دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

فقال له : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت ، فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : (لا تأكله) فقال الرجل : الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي لأجلها ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : (إنّك لم تستخفّ بالفأرة وإنّما استخففت بدينك ، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء) (١).

وجه الدلالة : إنّه عليه‌السلام جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافا بتحريم الميتة ، ولو لا استلزامه لتحريم ملاقيه لم يكن أكل الطعام استخفافا بتحريم الميتة ، فوجوب الاجتناب عن شيء يستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقيه.

لكنّ الرواية ضعيفة سندا ، مع أنّ الظاهر من الحرمة فيها النجاسة ، لأنّ مجرّد التحريم لا يدلّ على النجاسة فضلا عن تنجّس الملاقي وارتكاب التخصيص في الرواية بإخراج ما عدا النجاسات من المحرّمات كما ترى ، فالملازمة بين نجاسة الشيء وتنجّس ملاقيه ، لا حرمة الشيء وحرمة ملاقيه.

____________________________________

وأمّا الجواب عن الرواية :

فأوّلا : لكونها ضعيفة سندا بعمرو بن شمر ، فلا يجوز التمسّك بها.

وثانيا : لأنّ الظاهر أنّ المراد من حرمة الميتة فيها هي حرمتها من حيث نجاستها لا من الحيثيّة الاخرى ، وذلك بقرينة الاستدلال بحرمتها على حرمة ملاقيها ، أي : السمن أو الزيت ، إذ لم يقل أحد بحرمة الملاقي فيما عدا النجاسة ، وبذلك لا تدلّ على الملازمة بين حرمة الملاقى ـ بالفتح ـ والملاقي ـ بالكسر ـ بل لو دلّت عليها لدلّت على الملازمة بين نجاسة الشيء وبين نجاسة ملاقيه ، فلا تثبت نجاسة الملاقي في المقام لعدم ثبوت نجاسة ملاقاه بالفرض.

وثالثا : فلأجل ما ذكره الاستاذ الاعتمادي ، حيث قال بما حاصله : من أنّه لو أغمضنا عن ضعف السند وعن ظهور الحرمة في النجاسة تكون الرواية موهونة من جهة كثرة التخصيص ، لأنّها تفيد الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة ملاقيه ، ولم يقل أحد بذلك في غير النجاسات ، فإخراج سائر المحرّمات والأخذ بها في النجاسات وفي المشتبه ، بعيد جدّا ، لما ذكر من لزوم كثرة التخصيص ، فالرواية تفيد الملازمة بين نجاسة الشيء ونجاسة

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢٠ / ١٣٢٧. الاستبصار ١ : ٢٤ / ٦٠. الوسائل ١ : ٢٠٦ ، أبواب الماء المضاف والمستعمل ، ب ٥ ، ح ٢.

٢٤١

فإن قلت : وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه وإن لم يكن من حيث ملاقاته له ، إلّا أنّه يصير كملاقيه في العلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة المشتبه الآخر ، فلا فرق بين الملاقيين في كون كلّ منها أحد طرفي الشبهة ، فهو نظير ما إذا قسّم أحد المشتبهين قسمين وجعل كلّ قسم في إناء.

قلت : ليس الأمر كذلك ، لأنّ أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي ـ بالكسر ـ سليم عن معارضة أصالة الطهارة للمشتبه الآخر ، بخلاف أصالة الطهارة والحلّ في الملاقى ـ بالفتح ـ فإنّها معارضة بها في المشتبه الآخر.

____________________________________

ملاقيه ، لا الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة ملاقيه ، ومحلّ النزاع هو الثاني دون الأوّل. انتهى كلامه دام ظلّه مع تصرّف منّا.

(فإن قلت : وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه وإن لم يكن من حيث ملاقاته له ، إلّا أنّه يصير كملاقيه في العلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة المشتبه الآخر).

وهذا الإشكال يتصيّد من كلام المصنّف المتقدّم ، حيث قال : (فالملازمة بين نجاسة الشيء وتنجّس ملاقيه ... إلى آخره).

فيقال في تقريب الإشكال المذكور : إنّ لازم الملازمة المذكورة هو أنّ حال الملاقي يكون كحال ملاقيه في النجاسة والطهارة ، حيث يقع الملاقي كملاقاه طرفا للعلم الإجمالي بعد الملاقاة ، فهو ـ حينئذ ـ يكون (نظير ما إذا قسّم أحد المشتبهين قسمين وجعل كلّ قسم في إناء). فيصير بعد التقسيم والملاقاة أحد الطرفين اثنين ، فيقال : إمّا هذان القسمان ، أو الملاقي والملاقى نجس ، أو الطرف الآخر ، فيجب الاجتناب عن الجميع.

فهذا الإشكال يصلح أن يكون دليلا لمن يقول بوجوب الاجتناب عن ملاقي أحد المشتبهين بالنجس.

(قلت : ليس الأمر كذلك).

أي : ليس الأمر في الملاقي ـ بالكسر ـ كالأمر في القسمين إذا قسّم أحد الطرفين قسمين في وجوب الاجتناب ، بل يجب الاجتناب عن كلا القسمين في فرض التقسيم ، ولا يجب الاجتناب عن الملاقي في فرض الملاقاة.

وذلك لأنّ الأصل الجاري في كلّ واحد من القسمين في فرض التقسيم يكون في مرتبة

٢٤٢

والسرّ في ذلك أنّ الشك في الملاقي ـ بالكسر ـ ناشئ عن الشبهة المتقوّمة بالمشتبهين ، فالأصل فيهما أصل في الشكّ السببي والأصل فيه أصل في الشكّ المسبّبي.

وقد تقرّر في محلّه أنّ الأصل في الشكّ السببي حاكم ووارد على الأصل في الشكّ المسبّبي ، سواء كان مخالفا له ، كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة نجاسة الثوب النجس المغسول به ، أم موافقا ، كما في أصالة الماء الحاكمة على أصالة إباحة الشرب.

فما دام الأصل الحاكم الموافق أو المخالف جاريا لم يجر الأصل المحكوم ، لأنّ الأوّل رافع شرعي للشكّ المسبّب ومنزلة الدليل بالنسبة إليه ، وإذا لم يجر الأصل الحاكم لمعارضته بمثله زال المانع عن جريان الأصل في الشكّ المسبّب ووجب الرجوع إليه ، لأنّه كالأصل

____________________________________

الأصل الجاري في الطرف الآخر ، فيكون معارضا له ، فيتنجّز التكليف بوجوب الاجتناب فيهما وفي الطرف الآخر ، وهذا بخلاف الأصل الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ حيث لا يكون في مرتبة الأصل الجاري في الطرف الآخر ، بل يكون متأخّرا عنه ، لأنّ الأصل في الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف الآخر أصل سببي وفي الملاقي ـ بالكسر ـ أصل مسبّبي ، لأنّ الشكّ في نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ مسبّب عن الشكّ في نجاسة ملاقاه ، ومن المعلوم أنّ الأصل السببي متقدّم رتبة ، كما هو متقدّم على الأصل المسبّبي حكما بالحكومة أو الورود ، كما في المتن.

وحينئذ تجري أصالة الطهارة والحلّية في الملاقي ـ بالكسر ـ سليمة عن معارضة أصالة الطهارة في الطرف الآخر ، فلهذا لا يجب عنه الاجتناب.

وبالجملة ، إنّ الأصل السببي حاكم أو وارد على الأصل المسبّبي (سواء كان مخالفا له) كما في مثال غسل الثوب النجس في الماء المشكوك طهارة ، حيث تكون أصالة الطهارة في جانب الماء مخالفة لأصالة النجاسة في جانب الثوب ، والأوّل حاكم على الثاني لكونه أصلا سببيّا ، والثاني أصل مسبّبي ، لأنّ الشكّ في بقاء نجاسة الثوب ناشئ عن الشكّ في طهارة الماء ، والشكّ في طهارته ليس ناشئا عن الشكّ في بقاء نجاسة الثوب ، بل عن الشكّ في كرّية الماء.

(أم موافقا) له كما في مثال أصالة إباحة الشرب بالنسبة إلى الماء المذكور ، حيث تكون أصالة الطهارة الحاكمة موافقة لها ، ومعنى كون أصالة الطهارة حاكمة على أصالة الإباحة ،

٢٤٣

بالنسبة إلى المتعارضين.

ألا ترى أنّه يجب الرجوع عند تعارض أصالة الطهارة والنجاسة عند تتميم الماء النجس كرّا بطاهر ، وعند غسل المحلّ النجس بماءين مشتبهين بالنجس إلى قاعدة الطهارة ، ولا تجعل القاعدة كأحد المتعارضين؟.

____________________________________

أنّه بعد الحكم بطهارة الماء بأصالة الطهارة لا يبقى شكّ في الإباحة حتى يحتاج إلى أصالة الإباحة ، لأنّ الشكّ في الإباحة يكون من جهة احتمال النجاسة ، حيث ينتفي بأصالة الطهارة.

(لأنّه كالأصل بالنسبة إلى المتعارضين).

أي : الأصل المسبّبي في المقام يكون مثل الأصل الموجود في مورد تعارض الدليلين في كونه مرجعا بعد تساقط المتعارضين بالتعارض ، فكما يرجع إلى الأصل عند تعارض الدليلين ، فكذلك يرجع إلى الأصل المسبّبي في المقام ، وهو أصالة الطهارة والحلّية بالنسبة إلى الملاقي ـ بالكسر ـ.

(ألا ترى أنّه يجب الرجوع عند تعارض أصالة الطهارة والنجاسة عند تتميم الماء النجس كرّا بطاهر ، وعند غسل المحلّ النجس بماءين مشتبهين بالنجس إلى قاعدة الطهارة ، ولا تجعل القاعدة كأحد المتعارضين؟).

أي : يرجع إلى أصالة الطهارة في كلا المثالين ، ولم تجعل في مرتبة الأصلين السببيّين المتعارضين في كلا المثالين ، ثمّ توضيح ذلك في كلا المثالين يحتاج إلى البحث في كلّ واحد منهما ، فنقول في توضيح المثال الأوّل :

إنّ الماء القليل النجس إذا اضيف إليه ماء قليل طاهر بحيث صار المجموع كرّا ، يحصل لنا علم إجمالي بنجاسة المجموع من جهة نجاسة الماء السابق أو بطهارته من جهة طهارة الماء اللاحق ، وذلك من جهة الإجماع على اتّحاد حكم الماءين بعد الانضمام ، ومعلوم أنّ هذا العلم الإجمالي سبب للشكّ في بقاء طهارة الماء اللاحق ، أو نجاسة الماء السابق ، فيجري استصحاب نجاسة الماء السابق ، ويكون معارضا لاستصحاب طهارة الماء اللاحق ، وهما أصلان سببيّان ، لأنّ الشكّ فيهما موجب للشكّ في أنّ هذا الماء بعد الانضمام طاهر أو نجس ، فيتحقّق أصل آخر وهو الأصل المسبّبي ، أعني : أصالة الطهارة ،

٢٤٤

نعم ، ربّما تجعل معاضدا لأحدهما الموافق لها بزعم كونهما في مرتبة واحدة.

لكنّه توهّم فاسد ، ولذا لم يقل أحد في مسألة الشبهة المحصورة بتقديم أصالة الطهارة في المشتبه الملاقى ـ بالفتح ـ لاعتضادها بأصالة طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ.

____________________________________

فيرجع إليها بعد تعارض الأصلين السببيّين ، ومن الواضح أنّها ليست في مرتبتهما حتى تكون معارضة لاستصحاب النجاسة.

وتوضيح المثال الثاني وهو غسل المحلّ النجس بماءين مشتبهين بالنجس ، بأن يكون غسله بهما على نحو الترتيب والتعاقب ، وحينئذ يعلم إجمالا بغسل المحلّ النجس بماء طاهر ، إلّا أنّه لا يعلم بأنّ الغسل بالماء الطاهر هل كان هو الغسل الأوّل حتى يكون المحلّ نجسا بالغسل الثاني لكونه بالماء النجس ، أو هو الغسل الثاني حتى يصير المحلّ النجس طاهرا؟.

فيرجع الشكّ ـ حينئذ ـ إلى الشكّ في تقدّم الغسل بالماء الطاهر أو تقدّم الغسل بالماء النجس ، فهنا أصالة عدم تقدّم الغسل بالماء الطاهر المقتضية لطهارة المحلّ النجس معارضة بأصالة عدم تقدّم الغسل بالماء النجس المقتضية لنجاسة المحلّ ، فيرجع إلى قاعدة الطهارة.

ومعلوم أنّ الأصلين الأوّلين سببيّان والثالث مسبّبي ، لأنّ الشكّ في كون المحلّ النجس بعد الغسلين طاهرا أو نجسا مسبّب عن الشكّ في تقدّم غسله بالماء النجس حتى يكون طاهرا ، أو بالماء الطاهر حتى يكون نجسا.

(نعم ، ربّما تجعل معاضدا لأحدهما الموافق لها بزعم كونهما في مرتبة واحدة).

أي : يتوهّم كون الأصل المسبّبي ـ وهي قاعدة الطهارة في الأمثلة المتقدّمة ـ في مرتبة واحدة مع الأصل السببي ، فتجعل معاضدة لما يوافقها ، فتكون قاعدة الطهارة في مسألة تتميم الماء النجس كرّا معاضدة لاستصحاب الطهارة ، فيطرح استصحاب النجاسة فقط ، وهكذا تكون في مسألة الغسل بالمشتبهين معاضدة لأصالة عدم تقدّم الغسل بالماء الطاهر ، فيحكم بطهارة المحلّ ، وفي مسألة ملاقي أحد المشتبهين معاضدة لأصالة طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ فيحكم بطهارة الملاقى والملاقي وبنجاسة الطرف الآخر فقط.

(لكنّه توهّم فاسد) ، لأنّ قاعدة الطهارة ـ كما عرفت ـ أصل مسبّبي متأخّر عن الأصلين

٢٤٥

فالتحقيق في تعارض الأصلين مع اتّحاد مرتبتهما لاتّحاد الشبهة الموجبة لهما الرجوع إلى ما وراءهما من الاصول التي لو كان أحدهما سليما عن المعارض لم يرجع إليه ، سواء كان هذا الأصل مجانسا لهما أو من غير جنسهما ، كقاعدة الطهارة في المثالين. فافهم واغتنم ، وتمام الكلام في تعارض الاستصحابين إن شاء الله تعالى.

نعم ، لو حصل للأصل في هذا الملاقي ـ بالكسر ـ أصل آخر في مرتبته ، كما لو وجد معه ملاقي المشتبه الآخر كانا من الشبهة المحصورة ، ولو كان ملاقاة شيء لأحد المشتبهين قبل

____________________________________

السببيّين ، فكيف يمكن أن يكون معاضدا لأحدهما الموافق؟ ، بل مقتضى القاعدة هو تساقطهما بالتعارض ، ثمّ يرجع إلى قاعدة الطهارة ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي دامت إفاداته بتوضيح منّا.

(فالتحقيق في تعارض الأصلين مع اتّحاد مرتبتهما لاتحاد الشبهة الموجبة لهما الرجوع إلى ما وراءهما من الاصول التي لو كان أحدهما سليما عن المعارض لم يرجع إليه).

وحاصل هذا التحقيق كما في شرح الاستاذ الاعتمادي هو الرجوع إلى غير الأصلين المتعارضين وهو قاعدة الطهارة في الأمثلة المتقدّمة ، ولم يرجع إليها لو كان أحدهما سليما عن المعارض ، وذلك لتقدّم الأصل السببي على المسبّبي (سواء كان هذا الأصل) المسبّبي (مجانسا لهما) ، أي : لأصلين سببيّين كقاعدة الطهارة في الملاقي ، حيث تكون موافقة ومجانسة لقاعدة الطهارة في الملاقى ـ بالفتح ـ والمشتبه الآخر(أو من غير جنسهما) ، أي : من غير جنس الأصلين السببيّين (كقاعدة الطهارة في المثالين) ، أي : مثال تتميم الماء النجس كرّا ومثال غسل المحلّ النجس بماءين مشتبهين بالنجس ، حيث يكون الأصل المسبّبي فيهما هي قاعدة الطهارة ، والأصلان السببيّان المتعارضان هما استصحابي الطهارة والنجاسة في المثال الأوّل ، وأصالة عدم تقدّم الغسل بالطاهر ، وأصالة عدم تقدّمه بالنجس في المثال الثاني.

(نعم ، لو حصل للأصل في هذا الملاقي ـ بالكسر ـ أصل آخر في مرتبته ، كما لو وجد معه ملاقي المشتبه الآخر كانا من الشبهة المحصورة) فيجب الاجتناب عن كلا الملاقيين ، كما يجب الاجتناب عن ملاقاهما لتعارض الاصول في الملاقي والملاقى ، وتنجّز التكليف للاجتناب في الجميع.

٢٤٦

العلم الإجمالي وفقد الملاقى ـ بالفتح ـ ثمّ حصل العلم الإجمالي بنجاسة المشتبه الباقي أو المفقود ، قام ملاقيه مقامه في وجوب الاجتناب عنه وعن الباقي ، لأن أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ معارضة بأصالة الطهارة في المشتبه الآخر ، لعدم جريان الأصل في المفقود حتى يعارضه ، لما أشرنا إليه في الأمر الثالث من عدم جريان الأصل فيما لا يبتلى به المكلّف ولا أثر له بالنسبة إليه.

____________________________________

(ولو كان ملاقاة شيء لأحد المشتبهين قبل العلم الإجمالي وفقد الملاقى ـ بالفتح ـ ثمّ حصل العلم الإجمالي بنجاسة المشتبه الباقي أو المفقود ، قام ملاقيه مقامه في وجوب الاجتناب عنه وعن الباقي ، لأنّ أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ معارضة بأصالة الطهارة في المشتبه الآخر ... إلى آخره).

وتوضيح كلام المصنّف قدس‌سره يحتاج إلى بيان ما يتصوّر من الصور في مسألة ملاقاة شيء لأحد المشتبهين بالنجس ، فنقول : إنّ لملاقاة الشيء لأحد المشتبهين بالنجس صور ، وذلك لأنّ الملاقاة المذكورة يمكن أن تكون بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد المشتبهين ، ويمكن أن تكون قبله ، ويمكن أن تكون مقارنة له.

وعلى جميع التقادير ؛ إمّا أن يكون الملاقى ـ بالفتح ـ موجودا أو معدوما ، فحينئذ تكون الصور ستة :

١ ـ ما قد تقدّم حكمه ، وهو ما إذا كان ملاقاة شيء لأحد المشتبهين بعد العلم الإجمالي وكان الملاقى ـ بالفتح ـ موجودا.

٢ ـ ما إذا كانت الملاقاة قبل العلم الإجمالي وكان الملاقى ـ بالفتح ـ موجودا ، وحكم هذه الصورة كحكم الصورة الاولى ، حيث لا يجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ بنفس ما ذكر في الصورة الاولى من الوجه ، وهو جريان قاعدة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ بلا معارض.

٣ ـ ما إذا كانت الملاقاة قبل العلم الإجمالي وقبل فقد الملاقى ـ بالفتح ـ كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : (ولو كان ملاقاة شيء لأحد المشتبهين ... إلى آخره) قام الملاقي ـ بالكسر ـ مقام ملاقاه في وجوب الاجتناب عنه وعن الباقي ، وذلك لكون أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ معارضة لأصالة الطهارة في الطرف الآخر ، بعد عدم جريانها في

٢٤٧

فمحصّل ما ذكرنا أنّ العبرة في حكم الملاقي بكون أصالة الطهارة سليمة أو معارضة ، [ولو كان العلم الإجمالي قبل فقد الملاقي والملاقاة ففقد ، فالظاهر طهارة الملاقي ووجوب الاجتناب عن صاحب الملاقي ، ولا يخفى وجهه ، فتأمّل جيّدا].

____________________________________

المفقود لخروجه عن محلّ الابتلاء بعد فقده.

٤ ـ ما إذا كانت الملاقاة بعد العلم الإجمالي ثمّ فقد الملاقى ـ بالفتح ـ فلا يجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ ولا يقوم مقام الملاقى ـ بالفتح ـ وذلك لتنجّز التكليف بالاجتناب في المشتبهين بعد تساقط الاصول فيهما فيبقى الأصل الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ سليما عن المعارض ، وكذا يبقى صاحب الملاقى ـ بالفتح ـ على حكمه وهو وجوب الاجتناب عنه ، لأنّه قبل فقد صاحبه كان واجب الاجتناب ، فيستصحب لو شكّ في بقائه ، إلّا أن يقال : إنّ الحكم بوجوب الاجتناب عنه كان عقليّا من باب المقدّمة العلميّة وهو باق يقينا ، فلا يجري الاستصحاب فيه لانتفاء الشكّ فيه.

٥ ـ ما إذا كانت الملاقاة مقارنة للعلم الإجمالي مع بقاء الملاقى ـ بالفتح ـ كان حكم الملاقي ـ بالكسر ـ عدم وجوب الاجتناب عنه ، لكون الأصل الجاري سليما عن المعارض.

٦ ـ نفس هذه الصورة الخامسة بفرق هو فقد الملاقى ـ بالفتح ـ في هذه الصورة السادسة ، وحكمها حكمها ، وذلك لتنجّز التكليف بالاجتناب في الملاقى ـ بالفتح ـ قبل فقده ، وفي صاحبه بعد تعارض الاصول فيهما فيبقى الأصل الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ سليما عن المعارض.

فالملاك في حكم الملاقي ـ بالكسر ـ من حيث وجوب الاجتناب عنه وعدم وجوبه عنه هو كون الأصل الجاري فيه سليما عن المعارض ، أو مع المعارض ، فعلى الأوّل لا يجب الاجتناب عنه ، وعلى الثاني يجب الاجتناب عنه ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(فمحصّل ما ذكرنا أنّ العبرة في حكم الملاقي بكون أصالة الطهارة سليمة أو معارضة).

ثمّ أشار إلى الصورة الرابعة بقوله :

(ولو كان العلم الإجمالي قبل فقد الملاقي والملاقاة ففقد ، فالظاهر طهارة الملاقي ووجوب الاجتناب عن صاحب الملاقي).

وأمّا طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ فلجريان أصالة الطهارة السليمة عن المعارض ، كما

٢٤٨

الخامس : لو اضطرّ إلى ارتكاب بعض المحتملات ، فإن كان بعضا معيّنا فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الباقي إن كان الاضطرار قبل العلم أو معه ، لرجوعه إلى عدم تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي ، لاحتمال كون المحرّم هو المضطرّ إليه ، وقد عرفت توضيحه في الأمر المتقدّم ، وإن كان بعده فالظاهر وجوب الاجتناب عن الآخر.

____________________________________

عرفت.

وأمّا وجوب الاجتناب في صاحبه ، فلأجل تنجّز التكليف فيه قبل فقد الملاقي ، فلا يرتفع بفقد الملاقي ، بل يستصحب ، إلّا أن يقال بعدم جريان الاستصحاب فيه لأجل اليقين ببقاء وجوب الاجتناب عنه ، لأنّه حكم عقلي من باب المقدّمة العلميّة ، فهو باق يقينا ولعلّ قوله : (فتأمّل) إشارة إليه.

(الخامس : لو اضطرّ إلى ارتكاب بعض المحتملات ، فإن كان بعضا معيّنا فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الباقي إن كان الاضطرار قبل العلم أو معه ، لرجوعه إلى عدم تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي ، لاحتمال كون المحرّم هو المضطرّ إليه ... إلى آخره).

وتوضيح كلام المصنّف قدس‌سره في هذا الأمر يحتاج إلى بيان ما يتصوّر من الصور في الاضطرار إلى ارتكاب بعض أطراف الشبهة ، فنقول :

إنّ للاضطرار إلى ارتكاب بعض أطراف العلم الإجمالي صورا ، وذلك لأنّ الاضطرار يمكن أن يحصل قبل العلم الإجمالي ، أو معه ، أو بعده. وعلى جميع التقادير ؛ إمّا أن يكون الاضطرار إلى واحد معيّن من أطراف الشبهة ، أو إلى واحد غير معيّن منها.

ومثال الاضطرار إلى المعيّن هو ما إذا كان أحد المشتبهين بالنجس ماء ، والآخر ماء الرمان مثلا ، فاضطر إلى شرب الماء لرفع العطش المهلك ، حيث لم يتمكّن من تحصيل غير هذا الماء ، أو إلى شرب ماء الرمان لمعالجة المرض.

ومثال الاضطرار إلى الواحد غير المعيّن هو ما إذا كان كلا المشتبهين بالنجس ماء ، أو ماء الرمان ، وكان شرب أحدهما كافيا في رفع الاضطرار.

وكيف كان ، فصور الاضطرار ستة ، فلا بدّ من بيان حكمها ، فنقول :

إنّه لا خلاف ولا إشكال في رفع حرمة ما اضطر إليه بالاضطرار ، فيجوز ارتكاب أحد المشتبهين معيّنا ، فيما إذا اضطر إليه معيّنا ، أو مخيّرا فيما إذا كان الاضطرار إلى أحدهما لا

٢٤٩

لأنّ الإذن في ترك بعض المقدّمات العلميّة بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام

____________________________________

بعينه ، وإنّما الخلاف في حكم ما بقي من أطراف الشبهة بعد ارتكاب المكلّف الطرف المضطر إليه ، هل يجب الاجتناب عن الباقي مطلقا ، أو لا يجب كذلك ، أو فيه تفصيل يحتاج إلى البيان والتفصيل؟.

اختار المصنّف قدس‌سره التفصيل.

وحاصله : إنّ الاضطرار إذا كان إلى الواحد المعيّن ، وكان قبل العلم الإجمالي ، أو مقارنا له ، لا يجب الاجتناب عن الباقي ، وذلك لأحد وجهين :

أحدهما : ما تقدّم في الأمر الثالث من أنّ وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين إنّما هو مع تنجّز التكليف بالحرام على كلّ تقدير ، بحيث لو علم تحريمه تفصيلا لوجب الاجتناب عنه ، وهذا المناط مفقود في المقام ، إذ على تقدير العلم التفصيلي بحرمة المضطرّ إليه لا يجب الاجتناب عنه ، وذلك لرفع التكليف بالاضطرار إليه ، فيرجع الشكّ في الباقي إلى الشكّ في أصل التكليف ، وفيه لا مانع من الرجوع إلى الأصل.

وثانيهما : إنّ المناط في وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين هو تعارض الأصل فيهما وهو مفقود هنا أيضا ، وذلك لأنّ الاضطرار يوجب سقوط الأصل في المضطر إليه ، فيبقى الأصل في الباقي سليما عن المعارض ، ولازمه عدم وجوب الاجتناب عنه.

ويلحق بهذه الصورة حكم فرض تقارب الاضطرار والعلم الإجمالي ، فلا يجب الاجتناب عن الباقي فيه ، كالصورة الاولى فقد علم حكم الصورتين من الصور المذكورة.

وأمّا الصورة الثالثة وهي ما إذا كان الاضطرار إلى واحد معيّن بعد العلم الإجمالي ، فالظاهر هو وجوب الاجتناب عن الباقي ، وذلك لأنّ التكليف بالاجتناب عن جميع أطراف الشبهة المحصورة قد تنجّز قبل حدوث الاضطرار ، سواء كان المناط في وجوب الاجتناب هو تنجّزه على كلّ تقدير ، أو تعارض الاصول ، إذ كلا المناطين موجود قبل حدوث الاضطرار.

ومعلوم أنّ الاضطرار يوجب رفع التكليف عن طرف المضطر إليه ، فيبقى التكليف بالاجتناب عن غير المضطر إليه على حاله ، فيجب امتثاله بالامتثال الاحتمالي ، بعد عدم إمكان الامتثال العلمي التفصيلي أو الإجمالي ، وقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(لأنّ الإذن في ترك بعض المقدّمات العلميّة بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام

٢٥٠

الواقعي يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض المشتبهات ، ولو كان المضطرّ إليه بعضا غير معيّن وجب الاجتناب عن الباقي وإن كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي ، لأنّ العلم حاصل بحرمة واحد من امور لو علم حرمته تفصيلا وجب الاجتناب عنه ، وترخيص بعضها على البدل موجب لاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي.

فإن قلت : ترخيص ترك بعض المقدّمات دليل على عدم إرادة الحرام الواقعي ، ولا تكليف بما عداه ، فلا مقتضي لوجوب الاجتناب عن الباقي.

____________________________________

الواقعي يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض المشتبهات) بدلا عن الواقع. هذا تمام الكلام في الصور الثلاث التي يكون الاضطرار فيها إلى الواحد المعيّن.

وأمّا الصور الثلاث الباقية التي يكون الاضطرار فيها إلى الواحد غير المعيّن ، فحكمها هو وجوب الاجتناب عن الباقي من دون فرق بين أن يكون الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو بعده ، أو مقارنا له ، وذلك لأنّ الاضطرار لم يتعلّق بخصوص الحرام لترتفع حرمته به ، بل تعلّق بالجامع بين الحرام والحلال ، فلا وجه ـ حينئذ ـ لرفع اليد عن الحرام الواقعي المعلوم بالإجمال ، لأجل الاضطرار ، بل يجب الاجتناب عن الباقي.

وما ذكر من المناط في وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة ، من أنّه لو علم تحريمه تفصيلا لوجب الاجتناب عنه موجود في المقام أيضا ، غاية الأمر أذن الشارع ارتكاب أحدهما لأجل الاضطرار ، ولازم هذا الترخيص هو اكتفاؤه بالاجتناب عن الباقي بدلا عن الواقع كما عرفت ، فتأمّل تعرف.

(فإن قلت : ترخيص ترك بعض المقدّمات دليل على عدم إرادة الحرام الواقعي ، ولا تكليف بما عداه ، فلا مقتضي لوجوب الاجتناب عن الباقي).

وتوضيح هذا الإشكال يحتاج إلى مقدّمة وهي :

إنّ وجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة المحصورة يكون من باب المقدّمة العلميّة ، كما عرفت غير مرّة ، ووجوب المقدّمة ـ علميّة كانت أو وجوديّة ـ تابع لوجوب ذي المقدّمة ، للملازمة العقليّة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها ، كالملازمة بين العلّة والمعلول ، وذلك لأنّ وجوب المقدّمة معلول لوجوب ذيها ، فيدلّ انتفاء أحدهما على

٢٥١

قلت : المقدّمة العلميّة مقدّمة للعلم ، واللازم من الترخيص فيها عدم وجوب تحصيل العلم ، لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي رأسا ، وحيث إنّ الحاكم بوجوب تحصيل العلم هو العقل ، بملاحظة تعلّق الطلب الموجب للعقاب على المخالفة الحاصلة من ترك هذا المحتمل ، كان الترخيص المذكور موجبا للأمن من العقاب على المخالفة الحاصلة من

____________________________________

انتفاء الآخر أيضا.

إذا عرفت هذه المقدّمة نقول : إنّ ترخيص الشارع لارتكاب بعض أطراف الشبهة بالاضطرار المستلزم لعدم وجوب المقدّمة العلميّة كاشف عن عدم وجوب ذي المقدّمة ، وذلك لعدم جواز تخلّف المعلول عن العلّة ، فجواز ارتكاب بعض الأطراف في المقام المستلزم لنفي وجوب المقدّمة العلميّة يكشف عن عدم إرادة الحرام الواقعي وعدم وجوب الاجتناب عنه ، فلا وجه ـ حينئذ ـ لوجوب الاجتناب عن الباقي ، سواء كان الاضطرار إلى الواحد المعيّن أو إلى الواحد غير المعيّن ، فتنبّه.

(قلت : المقدّمة العلميّة مقدّمة للعلم ، واللازم من الترخيص فيها عدم وجوب تحصيل العلم ، لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي رأسا).

وحاصل الجواب يتّضح بعد بيان الفرق بين المقدّمة العلميّة والمقدّمة الوجوديّة وهو :

إنّ الترخيص في ترك المقدّمة الوجوديّة مستلزم للترخيص في ترك الواجب ، إلّا أنّ الترخيص في ترك المقدّمة العلميّة لا يستلزم للترخيص في ترك الواجب ، بل يستلزم عدم تحصيل العلم ، فلازم ترخيص الشارع لارتكاب بعض الأطراف في المقام هو عدم وجوب تحصيل العلم ، لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ، كي يقال : فلا وجه لوجوب الاجتناب عن الباقي ، بل يجب الاجتناب عن الحرام الواقعي ، إلّا أنّه لا يجب تحصيل العلم بالاجتناب عنه ، بل يكفي الاجتناب عن الباقي بعد ارتكاب أحدهما بالاضطرار.

قوله : (وحيث إنّ الحاكم بوجوب تحصيل العلم هو العقل ... إلى آخره).

دفع لما قد يتوهّم من أنّ العقل يحكم بتحصيل العلم بالاجتناب عن الحرام الواقعي ، فيحكم بالاجتناب عن كلا المشتبهين ، فلا يجوز ـ حينئذ ـ للشارع الترخيص في ارتكاب بعض أطراف الشبهة المحصورة ، والاكتفاء باجتناب أحدهما ، لأنّ هذا الحكم منه ينافي ما حكم به العقل.

٢٥٢

ترك هذا الذي رخّص في تركه ، فيثبت من ذلك تكليف متوسّط بين نفي التكليف رأسا وثبوته معلّقا بالواقع على ما هو عليه.

وحاصله ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخّص الشارع في امتثاله منه ، وهو ترك باقي المحتملات ، وهذا نظير جميع الطرق الشرعيّة المجعولة للتكاليف الواقعيّة ، ومرجعه إلى القناعة عن الواقع ببعض محتملاته معيّنا ، كما في الأخذ بالحالة السابقة في

____________________________________

وحاصل الدفع هو أنّ حكم العقل بالاجتناب عن كلا المشتبهين تحصيلا للعلم بالاجتناب عن الحرام الواقعي ، يكون نظرا إلى طلب الشارع المنجّز باجتناب الحرام الواقعي الموجب للعقاب على مخالفته ، فإذا رخّص الشارع ارتكاب بعض الأطراف كان هذا الترخيص منه موجبا للأمن من العقاب على المخالفة الحاصلة بترك ما رخّص في ارتكابه ، فلا يحكم العقل ـ حينئذ ـ بتحصيل العلم والاجتناب عمّا رخّص الشارع ارتكابه ، ولازم ذلك هو التكليف المتوسّط بين نفي التكليف الواقعي رأسا وبين ثبوته وبقائه على ما هو عليه ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(فيثبت من ذلك تكليف متوسّط بين نفي التكليف رأسا ... إلى آخره).

بمعنى أنّ الشارع لا يريد نفي التكليف رأسا حتى لا يجب الاجتناب عن الباقي ، ولا يريد الواقع بما هو هو ، حتى يجب الاجتناب عن كلا المشتبهين ، بل أراد الواقع من طريق خاص ، وهو امتثاله بترك باقي المحتملات غير المضطر إليها.

(وهذا نظير جميع الطرق الشرعيّة المجعولة للتكاليف الواقعيّة).

أي : التكليف المتوسّط في مورد الاضطرار في المقام يكون نظير جميع الطرق الشرعيّة ... إلى آخره ، حيث جعلها الشارع حجّة حتى يأتي المكلّف بالأحكام الشرعيّة بواسطة هذه الطرق ، والمراد منها هو الأعمّ من الأمارات والاصول بقرينة قول المصنّف قدس‌سره حيث قال :

(ومرجعه إلى القناعة عن الواقع ببعض محتملاته معيّنا).

أي : مرجع التكليف المتوسّط في المقام إلى القناعة عن الواقع ببعض محتملات الواقع معيّنا ، فيما إذا اضطر إلى أحد المشتبهين معيّنا ، فيكتفي في امتثال الحرام الواقعي بترك الباقي معيّنا ، كما يجب الأخذ بمؤدّى الخبر معيّنا في باب الأمارات ، أو الأخذ بالحالة

٢٥٣

الاستصحاب ، أو مخيّرا كما في موارد التخيير.

وممّا ذكرنا تبيّن أنّ مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم التفصيلي بالأحكام الشرعيّة وعدم وجوب تحصيل العلم الإجمالي فيها بالاحتياط ، لمكان الحرج ، أو قيام الإجماع على عدم وجوبه ، أن يرجع في ما عدا البعض المرخّص في ترك الاحتياط فيه ، أعني : موارد الظنّ مطلقا ، أو في الجملة ، إلى الاحتياط ، مع أنّ بناء أهل الاستدلال بدليل الانسداد بعد إبطال الاحتياط ووجوب العمل بالظنّ مطلقا ، أو في الجملة ، على الخلاف بينهم على الرجوع في غير موارد الظنّ المعتبر إلى الاصول الموجودة في تلك الموارد دون الاحتياط.

____________________________________

السابقة معيّنا في باب الاستصحاب ، فهذا الكلام قرينة على أنّ المراد بالطرق الشرعيّة هو الأعمّ من الأمارات والاصول.

(أو مخيّرا كما في موارد التخيير).

ومنها : اضطرار المكلّف إلى أحد المشتبهين لا بعينه ، فيجب ترك غير ما ارتكبه لأجل الاضطرار بدلا عن الواقع ، وهو مخيّر في ترك أحدهما أو ارتكاب أحدهما.

ومنها : دوران الأمر بين المحذورين ، حيث يكون المكلّف مخيّرا في امتثال الواقع باختيار أحد المحذورين ، وكذا يكون مخيّرا باختيار أحد الخبرين المتعارضين ، واختيار فتوى أحد المجتهدين عند اختلافهما.

(وممّا ذكرنا تبيّن أنّ مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم التفصيلي بالأحكام الشرعيّة وعدم وجوب تحصيل العلم الإجمالي فيها بالاحتياط ، لمكان الحرج ، أو قيام الإجماع على عدم وجوبه ، أن يرجع في ما عدا البعض المرخّص في ترك الاحتياط فيه ، أعني : موارد الظنّ مطلقا ، أو في الجملة ، إلى الاحتياط ... إلى آخره).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره أنّه تبيّن ممّا ذكره من التكليف المتوسّط المستلزم لوجوب الاجتناب عن الباقي في مسألة الاضطرار ، أنّ مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم على القول به هو الرجوع إلى الاحتياط ، في ما عدا البعض المرخّص في ترك الاحتياط فيه ، كمورد الظنّ بعدم التكليف مطلقا ، أي : سواء كان الظنّ اطمئنانيّا أم لا(أو في الجملة) ، أي : بأن يكون الظنّ اطمئنانيّا.

والحاصل أنّ مقتضى القاعدة في غير موارد الظنّ بعدم التكليف هو الرجوع إلى

٢٥٤

____________________________________

الاحتياط لا الرجوع إلى الاصول الموجودة في تلك الموارد ، كالبراءة والتخيير والاحتياط ، كما يظهر من القائلين بالانسداد ، حيث قالوا :

إنّ مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم التفصيلي بالأحكام الشرعيّة ، وعدم وجوب تحصيل العلم الإجمالي فيها بالاحتياط التام لكونه حرجيّا ، أن يرجع إلى الاصول لا الاحتياط ، وذلك لأنّ القائلين بالانسداد يأخذون بالظنّ بالتكليف احتياطا ، ويأخذون بالظنّ مطلقا أو في الجملة في موارد الظنّ بعدم التكليف رفعا للحرج ، ويرجعون في غير موارد الظنّ بعدم التكليف إلى الاصول الموجودة في تلك الموارد ، فيقال ردّا عليهم :

إنّ الأولى هو الرجوع إلى الاحتياط في غير موارد الظنّ بعدم التكليف ، كموارد الظنّ بالتكليف ، لأنّ الاحتياط في الكلّ يكون حرجيّا ، إلّا أنّه بعد خروج موارد الظنّ بعدم التكليف ليس حرجيّا.

وكون الاحتياط حرجيّا لا يوجب سقوط وجوب الاحتياط ، بل يوجب التبعيض فيه ، كما تقدّم التبعيض فيه في التنبيه الثالث من تنبيهات الشبهة التحريميّة الموضوعيّة ، فراجع ، إذ لا يلزم العسر والحرج بعد التبعيض في الاحتياط بحسب الموارد ، أو بحسب الاحتمالات قوّة وضعفا ، أو بحسب المحتملات.

فالحقّ ـ حينئذ ـ وإن كان الاحتياط في جميع الموارد ، إلّا أنّه مستلزم للعسر والحرج ، فيلتزم بالتبعيض فيه ويحصل التبعيض بتركه في موارد الظنّ بعدم التكليف مطلقا ، حيث لا يرتفع الحرج إلّا به ، أو بتركه في موارد الظنّ بعدم التكليف في الجملة ، حيث يكفي في اندفاع الحرج خروج مورد الظنّ الاطمئناني بعدم التكليف عن الاحتياط ، فيعمل بالظنّ بالتكليف ويرجع إلى الاحتياط في فرض عدم الظنّ بالتكليف ، وأمّا موارد الظنّ الاطمئناني بعدم التكليف ، فيترك الاحتياط فيه ، لأنّ الاحتياط التام يكون حرجيّا.

والحاصل أنّ مقتضى القاعدة في مسألة الانسداد هو الرجوع إلى الاحتياط في غير موارد الظنّ بالتكليف أو بعدمه ، لا إلى الاصول الموجودة في تلك الموارد.

نعم ، إلّا أن يقال : إنّ القائلين بالانسداد يقولون بحجيّة الظنّ بعد بطلان وجوب الاحتياط عندهم ، سواء كانت حجيّة الظنّ بدليل عقلي أو قيام الإجماع ، فحينئذ يصحّ ما

٢٥٥

نعم ، لو قام بعد بطلان وجوب الاحتياط دليل عقليّ ، أو إجماع على كون الظنّ مطلقا ، أو في الجملة ، حجّة وطريقا في الأحكام الشرعيّة ، أو منعوا أصالة وجوب الاحتياط عند الشكّ في المكلّف به ، صحّ ما جروا عليه من الرجوع في موارد عدم وجود هذا الطريق إلى الاصول الجارية في مواردها.

لكنّك خبير بأنّه لم يقم ولم يقيموا على وجوب اتّباع المظنونات إلّا بطلان الاحتياط ، مع اعتراف أكثرهم بأنّه الأصل في المسألة وعدم جواز ترجيح المرجوح ، ومن المعلوم أنّ هذا لا يفيد إلّا مخالفة الاحتياط بموافقة الطرف الراجح في المظنون دون الموهوم ، ومقتضى هذا لزوم الاحتياط في غير المظنونات.

السادس : لو كانت المشتبهات ممّا يوجد تدريجا ، كما إذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها ، بأن تنسى وقتها وإن حفظت عددها ، فيعلم إجمالا أنّها حائض في الشهر ثلاثة أيّام

____________________________________

جروا عليه من الرجوع في موارد عدم الظنّ إلى الاصول الموجودة في تلك الموارد ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(نعم ، لو قام بعد بطلان وجوب الاحتياط دليل عقليّ ، أو إجماع على كون الظنّ مطلقا ، أو في الجملة ، حجّة وطريقا في الأحكام الشرعيّة ، أو منعوا أصالة وجوب الاحتياط عند الشكّ في المكلّف به ، صحّ ما جروا عليه من الرجوع ... إلى آخره).

إلّا أنّ رجوعهم إلى الظنّ بعدم التكليف ليس من باب الحجيّة وبطلان الاحتياط مطلقا ، بل هو من باب التبعيض في الاحتياط ، وذلك لاعترافهم بأنّ الأصل في مسألة العلم الإجمالي بالتكليف هو الاحتياط ، إلّا أنّ تركهم للاحتياط وأخذهم بالظنّ في موارد الظنّ بعدم التكليف إنّما هو لأجل بطلان الاحتياط في الكلّ ، ولازم ذلك هو لزوم الاحتياط في غير المظنون ، إذ فيه ما ذكر من التبعيض في الاحتياط.

هذا ملخّص شرح ما أشار إليه بقوله : (لكنّك خبير بأنّه لم يقم ولم يقيموا على وجوب اتّباع المظنونات إلّا بطلان الاحتياط ، مع اعتراف أكثرهم بأنّه الأصل في المسألة ... إلى آخره).

(السادس : لو كانت المشتبهات ممّا يوجد تدريجا ، كما إذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها ، بأن تنسى وقتها وإن حفظت عددها ، فيعلم إجمالا أنّها حائض في الشهر ثلاثة أيّام

٢٥٦

مثلا ، فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها تمام الشهر ، ويجب على الزوجة ـ أيضا ـ الإمساك عن دخول المسجد وقراءة العزيمة تمام الشهر أم لا؟ وكما إذا علم التاجر إجمالا بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربويّة ، فهل يجب عليه الإمساك عمّا لا يعرف حكمه من المعاملات في يومه وشهره أم لا؟.

التحقيق أن يقال : إنّه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد بينها إذا كان الابتلاء دفعة ، وعدمه لاتّحاد المناط في وجوب الاجتناب.

____________________________________

مثلا ، فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها تمام الشهر ، ويجب على الزوجة ـ أيضا ـ الإمساك عن دخول المسجد وقراءة العزيمة تمام الشهر أم لا؟).

وحاصل الكلام في هذا الأمر ـ السادس ـ هو أنّه مورد للاختلاف ، حيث ذهب بعض إلى وجوب الاحتياط والاجتناب عن جميع أطراف الشبهة ، وبعض إلى حرمة المخالفة القطعيّة وكفاية الموافقة الاحتماليّة.

والظاهر من المصنّف قدس‌سره هو عدم الفرق بين أن تكون أطراف الشبهة من الموجودات التدريجيّة أو الدفعيّة في وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف ، فيما إذا كان التكليف فعليّا ومنجّزا على كلّ تقدير ، كما عرفت هذا الشرط غير مرّة.

ومن المعلوم أنّ فعليّة التكليف وتنجّزه على كلّ تقدير مبني على أن تكون أطراف الشبهة محلّا للابتلاء فعلا ودفعة ، فإذا لم تكن بعض الأطراف محلّا للابتلاء كما في مثال الحيض ، حيث لا يكون الزوج في أوّل الشهر متمكّنا من وطء الحائض في آخر الشهر ، فيكون الوطء المقيّد بآخر الشهر خارجا عن محلّ ابتلائه ولو من جهة عدم القدرة عليه ، وبذلك لا مانع من الرجوع إلى الأصل بالنسبة إلى الطرف المبتلى به فعلا ، كما لا مانع منه بالنسبة إلى الطرف الآخر في ظرف الابتلاء به.

هذا ملخّص شرح ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : (التحقيق أن يقال : إنّه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد بينها إذا كان الابتلاء دفعة ... إلى آخره).

وليس الابتلاء في مثال الحيض فعلا ودفعة ، فينتفي تنجّز التكليف بالاجتناب عن وطء

٢٥٧

نعم ، قد يمنع الابتلاء دفعة في التدريجيّات ، كما في مثال الحيض ، فإنّ تنجّز تكليف الزوج بترك وطء الحائض قبل زمان حيضها ممنوع ، فإنّ قول الشارع : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)(١) ، ظاهر في وجوب الكفّ عند الابتلاء بالمحائض.

إذ الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء ، فلا يطلب ، فهذا الخطاب ، كما أنّه مختصّ بذوي الأزواج ولا يشمل العزّاب ، إلّا على وجه التعليق ، فكذلك من لم يبتل بالمرأة الحائض.

ويشكل الفرق بين هذا وبين ما إذا نذر ، أو حلف في ترك الوطء في ليلة خاصّة ، ثمّ اشتبهت بين ليلتين أو أزيد.

____________________________________

الحائض ، كما أشار إليه بقوله :

(فإن تنجّز تكليف الزوج بترك وطء الحائض قبل زمان حيضها ممنوع).

لأنّ التكليف كذلك تكليف بغير مقدور وهو قبيح عقلا.

ولهذا يكون قول الشارع : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) الآية ، ظاهرا في وجوب الاعتزال عند الابتلاء(بالمحائض ، إذ الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء) فلا يمكن طلب الترك قبل الابتلاء ، لأنّه طلب للحاصل ، وطلب الحاصل محال.

فهذا الطلب لا يشمل من لم يبتل بالحائض ، كما(لا يشمل العزّاب ، إلّا على وجه التعليق) بالتزويج والابتلاء(ويشكل الفرق بين هذا وبين ما إذا نذر ، أو حلف في ترك الوطء في ليلة خاصّة ، ثمّ اشتبهت بين ليلتين أو أزيد).

وحاصل الإشكال أنّه لا فرق بين مثال الحائض ومثال النذر في ترك الوطء ، حيث يكون الوطء في الليلة الثانية أو الثالثة في مثال النذر ، كالوطء في آخر الشهر في مثال الحيض خارجا عن محلّ الابتلاء ، فلا يكون التكليف بترك الوطء فعليّا على كلّ تقدير في كلا المثالين.

ولازم ذلك عدم وجوب الاحتياط فيهما ، مع أنّ الاصوليين أوجبوا الاحتياط في مثال النذر ، وهكذا في مثال علم التاجر إجمالا بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربويّة ، فمن

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

٢٥٨

لكنّ الأظهر هنا وجوب الاحتياط ، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدّمين.

وحيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجيّة ، فالظاهر جواز المخالفة

____________________________________

حكمهم بوجوب الاحتياط في هذين المثالين يظهر حكم مثال الحيض وهو ـ أيضا ـ وجوب الاحتياط لعدم الفرق.

فحينئذ لا بدّ ؛ إمّا من إثبات الفرق ، وإمّا من وحدة الحكم في الجميع ، لأنّ حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد.

وأمّا الفرق فيمكن بما قيل من تحقّق الابتلاء لجميع الأطراف عرفا في المثالين ، وعدم تحقّق الابتلاء لجميع الأطراف في مثال الحيض أوّلا.

وثانيا : بما أفاده الاستاذ الاعتمادي ـ دام ظله ـ من أنّ حرمة المعاملة الربويّة فعليّة في حقّ المكلّف بمجرد اشتغاله بالتجارة ، وكذا وجوب الوفاء بالنذر يكون فعليّا بمجرّد النذر ، لأنّهما تكليفان مطلقان غير مشروطين بمجيء زمان أو غيره ، ولا مانع من أن يكون التكليف فعليّا ، والمكلّف به استقباليّا.

وحينئذ إذا علم المكلّف بحرمة إحدى المعاملات في يومه أو بحرمة الوطء في إحدى الليالي ، والمفروض كون كلّ من الأطراف محلّ الابتلاء في موطنه ، كان التكليف ـ حينئذ ـ فعليّا على كلّ تقدير ، فيجب الاجتناب.

وأمّا حرمة وطء الحائض فمشروطة بوصف الحيض ، والمشروط لا يتقدّم على الشرط ، فعند العلم الإجمالي بالحيض لا تكون الحرمة فعليّة على كلّ تقدير ، ولهذا لا يجب الاحتياط في مثال الحيض مع وجوبه في المثالين المذكورين ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : (لكن الأظهر هنا وجوب الاحتياط) ، أي : الأظهر في مثال النذر وجوب الاحتياط.

وكذا يجب الاحتياط(في المثال الثاني من المثالين المتقدّمين) ، أي : في مثال المعاملة الربويّة ، والمثال الأوّل من المثالين المتقدّمين هو مثال الحيض.

وكيف كان ، فبعد ثبوت الفرق المذكور لا مانع من اختلاف المثالين ومثال الحيض ، بحسب الحكم بوجوب الاحتياط في المثالين وعدمه في مثال الحيض.

(وحيث قلنا بعدم الاحتياط في الشبهة التدريجيّة ، فالظاهر جواز المخالفة القطعيّة) ،

٢٥٩

القطعيّة ، لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعي بالنسبة إليه ، فالواجب الرجوع في كلّ مشتبه إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه إباحة وتحريما.

فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض ، فيرجع فيه إلى أصالة الإباحة ، لعدم جريان الاستصحاب ، وفي المثال الثاني إلى أصالة الإباحة والفساد ، فيحكم في كلّ معاملة يشكّ في كونها ربويّة بعدم استحقاق العقاب على إيقاع عقدها ، وعدم ترتّب الأثر عليها ، لأنّ فساد الربا ليس دائرا مدار الحكم التكليفي.

____________________________________

وذلك من جهة عدم كون التكليف فعليّا على كلّ تقدير.

(فيرجع في المثال الأوّل) ، أي : مثال الحيض (إلى استصحاب الطهر) لكونه مجرى للاستصحاب من جهة كون المكلّف متيقّنا بالطهر(إلى أن يبقى مقدار الحيض ، فيرجع فيه إلى أصالة الإباحة ، لعدم جريان الاستصحاب) ، وذلك لليقين بارتفاع الطهر بالحيض ، غاية الأمر يتردّد دم الحيض بين الدم السابق واللاحق.

ويرجع (في المثال الثاني) وهو مثال المعاملة الربويّة (إلى أصالة الإباحة) من حيث الحكم التكليفي ، وإلى أصالة الفساد من حيث الحكم الوضعي ، (فيحكم في كلّ معاملة يشكّ في كونها ربويّة بعدم استحقاق العقاب على إيقاع عقدها) بالنسبة إلى الحكم التكليفي وهو الحرمة ، لأنّ استحقاق العقاب يكون من آثار الحرمة ، (وعدم ترتّب الأثر عليها) بالنسبة إلى الحكم الوضعي ، لأنّ الأصل في المعاملات إذا شكّ في صحّتها هو الفساد ، وعدم ترتيب الأثر وهو النقل والانتقال عليها.

قوله : (لأنّ فساد الربا ليس دائرا مدار الحكم التكليفي).

دفع لما يتوهّم من الملازمة بين الإباحة والصحّة في المعاملة ، وكذا بين الحرمة والفساد ، فلازم أصالة الإباحة على ما تقدّم هو صحّة المعاملة ، فكيف يحكم بفسادها؟! وذلك فإنّ الشكّ في الصحّة والفساد مسبّب عن الشكّ في الإباحة والحرمة ؛ وأصالة الإباحة ـ حينئذ ـ حاكمة على أصالة الفساد لحكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي.

وحاصل الدفع إنّما يتمّ على تقدير الملازمة المذكورة وكون أصالة الإباحة حاكمة على أصالة الفساد ، إلّا أنّ الملازمة مردودة وباطلة ، لأنّ صحّة المعاملة ليست من لوازم إباحتها ، كما أنّ فسادها ليس من لوازم حرمتها ، لأنّ النهي في المعاملة وتحريمها لا يدلّ

٢٦٠