دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

المنع عن فعله بعده ؛ لأنّ هذا هو الذي يمكن أن يجعله الشارع بدلا عن الحرام الواقعي ، حتى لا ينافي أمره بالاجتناب عنه ، إذ تركه في زمان فعل الآخر لا يصلح أن يكون بدلا [عن حرمته]. وحينئذ ، فإن منع في هذه الصورة عن واحد من الأمرين المتدرجين في الوجود لم يجز ارتكاب الثاني بعد ارتكاب الأوّل وإلّا لغي المنع المذكور.

فإن قلت : الإذن في أحدهما يتوقّف على المنع عن الآخر في نفس تلك الواقعة ، بأن يرتكبهما دفعة ، والمفروض امتناع ذلك في ما نحن فيه من غير حاجة إلى المنع ، ولا يتوقّف

____________________________________

وبعده يتّضح لك أنّ معنى المنع والنهي عن الآخر بدلا عن الحرام الواقعي فيما لا يمكن ارتكابهما دفعة هو المنع والنهي بعد ارتكاب الآخر ، حيث يتمكّن المكلّف من الفعل حينئذ ، لا المنع والنهي حال ارتكاب الآخر ، حيث لا يتمكّن المكلّف من الفعل بالفرض ، لأنّ النهي وهو التكليف بالترك ـ حينئذ ـ يكون لغوا ، وذلك لحصول الترك قهرا ، كما عرفت في الإشكال.

كما أنّ التكليف بالمنع ـ حينئذ ـ تكليف بغير مقدور ، وهو لا يصدر من عاقل فضلا عن الشارع الحكيم.

والحاصل ، إنّ الإذن في أحدهما لا يحسن إلّا بعد المنع عن الآخر بدلا عن الحرام الواقعي.

ثمّ إنّ المنع بمقتضى عدم جواز التكليف بغير المقدور يحمل على حال القدرة على الفعل ، والقدرة على الفعل فيما لا يمكن ارتكابهما دفعة هي بعد ارتكاب أحدهما ، وفيما إذا أمكن ارتكابهما دفعة ، هي حال ارتكاب الآخر ، فيصحّ فيه المنع حال ارتكاب أحدهما ، ولا يصحّ ـ حينئذ ـ الإذن في أحدهما والنهي عن الآخر بدلا عن الواقع ، إلّا على نحو التخيير الابتدائي لئلّا تلزم المخالفة القطعيّة ، فلا بدّ من أن يكون ما هو المتروك أوّلا بدلا عن الحرام الواقعي متروكا دائما كذلك.

فيرد ـ حينئذ ـ قول من يقول بجواز المخالفة القطعيّة التدريجية ، إذ لا تلزم حينئذ إلّا المخالفة الاحتماليّة.

(فإن قلت : الإذن في أحدهما يتوقّف على المنع عن الآخر في نفس تلك الواقعة ، بأن يرتكبهما دفعة ، والمفروض امتناع ذلك في ما نحن فيه) ، فلا يحتاج الإذن في أحدهما ، بل

١٦١

على المنع عن الآخر بعد ارتكاب الأوّل ، كما في التخيير الظاهري الاستمراري.

____________________________________

في كليهما في ما نحن فيه ، أي : فيما لم يمكن ارتكابهما دفعة إلى المنع عن الآخر أصلا ، لا حال الارتكاب ولا بعده.

أمّا الأوّل ، فلامتناع ذلك الفعل حال الاشتغال بالآخر ، فتركه حاصل من دون حاجة إلى المنع والنهي.

أمّا الثاني ، فلجواز التخيير الظاهري الاستمراري ، كمورد تعارض الخبرين ، حيث يجوز الأخذ بأحدهما تارة ، وبالآخر اخرى ، وترك أحدهما في ما نحن فيه بدلا عن الحرام الواقعي حاصل قهرا من دون حاجة إلى المنع عن الآخر ، لأنّ لازم المنع هو عدم ارتكابهما دفعة حاصل ، فيكون المنع كذلك لغوا.

فما ذكر في الجواب السابق من أنّ المنع عن الآخر فيما لم يكن ارتكابهما دفعة معناه هو المنع عن الآخر بعد ارتكاب أحدهما لا يرجع إلى محصّل ، بعد الالتزام بالتخيير الاستمراري كمورد الخبرين المتعارضين ، فيصحّ ـ حينئذ ـ الإذن في ارتكابهما من دون المنع عن الآخر.

وعلى هذا يمكن ابقاء الرواية الثانية وتخصيصها بما لم يمكن ارتكابهما دفعة ، فيجوز بمقتضى ظاهر الرواية وطء إحدى المرأتين في واقعة ، ووطء الاخرى في الاخرى.

وفي تعليقة غلام رضا على الرسائل هنا ما لفظه :

أقول : شرح هذا الإيراد بحيث ينطبق على ما للماتن من المراد ، أن يقال : إنّ الحكم بقبح المخالفة القطعيّة في واقعتين إنّما هو ثابت من العقل على سبيل التعليق دون التنجيز ، فيرتفع بعد وصول الترخيص من الشارع ، فإذا فرض أنّ المشتبهين ممّا امتنع ارتكابهما دفعة ، بمعنى لا يمكن ارتكابهما إلّا على سبيل التدريج ، فهو من متعدّد الواقعة.

فيستفاد من عموم أدلّة الإباحة الإذن في أحدهما في واقعة ، جاعلا للآخر بدلا عن الواقع ، وبالعكس في واقعة اخرى ، ففي صورة فرض ارتكاب المشتبهين تدريجا يجوز ارتكابهما لكون المخالفة القطعيّة فيها في واقعتين نظير التخيير الظاهري الثابت بين الظهر والجمعة في جمعتين. انتهى كلامه قدس‌سره.

والمستفاد من كلامه هو التخيير الظاهري الاستمراري المستلزم للمخالفة القطعيّة ، ولا

١٦٢

قلت : تجويز ارتكابهما من أوّل الأمر ولو تدريجا طرح لدليل حرمة الحرام الواقعي ، والتخيير الاستمراري في مثل ذلك ممنوع.

____________________________________

يحكم العقل بقبحها بعد ورود الترخيص من الشارع.

وشرحه في الجواب بعين ما ذكره في شرح كلام المصنّف قدس‌سره هو :

(قلت : تجويز ارتكابهما من أوّل الأمر ولو تدريجا طرح لدليل حرمة الحرام الواقعي ... إلى آخره) ، حيث قال ما لفظه :

أقول : شرح الجواب بحيث لا يقع فيه الارتياب أن يقال : إنّا سلّمنا جواز المخالفة القطعيّة في متعدّد الواقعة ، لكن كون ما نحن فيه منه بمحلّ المنع ، لأنّ المعيار بين وحدة الواقعة وتعدّدها ليس الارتكاب على سبيل التدريج والدفعة ، بل المدار فيه على وحدة التكليف وتعدّده ، فالأوّل يكون واحد الواقعة ، والثاني متعدّدها ، وحينئذ فيكون التكليف المردّد بين الظهر والجمعة من الثاني ، لأنّ التكليف ثابت في كلّ جمعة.

ولذا لا يرتفع بمجرّد إتيان أحد الطرفين في الجمعة الاولى ، بل هو باق قطعا سواء كان المأتي به هو المأمور به أم لا ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الثابت فيه لا يكون إلّا تكليف واحد ، ولذا لا يعلم بقاؤه بعد ارتكاب أحد الطرفين ، لأنّه لا يعلم أنّ ما وقع بمحلّ الارتكاب هو المنهي عنه حتى يرتفع التكليف بالاجتناب عنه أم لا حتى يبقى ، فلا يجوز المخالفة القطعيّة فيه؟.

وإن شئت توضيح العبارة ، فاعلم أنّه إذا حصل الاشتباه في التكليف ؛ فإمّا أن يكون متعلّقه من مقولة الترك أو الفعل ، وعلى التقديرين ؛ فإمّا أن يكون ارتكاب أطراف الشبهة مسبوقا بالعلم الإجمالي بالتكليف أو لا ، ومرتقى الأقسام أربعة :

المثال الأوّل : هو الشبهة المحصورة.

المثال الثاني : ما إذا شكّ في أنّه وقعت نجاسة في واحد من عدّة أواني موجودة أم لا ، فإنّ متعلّق التكليف فيهما إنّما هو من مقولة الترك ، والفرق أنّ ارتكاب الأطراف في الأوّل يكون مسبوقا بالعلم الإجمالي دون الثاني.

المثال الثالث : هو الاشتباه الحاصل بين الظهر والجمعة.

المثال الرابع : ما إذا شكّ في تعلّق التكليف الوجوبي بالاستهلال والدعاء عند رؤية

١٦٣

والمسلّم منه ما إذا لم يسبق التكليف بمعيّن ، أو يسبق التكليف بالفعل حتى يكون المأتي به

____________________________________

الهلال أم لا ، فإنّه على تقدير التعلّق يكون متعلّقه مردّدا بين الأمرين ، ومتعلّق التكليف فيهما يكون من مقولة الفعل ، والفرق إنّما هو في ثبوت العلم الإجمالي وعدمه.

ولا يخفى أنّ ذكر القسم الثاني والأخير إنّما هو من باب استيفاء الأقسام ، وإلّا فهو غير مربوط بالمقام.

وكيف كان ، فلا إشكال في جواز ارتكاب الجميع في القسم الثاني ، كما أنّه لا إشكال في جواز ترك الجميع في القسم الأخير ، لأنّه ليس فيهما مخالفة قطعيّة حتى يستعلم أنّه على سبيل التدريج أو الدفعة.

وأمّا القسم الأوّل ، فهو لكون التكليف فيه واحدا لا يكون إلّا من واحد الواقعة ، فلا يجوز صدور الترخيص من الشارع في المخالفة القطعيّة بالنسبة إليه ، وهذا بخلاف القسم الثالث ، فإنّ المخالفة القطعيّة فيه على سبيل التدريج لا يكون إلّا في واقعتين لكون التكليف فيه متعدّدا ، فيجوز صدور التخيير الظاهري الاستمراري من الشارع في كلّ ما هو من هذا القسم كالظهر والجمعة.

فإن قلت : إنّ القسم الثالث ، كما يكون من متعدّد التكليف حتى يفرض فيه بسببه تعدّد الواقعة ـ كما في الظهر والجمعة ـ كذلك يكون من واحد التكليف أيضا ، كما في الحج ، فإنّه لا يجب إلّا دفعة واحدة ، فإذا فرض أنّ متعلّق الوجوب فيه تردّد بين أمرين كالقران والإفراد ، فهو ـ حينئذ ـ من واحد الواقعة لوحدة التكليف فيه ، فيلحق في الحكم بالقسم الأوّل ، ولا يتمّ كلّي المدّعى في القسم الثالث ، أعني : كونه مطلقا من متعدّد الواقعة.

قلت : إنّ محلّ الكلام في المقام إنّما هو المخالفة القطعيّة على سبيل التدريج ، وهو في القسم الثالث ، أعني : الشبهة الوجوبيّة لا تتمّ إلّا بعد تعدّد التكليف ، وما هو مفروض في مثال الحجّ لا يتعقّل فيه المخالفة القطعيّة على سبيل التدريج ، لأنّه إن أتى بكلا الفردين فهو موافقة قطعيّة ، وإن أتى بأحدهما فهو مخالفة احتماليّة ، وإن ترك كليهما فهو وإن كان مخالفة قطعيّة لكنّها ثابتة دفعة لا تدريجا ، فثبت أنّ التخيير الظاهري الاستمراري الثابت في الشبهة الوجوبيّة المقرونة بالعلم الإجمالي ممّا لا ربط له بالمقام.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ قول المصنّف قدس‌سره : (والمسلّم منه ما إذا لم يسبق ... إلى آخره) إشارة

١٦٤

في كلّ دفعة بدلا عن المتروك على تقدير وجوبه دون العكس ؛ بأن يكون المتروك في زمان الإتيان بالآخر بدلا عن المأتي به على تقدير حرمته ، وسيأتي تتمّة ذلك في الشبهة غير المحصورة.

فإن قلت : إنّ المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي فوق حدّ الإحصاء في الشرعيّات ، كما في الشبهة غير المحصورة ، وكما لو قال القائل في مقام الإقرار : هذا لزيد بل لعمرو ، فإنّ الحاكم

____________________________________

إلى بيان حكم القسم الثاني والرابع ، وما ذكره من قوله : (أو يسبق التكليف بالفعل) إشارة إلى بيان حكم الثالث ، وأمّا القسم الأوّل ، فحكمه مكشوف بقوله : (والتخيير الاستمراري في مثل ذلك ممنوع) وسند المنع يعلم ممّا بيّناه» انتهى كلامه قدس‌سره.

وذكرناه مع طوله لأنّه لا يخلو عن فائدة لأهل التحقيق.

وملخّص الجواب هو أنّ تجويز ارتكاب كلا المشتبهين من أول الأمر ولو تدريجا لا يجوز لكونه طرحا لدليل حرمة الحرام الواقعي ، وإذنا في المعصية ، فينا في حكم العقل بوجوب الإطاعة ، كما عرفت غير مرّة.

ثمّ إنّ ما ذكر في الإشكال من الالتزام بالتخيير الظاهري الاستمراري في ما نحن فيه ، كالتخيير الاستمراري بين الظهر والجمعة يوم الجمعة فيما إذا كان الواجب مردّدا بينهما غير صحيح.

أولا : لمنافاة التخيير كذلك لحكم العقل بوجوب الإطاعة للتكليف المعلوم إجمالا.

وثانيا : إن التخيير الاستمراري في جانب الفعل ـ كالتخيير بين الظهر والجمعة ـ وإن كان صحيحا شرعا لكون إتيان كلّ واحدة منهما مقدورا فيجوز الأمر بأحدهما تخييرا ، إلّا أنّ التخيير الشرعي في جانب الترك غير معقول فيما إذا لم يمكن ارتكابهما دفعة ، إذ ترك أحدهما حاصل قهرا دائما ، ولا حاجة إلى منع الشارع عن أحدهما تخييرا ـ كما عرفت ـ ولذلك لا يعقل التخيير الاستمراري في مورد العلم الإجمالي بالحرمة.

(والمسلّم منه ما إذا لم يسبق التكليف بمعيّن).

أي : والمسلّم من التخيير هو ما لم يكن نوع التكليف معلوما حتى لا يحكم العقل بوجوب الإطاعة ، فينافي الترخيص بالتخيير الاستمراري.

(فإن قلت : إنّ المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي فوق حدّ الإحصاء في الشرعيّات ... إلى

١٦٥

يأخذ المال لزيد وقيمته لعمرو ، مع أنّ أحدهما أخذ للمال بالباطل ، وكذا يجوز للثالث أن يأخذ المال من يد زيد وقيمته من يد عمرو ، مع علمه بأنّ أحد الأخذين تصرّف في مال الغير بغير إذنه ، ولو قال : هذا لزيد بل لعمرو بل لخالد ، حيث إنّه يغرم لكلّ من عمرو وخالد تمام القيمة ، مع أنّ حكم الحاكم باشتغال ذمّته بقيمتين مخالف للواقع قطعا ، وأيّ فرق بين قوله عليه‌السلام : (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز) (١) ، وبين أدلّة حلّ ما لم يعرف كونه حراما ، حتى إنّ الأوّل يعمّ الإقرارين ، المعلوم مخالفة أحدهما للواقع ، والثاني لا يعمّ الشيئين المعلوم حرمة أحدهما ، وكذلك لو تداعيا عينا في موضوع يحكم بتنصيفها بينهما ، مع العلم بأنّها ليست إلّا لأحدهما.

____________________________________

آخره).

هذا الإشكال من المصنّف قدس‌سره يرجع إلى أصل المطلب ، وهو حرمة المخالفة القطعيّة في المقام.

وحاصل الإشكال ، إنّ المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي لم تكن حراما ، وإلّا لم تقع في الشرع ، وقد وقعت في الشرع فوق حدّ الإحصاء ، وقد ذكر المصنّف قدس‌سره عدّة موارد :

منها : الشبهات غير المحصورة ، حيث يجوز فيها ارتكاب جميع الأطراف ، مع أنّه مخالفة قطعيّة للعلم الإجمالي بالتكليف.

ومنها : مسألة الإقرار ، وهي ما إذا أقرّ شخص على مال معيّن لشخص ، ثمّ أقرّ به للآخر ، فأخذ الحاكم المال للشخص الأوّل وقيمته للثاني ، مخالفة قطعيّة لعلمه إجمالا بأنّ أحد الأخذين أخذ للمال بالباطل ، وكذا للثالث أن يأخذ المال من أحدهما والقيمة من الآخر ، مع أنّ هذا الأخذ منه مخالفة قطعيّة لعلمه إجمالا بأنّ أحد الأخذين تصرّف في مال الغير بغير إذنه ، ولا فرق بين أدلة الإقرار وأدلّة الحل ، فكما أنّ إقرار العقلاء على أنفسهم جائز يشمل كلا الإقرارين ، كذلك قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام بعينه) (٢) يشمل كلا المشتبهين ، ولا يعتنى بالعلم الإجمالي في كلا الموردين.

ومنها : مسألة التداعي وهي ما(لو تداعيا عينا في موضوع يحكم بتنصيفها بينهما) ،

__________________

(١) غوالي اللئالئ ١ : ٢٢٣ / ١٠٤. الوسائل ٢٣ : ١٨٤ ، كتاب الإقرار ، ب ٣ ، ح ٢.

(٢) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠. التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٩. الوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

١٦٦

وذكروا ـ أيضا ـ في باب الصلح : إنّه لو كان لأحد الودعيّين درهم وللآخر درهمان ، فتلف عند الودعيّ أحد الدراهم ، فإنّه يقسم أحد الدرهمين الباقيين بين المالكين ، مع العلم الاجمالي بأنّ دفع أحد النصفين دفع للمال إلى غير صاحبه.

وكذا لو اختلف المتبايعان في المبيع والثمن ، وحكم بالتحالف وانفساخ البيع ، فإنّه يلزم مخالفة العلم الإجمالي ، بل التفصيلي في بعض الفروض ، كما لا يخفى.

قلت : أمّا الشبهة غير المحصورة فسيجيء وجه جواز المخالفة فيها. وأمّا الحاكم فوظيفته

____________________________________

وذلك بأن لا تعطي لأحدهما دون الآخر ، مع أنّ هذا الحكم مخالفة قطعيّة للعلم (بأنّها ليست إلّا لأحدهما).

ومنها : مسألة الودعيّ وهي ما(لو كان لأحد الودعيّين درهم وللآخر درهمان ، فتلف عند الودعيّ أحد الدراهم) فتقسيم أحد الدرهمين الباقيين بين المالكين مخالفة قطعيّة للعلم الإجمالي ، بأنّ دفع أحد النصفين دفع للمال إلى غير صاحبه.

ومنها : مسألة اختلاف المتبايعين في المبيع أو الثمن ، بأن يدّعي أحدهما بأنّ المبيع هو العبد ، ويدّعي الآخر بأنّه الأمة مع تعيين الثمن ، فالحكم بالتحالف وانفساخ العقد مخالفة قطعيّة للعلم الإجمالي ، بأنّ الثمن للبائع ؛ إمّا في مقابل العبد أو الأمة.

وكذلك في الاختلاف في الثمن يكون الحكم بانفساخ العقد مخالفة قطعيّة للعلم الإجمالي بأنّ المبيع للمشتري.

والمتحصّل من جميع ذلك هو أنّ المخالفة القطعيّة في هذه الموارد أقوى دليل على جوازها.

(قلت : أمّا الشبهة غير المحصورة فسيجيء وجه جواز المخالفة فيها).

وظاهر هذا الكلام من المصنّف قدس‌سره هو جواز المخالفة القطعيّة في الشبهة غير المحصورة ، مع أنّه ممّن يقول بعدم جوازها فيها أيضا ، فلا بدّ أن يكون مراده من وجه جواز المخالفة القطعيّة فيها على القول بالجواز كما عليه المشهور ، لأنّ الغرض هو بطلان قياس الشبهة المحصورة بالشبهة غير المحصورة ، حيث يقول المشهور في الثاني بعدم تنجّز التكليف ، وفي الأوّل بتنجّزه ، فيكون قياس الأوّل بالثاني باطلا ولو على قول المشهور.

١٦٧

أخذ ما يستحقّه المحكوم له على المحكوم عليه بالأسباب الظاهريّة ، كالإقرار والحلف والبيّنة وغيرها ، فهو قائم مقام المستحقّ في أخذ حقّه ، ولا عبرة بعلمه الإجمالي.

____________________________________

أو يكون مراده من وجه جواز المخالفة القطعيّة في الشبهة غير المحصورة هو خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محل الابتلاء دائما ، بخلاف الشبهة المحصورة ، حيث لم يكن بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء إلّا نادرا.

وسيجيء أنّ خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء مانع عن تنجّز التكليف في الشبهة المحصورة فضلا عن الشبهة غير المحصورة.

(وأمّا الحاكم فوظيفته أخذ ما يستحقّه المحكوم له على المحكوم عليه بالأسباب الظاهريّة ، كالإقرار والحلف والبيّنة وغيرها).

مثل التحالف والنكول. وتوضيح الجواب في مورد حكم الحاكم يحتاج إلى البحث عن جهات :

الاولى : وظيفة الحاكم في مقام الحكم.

والثانية : حكم أخذ المال.

والثالثة : حكم الشخص الثالث في أخذه المال من أحدهما والقيمة من الآخر.

فنقول : وأمّا وظيفة الحاكم فهي أخذ حقّ المحكوم له من المحكوم عليه ، وهو مكلّف ـ أيضا ـ بالحكم على طبق الموازين المقرّرة في باب القضاء.

كما أنّ الإقرار في مسألة الإقرار يكون طريقا آخر إلى ثبوت الحقّ شرعا ، فإذا أقرّ أحد لشخصين بمال معيّن يثبت الحقّ لهما ، ووظيفة الحاكم بعد علمه إجمالا بصدق أحد الإقرارين هو الحكم بتنفيذ كلا الإقرارين ، لأنّ الحكم بتنفيذه في حقّ أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، ولازم الحكم بتنفيذ كلا الإقرارين هو دفع المال للشخص الأوّل والقيمة للشخص الثاني ، من باب الجمع بين الحقّين الثابتين لهما بالإقرار.

ثمّ إنّ العلم الإجمالي بكذب أحد الإقرارين وعدم استحقاق أحدهما لا يمنع من الحكم المذكور ، لأنّ المخالفة القطعيّة محرّمة إذا لزمت في عمل نفس الحاكم مع قطع النظر عن القضاء في حقّ الغير ، بأن يأخذ المال والقيمة لنفسه وتصرّف فيهما ، وأما مخالفة العلم الإجمالي من حيث القضاء في حقّ الغير كما في المقام ، فلا مانع عنها.

١٦٨

نظير ذلك ما إذا أذن المفتي لكلّ واحد من واجدي المني في الثوب المشترك في دخول المسجد ، فإنّه إنّما يأذن كلّا منهما بملاحظة تكليفه في نفسه ، فلا يقال : إنّه يلزم من ذلك إذن الجنب في دخول المسجد وهو حرام.

وأمّا غير الحاكم ـ ممّن اتفق له أخذ المالين من الشخصين المقرّ لهما في مسألة الإقرار ـ فلا نسلّم جواز أخذه لهما ، بل ولا لشيء منهما ، إلّا إذا قلنا بأنّ ما يأخذه منهما يعامل [معه]

____________________________________

وأمّا أخذ المال ، فلا مانع منه لا للحاكم ولا للمقرّ لهما ، لأنّ أخذ المال فرع لصحّة حكم الحاكم باستحقاقهما ، فكما يجوز لأحدهما أخذ المال وللآخر أخذ القيمة بعد حكم الحاكم ، كذلك يجوز للحاكم أخذ المال والقيمة ممّن أقرّ بالمال لشخصين نيابة عنهما ، فيكون قائما مقام المستحق.

نعم ، لو علم الحاكم بكذب أحد المقرّ لهما معيّنا ، لا يجوز له دفع المال أو القيمة إليه.

والحاصل أنّ العلم الإجمالي بكذب أحد الإقرارين وعدم استحقاق أحدهما ، كما لا يكون مانعا عن الحكم ، كذلك لا يكون مانعا عن أخذ المال والقيمة.

وأمّا حكم الشخص الثالث ، فلا يجوز له أخذ شيء من المال والقيمة.

إلّا أن يقال : بأنّ الحكم الظاهري في حقّ المقرّ لهما يكون بمنزلة الحكم الواقعي بالنسبة إلى الشخص الثالث ، فيجوز ـ حينئذ ـ له أخذهما منهما ، كما كان له أن يأخذهما منهما لو كانا مالكين في الواقع.

(نظير ذلك ما إذا أذن المفتي لكلّ واحد من واجدي المني في الثوب المشترك في دخول المسجد).

لأنّ الفتوى بجواز الدخول ناظرة إلى تكليف كلّ منهما ، لأنّ كلّ منهما يكون شاكّا في كونه جنبا ، فيجري أصالة عدم الجنابة ، وبذلك يجوز لكلّ منهما الدخول في المسجد ، فمخالفة المفتي للعلم الإجمالي بجنابة أحدهما ليست مخالفة من حيث عمل نفسه ، بل من حيث الإفتاء للغير ، فهذه المخالفة ليست محرّمة ، وكذلك مخالفة الحاكم للعلم الإجمالي في مسألة القضاء ليست مخالفة من حيث عمل نفسه ، بل من حيث القضاء ، فلا تكون محرّمة.

وبالجملة ، إنّ الشخص الثالث وإن كان يعلم إجمالا بكون أحد المالين ملكا للمقرّ واقعا

١٦٩

معاملة الملك الواقعي ، نظير ما يملكه ظاهرا بتقليد أو اجتهاد يخالف لمذهب من يريد ترتيب الآثار ، بناء على أنّ العبرة في ترتيب آثار الموضوعات الثابتة في الشريعة ، كالملكيّة والزوجيّة وغيرهما ، بصحّتها عند المتلبّس بها ، كالمالك والزوجين ، ما لم يعلم تفصيلا من يريد ترتيب الأثر خلاف ذلك.

ولذلك قيل بجواز الاقتداء في الظهرين بواجدي المنيّ في صلاة واحدة ، بناء على أنّ المناط في صحّة الاقتداء الصحّة عند المصلّي ، ما لم يعلم تفصيلا فساده.

____________________________________

لعلمه إجمالا بكذب أحد الإقرارين ، إلّا أنّ كلّ واحد من المحكوم لهما قد يملك ما في يده ظاهرا ، فيترتّب على الملك الظاهري لكلّ واحد منهما أحكام الملك الواقعي.

(نظير ما يملكه ظاهرا بتقليد أو اجتهاد يخالف لمذهب من يريد ترتيب الآثار ... إلى آخره).

الملك ظاهرا بحكم الحاكم يكون نظير ما يملكه ظاهرا بتقليد أو اجتهاد ، كما إذا أفتى أحد المجتهدين بصحّة العقد بالفارسيّة والآخر بعدمها ، فإذا اشترى المجتهد الأوّل أو مقلّده شيئا بالعقد الفارسي يملكه بحسب اجتهاده إن كان مجتهدا أو تقليده إن كان مقلّدا ، فيترتّب عليه آثار الملك الواقعي بناء على أنّ العبرة في ترتيب آثار الصحّة هي الصحّة عند المتلبّس بها ، كالمالك والزوجين.

فإذا صحّت الملكيّة أو الزوجيّة عند المالك أو الزوجين بحسب الاجتهاد أو التقليد ، فللآخر أن يرتّب عليهما آثار الملك والزوجيّة ، كجواز الاشتراء وحرمة التزويج ، فيجوز للثالث في المقام أن يرتّب على ما في يد كلّ واحد منهما آثار الملك الواقعي ما لم يعلم تفصيلا خلاف ذلك ، بأن يعلم تفصيلا أنّ ما أخذه أحدهما يكون مال الغير.

فالمناط في جواز ترتيب آثار الصحّة هو الصحّة عند المتلبّس ، (ولذلك قيل بجواز الاقتداء في الظهرين بواجدي المنيّ في صلاة واحدة) كما لو حدث لأحدهما حادث حال الصلاة ، فينوب عنه الآخر ، حيث يجوز لثالث أن يقتدي بهما في صلاة واحدة ؛ لأنّ المناط في صحّة الاقتداء هو الصحّة عند المصلّي وهو موجود ، لأنّ كلّ واحد منهما بحسب تكليف نفسه محكوم بعدم الجنابة ظاهرا ، والحكم الظاهري في حقّ كلّ منهما يكون بمنزلة الحكم الواقعي بالنسبة إلى غيرهما ، فيجوز لغيرهما الاقتداء ما لم يعلم تفصيلا

١٧٠

وأمّا مسألة الصلح ، فالحكم فيها تعبّدي ، وكأنّه صلح قهري بين المالكين ، أو يحمل على حصول الشركة بالاختلاط.

وقد ذكر بعض الأصحاب أنّ مقتضى القاعدة الرجوع إلى القرعة.

____________________________________

فساد الاقتداء ، كما لو علم بجنابة أحدهما معيّنا.

وأمّا على القول باشتراط إحراز المأموم صحّة صلاة الإمام في جواز الاقتداء ، فلا يجوز الاقتداء بهما في صلاتين ، فضلا عن الاقتداء بهما في صلاة واحدة ، إذ لا يمكن للمأموم إحراز صحّة صلاة الإمام بعد العلم الإجمالي ببطلان صلاة أحدهما ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي مع تصرف في الجملة.

(وأمّا مسألة الصلح ، فالحكم فيها تعبّدي ... إلى آخره).

وظاهر هذا الكلام من المصنّف قدس‌سره هو الالتزام بالمخالفة القطعيّة في هذه المسألة ، إلّا أنّ الحكم بالجواز فيها ثبت بالتعبّد ، ومقتضى الأصل الأوّلي وإن كان هو عدم جواز التنصيف لكونه مستلزما للمخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي بكون الدرهم ملكا لأحدهما ، إلّا أنّ الشرع جعل نصفه للآخر من باب الصلح وحلّ النزاع ، والجمع بين الحقّين بعد عدم التمكّن من إيصال الحقّ إلى ذي الحقّ إلّا بالتنصيف ، فالتنصيف صلح قهري بين المالكين ، ومعلوم أنّ جواز المخالفة في مسألة الصلح لا يستلزم جوازها في ما نحن فيه ، لأنّ المكلّف في ما نحن فيه يتمكّن من الفرار من المخالفة القطعيّة ، ولا يمكن الفرار منها في مسألة الصلح ، إذ لا يمكن الجمع بين الحقّين فيها إلّا بالتنصيف.

(أو يحمل على حصول الشركة بالاختلاط).

أي : الحكم بالتنصيف محمول على حصول الشركة على نحو الإشاعة بين المالكين ، إلّا أنّ التقسيم المذكور لا يصحّ على فرض حصول الشركة ، لأنّ لازم الشركة هو دفع الثلث من الدرهمين الباقيين إلى مالك الدرهم ، والثلثين إلى صاحب الدرهمين ، كما لا يخفى.

وأمّا الجواب عن مسألة الاختلاف في الثمن أو المثمن يمكن بأحد وجهين :

أحدهما : بأن يقال : إنّ ردّ المثمن المعيّن إلى البائع في الاختلاف في الثمن ، وردّ الثمن المعيّن إلى المشتري في الاختلاف في المثمن ، تقاصّ شرعي في مقابل ما يدّعيه البائع أو المشتري.

١٧١

وبالجملة ، فلا بدّ من التوجيه في جميع ما يوهم جواز المخالفة القطعيّة الراجعة إلى طرح دليل شرعي ، لأنّها ـ كما عرفت ـ ممّا يمنع عنها العقل والنقل ، خصوصا إذا قصد من ارتكاب المشتبهين التوصّل إلى الحرام ، هذا ممّا لا تأمّل فيه ، ومن يظهر منه جواز الارتكاب فالظاهر أنّه قصد غير هذه الصورة.

ومنه يظهر أنّ إلزام القائل بالجواز ـ بأنّ تجويز ذلك يفضي إلى إمكان التوصّل إلى فعل جميع المحرّمات على وجه مباح ، بأن يجمع بين الحلال والحرام المعلومين تفصيلا ، كالخمر والخلّ ، على وجه يوجب الاشتباه فيرتكبهما ـ محلّ نظر ، خصوصا على ما مثّل به من الجمع بين الأجنبيّة والزوجة.

____________________________________

وثانيهما : أن يقال : إنّ الشارع جعل التحالف سببا لفسخ أصل العقد ، كالإقالة وحينئذ يرتفع الإشكال.

(فلا بدّ من التوجيه في جميع ما يوهم جواز المخالفة القطعيّة الراجعة إلى طرح دليل شرعي) دالّ على الحرمة كقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)(١) (خصوصا إذا قصد من ارتكاب المشتبهين التوصّل إلى الحرام) فلا تجوز المخالفة القطعيّة إجماعا.

(ومن يظهر منه جواز الارتكاب فالظاهر أنّه قصد غير هذه الصورة) التي قصد بها التوصّل إلى الحرام.

ومن عدم جواز المخالفة القطعيّة مع قصد التوصّل إلى الحرام حتى عند القائل بالجواز(يظهر أنّ إلزام القائل بالجواز بأنّ تجويز ذلك يفضي إلى إمكان التوصّل إلى فعل جميع المحرّمات على وجه مباح ... إلى آخره).

أي : ردّ من يقول بجواز المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي ، كما نسب ذلك إلى صاحب الفصول ، بأنّ تجويز المخالفة القطعيّة فتح لباب ارتكاب جميع المحرّمات ، بأن يجمع بين الخمر والخلّ ، وبين الحليلة والأجنبيّة على نحو يتحقّق الاشتباه ، ثمّ يرتكبهما.

(محلّ نظر) ، إذ لا يجوز الارتكاب بقصد التوصّل إلى الحرام إجماعا ، ولا يقول به أحد ، (خصوصا على ما مثّل به من الجمع بين الأجنبيّة والزوجة) ، إذ لا تجوز المخالفة القطعيّة

__________________

(١) البقرة : ١٨٨.

١٧٢

هذا كلّه فيما إذا كان الحرام المشتبه عنوانا واحدا مردّدا بين أمرين.

وأمّا إذا كان مردّدا بين عنوانين ، كما مثّلنا سابقا بالعلم الإجمالي بأنّ أحد المائعين إمّا خمر أو الآخر مغصوب ، فالظاهر أنّ حكمه كذلك.

إذ لا فرق في عدم جواز المخالفة للدليل الشرعي بين كون ذلك الدليل معلوما بالتفصيل وكونه معلوما بالإجمال ، فإنّ من ارتكب الإنائين في المثال يعلم بأنّه خالف دليل حرمة الخمر أو دليل حرمة المغصوب ، ولذا لو كان إناء واحد مردّدا بين الخمر والمغصوب لم يجز ارتكابه ، مع أنّه لا يلزم منه إلّا مخالفة أحد الدليلين لا بعينه.

وليس ذلك إلّا من جهة أنّ مخالفة الدليل الشرعي محرّم عقلا وشرعا ، سواء تعيّن للمكلّف أو تردّد بين دليلين.

____________________________________

في هذا المثال قطعا ؛ وذلك لأنّ مقتضى الأصل الموضوعي ـ أي : أصالة عدم الزوجيّة في كلّ واحدة منهما ـ هو الحرمة ، وقد تقدّم في محلّه أنّ الأصل الموضوعي حاكم على أصالة الحلّ.

(هذا كلّه فيما إذا كان الحرام المشتبه عنوانا واحدا مردّدا بين أمرين) ، كعنوان الخمر المشتبه بين الإنائين أو الأكثر.

(وأمّا إذا كان مردّدا بين عنوانين ... إلى آخره) ، كالعلم الإجمالي بخمريّة أحد المائعين أو غصبيّة الآخر ، كما تقدّم المثال في بحث القطع (فالظاهر أنّ حكمه كذلك) ، أي : عدم جواز ارتكابهما وحرمة المخالفة القطعيّة ، وذلك لوجود المقتضي ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(إذ لا فرق في عدم جواز المخالفة للدليل الشرعي) المقتضي للحرمة (بين كون ذلك الدليل معلوما بالتفصيل) ، كقول الشارع : اجتنب عن الخمر ، (وكونه معلوما بالإجمال) ، كاجتنب عن الخمر أو اجتنب عن الغصب ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

وارتكاب المشتبهين في كلا الموردين مخالفة قطعيّة للحكم بالحرمة ، غاية الأمر أنّ الخطاب في الأوّل معلوم بالتفصيل ، وفي الثاني معلوم بالإجمال ، وهذا الفرق لا يوجب الفرق بينهما من حيث عدم جواز المخالفة القطعيّة.

(ولذا لو كان إناء واحد مردّدا بين الخمر والمغصوب لم يجز ارتكابه).

أي : لعدم الفرق بينهما من حيث عدم جواز المخالفة القطعيّة لم يجز ارتكاب الإناء

١٧٣

ويظهر من صاحب الحدائق التفصيل في باب الشبهة المحصورة بين كون المردّد بين المشتبهين فردا من عنوان ، فيجب الاجتناب عنه ، وبين كونه مردّدا بين عنوانين ، فلا يجب.

فإن أراد عدم وجوب الاجتناب عن شيء منهما في الثاني وجواز ارتكابهما معا ، فظهر ضعفه بما ذكرنا ، وإن أراد عدم وجوب الاحتياط فيه فسيجيء ما فيه.

____________________________________

الواحد المردّد بين الخمر والمغصوب.

(ويظهر من صاحب الحدائق التفصيل في باب الشبهة المحصورة بين كون المردّد بين المشتبهين فردا من عنوان ، فيجب الاجتناب عنه ، وبين كونه مردّدا بين عنوانين ، فلا يجب).

ففرّق صاحب الحدائق بينهما إذا كان الحرام المشتبه عنوانا واحدا مردّدا بين أمرين ، فيجب الاجتناب عنه ، وبين ما إذا كان مردّدا بين عنوانين ، فلا يجب الاجتناب عنه ، فتجوز المخالفة القطعيّة فيها.

ولعلّ الوجه في هذا التفصيل المذكور كما في تعليقة غلام رضا قدس‌سره هو أنّ مجرّد العلم بثبوت الخطاب الواقعي لا يكفي في تنجّز التكليف ، بل يحتاج إلى صغرى وجدانيّة معلومة بالتفصيل ، أو الإجمال ، حتى يحصل بها الربط بين هذا الفرد المبتلى به ، وتلك الكبرى فيقال في الأوّل : هذا خمر ، وكلّ خمر يجب الاجتناب عنه ، فهذا يجب الاجتناب عنه ، وفي الثاني : إنّ إناء زيد الموجود فيه الخمر المشتبه بإناء عمرو الموجود فيه الخلّ خمر ، وكلّ خمر يجب الاجتناب عنه فإناء زيد الموجود فيه الخمر يجب الاجتناب عنه ، والاجتناب عنه لا يتحقّق إلّا بالاجتناب عن كلا الإنائين.

والمردّد بين العنوانين فاقد للصغرى المزبورة ، فلا مانع من جريان البراءة فيه ، لأنّه لا يمكن أن يقال : إنّ إناء زيد المشتبه خمر ، كما أنّه لا يمكن أن يقال : إنّه غصب لفرض تردّده بين العنوانين ، فيكون من حيث الشبهة الاولى ملحقا بالشبهات البدويّة من الخمر ، ومن حيث الشبهة الثانية ملحقا بالشبهات البدويّة من الغصب ، فتجري البراءة في كلا الإنائين.

فيقول المصنّف قدس‌سره في الجواب :

(فإن أراد عدم وجوب الاجتناب عن شيء منهما في الثاني وجواز ارتكابهما معا ، فظهر ضعفه بما ذكرنا).

من عدم الفرق بينهما في عدم جواز المخالفة للدليل الشرعي بين كونه معلوما

١٧٤

وأمّا المقام الثاني : وهو وجوب اجتناب الكلّ وعدمه.

فالحقّ فيه وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقا للمشهور ، وفي المدارك أنّه مقطوع به في كلام الأصحاب ، ونسبه المحقّق البهبهاني في فوائده إلى الأصحاب ، وعن المحقّق المقدّس الكاظمي في شرح الوافية دعوى الإجماع صريحا ، وذهب جماعة إلى عدم وجوبه ، وحكي عن بعض القرعة.

لنا على ما ذكرنا أنّه إذا ثبت كون أدلّة تحريم المحرّمات شاملة للمعلوم إجمالا ولم يكن

____________________________________

بالتفصيل أو بالإجمال ، ومجرّد العلم بالدليل الشرعي تفصيلا أو إجمالا كاف في تنجّز التكليف وحرمة مخالفته بحكم العقل ، كما تقدّم غير مرّة.

(وأمّا المقام الثاني) وهو وجوب الموافقة القطعيّة وعدمه ، (فالحقّ فيه وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقا للمشهور).

ثمّ إنّ الأقوال في المقامين وإن كانت كثيرة تبلغ عددها إلى سبعة كما في شرح الاستاذ الاعتمادي دامت إفاداته ، إلّا أنّ الحقّ عند المصنّف قدس‌سره هو :

الأوّل : وهو وجوب الموافقة القطعيّة مطلقا وفاقا للمشهور.

والثاني : جواز المخالفة القطعيّة مطلقا.

والثالث : جوازها تدريجا.

والرابع : جوازها فيما لا يمكن فيه الارتكاب دفعة.

والخامس : حرمة المخالفة القطعيّة ، وكفاية الموافقة الاحتماليّة.

والسادس : القرعة.

والسابع : ما تقدّم عن صاحب الحدائق من التفصيل بين ما إذا كان الحرام المشتبه عنوانا واحدا مردّدا بين أمرين ، وبين ما إذا كان مردّدا بين عنوانين ، فتجب الموافقة القطعيّة في الأوّل دون الثاني ، بل تجوز المخالفة القطعيّة في الثاني.

والدليل على ما ذهب إليه المصنّف قدس‌سره وفاقا للمشهور هو وجود المقتضي وعدم المانع ، كما أشار إلى الأوّل بقوله :

(لنا على ما ذكرنا أنّه إذا ثبت كون أدلّة تحريم المحرّمات) ، كقول الشارع : اجتنب عن الخمر(شاملة للمعلوم إجمالا) لما تقدّم في المقام الأوّل من أنّ الألفاظ موضوعة لذات

١٧٥

هنا مانع عقلي أو شرعي من تنجّز التكليف به ، لزم بحكم العقل الاحتراز عن ارتكاب ذلك المحرّم بالاجتناب عن كلا المشتبهين.

وبعبارة اخرى : التكليف بذلك المعلوم إجمالا إن لم يكن ثابتا جازت المخالفة القطعيّة ، والمفروض في هذا المقام التسالم على حرمتها.

____________________________________

المعاني لا للمعاني المعلومة ، ومقتضى شمول أدلّة المحرّمات للمعلوم إجمالا هو ثبوت الاشتغال على وجه اليقين ، والعقل يحكم بتحصيل البراءة اليقينيّة ، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة ، ومن الواضح أنّ البراءة اليقينيّة لا تحصل إلّا بالاجتناب عن كلا المشتبهين ، وهو عبارة اخرى لوجوب الموافقة القطعيّة.

وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى عدم المانع بقوله :

(ولم يكن هنا مانع عقلي).

لأنّ العقل على ما تقدّم يحكم مستقلّا بتنجّز التكليف المعلوم ولو إجمالا.

(أو شرعي) والمانع الشرعي هو أدلّة البراءة التي تكون مختصّة بالشبهات البدويّة ، ولذلك فهي لا تشمل الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

(وبعبارة اخرى : التكليف بذلك المعلوم إجمالا إن لم يكن ثابتا جازت المخالفة القطعيّة).

وتظهر من هذا الكلام دعوى الملازمة عقلا بين حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة ، وذلك طبقا لمقتضى القياس الاستثنائي وهو أن يقال : إنّ التكليف المعلوم إجمالا إن لم يكن ثابتا ومنجّزا جازت مخالفته القطعيّة ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله ، ومن الواضح أنّ العمدة في القياس الاستثنائي هي الملازمة ، ثمّ بطلان التالي.

أمّا الملازمة فواضحة ، وأمّا بطلان التالي ، فقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(والمفروض في هذا المقام) ، أي : المقام الثاني هو (التسالم على حرمتها).

أي : حرمة المخالفة القطعيّة ، لأنّ البحث عن وجوب الموافقة القطعيّة في المقام الثاني يكون بعد الفراغ عن حرمة المخالفة القطعيّة وتسليمها في المقام الأوّل.

وعلى هذا تكون النتيجة ثبوت التكليف المعلوم بالإجمال وتنجّزه ، فإذا ثبت التكليف في الذمّة حكم العقل بأنّ طريق الامتثال هو الاحتياط والاجتناب عن كلا المشتبهين تحصيلا للموافقة القطعيّة ، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.

١٧٦

وإن كان ثابتا وجب الاحتياط فيه بحكم العقل ، إذ يحتمل أن يكون ما يرتكبه من المشتبهين هو الحرام الواقعي ، فيعاقب عليه ، لأنّ المفروض لمّا كان ثبوت التكليف بذلك المحرّم لم يقبح العقاب عليه إذا اتّفق ارتكابه ، ولو لم يعلم به حين الارتكاب.

واختبر ذلك من حال العبد إذا قال له المولى : اجتنب ، وتحرّز عن الخمر المردّد بين هذين الإنائين ، فإنّك لا تكاد ترتاب في وجوب الاحتياط ، ولا فرق بين هذا الخطاب وبين أدلّة المحرّمات الثابتة في الشريعة إلّا العموم والخصوص.

فإن قلت : أصالة الحلّ في كلا المشتبهين جارية في نفسها ومعتبرة لو لا المعارض ، وغاية ما يلزم في المقام تعارض الأصلين ، فتخيير في العمل في أحد المشتبهين ، ولا وجه لطرح

____________________________________

(وإن كان ثابتا) ، كما هو كذلك (وجب الاحتياط فيه) لحكم العقل بوجوبه بعد ثبوت المقتضي وعدم المانع كما تقدّم ، فحينئذ لو ارتكب المكلّف أحد المشتبهين ، وكان حراما في الواقع فإنّه يعاقب ، وعقابه لم يعدّ قبيحا.

(واختبر ذلك) ، أي : وجوب الاحتياط وعدم قبح العقاب (من حال العبد إذا قال له المولى : اجتنب ، وتحرّز عن الخمر المردّد بين هذين الإنائين) فيجب عليه الاجتناب عن الإنائين قطعا.

وكذلك في المقام ، إذ(لا فرق بين هذا الخطاب وبين أدلّة المحرّمات الثابتة في الشريعة إلّا العموم والخصوص) حيث يكون المحرّم بأمر المولى في المثال خصوص فرد الخمر المردّد بين الإنائين ، وبأمر الشارع كلّي الخمر كما في شرح الاستاذ الاعتمادي بتلخيص.

ثمّ إنّ القائلين بعدم وجوب الموافقة القطعيّة احتجوا بوجوه :

منها : ما أشار إليه بقوله :

(فإن قلت : أصالة الحلّ في كلا المشتبهين جارية في نفسها ... إلى آخره).

وحاصل هذا الوجه ، هو أنّ أدلّة الحلّ تشمل أطراف العلم الإجمالي كما تشمل الشبهات البدويّة ، فتدلّ على حلّية كلّ واحد من المشتبهين ، إذ كلّ واحد منهما ممّا لم يعلم أنّه حرام بعينه ، إلّا أنّها معارضة لما دلّ على الحرمة ، كقول الشارع : اجتنب عن الخمر ، حيث يجب الاجتناب عن الخمر المردّد بين الإنائين.

(وغاية ما يلزم في المقام تعارض الأصلين).

١٧٧

كليهما.

قلت : أصالة الحلّ غير جارية هنا بعد فرض كون المحرّم الواقعي مكلّفا بالاجتناب عنه ، منجّزا على ما هو مقتضى الخطاب بالاجتناب عنه ؛ لأنّ مقتضى العقل في الاشتغال اليقيني بترك الحرام الواقعي هو الاحتياط والتحرّز عن كلا المشتبهين ، حتّى لا يقع في محذور فعل الحرام ، وهو معنى المرسل المروي في بعض كتب الفتاوى : (اترك ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس) (١). فلا يبقى مجال للإذن في فعل أحدهما ، وسيجيء في باب الاستصحاب ـ أيضا ـ إنّ

____________________________________

أي : أنّ أصالة الحلّ في كلّ طرف لازمها حرمة الآخر ، بمقتضى العلم الإجمالي بالحرمة ، فتعارض أصالة الحلّ في كلّ طرف بأصالة الحلّ في الطرف الآخر ، والحكم بعد عدم جواز طرح الأصلين وعدم إمكان الجمع بينهما في العمل هو التخيير ، إذ هو غاية ما يمكن أن يؤخذ به ، وبه يحصل الجمع بين الدليلين المتعارضين ، وبذلك يكون الحاصل هو عدم وجوب الموافقة القطعيّة.

(قلت : أصالة الحلّ غير جارية هنا).

والجواب عن الوجه المذكور يمكن بأحد وجهين :

أحدهما : عدم تسليم جريان أصالة الحلّ في مورد العلم الإجمالي ، وذلك أنّه بعد تنجّز التكليف بالحرمة ، ووجوب الاجتناب عن الحرام المعلوم إجمالا ، وحكم العقل بوجوب الاحتياط ، وكون الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة المتوقّفة على اجتناب كلا المشتبهين ، لا يبقى شكّ حتى تجري أصالة الحلّ ، وذلك لتقدّم قاعدة الاشتغال عليها بالحكومة.

وثانيهما : إنّه بعد تسليم جريان أصالة الحلّ في كلّ طرف من طرفي العلم الإجمالي ، وتعارض الأصلين فيهما نمنع أن يكون الحكم هو التخيير ؛ وذلك لأنّ مقتضى الأصل الأوّلي في تعارض الأصلين هو الحكم بالتساقط لا التخيير.

نعم ، التخيير في تعارض الخبرين إنّما ثبت من جهة الأصل الثانوي والأخبار الواردة في باب التعارض ، ويرجع بعد تساقط الأصلين بالتعارض إلى ما دلّ على وجوب

__________________

(١) مصباح الشريعة : ٣٩ ، بتفاوت.

١٧٨

الحكم في تعارض كلّ أصلين إذا لم يكن أحدهما حاكما على الآخر هو التساقط ، لا التخيير.

فإن قلت : قوله : (كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام) (١) ونحوه ، يستفاد منه حلّية المشتبهات بالشبهة المجرّدة عن العلم الإجمالي جميعا ، وحلّية الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي على البدل ، لأنّ الرخصة في كلّ شبهة مجرّدة لا تنافي الرخصة في غيرها ، لاحتمال كون الجميع حلالا في الواقع. فالبناء على كون هذا المشتبه بالخمر خلّا ، لا ينافي البناء على كون المشتبه الآخر خلّا.

وأمّا الرخصة في شبهة مقرونة بالعلم الإجمالي والبناء على كونه خلّا لمّا تستلزم وجوب

____________________________________

الاجتناب عن الحرام الواقعي ، فيجب الاجتناب عن كلا المشتبهين ، وهو المطلوب.

(فلا يبقى مجال للإذن في فعل أحدهما) لما عرفت من حكومة قاعدة الاشتغال على أصالة الحلّ ، وأنّ الحكم في تعارض الأصلين إذا لم يكن أحدهما حاكما على الآخر هو التساقط لا التخيير.

ومنها : ما أشار إليه بقوله : (فإن قلت : قوله : (كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام) ... إلى آخره).

أي : ومن الوجوه التي استدلّ بها على عدم وجوب الموافقة القطعيّة هو ما ذكره المصنّف قدس‌سره بقوله : (فإن قلت).

وحاصل هذا الوجه هو أنّ أخبار الحلّ ، كما تدلّ على الحلّية في المشتبهات بالشبهة المجرّدة عن العلم الإجمالي جميعا ، كذلك تدلّ على حلّية المشتبهات بالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، وحينئذ يقع التعارض بينها ، وبين قاعدة الاشتغال في مورد العلم الإجمالي ، ولأنّ مقتضى قاعدة الاشتغال هو وجوب الاجتناب عن الجميع ، ومقتضى عموم أدلّة الحلّ هو جواز الارتكاب في الجميع ، ومقتضى الجمع بينهما هو إبقاء مقدار الحرام ، وارتكاب الباقي ، ولازم هذا الجمع هو حلّية أحد المشتبهين على البدل تخييرا ، وحرمة الآخر ظاهرا.

ثمّ إنّ التخيير لم يكن مدلولا لأخبار الحلّ ، حتى يقال : إنّه مستلزم لاستعمالها في

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠. التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٩. الوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

١٧٩

البناء على كون المحرّم هو المشتبه الآخر ، فلا يجوز الرخصة فيه جميعا.

نعم ، يجوز الرخصة فيه بمعنى جواز ارتكابه والبناء على أنّ المحرّم غيره.

مثلا : الرخصة في ارتكاب أحد المشتبهين بالخمر مع العلم بكون أحدهما خمرا ، فإنّه لمّا علم من الأدلّة تحريم الخمر الواقعي ، ولو تردّد بين الأمرين كان معنى الرخصة في ارتكاب أحدهما الإذن في البناء على عدم كونه هو الخمر المحرّم عليه وأنّ المحرم غيره ، فكلّ منهما حلال ، بمعنى جواز البناء على كون المحرّم غيره.

والحاصل أنّ مقصود الشارع من هذه الأخبار أن يلغي من طرفي الشكّ في حرمة الشيء وحلّيته احتمال الحرمة ، ويجعل محتمل الحلّية في حكم متيقّنها ، ولمّا كان في المشتبهين بالشبهة المحصورة شكّ واحد ، ولم يكن فيه إلّا احتمال كون هذا حلالا وذاك حراما واحتمال العكس ، كان إلغاء احتمال الحرمة في أحدهما إعمالا له في الآخر وبالعكس ، وكان الحكم الظاهري في أحدهما بالحلّ حكما ظاهريّا بالحرمة في الآخر ، وليس معنى حلّية كلّ منهما إلّا الإذن في ارتكابه وإلغاء احتمال الحرمة فيه المستلزم لإعماله في الآخر.

____________________________________

التعيين في الشبهات البدويّة وفي التخيير في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، بل جاء من جهة العلم الإجمالي بالحرام ، إذ بعد العلم الإجمالي بحرمة أحد المشتبهين لكونه خمرا ، وحلّية الآخر لكونه خلّا ، يكون البناء على حلّية أحدهما بمقتضى أدلّة الحلّ مستلزما للبناء على حرمة الآخر بمقتضى العلم الإجمالي.

ولا يمكن البناء على حلّية الطرف الآخر ـ أيضا ـ لأنّ البناء على حلّية أحدهما بعد العلم الإجمالي بحرمة أحدهما ينافي البناء على حلّية الآخر ، وهذا بخلاف الشبهات البدويّة حيث لا ينافي البناء على الحلّية في مشتبه للبناء على الحلّية في آخر ، فلذا يكون الحكم بالحلّية في الشبهة البدويّة تعيينيّة وفي مورد العلم الإجمالي تخييريّة.

والحاصل من الجميع هو تقديم أدلّة الحلّ على قاعدة الاشتغال بالحكومة ، والنتيجة هي عدم وجوب الموافقة القطعيّة.

وبالجملة ، إنّ لازم العلم الإجمالي بحرمة أحد المشتبهين ، ولازم عموم أخبار الحلّ هو الحكم بحرمة أحدهما ، وحلّية الآخر على نحو التخيير ، لأنّ الحكم بحلّية أحدهما بالخصوص ، أو الحكم بالحرمة كذلك ترجيح من دون مرجّح ، فالمستفاد من أخبار الحلّ

١٨٠