دروس في الرسائل - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٨

لأنّ عدم استحقاق العقاب ليس من آثار عدم الوجوب والحرمة الواقعيّين حتى يحتاج إلى إحرازهما بالاستصحاب ، بل يكفي فيه عدم العلم بهما ، فمجرّد الشكّ فيهما كاف في عدم استحقاق العقاب القاطع ، وقد أشرنا إلى ذلك عند التمسّك في حرمة العمل بالظنّ بأصالة عدم حجّيّته ، وقلنا : إنّ الشكّ في حجّيّته كاف في التحريم ، فلا يحتاج إلى إحراز عدمها بالأصل.

وإن قصد به نفي الآثار المترتّبة على الوجوب النفسي المستقلّ ، فأصالة عدم هذا الوجوب في الأكثر معارضة بأصالة عدمه في الأقلّ ، فلا يبقى لهذا الأصل فائدة إلّا في نفي ما عدى العقاب من الآثار المترتّبة على مطلق الوجوب الشامل للنفسي والغيري.

____________________________________

وتوضيحه يتوقف على بيان مقدّمة مشتملة على سؤال ، بأن يقال : ما هو المقصود من استصحاب عدم وجوب الأكثر ، هل هو عدم استحقاق العقاب على تركه؟ أو أنّ المقصود من الاستصحاب نفي الآثار المترتّبة على الوجوب النفسي؟ أو أنّ المقصود من الاستصحاب نفي الآثار المترتّبة على مطلق الوجوب الجامع بين النفسي والغيري؟.

فإن قصد من الاستصحاب الأوّل وهو نفي استحقاق العقاب ، فيردّ عليه :

أوّلا : إنّ استحقاق العقاب ليس من الآثار الشرعيّة لكي يترتّب عدمه على المستصحب ، مع أنّ اعتبار الاستصحاب مشروط بأن يكون نفس المستصحب حكما شرعيّا ، أو يكون ما يترتّب عليه من الآثار الشرعيّة.

وثانيا : إنّ الشكّ في الوجوب كاف في نفي استحقاق العقاب ، فلا حاجة إلى إحراز عدم الوجوب حتى يجري فيه استصحاب عدم الوجوب لإحراز عدمه ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (لأنّ عدم استحقاق العقاب ليس من آثار عدم الوجوب) ، إلى أن قال : (بل يكفي فيه عدم العلم بهما) ، أي : بالوجوب والحرمة الواقعيين.

وإن قصد منه الثاني وهو نفي الآثار المترتّبة على الوجوب النفسي ، فيردّ عليه : إنّ أصالة عدم وجوب الأكثر المترتّب على الوجوب النفسي تكون معارضة بأصالة عدم وجوب الأقلّ كذلك ؛ لعدم العلم بوجوبه النفسي ، فتجري فيه أصالة عدم وجوبه النفسي ، وحينئذ يقع التعارض بين الاستصحابين ، وبه تبطل دعوى أنّ أصالة عدم وجوب الأكثر سليمة عن المعارضة.

٤٢١

ثمّ بما ذكرنا ـ في منع جريان الدليل العقلي المتقدّم في المتباينين في ما نحن فيه ـ يقدر على منع سائر ما يتمسّك به ، لوجوب الاحتياط في هذا المقام ، مثل استصحاب الاشتغال بعد الإتيان بالأقلّ ، وأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي وجوب تحصيل اليقين بالبراءة.

ومثل أدلّة اشتراك الغائبين مع الحاضرين في الأحكام المقتضية لاشتراكنا ـ معاشر الغائبين ـ مع الحاضرين العالمين بالمكلّف به تفصيلا ، ومثل وجوب دفع الضرر وهو العقاب المحتمل قطعا ، وبعبارة اخرى وجوب المقدّمة العلمية للواجب.

ومثل أنّ قصد القربة غير ممكن بالإتيان بالأقلّ لعدم العلم بمطلوبيّته في ذاته ، فلا يجوز الاقتصار عليه في العبادات ، بل لا بدّ من الإتيان بالجزء المشكوك.

فإنّ الأوّل مندفع ـ مضافا إلى منع جريانه حتى في مورد وجوب الاحتياط ، كما تقدّم في المتباينين ـ بأنّ بقاء وجوب الأمر المردّد بين الأقلّ والأكثر بالاستصحاب لا يجدي بعد

____________________________________

وأمّا إن قصد منه الثالث وهو نفي الآثار المترتّبة على مطلق الوجوب الجامع بين النفسي والغيري ، فالاستصحاب المذكور وإن كان سليما عن المعارض هنا إلّا أنّ مثل هذا الأثر نادر وقليل جدا ، لا يمكن الاعتماد عليه ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (بل هو قليل الفائدة). هذا تمام الكلام في عدم جريان ما تقدّم في المتباينين من حكم العقل بوجوب الاحتياط في المقام ، بل العقل يحكم بقبح العقاب على ترك الأكثر بعد انحلال العلم الإجمالي على ما تقدّم بيانه.

(ثمّ بما ذكرنا ـ في منع جريان الدليل العقلي المتقدّم في المتباينين في ما نحن فيه ـ يقدر على منع سائر ما يتمسّك به لوجوب الاحتياط في هذا المقام ، مثل استصحاب الاشتغال بعد الإتيان بالأقلّ ، وأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي وجوب تحصيل اليقين بالبراءة. ومثل أدلّة اشتراك الغائبين مع الحاضرين في الأحكام المقتضية لاشتراكنا ـ معاشر الغائبين ـ مع الحاضرين العالمين بالمكلّف به تفصيلا ، ومثل وجوب دفع الضرر وهو العقاب المحتمل ... إلى آخره).

والمصنّف قدس‌سره يردّ جريان كلّ واحد ممّا استدلّ به على وجوب الاحتياط في المتباينين في المقام ، حيث أشار إلى ردّ الاستدلال بالاستصحاب بقوله :

(فإنّ الأوّل مندفع مضافا إلى منع جريانه ... إلى آخره) ، أي : استصحاب الاشتغال

٤٢٢

فرض كون وجود المتيقّن قبل الشكّ غير مجد في الاحتياط ، نعم ، لو قلنا بالأصل المثبت وأنّ استصحاب الاشتغال بعد الإتيان بالأقلّ يثبت كون الواجب هو الأكثر فيجب الإتيان به أمكن الاستدلال بالاستصحاب.

لكن يمكن أن يقال : إنّا نفينا في الزمان السابق وجوب الأكثر لقبح المؤاخذة من دون بيان ، فتعيّن الاشتغال بالأقلّ ، فهو منفي في الزمان السابق ، فكيف يثبت في الزمان اللاحق؟

____________________________________

مندفع بأحد وجهين ؛ وذلك لأنّ المستصحب ـ حينئذ ـ لا يخلو عن أحد احتمالين :

أحدهما : أن يكون المراد به في استصحاب الاشتغال حكم العقل بوجوب الاحتياط ووجوب إتيان الكلّ.

وثانيهما : أن يكون المراد بالمستصحب وجوب المردّد بين الأقلّ والأكثر.

فإن كان المراد منه هو الأوّل ، فيردّ عليه : إنّ حكم العقل بوجوب الاحتياط من جهة وجوب المقدّمة العلمية ووجوب دفع الضرر المحتمل ممّا لا يعرضه الشكّ ، فكيف يجري فيه الاستصحاب مع أنّه موقوف على الشكّ؟.

وإن كان المراد منه هو الثاني ، ففيه : إنّ بقاء وجوب الأمر المردّد بالاستصحاب لا يجدي في وجوب الاحتياط ؛ وذلك لأنّ العلم بوجوب الأمر المردّد قبل الإتيان بالأقلّ لم يكن مقتضيا لوجوب الاحتياط ، فكيف يكون مقتضيا له بعد الإتيان بالأقلّ مع كونه مشكوكا؟ ، نعم ، يمكن الاستدلال بالاستصحاب على وجوب الاحتياط على القول بحجيّة الأصل المثبت ، إذ يثبت بالاستصحاب ـ حينئذ ـ كون الواجب هو الأكثر ، إذ بعد الحكم ببقاء وجوب الأمر المردّد بالاستصحاب يثبت أن يكون الواجب هو الأكثر ، فيجب الإتيان به حينئذ.

(لكن يمكن أن يقال) : إنّ الاستدلال بالاستصحاب على وجوب الاحتياط ـ على القول بحجيّة الأصل المثبت ـ صحيح في المتباينين ، ولا يصح في ما نحن فيه ، كما أشار إليه قدس‌سره : (إنّا نفينا في الزمان السابق وجوب الأكثر بقبح المؤاخذة من دون بيان).

والحاصل ، إنّا قد نفينا قبل إتيان الأقلّ وجوب الأكثر بدليل البراءة ، فكيف يثبت وجوبه في الزمان اللاحق بالاستصحاب؟! هذا تمام الكلام في عدم جريان الاستصحاب في المقام ولو فرض جريانه في المتباينين.

٤٢٣

وأمّا الثاني ، فهو حاصل الدليل المتقدّم في المتباينين المتوهّم جريانه في المقام ، وقد عرفت الجواب ، وأنّ الاشتغال اليقيني إنّما هو بالأقلّ وغيره مشكوك فيه.

وأمّا الثالث ، ففيه أنّ مقتضى الاشتراك كون الغائبين والحاضرين على نهج واحد مع كونهما في العلم والجهل على صفة واحدة ، ولا ريب أنّ وجوب الاحتياط على الجاهل من الحاضرين في ما نحن فيه عين الدعوى.

____________________________________

ثمّ أشار المصنّف قدس‌سره إلى عدم جريان الثاني وهو قاعدة الاشتغال في المقام بقوله : (وأمّا الثاني ، فهو حاصل الدليل المتقدّم في المتباينين) ، بأن يقال في المقام : إنّ المقتضي لوجوب الاحتياط ـ وهو تعلّق الأمر بالواقع المردّد ـ موجود والمانع مفقود ، فيجب العمل به بإتيان الأكثر ، ثمّ أشار إلى الجواب بقوله : (وقد عرفت الجواب ، وأنّ الاشتغال اليقيني إنّما هو بالأقلّ وغيره مشكوك فيه) فتجري فيه البراءة.

ثمّ إنّ الفرق بين الثاني والأوّل هو أنّ الأوّل داخل في الاستصحاب والثاني داخل في قاعدة الاشتغال ، فلا يردّ حينئذ ما قيل بأنّهما أمر واحد ، فلا معنى لجعلهما دليلين مستقلّين.

(وأمّا الثالث ، ففيه أنّ مقتضى الاشتراك كون الغائبين والحاضرين على نهج واحد).

وحاصل الكلام في عدم جريان قاعدة اشتراك الغائبين مع الحاضرين في التكليف ، هو أنّ جريان القاعدة المتقدّمة مشروط باتحادهما في الصنف ، كما أشار إليه بقوله :

(أنّ مقتضى الاشتراك كون الغائبين والحاضرين على نهج واحد مع كونهما في العلم والجهل على صفة واحدة).

ومعنى اتحادهما في الصنف بأن يكون تكليف الحاضرين في حال السفر هو القصر مثلا ، فيحكم بقاعدة الاشتراك بالقصر على الغائبين حال السفر لا مطلقا ، إذ لا دليل لنا على الاشتراك مع الاختلاف في الصفة ، بأن يكون الحاضرون عالمين تفصيلا بالمكلّف به ، والغائبون ليسوا كذلك ، فحينئذ يجب على الحاضرين إتيان الواجب الواقعي ، ولا يجب على الغائبين ذلك تمسّكا بقاعدة الاشتراك ؛ وذلك لعدم اتحادهما في الصفة.

وبعبارة اخرى : إنّ قاعدة الاشتراك ناظرة إلى الكبرى وهي كون الغائبون مكلّفين بما هو الثابت على الحاضرين من التكاليف ، وأمّا الصغرى وهي اتحادهما في الصنف ، فلا بدّ من

٤٢٤

وأمّا الرابع ، فلأنّه يكفي في قصد القربة الإتيان بما علم من الشارع الإلزام به وأداء تركه إلى استحقاق العقاب لأجل التخلّص عن العقاب ، فإنّ هذا المقدار كاف في نيّة القربة المعتبرة في العبادات حتى لو علم بأجزائها تفصيلا.

وأمّا الخامس ، فلأنّ وجوب المقدّمة فرع وجوب ذي المقدّمة ، وهو الأمر المتردّد بين الأقلّ والأكثر ، وقد تقدّم أنّ وجوب المعلوم إجمالا مع كون أحد طرفيه متيقّن الإلزام من الشارع ولو بالالزام المقدّمي غير مؤثر في وجوب الاحتياط ، لكون الطرف الغير المتيقّن

____________________________________

إحرازها من الخارج ، فإذا احتملنا في المقام أنّ تكليف الحاضرين بالأكثر كان من جهة علمهم تفصيلا بوجوبه لم ينفع ذلك في الحكم بوجوب الاحتياط علينا مع جهلنا بالخطاب ؛ وذلك لاختلاف الصنف.

نعم ، لو ثبت لنا أنّ تكليف الحاضرين مع جهلهم بالمكلّف به ، في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر هو وجوب الاحتياط ثبت وجوب الاحتياط علينا بقاعدة الاشتراك ، إلّا أنّ هذا الاحتمال لم يثبت لأنّه عين الدعوى ، وكيف كان فإنّ التمسّك بالكبرى مع الشكّ في الصغرى غير صحيح.

(وأمّا الرابع ، فلأنّه يكفي في قصد القربة الإتيان بما علم من الشارع الإلزام به).

أي : الوجه الرابع على وجوب الاحتياط والإتيان بالأكثر هو أنّ العبادة تحتاج إلى قصد القربة وهو لا يحصل إلّا بالواجب النفسي ، ولذلك لا يحصل بإتيان الأقلّ لاحتمال كونه واجبا غيريّا ، ولهذا يجب الاحتياط بإتيان الأكثر لكي تحصل فيه القربة.

وحاصل الجواب : إنّ قصد القربة بالفعل الواجب لا يتوقف على العلم بكونه مطلوبا نفسيّا ، بل يكفي فيه العلم بالمطلوبيّة في الجملة ؛ لأنّ المراد بالقربة هو التقرّب المعنوي ، وهو له مراتب أعلاها العبادة من جهة استحقاق المعبود للعبادة ، وأدناها العبادة طمعا في الجنة أو خوفا من النار ، والذي يكفي في حقّ عامّة المكلّفين هو الأخير ، وهو يحصل بإتيان الأقلّ على ما في تعليقة غلام رضا قدس‌سره.

(وأمّا الخامس ، فلأنّ وجوب المقدّمة) ، أي : وجوب الاحتياط من باب وجوب المقدّمة (فرع وجوب ذي المقدّمة ، وهو الأمر المتردّد بين الأقلّ والأكثر ، وقد تقدّم أنّ وجوب المعلوم إجمالا مع كون أحد طرفيه متيقّن الإلزام من الشارع ولو بالإلزام المقدّمي غير مؤثر في

٤٢٥

وهو الأكثر في ما نحن فيه موردا لقاعدة البراءة ، كما مثلنا له بالخمر المردّد بين إناءين أحدهما المعيّن نجس.

نعم ، لو ثبت أنّ ذلك ـ أعني : تيقّن أحد طرفي المعلوم بالإجمال تفصيلا وترتّب أثره عليه ـ لا يقدح في وجوب العمل بما يقتضيه من الاحتياط ، فيقال في المثال : إنّ التكليف بالاجتناب عن هذا الخمر المردّد بين الإناءين يقتضي استحقاق العقاب على تناوله بتناول أي الإناءين اتفق كونه خمرا ، فيجب الاجتناب عنهما ، فكذلك في ما نحن فيه ، والدليل العقلي على البراءة

____________________________________

وجوب الاحتياط) ، ويكون الطرف الآخر(وهو الأكثر في ما نحن فيه موردا لقاعدة البراءة).

إلّا أنّ هذا الجواب محلّ نظر ؛ وذلك لأنّ المصنّف قدس‌سره جعل ذا المقدّمة نفس المتردّد بين الأقلّ والأكثر ، مع أنّ ذا المقدّمة في المقدّمة العلميّة هو العلم لا الواقع ، فكان عليه تبديل قوله : (وهو الأمر المتردّد) بقوله : وهو تحصيل العلم بالأمر الواقعي المردّد ، وفي الواقع هذا هو مراد المصنّف قدس‌سره وإن كانت عبارته قاصرة عن الدلالة عليه ، كما في بحر الفوائد.

نعم ، لو ثبت أنّ ذاك ، أعني : تيقّن أحد طرفي المعلوم بالإجمال تفصيلا في ترتّب أثره عليه لا يقدح في وجوب العمل بما يقتضيه من الاحتياط ، بأن يقال : إنّ العلم الإجمالي منجّز للتكليف بالواقع بحيث يجب الأخذ به ويعاقب على تركه ، وإن كان ترك الواقع بترك الأكثر ، فيجب حينئذ الاحتياط ، ولا يقدح في وجوبه كون الأقلّ متيقّنا بالفرض ، إلّا أنّ الفرض المذكور غير ثابت ، والدليل العقلي على البراءة من هذه الجهة يحتاج إلى مزيد تأمّل.

ووجه التأمّل كما في بحر الفوائد ، هو أنّ الوجه في المصير إلى الاحتياط في المتباينين إن كان تعارض الأصلين في المشتبهين وتساقطهما فلا تأمّل في الحكم بالبراءة في المقام ؛ وذلك لما عرفت من عدم جريان الأصل في جانب الأقلّ بعد العلم بوجوبه حتى يعارض الأصل في جانب الأكثر.

وأمّا لو كان الوجه في وجوب الاحتياط هو حصول الغاية الرافعة لموضوع البراءة بعد العلم الإجمالي بالتكليف المنجّز نظرا إلى تعميم البيان في حكم العقل بالبراءة في

٤٢٦

من هذه الجهة يحتاج إلى مزيد تأمّل.

بقي الكلام في أنّه كيف يقصد القربة بإتيان الأقلّ مع عدم العلم بكونه مقرّبا لتردّده بين الواجب النفسي المقرّب والمقدّمي الغير المقرّب؟ فنقول : يكفي في قصد القربة قصد التخلّص من العقاب ، فإنّها إحدى الغايات المذكورة في العبادات.

وأمّا الدليل النقلي : فهو الأخبار الدالّة على البراءة الواضحة سندا ودلالة ، ولذا عوّل عليها في المسألة من جعل مقتضى العقل فيها وجوب الاحتياط بناء على وجوب مراعاة العلم الإجمالي وإن كان الإلزام في أحد طرفيه معلوما بالتفصيل ، وقد تقدّم أكثر تلك الأخبار في الشكّ في التكليف التحريمي والوجوبي :

____________________________________

موضوع عدم البيان لما يشمل العلم الإجمالي ، فيمكن القول بوجوب الاحتياط في المقام ، نظرا إلى حصول العلم الإجمالي ، فيكون بيانا ينتفي به موضوع البراءة العقلية ، لذا قال المصنّف قدس‌سره : (والدليل العقلي على البراءة) ، أعني : قبح العقاب بلا بيان (من هذه الجهة) ، أي : من جهة أنّ تيقّن أحد الطرفين يوجب منع العقل عن مقتضى العلم الإجمالي أم لا(يحتاج إلى مزيد تأمّل).

(وأمّا الدليل النقلي) على البراءة في المقام (فهو الأخبار الدالّة على البراءة الواضحة سندا ودلالة) ، ودلالة هذه الأخبار على البراءة من الوضوح بما لا يحتاج إلى البيان ، ولذا استدلّ بها ـ على البراءة في المقام ـ من ينكر البراءة العقليّة في المقام وجعل مقتضى العقل في هذه المسألة وجوب الاحتياط عقلا ، وقبل بيان تقريب دلالة الأخبار على البراءة نذكر ما هو المستفاد من كلمات الأصحاب في هذه المسألة ، فنقول : إنّ الأقوال فيها ثلاثة :

الأوّل : وجوب الاحتياط مطلقا.

والثاني : البراءة مطلقا ، كما هو مختار المصنّف قدس‌سره.

والثالث : هو التفصيل بين البراءة العقليّة فلا تجري وبين البراءة الشرعيّة فتجري ، كما ذهب إليه المحقّق النائيني قدس‌سره ، حيث قال في وجهه ، بعد كلام طويل له في ردّ ما استدلّ به على البراءة ، ما حاصله :

من أنّ العقل يستقلّ بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي ضرورة أنّ الامتثال الاحتمالي إنّما يقتضيه التكليف الاحتمالي ، وأمّا التكليف القطعي فهو يقتضي

٤٢٧

منها : قوله عليه‌السلام : (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) (١) ، فإنّ وجوب الجزء المشكوك محجوب علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ، فدلّ على أنّ الجزء المشكوك وجوبه غير واجب على الجاهل ، كما دلّ على أنّ الشيء المشكوك وجوبه النفسي غير واجب في الظاهر على الجاهل.

ويمكن تقريب الاستدلال بأنّ وجوب الأكثر ممّا حجب علمه فهو موضوع ، ولا يعارض بأنّ وجوب الأقلّ كذلك ؛ لأنّ العلم بوجوبه المردّد بين النفسي والغيري غير محجوب فهو غير موضوع.

____________________________________

الامتثال القطعي ؛ لأنّ العلم باشتغال الذمّة يقتضي العلم بالفراغ عقلا ولا يكفي احتمال الفراغ ، ويتمّ البيان الذي يستقلّ العقل بتوقّف صحّة العقاب عليه بالعلم الإجمالي ، فيرتفع به موضوع البراءة العقليّة وهو عدم البيان.

ثمّ إنّ القائل بالتفصيل عوّل على هذه الأخبار في الحكم بالبراءة الشرعيّة ، واستدلّ بها على نفي وجوب الجزء المشكوك أو على رفع جزئيّته.

وكيف كان فقد ذكر المصنّف قدس‌سره بعض هذه الأخبار :

(منها : قوله عليه‌السلام : (ما حجب الله ـ تعالى ـ علمه عن العباد فهو موضوع عنهم)).

ودلالة هذه الرواية على البراءة في المقام واضحة بحيث لا تحتاج إلى البيان ، كما هو مبيّن في المتن ؛ وذلك لأنّ وجوب الجزء المشكوك ممّا حجب الله تعالى علمه عن العباد وكان ممّا لا يعلمون ، فهو موضوع عنهم ، أو يقال : إنّ وجوب الأكثر ممّا حجب علمه عن العباد فيكون موضوعا عنهم ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(ويمكن تقريب الاستدلال بأنّ وجوب الأكثر ممّا حجب علمه فهو موضوع ، ولا يعارض بأنّ وجوب الأقلّ كذلك) ، أي : وجوب الأقلّ النفسي ممّا حجب علمه فهو موضوع ؛ (لأنّ العلم بوجوبه المردّد بين النفسي والغيري غير محجوب فهو غير موضوع) ، فينتفي التعارض لأجل عدم جريان الأصل في طرف الأقلّ ، إلّا أنّ هنا مجالا للسؤال عن الفرق بين الاستدلال الأوّل وهو الاستدلال على نفي وجوب الجزء المشكوك ، وبين الاستدلال

__________________

(١) التوحيد : ٤١٣ / ٩. الوسائل ٢٧ : ١٦٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٣٣.

٤٢٨

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (رفع عن امّتي ... ما لا يعلمون) (١) ، فإنّ وجوب الجزء المشكوك ممّا لم يعلم فهو مرفوع عن المكلّفين ، أو أنّ العقاب والمؤاخذة المترتّبة على تعمّد ترك الجزء المشكوك الذي هو سبب لترك الكلّ مرفوع عن الجاهل ، إلى غير ذلك من أخبار البراءة الجارية في ال شبهة الوجوبيّة.

وكان بعض مشايخنا رحمه‌الله يدّعي ظهورها في نفي الوجوب النفسي المشكوك وعدم جريانها في الشكّ في الوجوب الغيري.

____________________________________

الثاني وهو الاستدلال على نفي وجوب الأكثر.

ويمكن أن يقال في الجواب عن السؤال المذكور : بأنّ الفرق بين الاستدلالين هو أنّ الاستدلال الأوّل ناظر إلى نفي الوجوب الغيري للجزء المشكوك والثاني ناظر إلى نفي الوجوب النفسي للأكثر ، فحينئذ الموصول وهو (ما) في قوله عليه‌السلام : (ما حجب) أعمّ من الوجوب النفسي والغيري.

وكيف كان ، فيمكن الاستدلال بالرواية على نفي الوجوب الغيري كالنفسي.

(ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (رفع عن امّتي ... ما لا يعلمون)) ، أي : رفع عنهم ما لا يعلمون حكما أو عقابا.

الأوّل : هو أنّ وجوب الجزء المشكوك ممّا لا يعلم ، فيكون مرفوعا عن المكلّف.

الثاني : كان المرفوع هو المؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول على ما تقدّم في بحث البراءة ، فيكون العقاب على ترك الجزء المشكوك مرفوعا ، وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى كلا الاحتمالين في المتن ، فراجع.

(وكان بعض مشايخنا رحمه‌الله يدّعي ظهورها في نفي الوجوب النفسي المشكوك ... إلى آخره) ، والمراد من بعض مشايخه هو المحقّق شريف العلماء قدس‌سره على ما في التنكابني ، حيث قال بعدم جريان الأخبار في الوجوب الغيري لظهورها في نفي الوجوب النفسي المشكوك ، وحينئذ لا يمكن الاستدلال بها على نفي وجوب الجزء المشكوك في المقام ؛ لأنّ وجوب الجزء غيري لا تجري فيه الأخبار ، وأمّا وجوب الأكثر فهو وإن كان نفسيّا إلّا أنّ

__________________

(١) الخصال : ٤١٧ / ٩. التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤. الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، أبواب جهاد النفس ، ب ٥٦ ، ح ١.

٤٢٩

ولا يخفى على المتأمّل عدم الفرق بين الوجوبين في نفي ما يترتّب عليه من استحقاق العقاب ؛ لأنّ ترك الواجب الغيري منشأ لاستحقاق العقاب ولو من جهة كونه منشأ لترك الواجب النفسي.

نعم ، لو كان الظاهر من الأخبار نفي العقاب المترتّب على ترك الشيء من حيث خصوص ذاته ، أمكن دعوى ظهورها في ما ادّعى ، مع إمكان أن يقال : إنّ العقاب على ترك الجزء أيضا من حيث خصوص ذاته ؛ لأنّ ترك الجزء عين ترك الكلّ ، فافهم.

____________________________________

نفيه معارض بنفي وجوب الأقلّ النفسي ، (ولا يخفى على المتأمّل عدم الفرق بين الوجوبين في نفي ما يترتّب عليه من استحقاق العقاب).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره هو أنّ مفاد الأخبار هو نفي العقاب المترتّب على ترك الواجب ، ومن المعلوم أنّ ترتّب العقاب لا يختص بالواجب النفسي ، بل قد يترتّب على ترك الواجب الغيري ، وهو فيما إذا كان ترك الواجب الغيري سببا لترك الواجب النفسي ، كما في المقام ، حيث يكون ترك الجزء موجبا لترك الواجب النفسي على تقدير كونه هو الأكثر ، فيترتّب العقاب على ترك الواجب الغيري لكونه سببا لترك الواجب النفسي ، فيصحّ حينئذ التمسّك بالأخبار لنفي وجوب الجزء.

(نعم ، لو كان الظاهر من الأخبار نفي العقاب المترتّب على ترك الشيء من حيث خصوص ذاته ، أمكن دعوى ظهورها في ما ادّعى).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره أنّه لو كان ظاهر الأخبار نفي الحكم الصادر من الشارع أصالة لا تبعا أو نفي العقاب المترتّب على ترك الواجب من حيث ذاته ، لا من حيث كون تركه مفضيا إلى ترك الواجب النفسي ، أمكن دعوى ظهورها فيما ذكر ، إذ ترتّب العقاب على ترك الواجب من حيث ذاته إنّما هو في الواجب النفسي لا الغيري.

(مع إمكان أن يقال : إنّ العقاب على ترك الجزء أيضا من حيث خصوص ذاته) ، وتوضيحه يحتاج إلى تقديم مقدّمة ، وهي أنّ للجزء لحاظين :

الأوّل : لحاظه من حيث توقّف وجود الكلّ على وجوده ، وهو بهذا اللحاظ يكون مقدّمة للكلّ ، فيكون واجبا غيريّا كسائر المقدّمات الخارجيّة.

والثاني : لحاظه من حيث انضمامه مع سائر الأجزاء ، وهو بهذا اللحاظ يكون عين الكلّ

٤٣٠

هذا كلّه إن جعلنا المرفوع والموضوع في الروايات خصوص المؤاخذة ، وأمّا لو عمّمناه لمطلق الآثار الشرعيّة المترتّبة على الشيء المجهول كانت الدلالة أوضح ، لكن سيأتي ما في ذلك.

ثمّ إنّه لو فرضنا عدم تماميّة الدليل العقلي المتقدّم ، بل كون العقل حاكما بوجوب الاحتياط ومراعاة حال العلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر ، كانت هذه الأخبار كافية في المطلب ، حاكمة على ذلك الدليل العقلي ؛ لأنّ الشارع أخبر بنفي العقاب على

____________________________________

فيكون واجبا نفسيّا ، إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إنّ ترك الجزء باللحاظ الثاني هو عين ترك الكلّ ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (لأنّ ترك الجزء عين ترك الكلّ) ، فيصحّ حينئذ أن يقال : إنّ ترتّب العقاب على ترك الجزء يكون من حيث خصوص ذاته ، فلو كان ظهور الأخبار في نفي العقاب المترتّب على ترك الشيء من حيث خصوص ذاته لأمكن التمسّك بها على نفي العقاب المترتّب على الجزء ؛ لأنّ ترتّب العقاب على الجزء باللحاظ الثاني هو ترتّب العقاب عليه من حيث ذاته.

(فافهم) ، لعلّه إشارة إلى أنّ ترك الجزء ليس عين ترك الكلّ ، بل مستلزم لترك الكلّ ، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بالأخبار لو كانت ظاهرة في نفي العقاب المترتّب على ترك الشيء من حيث ذاته على نفي العقاب المترتّب على ترك الجزء ؛ لأنّ العقاب المترتّب على ترك الجزء ليس على تركه من حيث ذاته ، كما لا يخفى ، فلا بدّ حينئذ من منع ظهور الأخبار في نفي العقاب على ترك الشيء من حيث ذاته.

(هذا كلّه إن جعلنا المرفوع والموضوع في الروايات خصوص المؤاخذة ، وأمّا لو عمّمنا لمطلق الآثار الشرعيّة المترتّبة على الشيء المجهول كانت الدلالة أوضح) ، وذلك بأن نقول : إنّ الجزئيّة من الآثار الشرعيّة فترفع بهذه الأخبار عند الشكّ ، إلّا أن يقال بمنع التعميم أو منع كون الجزئيّة مجعولا أصليّا شرعا ، كما يأتي.

(ثمّ إنّه لو فرضنا عدم تماميّة الدليل العقلي المتقدّم ، بل كون العقل حاكما بوجوب الاحتياط ومراعاة حال العلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر ، كانت هذه الأخبار كافية في المطلب ، حاكمة على ذلك الدليل العقلي).

وحاصل الكلام هنا ، هو أنّه لو فرض عدم جريان البراءة العقليّة في المقام ـ بل العقل

٤٣١

ترك الأكثر لو كان واجبا في الواقع ، فلا يقتضي العقل وجوبه من باب الاحتياط الراجع إلى وجوب دفع العقاب المحتمل.

وقد توهّم بعض المعاصرين عكس ذلك ، وحكومة أدلّة الاحتياط على هذه الأخبار ، فقال : «لا نسلّم حجب العلم في المقام لوجود الدليل في المقام ، وهي أصالة الاشتغال في الأجزاء والشرائط المشكوكة.

____________________________________

يكون حاكما بوجوب الاحتياط ـ تكون هذه الأخبار كافية في إثبات البراءة متقدّمة على ذلك الدليل العقلي بالورود ؛ لأنّ موضوع حكم العقل بلزوم الإتيان بالأكثر من باب الاحتياط هو احتمال الضرر في تركه ، وبعد إخبار الشارع بنفي العقاب على ترك الأكثر ـ حتى لو كان واجبا في الواقع ـ ينتفي معه احتمال العقاب على ترك الأكثر ، فكيف يحكم العقل بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضرر المحتمل؟!.

وبذلك يظهر أنّ تعبير المصنّف قدس‌سره بحكومة الأخبار على الدليل العقلي لا يخلو من مسامحة ؛ وذلك لأنّ الحكومة بمعنى كون الدليل الحاكم مفسّرا وشارحا للدليل المحكوم تعبّدا لا تتصوّر بالنسبة إلى الأحكام العقليّة ؛ لأنّ الحكومة بالمعنى المذكور ترجع إلى كون الدليل الحاكم مخصّصا ، ومن المعلوم بالضرورة والوجدان أنّ الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص.

(وقد توهّم بعض المعاصرين عكس ذلك ، وحكومة أدلّة الاحتياط على هذه الأخبار) ، والمتوهّم هو صاحب الفصول قدس‌سره حيث قال بحكومة أدلّة الاحتياط على هذه الأخبار التي استدلّ بها على البراءة في المقام.

وتقريب هذا التوهّم يتوقف على ذكر مقدّمة ، وهي : إنّ موضوع الحكم بالبراءة في هذه الأخبار كقوله عليه‌السلام : (ما حجب الله تعالى علمه ... إلى آخره) (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (رفع عن امّتي ... إلى آخره) (٢). وهو عدم العلم الأعمّ من العلم الوجداني والتعبّدي ، وليس عدم العلم وجدانا فقط.

وبعبارة واضحة : إنّ موضوع البراءة الشرعيّة هو عدم وجود الطريق على ثبوت الحكم

__________________

(١) التوحيد : ٤١٣ / ٩. الوسائل ٢٧ : ١٦٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٣٣.

(٢) الخصال : ٤١٧ / ٩. التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤. الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، أبواب جهاد النفس ، ب ٥٦ ، ح ١.

٤٣٢

ثمّ قال : لأنّ ما كان لنا طريق إليه في الظاهر لا يصدق في حقّه الحجب ، وإلّا لدلّت هذه الأخبار على عدم حجّيّة الأدلّة الظنّيّة ، كخبر الواحد وشهادة العدلين وغيرهما.

قال : ولو التزم تخصيصها بما دلّ على حجّيّة تلك الطرق ، تعيّن تخصيصها ـ أيضا ـ بما دلّ على حجّيّة أصالة الاشتغال من عمومات أدلّة الاستصحاب ووجوب المقدّمة العلميّة.

____________________________________

أو على نفيه ، لا عدم العلم الوجداني ، والشاهد عليه هو عدم جريان البراءة الشرعيّة في مورد قيام خبر الواحد على ثبوت الحكم ، كوجوب صلاة الجمعة يومها ، وليس ذلك إلّا لانتفاء الموضوع بوجود الطريق المعتبر شرعا وهو خبر الواحد في المثال المذكور. إذا عرفت ذلك فنقول :

إنّ ما دلّ على وجوب الاحتياط طريقا ينتفي معه موضوع البراءة ، إذ لا يصدق بعد وجود الدليل على وجوب الأكثر أنّه ممّا لا يعلم ، كما لا يصدق في حقّه الحجب أيضا ؛ وذلك لأنّ الوجوب الواقعي وإن كان مشكوكا ومحجوبا إلّا أنّ الوجوب الظاهري ليس مشكوكا ولا محجوبا ؛ وذلك لوجود الطريق إليه وهو أصالة الاشتغال ، (وإلّا لدلّت هذه الأخبار على عدم حجيّة الأدلّة الظنيّة كخبر الواحد ... إلى آخره).

وقد عرفت عدم صدق الحجب مع وجود الطريق المعتبر على الحكم ، فلو قلنا بصدق الحجب مع وجود الطريق المعتبر شرعا ، لزم أن تكون أخبار البراءة دالّة على عدم حجيّة الأدلّة الظنيّة ، فتجري في مواردها البراءة الشرعيّة بمقتضى هذه الأخبار ، مع أنّه لم يلتزم به أحد.

(ولو التزم تخصيصها بما دلّ على حجيّة تلك الطرق) ، أي : لو التزم الخصم بتخصيص أدلّة وجوب الاحتياط بما دلّ على حجيّة الطرق الظنيّة ، فلا تجري أدلّة الاحتياط في موارد الطرق الظنيّة ، فلنلتزم نحن بعكس ما التزمه الخصم ، ونقول بتخصيص الطرق الظنيّة بما دلّ على حجيّة أصالة الاشتغال ، فتكون نتيجة العمل بأصالة الاشتغال ، هذا بالنظر إلى أدلّة الطرق الظنيّة وأصالة الاشتغال ، وأمّا بالنظر إلى نفس الطرق الظنيّة وأصالة الاشتغال فإنّ الطرق الظنيّة متقدّمة على أصالة الاشتغال ؛ لأنّ تقديم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي أوضح من الشمس وأبين من الأمس.

وبالجملة ، فإنّ أخبار البراءة لا تفيد في موارد الشكّ في إثبات جزئيّة شيء للمأمور به ،

٤٣٣

ثمّ قال : والتحقيق التمسّك بهذه الأخبار على نفي الحكم الوضعي وهي الجزئيّة والشرطيّة» انتهى.

أقول : قد ذكرنا في المتباينين ـ وفيما نحن فيه ـ أنّ استصحاب الاشتغال لا يثبت لزوم الاحتياط إلّا على القول باعتبار الأصل المثبت الذي لا نقول به وفاقا لهذا الفاضل ، وأنّ العمدة في وجوب الاحتياط هو حكم العقل بوجوب إحراز محتملات الواجب الواقعي بعد

____________________________________

لكون أدلّة الاحتياط حاكمة عليها على ما ذهب إليه صاحب الفصول قدس‌سره ، ومن طرف آخر قد تمسّك الاصوليّون بهذه الأخبار الدالّة على البراءة في المقام ، ولذا يقول : (والتحقيق التمسّك بهذه الأخبار على نفي الحكم الوضعي وهي الجزئيّة والشرطيّة).

وملخّص ما ذكره صاحب الفصول من التحقيق ، على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي دامت إفاداته ، هو أنّ الجزء المشكوك مشكوك من جهتين :

الاولى : من جهة الحكم التكليفي ، أعني : الوجوب.

والثانية : من جهة الحكم الوضعي ، أعني : الجزئيّة. وأخبار البراءة تنفع في نفي الجزئيّة ولا تنفع في نفي الوجوب ؛ لكونها معارضة مع أصالة الاشتغال المقتضية للوجوب ، ولم تكن معارضة معها من جهة نفي الجزئيّة ؛ لأنّ مقتضى الاشتغال هو مجرّد الوجوب لا الجزئيّة. انتهى.

فالمتحصّل من كلام صاحب الفصول قدس‌سره هو أنّ له في المقام دعويين :

إحداهما : هي وجوب الاحتياط بالنسبة إلى الحكم التكليفي.

وثانيتهما : هي البراءة بالنسبة إلى الحكم الوضعي.

(أقول : قد ذكرنا في المتباينين ـ وفيما نحن فيه ـ أنّ استصحاب الاشتغال لا يثبت لزوم الاحتياط إلّا على القول باعتبار الأصل المثبت) ، فإنّ ترتّب لزوم الاحتياط على اشتغال الذمّة عقلي وهو أصل مثبت ؛ لأنّ الأصل المثبت هو ما لا يترتّب على المستصحب أثر شرعي ، سواء كان أثرا عقليّا أو عاديّا أو عرفيّا ، وهو ليس بحجّة حتى عند صاحب الفصول قدس‌سره ، وأمّا قاعدة الاشتغال ، كما أشار إليها قدس‌سره بقوله : (وإنّ العمدة في وجوب الاحتياط هو حكم العقل بوجوب إحراز محتملات الواجب الواقعي ... إلى آخره).

فيرد عليها ما حاصله : من أنّ حكم العقل بوجوب إحراز محتملات الواجب الواقعي ـ

٤٣٤

إثبات تنجّز التكليف ، وأنّه المؤاخذ به والمعاقب على تركه ولو حين الجهل به ، وتردّده بين متباينين أو الأقلّ أو الأكثر. ولا ريب أنّ ذلك الحكم مبناه وجوب دفع العقاب المحتمل على ترك ما يتركه المكلّف.

وحينئذ إذا أخبر الشارع ـ في قوله : (ما حجب الله) (١) وقوله : (رفع عن امّتي) (٢) وغيرهما ، بأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعاقب على ترك ما لم يعلم جزئيّته ، فقد ارتفع احتمال العقاب في ترك ذلك المشكوك وحصل الأمن منه ، فلا يجري فيه حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل.

نظير ما إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الصلاة إلى جهة خاصّة من الجهات لو فرض كونها القبلة الواقعيّة ، فإنّه يخرج بذلك عن باب المقدّمة ؛ لأنّ المفروض تركها لا يفضي إلى العقاب.

نعم ، لو كان مستند الاحتياط أخبار الاحتياط كان لحكومة تلك الأخبار على أخبار

____________________________________

بعد تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي ـ مبنيّ على وجوب دفع العقاب المحتمل ، والمفروض هو عدم احتمال العقاب في المقام أصلا ؛ لأنّ الشارع قد رفع بقوله : (ما حجب الله تعالى ... إلى آخره) ، وقوله : (رفع عن امّتي ... إلى آخره) بعدم العقاب على ترك ما لم يعلم جزئيّته ، فلا يجري ـ حينئذ ـ في المقام حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل ؛ وذلك لرفع احتمال العقاب شرعا ، فيكون ما نحن فيه (نظير ما إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الصلاة إلى جهة خاصّة من الجهات لو فرض كونها القبلة الواقعيّة).

فإنّ العقل وإن كان يحكم بوجوب إحراز الواجب الواقعي بالصلاة إلى الجهات الأربع عن اشتباه القبلة ، إلّا أنّ حكمه هذا مبنيّ على وجوب رفع العقاب المحتمل في ترك الصلاة إلى كلّ منها ، فلا يحكم بعد ترخيص الشارع في ترك الصّلاة إلى بعضها لارتفاع احتمال العقاب في الترك بعد الترخيص ، فيكون ما دلّ على ترخيص الشارع واردا على حكم العقل ، كما لا يخفى.

(نعم ، لو كان مستند الاحتياط أخبار الاحتياط كان لحكومة تلك الأخبار على أخبار

__________________

(١) التوحيد : ٤١٣ / ٩. الوسائل ٢٧ : ١٦٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٣٣.

(٢) الخصال : ٤١٧ / ٩. التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤. الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، أبواب جهاد النفس ، ب ٥٦ ، ح ١.

٤٣٥

البراءة وجه أشرنا إليه في الشبهة التحريميّة من أقسام الشكّ في التكليف.

وممّا ذكرنا يظهر حكومة هذه الأخبار على استصحاب الاشتغال على تقدير القول بالأصل المثبت أيضا كما أشرنا إليه سابقا ، لأنّه إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر الذي حجب العلم بوجوبه كان المستصحب ـ وهو الاشتغال المعلوم سابقا ـ غير متيقّن إلّا بالنسبة إلى الأقلّ ، وقد ارتفع بإتيانه. واحتمال بقاء الاشتغال ـ حينئذ ـ من جهة الأكثر ملغى بحكم هذه الأخبار ، وبالجملة : فما ذكره من حكومة أدلّة الاشتغال على هذه الأخبار ضعيف جدا ، نظرا إلى ما تقدّم.

____________________________________

البراءة وجه أشرنا إليه في الشبهة التحريميّة من أقسام الشكّ في التكليف) ، بأن تكون أخبار الاحتياط دالّة على الطلب المولوي لا الإرشادي ، وأن يكون مفادها الوجوب الشرعي لا الاستحباب ، فعند ذلك تدلّ على وجوب الاحتياط في الشبهة ، غاية الأمر خرج منها مورد الشكّ في التكليف لأدلّة البراءة ، فتكون واردة فيما نحن فيه على أخبار البراءة لعدم صدق الحجب ، مع دلالة أخبار الاحتياط على وجوبه.

وفي تعليقة غلام رضا قدس‌سره في المقام كلام لا يخلو من فائدة ، حيث قال ما لفظه : أقول : قد مضى في تلك المسألة أنّ أدلّة البراءة بين طائفتين : ما تكون الغاية فيه إقامة الحجّة وإن كان الجهل والشكّ بالنسبة إلى الواقع باقيا بحاله ، مثل أكثر الآيات وبعض الروايات المتمسّك بها للبراءة ، وما تكون الغاية فيه رفع الجهل والشكّ عن الواقع ، مثل رواية الحجب والرفع وأمثالهما.

أمّا الاولى ، فلا إشكال في حكومة أخبار الاحتياط عليها ، لكنّها ليست بمحلّ الكلام.

وأمّا الثانية ، فهي بالنسبة إلى أخبار الاحتياط معارضة ، وكما يمكن الجمع بينهما بحمل الاولى على الشبهة البدويّة والثانية على مورد العلم الإجمالي فكذلك يمكن الجمع بينهما بحمل الثانية على الاستصحاب ، كما هو مذاق القوم ، أو على الإرشاد ، كما هو مشرب المصنّف قدس‌سره ، وكيف كان ، فالمحكم في المقام أخبار البراءة. انتهى.

(وممّا ذكرنا يظهر حكومة هذه الأخبار على استصحاب الاشتغال على تقدير القول بالأصل المثبت أيضا ، كما أشرنا إليه سابقا).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره إنّه يظهر ممّا ذكر من حكومة أخبار البراءة على قاعدة

٤٣٦

وأضعف من ذلك أنّه رحمه‌الله عدل ـ من أجل هذه الحكومة التي زعمها لأدلّة الاحتياط على هذه الأخبار عن الاستدلال بها لمذهب المشهور ، من حيث نفي الحكم التكليفي ـ إلى التمسّك

____________________________________

الاشتغال ، حكومة هذه الأخبار على استصحاب الاشتغال على تقدير كونه مثبتا أوّلا ، واعتبار حجيّته ثانيا ، وذلك لانحصار اشتغال الذمّة بالأقلّ بعد نفي وجوب الأكثر بأخبار البراءة ، ثمّ إنّ اشتغال الذّمة بالأقلّ يرتفع بإتيانه ، وحينئذ لا يبقى شكّ في اشتغال الذّمة فكيف يستصحب؟ ، ومن هنا يظهر أنّ استصحاب الاشتغال باطل لأحد وجهين :

أحدهما : لكونه أصلا مثبتا ليس بحجّة.

وثانيهما : حتى لو قلنا بحجيّة الأصل المثبت فإنّ أخبار البراءة حاكمة عليه.

ثمّ المراد من قوله : (كما أشرنا إليه سابقا) هو قوله في السابق : (ولكن يمكن أن يقال : إنّا نفينا في الزمان السابق وجوب الأكثر لقبح المؤاخذة من دون بيان ، فتعيّن الاشتغال بالأقلّ ، فهو منفيّ في الزمان السابق ، فكيف يثبت في الزمان اللاحق).

وتوضيح وجه حكومة البراءة هنا على استصحاب الاشتغال كما في تعليقة غلام رضا قدس‌سره هو أنّ غاية مقتضى الاستصحاب ليس إلّا الإتيان بشيء يحصل بسببه الأمن من العقاب ، وهذا قد يكون بإتيان المأمور به الواقعي وقد يكون بإتيان بدله ، والذي تدلّ عليه البراءة ليس إلّا الإتيان بالأقلّ ، فإن كان الأقلّ عين الواقع فهو ، وإلّا فهو بمقتضى أدلّة البراءة بدل عنه مبرئ عن اشتغال الذّمة ، ومؤمّن من العقاب.

وما سمعت من أنّ الاستصحاب من جهة كونه برزخا بين الدليل الاجتهادي والفقاهتي مقدّم على البراءة من جهة تمحّضه للثاني ، إنّما هو في غير هذا المورد ، وهو ما كان العنوان فيه معلوما والمستصحب محرزا ، كما إذا شكّ في إتيان صلاة الظهر فإنّ الاشتغال حينئذ بحكم الاستصحاب يقدّم على البراءة ، وأمّا إذا لم يكن العنوان محرزا ، كما في المقام ـ لأنّ متعلّق الأمر غير معلوم أنّه الأقلّ أو الأكثر ـ ففي هذه الصورة تقدّم البراءة على الاستصحاب ، ومن هنا تعرف أنّ ما ذكره صاحب الفصول قدس‌سره من حكومة أدلّة الاحتياط على أخبار البراءة غير ظاهر الوجه.

(وأضعف من ذلك أنّه رحمه‌الله عدل ـ من أجل هذه الحكومة التي زعمها لأدلّة الاحتياط على هذه الأخبار عن الاستدلال بها لمذهب المشهور ، من حيث نفي الحكم التكليفي ـ إلى

٤٣٧

بها في نفي الحكم الوضعي ، أعني : جزئيّة الشيء المشكوك أو شرطيّته.

وزعم أنّ ماهيّة المأمور به تبيّن ـ ظاهرا ـ كونها للأقلّ بضميمة نفي جزئيّة المشكوك ، ويحكم بذلك على أصالة الاشتغال.

قال في توضيح ذلك : «إنّ مقتضى هذه الروايات أنّ ماهيّات العبادات عبارة عن الأجزاء المعلومة بشرائطها المعلومة ، فيتبيّن مورد التكليف ويرتفع منها الإجمال والإبهام» ، ثمّ أيّد هذا المعنى ، بل استدلّ عليه بفهم العلماء منها ذلك ، حيث قال : «إنّ من الاصول المعروفة عندهم أصالة العدم ، وعدم الدليل دليل العدم ، ويستعملونه في نفي الحكم

____________________________________

التمسّك بها في نفي الحكم الوضعي).

وحاصل كلامه قدس‌سره هو انّ الأضعف من التزام صاحب الفصول بحكومة أدلّة الاحتياط على اخبار البراءة هو عدوله قدس‌سره عن الاستدلال بها لمذهب المشهور ـ حيث تمسّكوا بها على نفي الحكم التكليفي ـ الى الاستدلال بها على نفي الحكم الوضعي ، فلا بدّ من بيان وجه العدول أوّلا ، ومن بيان كونه أضعف من التزامه بحكومة أدلّة الاحتياط على هذه الأخبار ثانيا.

فنقول : امّا وجه العدول فلأجل ما تقدّم من حكومة أدلّة الاحتياط على هذه الأخبار فيرتفع بها موضوع البراءة ، إذ موضوعها هو عدم الطريق المعتبر على الحكم ، وأدلّة الاحتياط كافية في اثبات الحكم على ما عرفت في تقريب توهّمه ، فتمسّك باخبار البراءة على نفي الحكم الوضعي ، اي : نفي جزئيّة الشيء المشكوك.

(وزعم أنّ ماهيّة المأمور به تبيّن ـ ظاهرا ـ كونها للأقلّ بضميمة نفي جزئيّة المشكوك ، ويحكم بذلك) ، أي : بتبيّن ماهيّة المأمور به (على أصالة الاشتغال) لانتفاء الشكّ بعد تبيّن المأمور به.

إلى أن قال : (إنّ مقتضى هذه الروايات أنّ ماهيّات العبادات عبارة عن الأجزاء المعلومة بشرائطها المعلومة ، فيتبيّن مورد التكليف ويرتفع منها) ، أي : يرتفع من ماهيّات العبادات (الإجمال والإبهام) بل أصبحت مبيّنة ، وهي الأقلّ بعد نفي جزئيّة ما شكّ في جزئيّته من الأجزاء ، أو شرطيّة ما شكّ في شرطيّته من الشرائط بهذه الروايات.

ثمّ أيّد استدلاله بهذه الأخبار على نفي الحكم الوضعي بفهم العلماء من هذه الأخبار

٤٣٨

التكليفي والوضعي ، ونحن قد تفحّصنا فلم نجد لهذا الأصل مستندا يمكن التمسّك له غير عموم هذه الأخبار ، فتعيّن تعميمها للحكم الوضعي ولو بمساعدة أفهامهم ، فيتناول الجزئيّة المبحوث عنها في المقام». انتهى.

أقول : أمّا ما ادّعاه من عموم تلك الأخبار لنفي غير الحكم الإلزامي التكليفي ، فلو لا عدوله عنه في باب البراءة والاحتياط من الأدلّة العقليّة لذكرنا بعض ما فيه من منع

____________________________________

شمولها للحكم الوضعي (حيث قال : إنّ من الاصول المعروفة عندهم أصالة العدم) ، بمعنى أنّ كلّ شيء شكّ في حدوثه فتجري فيه أصالة العدم.

فيقال : الأصل عدمه (وعدم الدليل دليل العدم) ، بمعنى أنّه إذا لم يوجد الدليل على ثبوت شيء فيحكم بعدمه ، (ويستعملونه) ، أي : كلا الأصلين (في نفي الحكم التكليفي والوضعي).

ثمّ قال بما حاصله : من أنّ الدليل على الأصلين ليس إلّا عموم هذه الأخبار ، فاستنتج عمومها للحكم الوضعي بمساعدة فهم العلماء منها ذلك. هذا تمام الكلام في وجه استدلال صاحب الفصول قدس‌سره بأخبار البراءة على نفي الجزئيّة وعدوله عن الاستدلال بها على نفي الحكم التكليفي إلى الاستدلال بها على نفي الحكم الوضعي ، أي : الجزئيّة والشرطيّة.

وأمّا كون عدوله أضعف من تمسّكه بحكومة أدلّة الاحتياط على أخبار البراءة ، فهو من جهتين جاءتا في كلام المصنّف قدس‌سره :

حينما أشار إلى الجهة الاولى بقوله :

(أمّا ما ادّعاه من عموم تلك الأخبار لنفي غير الحكم الإلزامي التكليفي) وهو الحكم الوضعي ، (فلو لا عدوله عنه في باب البراءة والاحتياط من الأدلّة العقليّة) ، أي : لو لا عدول صاحب الفصول قدس‌سره عن الاستدلال بهذه الأخبار على نفي الحكم الوضعي في باب البراءة والاحتياط ، حيث قال بوجوب الاحتياط في الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة (لذكرنا بعض ما فيه من منع العموم أوّلا).

وحاصل الكلام في هذا المقام ـ كما في شرح الاستاذ الاعتمادي والتنكابني والتعليقة ـ أنّ صاحب الفصول قال بتعميم أخبار البراءة وشمولها لكلا الحكمين في باب الصحيح

٤٣٩

العموم أوّلا ، ومنع كون الجزئيّة أمرا مجعولا شرعيّا غير الحكم التكليفي وهو إيجاب

____________________________________

والأعمّ ، وعدل عن هذا القول في باب البراءة. وحاصل كلامه في بحث الصحيح والأعمّ هو أنّ أصالة الاشتغال حاكمة على أخبار البراءة من حيث نفي الحكم التكليفي ، إلّا أنّ الأخبار حاكمة على أصالة الاشتغال من حيث نفي الجزئيّة ، ودعوى ظهورها في نفي الحكم التكليفي فقط ، مدفوعة :

أوّلا : بأنّ الوضع والرفع الواقعيين في الأخبار يعمّان لرفع الحكم التكليفي والوضعي.

وثانيا : بأنّ العلماء يتمسّكون بأصالة العدم وعدم الدليل دليل العدم لنفي مطلق الحكم ، ومستندهم فيهما أخبار البراءة ، وبذلك ينجّز ضعف الدلالة.

وقال في مبحث البراءة والاشتغال : «بأنّ أصالة العدم تعمّ لنفي الحكم التكليفي والوضعي ، وأمّا أصالة البراءة فمختصّة بالأوّل ، إذ مرجعه إلى الأمن من العقاب ، كما أنّ مرجع الاشتغال إلى الاعتناء باحتمال العقاب ، ودليل أصالة العدم أمران» ، أي : دليل أصالة البراءة ودليل أصالة العدم أمران ؛ لأنّ دليل أصالة العدم هي أخبار الاستصحاب ، ودليل أصالة البراءة هي أخبار البراءة ، وفرق الدليلين أنّه على الأوّل لا ينفع أصل العدم لنفي الجزئيّة ؛ لأنّ استصحاب عدم الجزئيّة أصل مثبت ؛ لأنّ المستصحب ـ أعني : العدم ـ ليس بحكم شرعي ، ولا له أثر شرعي ، إذ تعيّن الواجب في الأقلّ أثر عقلي له ، وعلى الثاني ينفع ؛ لأنّ الجزئيّة حكم شرعي ينفى بأصالة البراءة.

وبالجملة ، استصحاب عدم الجزئيّة إثبات للعدم وهو ليس بحكم شرعي ولا له أثر شرعي ، ونفي الجزئيّة نفي للحكم الشرعي ، فيترتّب عليه كلّ أثر. ثمّ قال : هذا ما أدّى إليه نظري سابقا وهو فاسد في نظري الآن ؛ لأنّ الأخبار ظاهرة في نفي المؤاخذة دون الحكم حتى تعمّ الوضعي والتكليفي.

وقد تقرّر عندهم أنّ الأحكام الوضعيّة لا تدور مدار العلم ، بل ولا العقل والبلوغ إلّا فيما شذّ ـ إلى أن قال ـ : «فالتحقيق عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة هو الاحتياط» ، وهذا الكلام منه صريح في العدول ، ولو لا هذا العدول منه لورد عليه ما أورده المصنّف قدس‌سره بقوله : (من منع العموم أوّلا) ؛ لأنّ أخبار البراءة مختصّة بالحكم التكليفي من جهة ظهورها في نفي المؤاخذة التي لا تجري إلّا في نفي الحكم التكليفي ، (ومنع كون الجزئيّة أمرا مجعولا

٤٤٠