هو ما تقدّم في وجه التخيير بين الخبرين المتعارضين ، حيث يحتمل أن يكون وجوب الأخذ بأحد القولين من باب اعتبارهما على نحو السببيّة ،

١١٥

وما ذكروه في مسألة اختلاف الأمّة لا يعلم شموله لما نحن فيه ممّا كان الرجوع إلى الثالث غير مخالف من حيث العمل لقول الإمام عليه‌السلام ، مع أنّ عدم جواز الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ليس اتّفاقيّا.

على أنّ ظاهر كلام الشيخ القائل بالتخيير ـ كما سيجيء ـ هو إرادة التخيير الواقعي المخالف لقول الإمام عليه‌السلام في المسألة.

____________________________________

كالخبرين المتعارضين لا من باب رعاية الحكم الواقعي ، فقياس المقام بمسألة حكم المقلّد ـ كقياس المقام بمسألة تعارض الخبرين ـ قياس مع الفارق ، لأنّ دوران الأمر في مسألة حكم المقلّد يكون بين الحجّتين ، وفي المقام بين الحكمين.

قوله : (وما ذكروه في مسألة اختلاف الامّة لا يعلم شموله لما نحن فيه ممّا كان الرجوع إلى الثالث غير مخالف من حيث العمل لقول الإمام عليه‌السلام ، مع أنّ عدم جواز الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ليس اتّفاقيّا).

دفع لما ربّما يتوهّم من أنّ الاصوليّين اتّفقوا في مسألة اختلاف الامّة على عدم جواز الرجوع إلى القول الثالث ، لكونه موجبا لطرح قول الإمام عليه‌السلام والرجوع إلى البراءة في ما نحن فيه موجب لطرح الحكم الواقعي ، فلا يجوز بالاتّفاق المذكور.

وحاصل الدفع أنّ الإجماع المذكور لا يشمل المقام ، لأنّ ما أجمعوا عليه من عدم جواز الرجوع إلى القول الثالث يكون مختصّا فيما إذا كان القول الثالث مخالفا لقول الإمام عليه‌السلام عملا ، وموجبا لطرحه كذلك ، فلا يشمل المقام ؛ لأنّ الرجوع إلى الأصل في المقام لا يكون مخالفا للحكم الواقعي عملا. نعم ، يكون مستلزما لمخالفته التزاما ، وقد تقدّم جواز المخالفة من حيث الالتزام.

(مع أنّ عدم جواز الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ليس اتّفاقيّا) ، ولو كان مستلزما لطرح القولين ، لأنّ بعضهم يقول في مسألة اختلاف الامّة بطرح القولين بالرجوع إلى الأصل.

(على أنّ ظاهر كلام الشيخ القائل بالتخيير ـ كما سيجيء ـ هو إرادة التخيير الواقعي المخالف لقول الإمام عليه‌السلام في المسألة) ، فيكون مؤيّدا لجواز الرجوع إلى الأصل ، وإن كان مستلزما لطرح القولين.

١١٦

ولذا اعترض عليه المحقّق رحمه‌الله ، بأنّه لا ينفع التخيير فرارا عن الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ، لأنّ التخيير ـ أيضا ـ طرح لقول الإمام عليه‌السلام.

____________________________________

(ولذا اعترض عليه المحقّق رحمه‌الله ، بأنّه لا ينفع التخيير فرارا عن الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل).

أي : لكون ظاهر كلام الشيخ في التخيير الواقعي اعترض عليه المحقّق بأنّ الالتزام بالتخيير لا ينفع في الفرار عن الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ، لكونه موجبا لطرح قول الإمام عليه‌السلام ، (لأنّ التخيير ـ أيضا ـ طرح لقول الإمام عليه‌السلام).

والوجه في ما ذهب إليه الشيخ قدس‌سره من التخيير أنّه اعترض على من ذهب في المسألة إلى جواز طرح القولين بالرجوع إلى الأصل ، لكونه موجبا لطرح قول الإمام عليه‌السلام جزما ، فلا بدّ من اختيار أحدهما ، لئلّا يلزم طرح قول الإمام عليه‌السلام فاعترض عليه المحقّق بأنّ التخيير ـ أيضا ـ طرح لقول الإمام عليه‌السلام ، وهذا الاعتراض من المحقّق مبني على أن يكون مراده من التخيير التخيير الواقعي لا التخيير الظاهري ، لأنّ طرح قول الإمام عليه‌السلام يلزم من القول بالتخيير الواقعي فقط.

فإنّ الحكم الواقعي فيما إذا اختلفت الامّة على قولين ، وذلك بأن يقول بعضهم بوجوب صلاة الجمعة وبعضهم بحرمتها ليس التخيير ، بل إمّا الوجوب معيّنا أو الحرمة كذلك ، لأنّ معنى التخيير الواقعي هو تساوي الفعل والترك في نظر الشارع ، ولم يتعلّق غرضه الداعي إلى الأمر أو النهي بأحدهما معيّنا ، فالتخيير بهذا المعنى مخالف للحكم الواقعي ، وهو إمّا الوجوب أو الحرمة.

والتخيير الظاهري لم يكن مخالفا للحكم الواقعي ، لأنّ معنى التخيير الظاهري هو تساوي الفعل والترك في نظر الشارع في الظاهر ، حينما لم يتمكّن المكلّف من العلم بالوجوب أو الحرمة فيتخيّر بين الفعل والترك ، بمعنى معذوريّته فيهما من دون تغيير مصلحة الفعل لو كان واجبا في الواقع ، أو مفسدته لو كان حراما كذلك.

ومن المعلوم أنّ التخيير بهذا المعنى لا يكون مخالفا للحكم الواقعي حتى يكون موجبا لطرحه ، فلا بدّ أن يكون مراد الشيخ قدس‌سره من التخيير التخيير الواقعي حتى يرد عليه ما اعترضه المحقّق قدس‌سره.

١١٧

وإن انتصر للشيخ بعض بأنّ التخيير بين الحكمين ظاهرا وأخذ أحدهما هو المقدار الممكن من الأخذ بقول الشارع في المقام.

لكن ظاهر كلام الشيخ يأبى عن ذلك ، قال في العدّة :

«إذا اختلفت الامّة على قولين فلا يكون إجماعا. ولأصحابنا في ذلك مذهبان :

منهم من يقول : إذا تكافأ الفريقان ولم يكن مع أحدهما دليل يوجب العلم أو يدلّ على أنّ قول المعصوم عليه‌السلام داخل فيه سقطا ، ووجب التمسّك بمقتضى العقل من حظر أو إباحة على اختلاف مذاهبهم.

____________________________________

(وإن انتصر للشيخ بعض).

وهو سلطان المحقّقين على ما في شرح التنكابني بأنّ مراده من التخيير هو التخيير بين الحكمين ظاهرا ، فلا يكون موجبا لطرح قول الإمام عليه‌السلام كما تقدّم.

(لكنّ ظاهر كلام الشيخ يأبى عن ذلك) ، أي : عن التخيير الظاهري (قال في العدّة : إذا اختلفت الامّة على قولين فلا يكون إجماعا) بسيطا على قول واحد لوجود الاختلاف ، فيكون إجماعا مركّبا بالنسبة إلى نفي القول الثالث.

وغرض المصنّف قدس‌سره من ذكر كلام الشيخ قدس‌سره في العدّة مع ما تفرّع على الأقوال في مسألة اختلاف الامّة ، هو استظهار المصنّف قدس‌سره إرادة التخيير الواقعي من تفريع الشيخ قدس‌سره عدم تحقّق الإجماع بعد الاختلاف في مسألة اختلاف الامّة على القول بالتخيير في تلك المسألة.

فلا بدّ أوّلا : من ذكر ما ذكره الشيخ قدس‌سره في العدّة من ذهاب الأصحاب إلى القولين مع ما تفرّع عليه.

وثانيا : بيان ما استظهره ممّا تفرّع على القول بعدم تحقّق الإجماع في تلك المسألة.

قال الشيخ في العدّة بعد ذكر مسألة اختلاف الامّة على قولين : (ولأصحابنا في ذلك مذهبان : منهم من يقول : إذا تكافأ الفريقان ولم يكن مع أحدهما دليل يوجب العلم) بأنّ المعصوم موافق معهم ، أو لم يدلّ دليل على دخول قول المعصوم عليه‌السلام في قولهم سقط القولان (ووجب) على المجتهد المتأخّر عند تردّده بين القولين (التمسّك بمقتضى العقل) ، أي : بمقتضى حكم العقل بأنّ حكم الأشياء قبل الشرع هو الحظر أو الإباحة (على اختلاف

١١٨

وهذا القول ليس بقويّ ـ ثمّ علّله باطراح قول الإمام عليه‌السلام ، قال ـ : ولو جاز ذلك لجاز مع تعيين قول الإمام عليه‌السلام تركه ، والعمل بما في العقل.

ومنهم من يقول : نحن مخيّرون في العمل بأيّ القولين ، وذلك يجري مجرى الخبرين إذا تعارضا» ، انتهى.

ثمّ فرّع : «على القول الأوّل جواز اتفاقهم بعد الاختلاف على قول واحد ، وعلى القول الثاني عدم جواز ذلك ؛ معلّلا بأنّه يلزم من ذلك بطلان القول الآخر ، وقد قلنا : إنّهم مخيّرون

____________________________________

مذاهبهم).

ثم قال الشيخ قدس‌سره في العدّة : (وهذا القول ليس بقويّ).

أي : القول بسقوط القولين والرجوع إلى حكم العقل ليس بقويّ ، وعلّل عدم قوّته بأنّه موجب لطرح قول الإمام عليه‌السلام.

ثمّ (قال : ولو جاز ذلك) ، أي : طرح قول الإمام عليه‌السلام (لجاز مع تعيين قول الإمام عليه‌السلام تركه ، والعمل بما في العقل).

والتعليل المذكور يرجع إلى قياس استثنائي ، وهو أنّه لو جاز طرح قول الإمام عليه‌السلام مع تردّده بين القولين لجاز طرحه وتركه مع تعيينه ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

فالنتيجة هي عدم جواز طرح قول الإمام عليه‌السلام ، فيكون سقوط القولين المستلزم لطرح قول الإمام ضعيفا.

وأمّا بطلان التالي ، فبالضرورة من الدين ، وذلك لعدم جواز طرح وترك قول الإمام عليه‌السلام لو ثبت وعيّن بأحد الأدلّة الأربعة.

ثمّ قال : (ومنهم من يقول : نحن مخيّرون في العمل بأيّ القولين ، وذلك يجري مجرى الخبرين إذا تعارضا).

فكما أنّ الحكم في تعارض الخبرين هو التخيير رعاية لقول الإمام ، فكذلك في مسألة اختلاف الامّة على قولين.

(ثمّ فرّع : على القول الأوّل جواز اتّفاقهم بعد الاختلاف على قول واحد).

وهو أحد القولين بعد ما ظهر فساد مدرك الآخر للجميع أو لمن يقول به.

(وعلى القول الثاني عدم جواز ذلك ؛ معلّلا بأنّه يلزم من ذلك بطلان القول الآخر ،

١١٩

في العمل ولو كان إجماعهم على أحدهما انتقض ذلك» ، انتهى.

وما ذكره من التفريع أقوى شاهد على إرادة التخيير الواقعي ، وإن كان القول به لا يخلو عن الإشكال.

هذا وقد مضى شطر من الكلام في ذلك في المقصد الأوّل من الكتاب ، عند التكلّم في فروع اعتبار القطع ، فراجع.

وكيف كان ، فالظاهر بعد التأمّل في كلماتهم في باب الإجماع إرادتهم بطرح قول الإمام عليه‌السلام من حيث العمل ، فتأمّل.

ولكنّ الإنصاف : أنّ أدلّة الإباحة في محتمل الحرمة تنصرف إلى محتمل الحرمة وغير

____________________________________

وقد قلنا : إنّهم مخيّرون في العمل ... إلى آخره).

وفرّع على القول الثاني عدم جواز الاتّفاق ، لكونه نقضا للتخيير ، فهذا التفريع أقوى شاهد على إرادة التخيير الواقعي ، لأنّ التخيير الظاهري لا يمنع عن الإجماع المستلزم لانتقاضه وارتفاعه ، إذ لا مانع من ارتفاع الحكم الظاهري بعد العلم بالحكم الواقعي ، ولأنّ الذي لا يرتفع هو الحكم الواقعي ، فلا بدّ أن يكون مراده بالتخيير هو التخيير الواقعي ، وحينئذ لا يجوز قيام الإجماع على خلافه ، وإلّا لزم اجتماع الضدين ، كما لا يخفى.

ثمّ يقول المصنّف قدس‌سره : (وإن كان القول به لا يخلو عن الإشكال).

أي : وإن كان القول بالتخيير الواقعي لا يخلو عن الإشكال ، بل لا يعقل كما تقدّم وجهه.

(وكيف كان ، فالظاهر بعد التأمّل في كلماتهم في باب الاجماع ... إلى آخره).

أي : الإجماع على عدم جواز الرجوع إلى القول الثالث في مسألة اختلاف الامّة فيما إذا كان الرجوع إليه موجبا لطرح قول الإمام عليه‌السلام ، عملا ، فلا يشمل ما نحن فيه ، لعدم لزوم طرح قول الإمام عليه‌السلام ، والحكم الواقعي عملا من الرجوع إلى الأصل ، لأنّ المكلّف لا يخلو من الفعل المطابق لاحتمال الوجوب ، أو الترك الموافق لاحتمال الحرمة.

(فتأمّل) لعلّه إشارة إلى أنّ تقييد عدم جواز الرجوع إلى القول الثالث بما إذا لزم منه طرح قول الإمام عليه‌السلام عملا لا شاهد عليه ، بل ظاهر كلامهم هو عدم جواز الرجوع إلى قول ثالث مطلقا.

(ولكنّ الإنصاف : أنّ أدلّة الإباحة في محتمل الحرمة تنصرف إلى محتمل الحرمة وغير

١٢٠