دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

فلو لم يكن كذلك بأن لم يكلّف به أصلا ، كما لو علم بوقوع قطرة من البول في أحد الإناءين أحدهما بول أو متنجّس بالبول ، أو كثير لا ينفعل بالنجاسة ، أو أحد ثوبين أحدهما نجس بتمامه لم يجب الاجتناب عن الآخر ، لعدم العلم بحدوث التكليف بالاجتناب عن ملاقي هذه القطرة ، إذ لو كان ملاقيها هو الإناء النجس لم يحدث بسببه تكليف بالاجتناب أصلا ، فالشكّ في التكليف بالاجتناب عن الآخر شكّ في أصل التكليف ، لا المكلّف به.

وكذا لو كان التكليف في أحدهما معلوما ، لكن لا على وجه التنجّز ، بل معلّقا على تمكّن المكلّف منه ، فإنّ ما لا يمكّن المكلّف من ارتكابه لا يكلّف منجّزا بالاجتناب عنه ، كما لو علم وقوع النجاسة في أحد شيئين لا يتمكّن المكلّف من ارتكاب واحد معيّن منهما ، فلا يجب الاجتناب عن الآخر ، لأنّ الشكّ في أصل تنجّز التكليف ، لا في المكلّف به تكليفا منجّزا.

وكذا لو كان ارتكاب الواحد المعيّن ممكنا عقلا ، لكنّ المكلّف أجنبي عنه وغير مبتل به بحسب حاله ، كما إذا تردّد النجس بين إنائه وإناء لا دخل للمكلّف فيه أصلا ، فإنّ التكليف بالاجتناب عن هذا الإناء الآخر الممكن عقلا غير منجّز عرفا ، ولهذا لا يحسن التكليف

____________________________________

الأطراف خارجا عن محلّ ابتلاء المكلّف أو غير مقدور له ، ولم يكن رافعا للتكليف ، كاضطرار المكلّف إلى ارتكاب بعض الأطراف ، فينتفي تنجّز التكليف في مورد العلم الإجمالي إذا انتفى قيد من القيود المذكورة ، ويرجع إلى البراءة أو أصالة الطهارة أو استصحابها من دون معارض ، كما أشار إلى انتفاء الاشتراط المذكور بقوله :

(فلو لم يكن كذلك).

أي : فلو لم يكن التكليف بوجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي المعلوم إجمالا منجّزا على كلّ تقدير ، بأن لم يؤثّر العلم الإجمالي في إحداث تكليف جديد في أحد الطرفين أصلا ، كما لو علم بنجاسة أحد الإناءين تفصيلا ، ثمّ علم إجمالا بوقوع قطرة من البول في أحدهما ، فهنا لا يؤثّر العلم الإجمالي في تنجّز التكليف بوجوب الاجتناب عن الإناء النجس ، وذلك لتنجّز التكليف فيه بالعلم التفصيلي ، والمنجّز لا ينجّز ، فيرجع الشكّ في الإناء الطاهر إلى الشكّ في أصل التكليف ، فيرجع إلى البراءة واستصحاب بقاء الطهارة بلا معارض.

وهكذا فيما لو كان أحد الإناءين ممّا لا ينفعل بالنجاسة ، كما لو كان كرّا حيث يرجع

٢٢١

المنجّز بالاجتناب عن الطعام أو الثوب الذي ليس من شأن المكلّف الابتلاء به ، نعم ، يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيّدا بقوله : إذا اتّفق لك الابتلاء بذلك بعارية أو بملك أو إباحة فاجتنب عنه.

والحاصل : أنّ النواهي المطلوب فيها حمل المكلّف على الترك مختصّة بحكم العقل والعرف بمن يعدّ مبتل بالواقعة المنهي عنها ، ولذا يعدّ خطاب غيره بالترك مستهجنا إلّا على وجه التقييد بصورة الابتلاء.

ولعلّ السرّ في ذلك أنّ غير المبتلى تارك للمنهي عنه بنفس عدم الابتلاء ، فلا حاجة إلى نهيه.

____________________________________

الشكّ في ما ينفعل بالنجاسة إلى الشكّ في أصل التكليف لا المكلّف به ، وهكذا فيما إذا كان أحد الطرفين غير

مقدور للمكلّف ، أو خارجا عن محلّ ابتلائه ، فالتكليف ـ حينئذ ـ مشروط ومعلّق على تمكّن المكلّف في الأوّل وعلى ابتلائه في الثاني ، فلا يكون فعليّا في أحد الطرفين ، فيرجع الشكّ في الطرف الآخر في الموردين إلى الشكّ في أصل التكليف.

والحاصل ممّا ذكرنا هو وجود موارد عديدة تخرج عن وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة :

أحدها : أن لا يكون العلم الإجمالي مؤثّرا بالنسبة إلى بعض الأطراف في إحداث تكليف جديد.

وثانيها : أن لا يتمكّن المكلّف من الامتثال بالنسبة إلى بعض الأطراف.

وثالثها : أن يكون بعض الأطراف خارجا عن محلّ ابتلاء المكلّف.

(ولعلّ السر في ذلك) ، أي : في عدم صحّة خطاب غير المبتلى بأحد الطرفين ، واستهجان توجّه الخطاب إليه ، هو أنّ ترك ما لا يكون محلّ الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء من دون حاجة إلى النهي عنه ، بل النهي عنه طلب لما هو حاصل ، وطلب الحاصل قبيح عند العقلاء ، وهكذا يحصل ترك ما لا يكون مقدورا للمكلّف بغير حاجة إلى النهي عنه ، والفرق بينهما أنّ القدرة كالعقل والبلوغ تكون من شرائط أصل التكليف ، والابتلاء شرط لتنجّزه ولا يخفى عليك أنّ اعتبار كون أطراف العلم الإجمالي محلّا لابتلاء المكلّف

٢٢٢

فعند الاشتباه لا يعلم المكلّف تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي.

وهذا باب واسع ينحلّ به الإشكال عمّا علم من عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مواقع ، مثل ما إذا علم إجمالا بوقوع النجاسة في إنائه أو في موضع من الأرض الذي لا يبتلى به المكلّف عادة ، أو بوقوع النجاسة في ثوبه ، أو ثوب غيره ، فإنّ الثوبين لكلّ منهما من باب الشبهة المحصورة مع عدم وجوب اجتنابهما ، فإذا أجرى أحدهما في ثوبه أصالة الحلّ والطهارة لم يعارض بجريانهما في ثوب غيره ، إذ لا يترتّب على هذا المعارض

____________________________________

في تنجّز التكليف المحكوم بوجوب الاجتناب عنها هو من مختصّات المصنّف قدس‌سره وخواصّ هذا الكتاب ، ولم يسبقه أحد فيه ، كما في بعض الشروح.

(فعند الاشتباه) ، أي : اشتباه الحرام الواقعي بين ما هو محلّ للابتلاء وبين غيره (لا يعلم المكلّف تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي).

فلا يجب عليه الاجتناب عمّا هو محلّ للابتلاء ، مقدّمة لامتثال الحرام الواقعي ، لأنّ الشكّ بالنسبة إلى محلّ الابتلاء يرجع إلى الشكّ في أصل التكليف ـ كما عرفت ـ فتجري فيه البراءة.

(وهذا) ، أي : اعتبار كون جميع الأطراف محلّا للابتلاء ، أي : تنجّز التكليف بوجوب الاجتناب عنها في الشبهة المحصورة (باب واسع ينحلّ به الإشكال عمّا علم من عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مواقع ، مثل ما إذا علم إجمالا بوقوع النجاسة في إنائه ، أو في موضع من الأرض الذي لا يبتلى به المكلّف عادة).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره : هو أنّ عدم وجوب الاجتناب في بعض الموارد عن كلا المشتبهين بالشبهة المحصورة ـ مع حكم العقل بوجوب الاجتناب عنهما ـ ليس لأجل تخصيص حكم العقل ، لأنّ حكم العقل لا يقبل التخصيص ، وليس لأجل دليل خاص لعدم وجوده في جميع هذه الموارد ، بل هو لأجل خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.

ففي المثال المذكور لا يجب الاجتناب عن الإناء بعد خروج الأرض عن محلّ الابتلاء ، حيث تجري أصالة الطهارة في جانب الإناء بلا معارض أصلا ، فيحكم بطهارته بها ، أو باستصحابها.

وهكذا في المثال الثاني ، وهو ما إذا علم إجمالا بوقوع النجاسة في ثوبه ، أو ثوب غيره ،

٢٢٣

ثمرة عمليّة للمكلّف يلزم من ترتّبها مع العمل بذلك الأصل طرح التكليف المنجّز بالأمر المعلوم إجمالا.

ألّا ترى أنّ زوجة شخص لو شكّت في أنّها هي المطلّقة أو غيرها من ضرّاتها جاز لها

____________________________________

لخروج أحد الثوبين عن محلّ ابتلاء كلّ واحد من الشخصين ، فيجوز لكلّ واحد منهما أن يجري أصالة الحلّ والطهارة في ثوبه من دون تعارض ، إذ لا يترتّب على أصالة الحلّ والطهارة أثر عملي ، إلّا لصاحب الثوب الذي أجراهما ، وبذلك لا يلزم من الأصل طرح خطاب : اجتنب عن النجس ، لكلّ منهما ، إذ كلّ منهما يحتمل أن يكون النجس ثوب غيره ، بخلاف ما إذا كان كلا الثوبين محلّا للابتلاء ، كما لو كان لشخص واحد ، فيلزم من الرجوع إلى أصالة الحلّ في كلا الثوبين طرح خطاب : اجتنب عن النجس ، فيجب الاجتناب عنهما لامتثال الخطاب المذكور.

وبالجملة ، لو علم كلّ واحد من الشخصين إجمالا بوقوع النجاسة في ثوبه ، أو ثوب صديقه ، لا يجب عليه الاجتناب عن ثوب نفسه ، لخروج الثوب الآخر عن محلّ الابتلاء بالنسبة إلى كلّ واحد منهما ، وقد عرفت عدم تنجّز التكليف بوجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة فيما إذا كان أحد أطرافها خارجا عن محلّ الابتلاء.

ونظير هذا المثال هو ما إذا شكّت زوجة شخص في أنّ المطلّقة هل هي أو غيرها من ضرّاتها؟ بعد العلم الإجمالي بوقوع الطلاق من الزوج على واحدة من زوجاته حيث جاز لها ترتيب أحكام الزوجيّة على نفسها ، وهكذا يجوز ترتيب أحكام الزوجيّة لكلّ واحدة منهنّ لو شكّت كذلك.

وهذا بخلاف ما إذا شكّ الزوج بطلاق واحدة منهنّ بعد العلم الإجمالي بتطليق إحداهنّ ، فيجب عليه الاجتناب عن جميعهنّ ، وليس ذلك ، إلّا لما تقدّم من كون جميع الأطراف محلّا للابتلاء بالنسبة إلى الزوج دون الزوجة ، حيث تكون أصالة عدم طلاق كلّ منهنّ معارضة مع أصالة عدم طلاق الاخرى في حقّ الزوج دون الزوجة ، لأنّ أصالة عدم طلاق ضرّتها لا يترتّب عليها أثر عملي بالنسبة إلى كلّ واحدة منهنّ ، فتبقى أصالة عدم تطليق نفسها من دون معارض ، هذا ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(ألا ترى أنّ زوجة شخص لو شكّت في أنّها هي المطلّقة أو غيرها من ضرّاتها جاز لها

٢٢٤

ترتيب أحكام الزوجيّة على نفسها ، ولو شكّ الزوج هذا الشكّ لم يجز له النظر إلى إحداهما ، وليس ذلك إلّا لأنّ أصالة عدم تطليقة كلّ منهما متعارضان في حقّ الزوج بخلاف الزوجة ، فإنّ أصالة عدم تطلّق ضرّتها لا تثمر لها ثمرة عمليّة.

نعم ، لو اتّفق ترتّب تكليف على زوجيّة ضرّتها دخلت في الشبهة المحصورة ، ومثل ذلك كثير في الغاية.

____________________________________

ترتيب أحكام الزوجيّة على نفسها ، ولو شكّ الزوج هذا الشكّ لم يجز له النظر إلى إحداهما).

وقال غلام رضا في تعليقته على الرسائل : «إنّ خروج هذا المثال عن المقام ليس من جهة كون بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء ، بل من جهة أنّ محلّ الكلام في الشبهة المحصورة إنّما هو ما إذا حصل العلم الإجمالي لشخص واحد دون عدّة أشخاص ، فإنّه نظير واجدي المني في الثوب المشترك ، يكون الشكّ فيه بالنسبة إلى كلّ منهما بدويّا ، فالمرجع هو البراءة». انتهى.

فعلى ما ذكره يكون عدم وجوب الاجتناب على الزوجة من جهة كون شكّها فيه شكّا بدويّا ، وهذا لا ينافي أن يكون عدم وجوب الاجتناب عليها من جهة كون بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء ، فإنّ الشكّ حينئذ ـ أيضا ـ يرجع إلى الشكّ البدوي بالنسبة إلى محلّ الابتلاء ، كما عرفت غير مرّة.

(نعم ، لو اتّفق ترتّب تكليف على زوجيّة ضرّتها دخلت في الشبهة المحصورة).

أي : دخلت هذه الشبهة في الشبهة المحصورة التي يجب الاجتناب عنها ، أي : يجب عليها الاجتناب عن مخالفة التكليف المترتّبة على إبقاء الزوجيّة ، وذلك فيما إذا نذرت درهما للفقير لو طلّقت هي أو ضرّتها مثلا ، فيجب عليها دفع الدرهم للفقير بعد علمها إجمالا بوقوع الطلاق عليها أو على ضرّتها ، ولا يجوز لها استصحاب زوجيّتها وزوجيّة ضرّتها لئلّا تدفع للفقير درهما ، وذلك لعلمها إجمالا بطلاق إحداهما الموجب لوجوب دفع الدرهم للفقير بسبب النذر ، فلا يجوز لها الاستصحاب لأنّه مستلزم للمخالفة القطعيّة ، كما لا يجوز لأحد واجدي المني في الثوب المشترك إدخال الآخر في المسجد بواسطة استصحاب عدم جنابته وعدم جنابة محموله ، لأنّ ذلك مستلزم للمخالفة القطعيّة ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي مع توضيح منّا.

٢٢٥

وممّا ذكرنا يندفع ما تقدّم من صاحب المدارك رحمه‌الله ، من الاستنهاض على ما اختاره من عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة ، بما يستفاد من الأصحاب من عدم وجوب الاجتناب عن الإناء الذي علم بوقوع النجاسة فيه أو في خارجه ، إذ لا يخفى أنّ خارج الإناء ، سواء كان ظهره أو الأرض القريبة منه ، ليس ممّا يبتلى به المكلّف عادة ، ولو فرض كون الخارج ممّا يسجد عليه المكلّف التزمنا وجوب الاجتناب عنهما ، للعلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين حرمة الوضوء بالماء النجس وحرمة السجدة على الأرض النجسة.

ويؤيّد ما ذكرنا صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام الواردة في من رعف فامتخط فصار

____________________________________

(ومثل ذلك كثير في الغاية).

أي : مثل ما ذكر من مثال خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء كثير في الغاية :

منها : ما لو علم الزوج إجمالا بارتداد بعض زوجاته مع غيبة بعضهنّ ، حيث يجوز له استصحاب عدم الارتداد بالنسبة إلى الحاضرة.

ومنها : مسألة واجدي المني في الثوب المشترك ، حيث يجوز لكلّ واحد منهما أن يصلّي وأن يدخل المساجد وأن يمسّ القرآن ، استصحابا للطهارة وعدم الجنابة.

وغيرهما من الفروع الكثيرة المتفرّعة على خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محلّ الابتلاء.

(وممّا ذكرنا) من عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة فيما إذا كان بعض أطرافها خارجا عن محلّ الابتلاء(يندفع ما تقدّم من صاحب المدارك) حيث استدلّ على ما ذهب إليه من عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة (بما يستفاد من الأصحاب من عدم وجوب الاجتناب عن الإناء الذي علم بوقوع النجاسة فيه أو في خارجه).

وحاصل الاندفاع أنّ عدم وجوب الاجتناب عند الأصحاب في المثال المذكور ليس من جهة عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة حتى يكون دليلا لما ذهب إليه صاحب المدارك من عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة ، بل من جهة خروج بعض الأطراف ـ وهو خارج الإناء ـ في المثال عن محلّ الابتلاء.

(ويؤيّد ما ذكرنا) من اعتبار كون جميع الأطراف محلّا للابتلاء في وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة (صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام الواردة في من رعف

٢٢٦

الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه ، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال عليه‌السلام : (إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس به ، وإن كان شيئا بيّنا فلا) (١).

حيث استدلّ به الشيخ قدس‌سره على العفو عمّا لا يدركه الطرف من الدم ، وحملها المشهور على أنّ إصابة الإناء لا تستلزم إصابة الماء ، فالمراد أنّه مع عدم تبيّن شيء في الماء يحكم بطهارته.

ومعلوم أنّ ظهر الإناء وباطنه الحاوي للماء من الشبهة المحصورة.

وما ذكرنا واضح لمن تدبّر.

إلّا أنّ الإنصاف أنّ تشخيص موارد الابتلاء لكلّ من المشتبهين وعدم الابتلاء بواحد معيّن منهما كثيرا ما يخفى.

ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين وقوع النجاسة على الثوب ، ووقوعها على ظهر طائر أو حيوان قريب منه لا يتّفق عادة ابتلاؤه بالموضع النجس منه ، لم يشكّ أحد في عدم وجوب

____________________________________

فامتخط) ، أي : رمى به عن أنفه ، كما في الأوثق (فصار الدم قطعا صغارا ، فأصاب إناءه ، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال عليه‌السلام : (إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس به ، وإن كان شيئا بيّنا فلا)).

أي : فلا يجوز الوضوء منه.

(حيث استدلّ به الشيخ قدس‌سره على العفو عمّا لا يدركه الطرف من الدم).

أي : استدلّ الشيخ بهذه الصحيحة على عدم تنجّس الماء بملاقاة الدم إذا كان الدم من حيث الصغر على حدّ لا يدركه البصر في الماء.

(وحملها المشهور على أنّ إصابة الإناء لا تستلزم إصابة الماء ، فالمراد أنّه مع عدم تبيّن شيء في الماء يحكم بطهارته).

وهذا الحكم منهم مع قولهم بوجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة وكونها محصورة بالفرض ، لا يصحّ إلّا من جهة كون بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء.

(إلّا أنّ الإنصاف أنّ تشخيص موارد الابتلاء لكلّ من المشتبهين وعدم الابتلاء بواحد معيّن منهما كثيرا ما يخفى).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٧٤ / ١٦. التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩. الاستبصار ١ : ٢٣ / ٥٧.

٢٢٧

الاجتناب عن الثوب.

أمّا لو كان الطرف الآخر أرضا لا يبعد ابتلاء المكلّف به في السجود والتيمّم وإن لم يحتج إلى ذلك فعلا ، ففيه تأمّل.

والمعيار في ذلك وإن كان صحّة التكليف بالاجتناب عنه على تقدير العلم بنجاسته ، وحسن ذلك من غير تقييد التكليف بصورة الابتلاء واتّفاق صيرورته واقعة له ، إلّا أنّ تشخيص ذلك مشكل جدّا.

____________________________________

وهذا الكلام من المصنّف قدس‌سره تمهيد لبيان الميزان والملاك لتشخيص محلّ الابتلاء عن غيره ، وبيان حكم الشبهة المحصورة بحسب مقتضى الاصول في مورد الشكّ في الابتلاء ، وذلك لأنّ تشخيص كون الأطراف موردا للابتلاء وعدمه قد يكون واضحا بحيث لا يحتاج إلى تأمّل أصلا ، كما في مثال وقوع النجاسة على الثوب ، أو على ظهر طائر لا يتّفق عادة ابتلاء المكلّف به ، فخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء في هذا المثال واضح.

وهكذا كون جميع الأطراف محلّا للابتلاء فيما إذا علم المكلّف بوقوع النجاسة على أحد ثوبيه أوضح من الشمس ، إلّا أنّه قد يشكّ في كون الأطراف محلّا للابتلاء ، كالمثال الثاني في المتن ، وهو ما إذا علم بوقوع النجاسة على الثوب ، أو على أرض لا يبعد الابتلاء بها في السجود والتيمّم ، فحينئذ يجب بيان أمرين :

أحدهما : بيان ما هو الميزان والمناط في الابتلاء وعدمه.

وثانيهما : بيان ما هو مقتضى الاصول في صورة الشكّ في الابتلاء.

وأمّا الأوّل فقد أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(والمعيار في ذلك ... إلى آخره).

أي : المناط في الابتلاء هو صحّة التكليف بالاجتناب ، وحسنه من دون تقييد بالابتلاء ، كمثال العلم بوقوع النجاسة على أحد الثوبين ، فإذا علم المكلّف إجمالا بوقوع النجاسة على أحد ثوبيه صحّ توجّه خطاب : اجتنب عن النجس ، إليه من دون تقييد ، وهذا بخلاف توجيه خطاب : اجتنب عن الطعام النجس ، الموضوع بين يدي أمير البلد ، حيث لا يصحّ إلّا بالتقييد ، أي : اجتنب عن الطعام المذكور إن ابتليت به ، فإذا علم إجمالا بوقوع النجاسة على الثوب ، أو على الطعام الموضوع أمام الأمير كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ

٢٢٨

نعم ، يمكن أن يقال عند الشكّ في حسن التكليف التنجيزي عرفا بالاجتناب وعدم حسنه إلّا معلّقا لأصل البراءة من التكليف المنجّز ، كما هو المقرّر في كلّ ما شكّ فيه في كون التكليف منجّزا ، أو معلّقا على أمر محقّق العدم ، أو علم التعليق على أمر ، لكن شكّ في تحقّقه أو كون المتحقّق من أفراده ، كما في المقام.

____________________________________

الابتلاء ، فلا يجب الاجتناب عن الثوب.

وأمّا الثاني فيقع الكلام فيه من جهات :

الاولى : في مقتضى الأصل العملي.

والثانية : في مقتضى الأصل اللفظي.

والثالثة : في وجود الضابط الشرعي لتمييز مورد الابتلاء وعدمه.

وأمّا مقتضى الأصل العملي ، فهو أصل البراءة من التكليف المنجّز ، لأنّ مقتضى الشكّ في الابتلاء هو البناء على عدم تحقّق الابتلاء ، فيرجع الشكّ ـ حينئذ ـ إلى الشكّ في أصل التكليف الذي يكون المرجع فيه أصل البراءة ، وقد أشار إليه بقوله :

(نعم ، يمكن أن يقال عند الشكّ في حسن التكليف التنجيزي عرفا بالاجتناب وعدم حسنه إلّا معلّقا لأصل البراءة من التكليف المنجّز).

فكلّ شيء شكّ في كونه محلّ الابتلاء لو فرض العلم بحرمته يحكم بعدم تنجّزها لأصالة البراءة عن التكليف المنجّز ، فيكون في حكم الخارج عن محلّ الابتلاء ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

(كما هو المقرّر في كلّ ما شكّ فيه في كون التكليف منجّزا ، أو معلّقا على أمر محقّق العدم ، أو علم التعليق على أمر ، لكن شكّ في تحقّقه أو كون المتحقّق من أفراده ، كما في المقام).

والحاصل إنّ أصل البراءة من التكليف المنجّز يجري في جميع هذه الموارد المذكورة ، أي : سواء كان الشكّ في تنجّز التكليف ، أو في تحقّق ما علّق عليه التكليف كالبلوغ مثلا ، أو في كون المتحقّق ممّا علّق عليه التكليف ، كما في المقام ، حيث يكون الشكّ في أنّ الشيء ممّا يبتلى به المكلّف أم لا ، بعد العلم بأنّ تنجّز التكليف بالاجتناب معلّق على الابتلاء.

وأمّا مقتضى الأصل اللفظي وهو الخطابات الواردة بالاجتناب عن المحرمات ، فهو

٢٢٩

إلّا أنّ هذا ليس بأولى من أن يقال : إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرّمات مطلقة غير معلّقة ، والمعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعليق بالابتلاء ، كما لو قال : اجتنب عن ذلك الطعام النجس الموضوع قدّام أمير البلد ، مع عدم جريان العادة بابتلاء المكلّف به ، أو : لا تصرّف في اللباس المغصوب الذي لبسه ذلك الملك ، أو الجارية التي غصبها الملك وجعلها من خواصّ نسائه ، مع عدم استحالة ابتلاء المكلّف بذلك كلّه عقلا ولا عادة ، إلّا أنّه بعيد الاتّفاق ، وأمّا لو شكّ في قبح التنجيز فيرجع إلى الإطلاقات.

فمرجع المسألة إلى أنّ المطلق المقيّد بقيد مشكوك التحقّق في بعض الموارد لتعذّر ضبط مفهومه على وجه لا يخفى مصداق من مصاديقه ، كما هو شأن أغلب المفاهيم العرفيّة ، هل

____________________________________

وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في صورة الشكّ في الابتلاء ، فإنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرّمات مطلقة ، وغير مقيّدة إلّا بالابتلاء فيما إذا علم عدم الابتلاء ، حيث يقبّح العرف توجيهها من غير تقييد بالابتلاء.

ففي صورة الشكّ في الابتلاء يرجع إلى الإطلاق ، ويحكم بوجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة ، وقد أشار إليه بقوله :

(إلّا أنّ هذا ليس بأولى من أن يقال : إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرّمات مطلقة ... إلى آخره).

أي : الرجوع إلى الأصل العملي ليس أولى من الرجوع إلى الأصل اللفظي ، بل يجب الرجوع إلى الأصل اللفظي ، لأنّ الأصل اللفظي مقدّم رتبة على الأصل العملي.

فمقتضى إطلاق الخطابات بالاجتناب هو وجوب الاجتناب ، والمتيقّن هو تقييدها بما علم عدم الابتلاء به ، ولا يحتمل الابتلاء به إلّا بعيدا ، كالمثال المذكور في المتن ، (فيصير الأصل في المسألة وجوب الاجتناب) فيما لم يعلم خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء ، بمقتضى التمسّك بإطلاق المطلق ، ولا يسري إجمال القيد إلى إطلاق المطلق حتى يرجع إلى البراءة عن التكليف المنجّز.

وأمّا الضابط الشرعي الذي يتميّز به مورد الابتلاء عن غيره فهو صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة ، حيث جعل الملاك للابتلاء كلّ ما يكون من قبيل الماء في الإناء ، والملاك

٢٣٠

يجوز التمسّك به أو لا؟ والأقوى الجواز ، فيصير الأصل في المسألة وجوب الاجتناب ، إلّا ما علم عدم تنجّز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير العلم بكونه الحرام ، إلّا أن يقال : إنّ المستفاد من صحيحة (١) عليّ بن جعفر المتقدّمة كون الماء وظاهر الإناء من قبيل عدم تنجّز التكليف ، فيكون ذلك ضابطا في الابتلاء وعدمه ، إذ يبعد حملها على خروج ذلك عن قاعدة الشبهة لأجل النصّ ، فافهم.

الرابع : إنّ الثابت في كلّ من المشتبهين لأجل العلم الإجمالي بوجود الحرام الواقعي فيهما هو وجوب الاجتناب ، لأنّه اللازم من باب المقدّمة من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي.

____________________________________

لعدم الابتلاء ما يكون من قبيل خارج الماء وظاهر الإناء.

وقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(إلّا أنّ يقال : إنّ المستفاد من صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة كون الماء وظاهر الإناء ... إلى آخره).

إلّا أن يقال : إنّ قوله عليه‌السلام يصلح أن يكون ضابطا لتمييز مورد الابتلاء عن غيره ، إذا كان الإمام عليه‌السلام في مقام بيان الضابط ، وهو غير معلوم ، فهذه الرواية أجنبيّة عن الضابط الشرعي ، ولعلّ قوله : (فافهم) إشارة إلى ما ذكرناه.

(الرابع) يبحث المصنّف قدس‌سره في هذا الأمر ـ الرابع ـ عن حكم ملاقي أحد المشتبهين بالنجس ، ومحلّ الكلام فيما إذا لاقى شيء بعض أطراف الشبهة المحصورة ، وأمّا إذا لاقى جميع الأطراف وجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ كما يجب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ لكون الملاقي ـ حينئذ ـ معلوم النجاسة.

وكذا لو فرضنا شيئين لاقى أحدهما طرفا من العلم الإجمالي ، ولاقى الآخر الطرف الآخر ، فيجب الاجتناب عن الملاقيين ، كما يجب عن نفس الطرفين ، وذلك لحدوث علم إجمالي آخر بنجاسة أحد الملاقيين.

(إنّ الثابت في كلّ من المشتبهين لأجل العلم الإجمالي بوجود الحرام الواقعي فيهما هو

__________________

(١) الكافي ٣ : ٧٤ / ١٦. التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩. الاستبصار ١ : ٢٣ / ٥٧.

٢٣١

أمّا سائر الآثار الشرعيّة المترتّبة على ذلك الحرام ، فلا تترتّب عليهما ، لعدم جريان باب المقدّمة فيها فيرجع فيها إلى الاصول الجارية في كلّ من المشتبهين بالخصوص ، فارتكاب أحد المشتبهين لا يوجب حدّ الخمر على المرتكب ، بل يجري أصالة عدم موجب الحدّ ووجوبه.

____________________________________

وجوب الاجتناب) عنهما من باب المقدّمة ، لأنّ الاجتناب عن الحرام الواقعي المعلوم إجمالا يتوقّف على الاجتناب عن كلا المشتبهين ، ويترتّب عليهما.

(أمّا سائر الآثار الشرعيّة المترتّبة على ذلك الحرام) كوجوب الحدّ إذا كان خمرا(فلا تترتّب عليهما) ، أي : على ارتكاب أحد المشتبهين ، وذلك (لعدم جريان باب المقدّمة فيها) ، أي : الآثار الشرعيّة المترتّبة على ذلك الحرام ، كوجوب الحدّ مثلا ، وذلك لأنّ خطاب وجوب إجراء الحدّ على شارب الخمر يتوجّه إلى الحاكم المجري للحدّ.

ثمّ إنّ وجوب إقامة الحدّ على من شرب الخمر على الحاكم موقوف على إحراز شرب الخمر من الشارب بالعلم تفصيلا أو إجمالا ، والمفروض أنّه لا يعلم بشرب الخمر لا تفصيلا ولا إجمالا ، غاية الأمر أنّه يعلم شرب أحد المشتبهين بالخمر ، والمفروض أنّ شرب أحد المشتبهين بالخمر لا يوجب حصول العلم التفصيلي أو الإجمالي لشرب الخمر ، فالشكّ بالنسبة إلى شرب الخمر بدوي لا يحتاج إلى المقدّمة العلميّة ، بل يرجع فيه إلى البراءة.

ولغلام رضا في هذا المقام كلام طويل لا يخلو ذكره عن فائدة ، حيث قال في شرح قول المصنّف قدس‌سره : (إنّ الثابت في كلّ من المشتبهين ... إلى آخره) : توضيح المقام : «إنّه لا إشكال في حجيّة العلم الإجمالي بعد ما ثبت تنجّز التكليف به ، ومعنى حجّيته إنّما هو ترتّب آثار متعلّقه ، وهل المترتّب جميع الآثار ، أو بعضها؟.

ظاهر كلام المصنّف قدس‌سره هو التفصيل في الأثر بين ما هو من مقولة الحكم التكليفي ، فيترتّب دون ما هو من مقولة الحكم الوضعي ، لكن هذا ليس بمراد له ، يعني : إنّ المدار ليس على الحكم التكليفي ، كما أنّه ليس على الحكم الوضعي ، بل الميزان أنّ كلّ أثر يحتاج لمخالفته وإثبات ضدّه إلى دليل شرعي ، فهو يترتّب ، وكلّ ما لا يحتاج إثبات ضدّه إليه ، بل نفس الشكّ فيه كاف في عدم الترتّب ، فهو لا يترتّب ، وحينئذ يترتّب عليه مثل عدم

٢٣٢

____________________________________

جواز التوضؤ بأحد الأطراف ، وعدم جواز لبسه في الصلاة ، وعدم صحّة بيعه إذا كان المعلوم بالإجمال هو الميتة ، ضرورة أنّ من آثار الماء النجس والثوب النجس عدم جواز التوضؤ بالأوّل ، وعدم جواز الصلاة في الثاني ، وكذا من آثار الميتة عدم صحّة بيعها.

ولا شبهة في أنّ مخالفة هذه الآثار وإثبات ضدّها ، أعني : كونها جائزة تحتاج إلى دليل شرعي لا محالة ، فهذه الآثار ممّا لا رادع عن ترتّبها ، وهذا بخلاف مثل وجوب الحدّ ، ووجوب الاجتناب عن الملاقي وأمثالهما فإنّ إثبات ضدّها ، أعني : عدم وجوب الحدّ وعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لا يحتاج إلى دليل شرعي ، بل نفس الشكّ فيها كاف ، لأنّ المحتاج إلى الدليل إنّما هو ثبوت الوجوب لا عدمه.

وإن شئت قلت في مقام تحرير الميزان : إنّ الأثر المترتّب على الحرام إن كان عدميّا ، كما في الأمثلة السابقة ، فلا مانع عن ترتّبه وإن كان وجوديّا ، كما في الأمثلة اللاحقة ، فهو ممّا لا يترتّب.

ودعوى أنّه ما الفرق بين وجوب الاجتناب حيث جعل من الآثار العدميّة واوّل بعدم جواز الارتكاب ، ولذا بني على ترتّبه دون وجوب الحدّ؟ مدفوعة بأنّ العبرة إنّما هو بلسان الدليل ، ولسان الدليل هكذا سيق فيهما.

وكيف كان ، فالبرهان على ترتّب الآثار الأوّليّة دون الثانويّة أنّ أثر العلم الإجمالي إنّما يترتّب في مورد وجوده دون عدمه ، والاولى لمّا كانت واجدة له ، فيترتّب عليه أثره بخلاف الثانية ، وذلك لأنّ بالنسبة إلى شرب الخمر مثلا خطابين مختلفي المتعلّق ، والمتوجّه إليه أحدهما : يحرم شرب الخمر ، وثانيهما : يجب الجلد على شاربه ، حيث إنّ المتوجّه إليه في الأوّل إنّما هو نفس المكلّف ، وفي الثاني إنّما هو الحاكم المجري للحدّ.

والمتعلّق في حرمة الشرب إنّما هو ذات الخمر ، وفي وجوب الجلد إنّما هو شربه ، وما وجد العلم الإجمالي في مورده إنّما هو الأوّل ، حيث إنّه علم إجمالا بوجود الخمر بين أحد الإناءين وهو موجب لتوجّه خطاب حرمة شرب الخمر إليه ، والعلم بامتثاله لا يحصل إلّا بالاجتناب عن الطرفين.

وهذا بخلاف الثاني ، فإنّه إذا شرب أحد الطرفين ، واقتصر عليه فلم يعلم شرب الخمر

٢٣٣

وهل يحكم بتنجّس ملاقيه؟ وجهان ، بل قولان مبنيّان على أنّ تنجّس الملاقي إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس ، بناء على أنّ الاجتناب عن النجس يراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط.

ولذا استدلّ السيّد أبو المكارم في الغنية على تنجّس الماء القليل بملاقاة النجاسة ، بما دلّ

____________________________________

تفصيلا ولا إجمالا حتى يتحقّق به الموضوع للخطاب الثاني لكي يجب الحدّ ، بل الشكّ فيه بدوي لا يحتاج إلى المقدّمة العلميّة ، وقس عليه حال الملاقي ، لأنّ ما وجد في مورده العلم الإجمالي إنّما هو خطاب الاجتناب عن النجس ، أعني : الملاقى بالفتح.

وأمّا خطاب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ فهو لا يتوجّه إلّا بعد العلم بحصول الملاقاة للنجس ولو إجمالا ، ولا شبهة في أنّه إذا لاقى أحد الطرفين ، فلم يحصل العلم بالملاقاة للنجس لا تفصيلا ولا إجمالا ، فيكون الشكّ فيه بدويّا فلا يحتاج إلى المقدّمة العلميّة». انتهى.

وكيف كان ، فقد وقع الخلاف في حكم ملاقي بعض المشتبهين بالنجس ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(هل يحكم بتنجّس ملاقيه؟ وجهان ، بل قولان مبنيّان على أنّ تنجّس الملاقي إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس ، بناء على أنّ الاجتناب عن النجس يراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط).

ومنشأ الوجهين المذكورين هو أنّ وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس حينما يعلم المكلّف بملاقاة شيء للنجس تفصيلا ، هل هو من شئون وجوب الاجتناب عن الملاقى النجس ، أو من شئون نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ بالملاقاة وسراية نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ إلى الملاقي بالكسر؟.

وبعبارة اخرى وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس هل هو من شئون الحكم وهو وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ من جهة الملازمة عرفا بين وجوب الاجتناب عن النجس وبين وجوب الاجتناب عن ملاقيه ، أو من جهة تحقّق الموضوع وهو التنجّس بالملاقاة؟.

فعلى الأوّل يجب الاجتناب عن ملاقي أحد الطرفين ، وذلك لتحقّق الحكم بوجوب

٢٣٤

على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)(١).

ويدلّ عليه ـ أيضا ـ ما في بعض الأخبار من استدلاله عليه‌السلام على حرمة الطعام الذي

____________________________________

الاجتناب في الملاقى ـ بالفتح ـ والمفروض أنّ الحكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ من شئون الحكم بوجوبه عن الملاقى ـ بالفتح ـ والملازمة بينهما ، وعلى الثاني لا يجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ وذلك لعدم العلم لملاقاته للنجس ، لأنّ المفروض أنّ الحكم بوجوب الاجتناب في الملاقي تابع لتحقّق نجاسته بالملاقاة مع النجس وهي مشكوكة ، فتجري فيه أصالة الطهارة والحلّية ، وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى منشأ الوجهين ، حيث قال مشيرا إلى وجه وجوب الاجتناب عن ملاقي أحد الطرفين : (إنّ تنجّس الملاقي إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس ، بناء على أنّ الاجتناب عن النجس يراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط).

ثمّ أشار إلى وجه عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي بقوله :

(أو أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به إلّا الاجتناب عن العين ... إلى آخره).

فكلّ من يقول بوجوب الاجتناب عن ملاقي أحد الطرفين لا بدّ أن يقول بأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ يكون من شئون وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ من جهة الملازمة بين وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ وبين وجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر.

فاستدلال السيد أبي المكارم في الغنية على تنجّس الماء القليل بملاقاة النجاسة بما دلّ على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) مبني على الملازمة المذكورة ، حيث أوجب الله تعالى الهجرة والاجتناب عن النجس ، بناء على أن يكون المراد بالرجز هو النجاسة ، فإذا لاقى الماء القليل بالنجاسة وجب الاجتناب عنه بمقتضى الملازمة بين الملاقي والملاقى حكما ، إلّا أنّ الرجز ليس بمعنى النجاسة ، بل المراد به إمّا المعاصي ، أو العذاب ، أو الأصنام والأوثان ، أو الفعل القبيح ، كما في تفسير مجمع البيان (٢).

(ويدلّ عليه أيضا) ، أي : يدلّ على التلازم بين وجوب الاجتناب عن الشيء ووجوب

__________________

(١) المدّثر : ٥.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤٨٨.

٢٣٥

ماتت فيه فأرة ب (أنّ الله سبحانه حرّم الميتة) (١) ، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كلّ واحد من المشتبهين فقد حكم بوجوب هجر كلّ ما لاقاه.

وهذا معنى ما استدلّ به العلّامة رحمه‌الله في المنتهى على ذلك : بأنّ الشارع أعطاهما حكم

____________________________________

الاجتناب عن ملاقيه مضافا إلى ما ذكر ، من أنّ المراد بالاجتناب عن النجس ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه (ما في بعض الأخبار من استدلاله عليه‌السلام على حرمة الطعام الذي ماتت فيه فأرة ب (أنّ الله تعالى حرّم الميتة)).

فلا بدّ من ذكر الخبر المشتمل على استدلال الإمام عليه‌السلام حتى يتّضح ثبوت الملازمة المذكورة.

أمّا الخبر ، فهو مروي عن الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن محمد بن عيسى اليقطيني ، عن النضر بن سويد ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : أتاه رجل فقال : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت ، فما ترى في أكله؟ قال : فقال أبو جعفر عليه‌السلام : (لا تأكله) ، فقال الرجل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها ، فقال عليه‌السلام : (إنّك لم تستخف بالفأرة ، وإنّما استخففت بدينك ، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء).

وأمّا تقريب الاستدلال ، فإنّ السائل أراد بقوله : (الفأرة أهون عليّ ... إلخ) أكل السمن أو الزيت الملاقي للفأرة ، فقول الإمام عليه‌السلام في مقام التعريض له : (إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء) يدلّ على أنّ نجاسة الملاقي للميتة هي عين نجاسة الميتة وحرمته عين حرمتها ، فالمستفاد من هذا الحكم هو الملازمة والاتّحاد بين الملاقي والملاقى حكما.

والحاصل أنّه يمكن الاستدلال على الملازمة المذكورة بظهور ما دلّ على وجوب الاجتناب عن الشيء ، حيث يكون ظاهرا في وجوب الاجتناب عن ملاقيه ، فما دلّ على وجوب الاجتناب عن المشتبه يدلّ على وجوبه عن ملاقيه ، وهكذا يمكن الاستدلال على الملازمة بالخبر المتقدّم.

(وهذا معنى ما استدلّ به العلّامة رحمه‌الله في المنتهى على ذلك).

أي : ثبوت التلازم بين الملاقي والملاقى حكما معنى ما استدلّ به العلّامة على وجوب

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢٠ / ١٣٢٧. الاستبصار ١ : ٢٤ / ٦٠. الوسائل ١ : ٢٠٦ ، أبواب الماء المضاف والمستعمل ، ب ٥ ، ح ٢.

٢٣٦

النجس ، وإلّا فلم يقل أحد : إنّ كلّا من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره ، أو أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به إلّا الاجتناب عن العين ، وتنجّس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتّب للعنوان الواقعي من النجاسات ، نظير وجوب الحدّ للخمر ، فإذا شكّ في ثبوته للملاقي جرى فيه أصل الطهارة وأصل الإباحة.

والأقوى هو الثاني ، أمّا أوّلا ، فلما ذكر ، وحاصله : منع ما في الغنية من دلالة وجوب هجر

____________________________________

الاجتناب عن ملاقي أحد المشتبهين بالنجس ، حيث قال :

(بأنّ الشارع أعطاهما حكم النجس).

أي : يجب الاجتناب عنهما ، كما يجب الاجتناب عن النجس ، ومعناه وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ وعن ملاقيه ، فيرجع استدلال العلّامة إلى الملازمة بين الملاقى والملاقي حكما ، أي : في وجوب الاجتناب فقط لا في جميع الوجوه.

(وإلّا فلم يقل أحد :) إنّ المشتبهين في حكم النجس في جميع آثاره.

(أو أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به إلّا الاجتناب عن العين).

وهذا الكلام من المصنّف قدس‌سره إشارة إلى الوجه الثاني الذي ذهب إليه المشهور ، وحاصله : هو نفي الملازمة حكما بين وجوب الاجتناب عن المشتبه وعن ملاقيه ، إذ تنجّس الملاقي للنجس ليس معناه حكما تكليفيّا مستفادا من قول الشارع : اجتنب عن النجس ، حتى يكون وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه في المقام مستفادا من قوله : اجتنب عن المشتبه ، بل (وتنجّس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتّب للعنوان الواقعي من النجاسات) وهو تنجّس الملاقي بملاقاته للنجس الواقعي ، ثمّ يجب الاجتناب عنه ، كما يجب الاجتناب عن النجس الواقعي ، لأنّ ملاقاة النجس سبب للنجاسة ، وحينئذ إذا شكّ في ثبوت التنجّس للملاقي لأجل الشكّ في نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ (جرى فيه أصل الطهارة وأصل الإباحة) ، أي : يجري في الملاقي أصل الطهارة والإباحة لعدم ثبوت تنجّسه بملاقاة أحد المشتبهين بالنجس.

(والأقوى هو الثاني) ، أي : الوجه الثاني الذي ذهب إليه المشهور.

(أمّا أوّلا فلما ذكر) من أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي ليس إلّا من جهة تنجّسه بالملاقاة للنجس ، لا من جهة الملازمة بين وجوب الاجتناب عن الشيء ووجوب

٢٣٧

النجس على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز إذا لم يكن عليه أثر من ذلك الرجز.

فتنجيسه ـ حينئذ ـ ليس إلّا لمجرّد تعبّد خاصّ ، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر المشتبه في الشبهة المحصورة ، فلا يدلّ على وجوب هجر ما يلاقيه.

____________________________________

الاجتناب عن ملاقيه ، كما توهّم السيد أبو المكارم في الغنية ، حتى يدلّ وجوب الاجتناب عن المشتبه على وجوب الاجتناب عن ملاقيه.

ثمّ إنّ المصنّف قدس‌سره لم يذكر معادلا لقوله : (أمّا أوّلا) ، فهذا التعبير منه ليس في محلّه ، فإذا منعت الملازمة المذكورة ، بمنع ظهور ما دلّ على وجوب الاجتناب عن الشيء على وجوب الاجتناب عن ملاقيه ، منع ما في الغنية من دلالة وجوب هجر النجس على وجوب الهجر عن ملاقيه ، إذا لم يكن على الملاقي أثر الرجز والنجاسة حتى يجب الاجتناب عنه من جهة كون الملاقي رجزا ونجسا.

أمّا الجواب عن الرواية فسيأتي في كلام المصنّف قدس‌سره فانتظر.

(فتنجيسه ـ حينئذ ـ ليس إلّا لمجرّد تعبّد خاصّ).

أي : فتنجيس الملاقي للرجز حين عدم الملازمة المذكورة ، ليس إلّا لمجرّد تعبّد خاص وهو التعبّد بتنجّس ملاقي الرجز والنجس بالملاقاة ، فيجب الاجتناب عنه ، كما يجب عن النجس.

(فإذا حكم الشارع بوجوب هجر المشتبه في الشبهة المحصورة ، فلا يدلّ على وجوب هجر ما يلاقيه).

وذلك لوجوه :

أوّلا : لما ذكر من عدم الملازمة بين وجوب الاجتناب عن الشيء ووجوب الاجتناب عن ملاقيه.

ثانيا : على فرض تسليم الملازمة لا تنفع في اثبات وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه في المقام ، لأنّها صارت موهونة ، حيث لم يقل أحد بوجوب اجتناب ملاقي المحرّمات إلّا النجاسات.

وثالثا : إنّ الملازمة المذكورة لو ثبتت ، لكانت مختصة لما وجب اجتنابه بالذات ، كالنجس لا ما وجب اجتنابه من باب المقدّمة ، كالمشتبه في المقام.

٢٣٨

نعم ، قد يدلّ بواسطة بعض الأمارات الخارجيّة ، كما استفيد نجاسة البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء من أمر الشارع بالطهارة عقيبه ، من جهة استظهار أنّ الشارع جعل هذا المورد من موارد تقديم الظاهر على الأصل ، فحكم بكون الخارج بولا ، لا أنّه أوجب خصوص الوضوء بخروجه.

____________________________________

وبعبارة اخرى : الملازمة ثابتة بين وجوب الاجتناب عن الشيء ووجوب الاجتناب عن ملاقيه ، فيما إذا كان وجوب الاجتناب عن ذلك الشيء بالذات ، بأن يكون معلوم النجاسة ، لا بين وجوب الاجتناب عنه ووجوب الاجتناب عن ملاقيه ، فيما إذا كان وجوب الاجتناب عن ذلك الشيء من باب المقدّمة ، كالمشتبه في المقام ، حيث يكون وجوب الاجتناب عنه من باب المقدّمة العلميّة ، فلا يجب الاجتناب عن ملاقيه ، لعدم الملازمة ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي مع تصرّف منّا.

(نعم ، قد يدلّ بواسطة بعض الأمارات الخارجيّة ، كما استفيد نجاسة البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء من أمر الشارع بالطهارة عقيبه ، من جهة استظهار أنّ الشارع جعل هذا المورد من موارد تقديم الظاهر على الأصل ... إلى آخره).

وهذا الكلام من المصنّف قدس‌سره جواب عن الوجه الذي استدلّ به على وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه في المقام بوجوب الاجتناب عن المشتبه ، كما يستفاد وجوب الاجتناب عن ملاقي البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء ، من حكم الإمام بوجوب الوضوء والطهارة عقيبه المستلزم لنجاسة ملاقيه.

وملخّص الاستدلال يرجع إلى عدم الفرق بين ما نحن فيه ، وبين مسألة البلل المشتبه ، فكما أنّ مجرّد حكم الشارع بوجوب الطهارة المستلزم لنجاسة الملاقي مستلزم للحكم بوجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه في مسألة البلل المشتبه ، كذلك نقول : بأنّ مجرّد حكم الشارع بوجوب الاجتناب عن المشتبه في المقام مستلزم لحكمه بوجوب الاجتناب عن ملاقيه ، من دون فرق بين المقام وتلك المسألة ، إذ لا يعقل وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه في تلك المسألة وعدم وجوبه في المقام ، مع أنّ الملاقى ـ بالفتح ـ في كلا الموردين هو المشتبه.

وحاصل الجواب : إنّ قياس ما نحن فيه بمسألة البلل المشتبه قياس مع الفارق ، والقياس

٢٣٩

وبه يندفع تعجّب صاحب الحدائق رحمه‌الله من حكمهم بعدم النجاسة في ما نحن فيه وحكمهم بها في البلل ، مع كون كلّ منهما مشتبها حكم عليه ببعض أحكام النجاسة.

وأمّا الرواية فهي رواية عمر بن شمر ، عن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، إنّه أتاه رجل

____________________________________

كذلك باطل لا يجوز الاستدلال به ، وبيان الفرق أنّ حكم الشارع بوجوب الطهارة المستلزم لنجاسة الملاقي مبني على تقديم الظاهر على الأصل بعد تعارضهما ، لأنّ مقتضى الأصل عدم كون البلل الخارج قبل الاستبراء بولا ، ومقتضى الظاهر كونه بولا ، فحكم الشارع بوجوب الطهارة المستلزم لنجاسة الملاقي ووجوب الاجتناب عنه ، ليس إلّا بانضمام أمارة خارجيّة ، وهي تقديم الظاهر على الأصل.

وهذا بخلاف ما نحن فيه ، حيث يقال بوجوب الاجتناب عن الملاقي بمجرّد وجوب الاجتناب عن المشتبه.

فيقال : إنّ مجرّد الأمر بالاجتناب عن المشتبه لا يدلّ على وجوب الاجتناب عن ملاقيه.

نعم ، لو كان وجوب الاجتناب عن ملاقي البلل مستفادا من مجرّد حكم الشارع بوجوب الوضوء ، لكان قياس المقام بتلك المسألة في محلّه إلّا أنّ الأمر ليس كذلك ، كما عرفت.

(وبه يندفع تعجّب صاحب الحدائق ... إلى آخره).

أي : بما ذكر من الفرق يندفع تعجّب صاحب الحدائق ، فلا بدّ أوّلا : من بيان التعجّب ، وثانيا : من بيان الاندفاع.

وملخّص بيان التعجّب من صاحب الحدائق ، هو أنّ وجوب الطهارة عقيب البلل المشتبه يكون من أحكام النجاسات ، ووجوب الاجتناب عن المشتبه ـ أيضا ـ يكون من أحكام النجاسات ، فكيف يقال بوجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه في الأوّل دون الثاني؟!.

وحاصل الاندفاع أنّ وجوب الاجتناب عن ملاقي البلل المشتبه في الأوّل ليس من مجرّد الحكم بوجوب الطهارة ، بل بانضمام الأمارة الخارجيّة ، كما عرفت ، وليس في الثاني هذا الانضمام ، وحينئذ لا يبقى مجال للتعجّب.

٢٤٠