القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

«المضي» أو «التجاوز» الواردتين في بعض احاديث الباب ، عنده.

الثالث ـ التفصيل بين موارد جريان قاعدة التجاوز والفراغ والقول باعتبار الدخول في الجزء المستقل المترتب عليه شرعا في جريان قاعدة التجاوز ، واما الفراغ فلا يعتبر فيه شيء إلا الدخول فيما يكون مباينا للعمل المشكوك فيه ، حتى انه بالنسبة إلى جريان قاعدة التجاوز في الجزء الأخير من الصلاة اعتبر الدخول في التعقيب المترتب عليه شرعا والا لا يجرى فيه قاعدة التجاوز وان جرت فيه قاعدة الفراغ لعدم اعتبار شيء فيه عدا الدخول في حال مباين لها.

ولا يبعد رجوع هذا القول الى ما ذكره الشيخ العلامة الأنصاري (قده) في المعنى وان كانا مختلفين في الصورة فتأمل.

الرابع ـ التفصيل بين موارد جريان قاعدة الفراغ من الوضوء والصلاة بالتزام كفاية مجرد الفراغ من الوضوء ولو مع الشك في الجزء الأخير منه وعدم كفايته بالنسبة إلى الصلاة ، حكاه شيخنا العلامة الأنصاري (قده) عن بعض ؛ ولم يسم قائله ، ثمَّ رد عليه باتحاد الدليل في البابين وهو كذلك.

الخامس ـ عكس هذا التفصيل اعنى اعتبار الدخول في الغير في باب الوضوء دون باب الصلاة ؛ قال المحقق الأصفهاني في بعض كلماته في المقام :

ويمكن ان يقال بناء على تعدد القاعدة ؛ بالفرق بين الوضوء والصلاة في جريان قاعدة الفراغ فيهما بتقييدها في الأول بالدخول في الغير دون الثاني ، وذلك لتقييد الفراغ عن الوضوء بذلك في رواية زرارة حيث قال : «فاذا قمت من الوضوء وفرغت منه فقد صرت في حال اخرى من صلاة أو غيرها الخبر» وكذا في رواية ابن ابى يعفور : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره». الى ان قال : ولا استبعاد في اختصاص الوضوء بالدخول في الغير بعد اختصاصه بعدم جريان قاعدة التجاوز عن المحل فيه رأسا (انتهى محل الحاجة من كلامه قدس‌سره).

٢٤١

هذا ما عثرنا عليه من الأقوال في المسئلة ولعل المتتبع يعثر على أقوال أخر في كلماتهم ، ولكن المهم تحقيق الحال بينها.

فنقول : التحقيق ان منشأ الخلاف في المسئلة هو اختلاف السنة الروايات الواردة فيها :

فبعضها مطلقة لم يذكر فيها سوى عنوان المصى والتجاوز عن الشيء ؛ كرواية محمد بن مسلم (١) ورواية ابن ابى يعفور (٢) وظاهر رواية بكير بن أعين (٣) ورواية أخرى لمحمد ابن مسلم (٤) المشتملة على تعليل الحكم وكذا ما قبلها ، وبعض الروايات الخاصة الواردة في أبواب الوضوء والصلاة كقوله في رواية محمد بن مسلم كلما مضى من صلوتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه (٥).

وبعضها الأخر مقيد بالدخول في الغير مثل رواية زرارة (٦) وإسماعيل بن جابر (٧) وصدر رواية ابن ابى يعفور ورواية أخرى لزرارة نقلناها عن مستطرفات السرائر نقلا عن كتاب حريز (٨).

فحينئذ يقع البحث في ان وجه الجمع بين الطائفتين ما ذا.

هل هو بتقييد المطلقات بما قيد بالدخول في الغير ، كما هو قضية المطلق والمقيد

__________________

(١) نقلناه تحت الرقم الثالث من الروايات العامة.

(٢) نقلناه تحت الرقم الرابع من الروايات العامة.

(٣) نقلناه تحت الرقم الخامس من الروايات العامة.

(٤) نقلناه تحت الرقم السادس من الروايات العامة.

(٥) نقلناه تحت الرقم الأول من الروايات الخاصة.

(٦) نقلناها تحت الرقم ١ من الروايات العامة.

(٧) نقلناه تحت الرقم ٢ من الروايات العامة.

(٨) نقلناه تحت الرقم ٧ من الروايات العامة.

٢٤٢

في غير المقام أو يقال ان القيد هنا من قبيل القيود الغالبية فلا يفيد الاحتراز عن غيره ، لان الغالب في أفعال الإنسان ـ لا سيما مثل الصلاة التي هي مورد الروايات ـ انه إذا خرج منها دخل في فعل آخر.

أو يقال ان التقييد بالدخول في الغير انما هو في موارد التجاوز عن اجزاء العمل ، فكل جزء شك فيه لا يعتنى به إذا دخل في غيره ، واما إذا كان الشك بعد الفراغ عن الكل فيكفي فيه مجرد الفراغ عنه. لان التقييد بذلك انما ورد في موارد التجاوز عن الاجزاء لا بالنسبة إلى الفراغ عن الكل.

ولا يخفى ان الخلاف الواقع في اتحاد القاعدتين وتعددهما لا دخل له بهذا التفصيل ، فإنه لا ينافي وحدة القاعدتين أيضا لعدم المانع في تقييد أحد فردي عام واحد بقيد لا يجري في سائر أفراده.

هذا ولكن المحقق النائيني (قده) بنى هذه المسئلة والتفصيل الذي اختار فيه على ما اختاره في أصل القاعدة من انه ليس هناك إلا قاعدة واحدة وهي قاعدة الفراغ الجارية في الأفعال المستقلة ، لكن الشارع المقدس نزل خصوص اجزاء الصلاة منزلة الافعال المستقلة بمقتضى حكومة الأدلة الواردة فيها عليها. فبعد هذا التنزيل تجري القاعدة في اجزاء الصلاة فقط.

ولكن حيث ان أدلة التنزيل مقيدة بخصوص موارد الدخول في الغير ، ولا مانع من تنزيل شيء مقام شيء مع قيود خاصة ليست في المنزل عليه ، كان اللازم اعتبار الدخول في الغير في موارد قاعدة التجاوز دون غيرها.

هذا وقد عرفت سابقا ضعف ما اختاره من المبنى ، وانه ليس في اخبار الباب من لسان التنزيل والحكومة عين ولا اثر وان جميع ما ورد في باب قاعدة التجاوز والفراغ تفرغ عن لسان واحد من دون ان يكون أحدهما ناظرا الى الآخر وتنزيل شيء منزلة أخر.

مضافا الى ان لفظ «الشيء» الوارد في اخبار قاعدة الفراغ عام يشمل الأفعال المستقلة

٢٤٣

واجزاء المركبات الشرعية مثل الركوع والسجود وغيرهما.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان ما يقتضيه الانصاف هو ان الدوران لو كان بين احتمال التقييد ، وبين الأخذ بالإطلاق وحمل القيد على القيد الغالبي (مع تسليم كون القيد هنا قيدا غالبيا) لم يكن مجال للترديد في ترجيح جانب الإطلاق فإن المفروض ان أدلة التقييد في نفسها قاصرة عن الدلالة عليه بعد كونها واردة مورد الغالب.

الا ان الكلام بعد في ان حمل القيد على «الغالب» ليس بأولى من حمل إطلاق المطلق عليه وانصرافه الى الغالب.

فاذن يكون المطلقات أيضا قاصرة في نفسها عن الدلالة على شمول الحكم وعمومه ، ونتيجة ذلك وجوب الأخذ بها في القدر المتيقن منها اعنى خصوص الموارد التي يكون القيد موجودا ـ وهو موارد الدخول في الغير ـ لا غير. غاية ما في الباب ان هذا ليس من جهة قيام الدليل على التقييد بل من ناحية قصور المطلقات عن إثبات أزيد منه.

هذا ولكن الذي يسهل الخطب ويرفع الغائلة هو انه وان لم نعتبر الدخول في الغير في موارد قاعدة التجاوز ، الا إنه لازم لتحقق عنوان «المضي والتجاوز» فنفس هذا العنوان لا يتحقق الا بالدخول في الغير ، مثلا إذا شككنا في تحقق جزء من اجزاء الصلاة ووجوده فإنما يتحقق التجاوز عن محله إذا دخلنا في جزء آخر منها أو مقدمة له ، وبدونه فالمحل باق لم يتجاوز عنه.

وهذا بخلاف موارد الفراغ عن الكل فان عنوان «المضي أو غيره من أشباهه» تتحقق بوجود آخر جزء منه مثل التسليم في الصلاة ، وان لم يدخل في غيرها.

(فح) يكون التقييد بالدخول في الغير في خصوص «الاجزاء» من باب عدم تحقق عنوان التجاوز والمضي بدونه ، فهذا القيد لا يكون في الواقع قيدا بل يكون من باب تحقق الموضوع (ولكن ليعلم ان هذا انما هو في مورد الشك في أصل وجود الجزء لا ما إذا شك في صحته بعد العلم بتحققه ووجوده).

٢٤٤

فتحصل من جميع ما ذكرنا ان الأقوى عدم اعتبار الدخول في الغير في موارد القاعدتين ـ سواء قلنا باتحادهما أو تعددهما ـ الا ما يتحقق به موضوع المضي والتجاوز ، نعم يستثنى من ذلك بعض مواردها لورود دليل خاص فيه كما سيأتي ان شاء الله ؛ وبهذا البيان تنحل عقدة الاشكال وترتفع الغائلة.

ويؤيد ما ذكرنا ظهور التعليل الوارد في روايتي «بكير بن أعين» و «محمد بن مسلم» بقوله عليه‌السلام : «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» وقوله عليه‌السلام : «وكان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك» لرفضه كل قيد سوى عنوان «البعدية» ومن الواضح ان ظهور التعليل مقدم على غيره عند التعارض مع ما عرفت فيها من ضعف الدلالة.

وكذلك بناء العقلاء على العمل بالقاعدة أيضا ينفى اعتبار هذا القيد ، لأنه يدور مدار مضى العمل والفراغ عنه ولا دخل للدخول في الغير فيه كما هو ظاهر.

نعم يبقى في المقام شيء وهو انه ما المراد من الغير بناء على القول باعتباره وهل هو كل فعل مغاير للمشكوك فيه أو يعتبر فيه قيود خاصة وسنبحث عنه في الأمر الاتى ان شاء الله.

٢٤٥

٥ ـ المراد من «الغير» ما ذا؟

قد وقع الكلام بين الاعلام أيضا في ان الذي يعتبر في تحقق التجاوز عن محل الشيء هل هو الدخول في مطلق الغير (بناء على اعتبار الدخول في الغير) ولو كان مقدمة للجزء الآتي ، كالهوي للسجود والنهوض للقيام ، أو لا يكفي إلا الدخول في الاجزاء الأصلية.؟

والمشهور عدم الاكتفاء بمطلق الغير وظاهر الروايات أيضا ذلك ، لظهور قوله عليه‌السلام : «ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض وان شك في السجود بعد ما قام فليمض» في مقام التوطئة لذكر الكبرى الكلية بقوله : «كل شيء شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» في ان الغير لا بد وان يكون من الاجزاء الأصلية وان لا غير أقرب الى «الركوع» من «السجود» والى «السجود» من «القيام».

اللهم الا ان يقال ان ذكر المثالين ليس من جهة اعتبار الدخول في الاجزاء الأصلية المستقبلة ، بل من باب انهما مما يكثر الابتلاء بهما ؛ وان الشك في حال الهوى أو النهوض نادر ، فإنه يحصل عادة بعد ما استقر في الغير وقبله لا تغيب صورة الفعل غالبا عن الذهن.

ويؤيد ما عليه المشهور رواية عبد الرحمن «قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل رفع رأسه من السجود فشك قبل ان يستوي جالسا فلم بدر أسجد أم لم يسجد؟ قال : يسجد ؛ قلت : الرجل نهض من سجوده فشك قبل ان يستوي قائما فلم يدر أسجد أم لم يسجد قال سجد» (١) فان المدار فيها الأجزاء الأصلية لا مقدماتها.

ولكن تعارضها رواية أخرى له عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال قلت له عليه‌السلام : رجل أهوى إلى السجود فلم يدر اركع أم لم يركع قال قد ركع» (٢)

فان ظاهر قوله : أهوى إلى السجود عدم بلوغه حده.

ورواية فضيل بن يسار قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : استتم قائما فلا ادرى ركعت أم لا؟ قال : بلى قد ركعت فامض في صلوتك فان ذلك من الشيطان (٣).

__________________

(١) رواه في الوسائل في أبواب السجود الباب ١٥.

(٢ و ٣) رواه في الوسائل في أبواب الركوع الباب ١٣.

٢٤٦

هذا ولكن الرواية الأخيرة لا تخلو عن شواب إبهام فإن المراد من الاستتمام قائما يمكن ان يكون استتمامه بعد السجود الثاني ؛ فلو شك في ركوع الركعة السابقة لا يعتنى به ، كما احتمله شيخ الطائفة (قدس الله سره الشريف).

واما احتمال ارادة الاستتمام قائما في نفس تلك الركعة فبعيد جدا لعدم تصوير وجه صحيح له ؛ وما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس‌سره) في نهاية الدراية في توجيهه من : ان المراد انحنائه للركوع ثمَّ استتمامه القيام مع الشك في انه ركع أم لا فهو أمر نادر بعيد الوقوع كما لا يخفى.

هذا مضافا الى ان القيام بعد الركوع بنفسه من الواجبات فهو من قبيل الدخول في جزء آخر من الأفعال الأصلية لا من باب الدخول في مقدمة الاجزاء.

ويحتمل ورودها في كثير الشك لقوله عليه‌السلام : فإنما ذلك من الشيطان ـ كما احتمله صاحب الوسائل بعد ذكر احتمال الشيخ.

واما الرواية الأولى فظهورها وان كان في الهوى الذي من المقدمات الا ان حملها على آخر مراتب الهوى الذي يصل الى حد السجود بقرينة غيرها من الروايات التي ذكرناها آنفا ـ لا سيما مع ذهاب المشهور الى عدم الاعتناء بمقدمات الافعال ، ليس ببعيد فتأمل.

فتحصل من جميع ذلك ان الذي يقتضيه الجمع بين روايات الباب هو عدم الاعتناء بالدخول في مقدمات الافعال عند اجزاء القاعدة وانه يجب الدخول في فعل آخر أصلي.

وهذا لا ينافي ما ذكرنا آنفا من ظهور روايات القاعدة في كفاية مطلق الفراغ ، وكذا التجاوز الحاصل بالدخول في فعل غيره أيا ما كان ، لأنه لا مانع من ان يكون هذا حكما تعبديا في خصوص مورده فقد أسقط الشارع هنا حكم مقدمات الافعال ولم يعتن بها ؛ ولا ينافي ذلك بقاء الإطلاق على حاله بالنسبة إلى سائر موارد القاعدة ، ولعل الحكمة في حكم الشارع بذلك ان صورة الجزء السابق لا تنمحي عن الذهن غالبا قبل الانتقال الى جزء آخر

٢٤٧

مباين له ؛ فحالة الذكر الحاصلة حين الفعل باقية قبل الانتقال الى الجزء الثاني فتأمل وان أبيت عن قبول هذه الحكمة فالحكم تعبد محض في مورده.

واما التفصيل بين الوضوء والصلاة بعدم اعتبار الدخول في الغير في الأول دون الثاني أو بالعكس ؛ فهو ضعيف جدا يدفعه اتحاد الدليل في البابين ، كما ذكره شيخنا العلامة الأنصاري (قده).

واما قوله في رواية زرارة : «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى ، في الصلاة أو غيرها ؛ فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوئه لا شيء عليك فيه» (١) فالظاهر انه ليس قيدا شرعيا ولعل الوجه فيه هو جريان العادة بأن صورة الفعل لا تذهب عن الذهن عادة قبل صيرورته الى حال آخر ، واشتغاله بفعل مباين له.

ولذا جعله مقابلا لما ذكر في صدر الرواية بقوله : إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا؟ فأعد عليهما ؛ الى ان قال : ما دمت في حال الوضوء.

فلو كان القيد قيدا شرعيا كان هناك صورة ثالثة لم يذكرها الامام عليه‌السلام مع ان ظاهرها كون الامام عليه‌السلام بصدد بيان جميع صور المسئلة بما ذكره من الشقين.

ومنه يظهر الجواب عن الاستدلال بالحديث الثاني أعني صدر رواية ابن ابى يعفور «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء ، إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه».

فإنه لا مناص من حمل القيد على ما ذكرنا أو شبهه ، كما يشهد به ذيل الرواية أيضا فإنه خال عن هذا القيد مع انه من قبيل الكبرى له.

هذا مضافا الى احتمال رجوع الضمير في قوله «دخلت في غيره» الى غير هذا الجزء فيكون حال اجزاء الوضوء حال اجزاء الصلاة ؛ وهذا الحكم وان كان مخالفا للمشهور بل مخالفا لغيرها من الروايات كما سيأتي ، الا ان هذا الاحتمال في نفسه أقرب الى ظاهر الرواية ، وكونها غير معمول بها على هذا التقدير لا يوجب حملها على غيره ، ما لم يقم قرينة لفظية أو حالية عليه فتدبر.

__________________

(١) رواه في الوسائل في أبواب الوضوء الباب ٤٢.

٢٤٨

٦ ـ المحل الذي يعتبر التجاوز عنه شرعي أو عقلي أو عادى؟

قد عرفت ان ظاهر إطلاقات أخبار الباب عدم الاعتناء بالشك في الشيء بعد مضيه ، أو التجاوز عنه ، أو الخروج منه ، وان هذه العناوين (المضي والتجاوز والخروج) انما تصدق حقيقة في موارد يعلم بوجود أصل الشيء مع الشك في تحقق بعض ما يعتبر فيه من الاجزاء والشرائط ؛ فهي غير صادقة في الموارد التي يشك في أصل وجود الشيء حقيقة فلا تشمل مورد قاعدة التجاوز الذي يكون الشك فيه في أصل وجود الركوع أو السجود أو غيرهما مثلا.

الا ان تطبيق هذه الكبرى في غير واحد من الاخبار على هذه الموارد ، يدل على ان المراد من التجاوز عن الشيء أعم من التجاوز عنه حقيقة وبالعناية (بالتجاوز عن محله) وهذا إطلاق شائع ذائع.

(فح) يقع الكلام في ان المراد ب «محل الشيء» ما ذا؟ فإنه يتصور على أنحاء :

١ ـ المحل الشرعي ـ وهو المحل المقرر للشيء شرعا ، ولا يخفى ان المراد منه هو المحل الذي يعتبر إتيانه فيه أولا وبالذات وبحسب حال الذكر والاختيار ، فمحل السجود قبل الدخول في القيام بحسب جعله الاولى الشرعي وان كان يجوز الرجوع اليه وإتيانه بعد الدخول في القيام إذا تذكر قبل الركوع.

فما يقال من ان محل السجود باق قبل الدخول في ركوع الركعة الآتية فاسد لأنه محل له في حال السهو والنسيان ولذا لا يجوز تأخيره كذلك عمدا.

٢ ـ المحل العقلي ـ وهو المحل المقرر له بحكم العقل وبحسب الطبع وقد مثل له شيخنا العلامة الاسرى بمحل «الراء» من تكبيرة الإحرام فإنه لا بدان يؤتى بها بلا فصل والا لزم الابتداء بالساكن المحال عقلا ، ولا يخفى ان هذا القسم (مع غمض النظر عن المثال الذي ذكره (قده) فان الابتداء بالساكن ليس محالا عقلا بل هو كالتقاء الساكن بل ثلاث ساكنات

٢٤٩

أمر ممكن في لغتنا وان لم يقع فيها ، حينما وقع في غيرها من لغات الأجانب) راجع الى المحل الشرعي بالمآل ؛ فإن الأمر انما يتعلق بالإفراد الممكنة لا غير ، (فتأمل).

٣ ـ المحل العرفي ـ وهو المحل الذي قرر له بحكم الطريقة المألوفة ، كمحل اجزاء الجملة وآيات السورة ، فإنه لا بدان يؤتى بها قبل فصل طويل يوجب انمحاء صورتها (كما مثل له).

ولكن غير خفي ان هذا أيضا راجع الى المحل الشرعي ، فإن المعتبر شرعا في القراءة إتيانها على الطريقة المألوفة ، فلو اتى بها على غيرها كانت فاسدة غير مأمور بها شرعا ، لعدم صدق اسم الكلام أو السورة أو القراءة عليها عرفا.

٤ ـ المحل العادي ـ وهو المحل المقرر له بحسب العادة.

والعادة اما «عادة نوعية» أو «شخصية» والاولى مثل الإتيان بإجزاء الغسل متوالية ، فإن التوالي وان لم يكن معتبرا فيها شرعا ويجوز الفصل بينها بساعة أو يوم أو أيام ؛ الا انه جرت عادة الناس بإتيانها متوالية غالبا ، والثاني كمن اعتاد إتيان الصلاة في أول وقتها ؛ فإن أول الوقت بالنسبة إليه محل عادى.

لا اشكال ولا كلام في الأقسام الثلاثة الأولى ، لما عرفت من رجوعها الى المحل الشرعي ؛ وانما الكلام في القسم الأخير بكلا شقيه ، فقد نفاه كثير من اعلام المتأخرين كشيخنا العلامة الأنصاري والمحقق الخراساني والمحقق الأصفهاني وغيرهم (قدس الله أسرارهم).

الا انه قد يحكى عن غير واحد من الأعاظم ممن تقدم ؛ كفخر المحققين وغيره ، الميل الى اجزاء قاعدة الفراغ والتجاوز هنا ، حتى انهم مثلوا له بمعتاد الموالاة في غسل الجنابة إذا شك في الجزء الأخير منه بل يحكى عن الفخر الاستدلال له بخبر «زرارة» ، وبان خرق العادة على خلاف الأصل (انتهى).

والذي ينبغي ان يقال : انه كما عرفت ليس في اخبار الباب من لفظ «المحل»

٢٥٠

عين ولا اثر ، حتى يتكلم في المراد منه ؛ وانما المذكور فيها عنوان «الخروج» و «المضي» و «التجاوز» بمعناها الأعم من الحقيقي والمجازي كما عرفت ، وفي صدق هذه العناوين على التجاوز عن المحل المعتاد إشكال.

لأن القدر المعلوم منها المستكشف من الأمثلة المذكورة في الروايات هو المحل الشرعي ، أو ما يرجع اليه ، ولا إطلاق يعتمد عليه بالنسبة إلى غيره كما لا يخفى.

هذا ولكن المكلف إذا كان من قصده الإتيان بإجزاء الغسل (مثلا) متوالية كان داخلا تحت ملاك التعليل الوارد في الروايات بقوله : «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» وقوله في رواية محمد بن مسلم «كان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك» لما قد عرفت من انه كالصغرى لكبرى محذوفة وهي ان الذاكر لا يأتي بما يخالف مقصده ومرامه.

ومن الواضح ان المحل الشرعي أو العقلي أو العرفي بما هو لا دخل له في هذا المعنى وانما هو مقدمة لقصد الفاعل إليه ، فإن الفاعل إذا كان بصدد الإتيان بعمل وكان عالما بأن اجزائه مترتبة شرعا على نحو خاص فلا محالة يقصده بهذا الترتيب ، وإذا كان قاصدا له بهذا الترتيب ـ والعاقل لا يأتي بما هو مخالف لمرامه ـ كان فعله الخارجي منطبقا على قصده ، الا ان يكون غافلا أثناء العمل وهو خلاف أصالة عدم الغفلة المأخوذة من ظهور حال الفاعل.

والحاصل ان المحل الشرعي أو ما يشبهه لا دخل له في هذا التعليل أصلا ؛ بل هو مبنى على قصد الفاعل ونيته فقط. فلو حصل هذا القصد بعلل اخرى غير الترتب الشرعي ، كالعادة ، كانت العلة جارية فيها.

ومن هنا تعرف ان المحل العادي بما هو لا اثر لها في جريان القاعدة ، الا ان تكون العادة كاشفة عن قصد الفاعل ، فان الفاعل إذا كان معتادا بعادة نوعية أو شخصية بإتيان عمل كالغسل (مثلا) متوالية كشفت هذه العادة عن انه حين الفعل قصده بهذا النحو ، فيجري التعليل في حقه ؛ ولو فرض عدم كشف العادة عنه في مقام ، لم يعتد بها أصلا. فتدبر فإنه حقيق به.

٢٥١

هذا ويمكن الاستدلال على اعتبار المحل العادي ، بالمعنى الذي ذكرنا ، بالسيرة العقلائية التي استدللنا بها لأصل القاعدة ، فهل ترى من نفسك إذا كنت بصدد كتابة كتاب أو تركيب معاجين أو محاسبة أمور عديدة ، وكنت عالما باجزائها وشرائطها ، وبعد ذلك شككت في أنك أتيت بها صحيحة تامة؟ فهل ترجع إليها مرة بعد مرة وان كان محلها العقلي باقية بعد ، أو تعتمد على ما كنت بصدده وتعامل مع ما فعلت معاملة الفعل الصحيح.

وهل ترى من نفسك إذا أتيت بغسل الجنابة بقصد رفع الجنابة ثمَّ مضى أيام أو شهور ، ثمَّ شككت في الإتيان بالجزء الأخير منه ، تعود إليه مرة بعد مرة لان اجزاء غسل الجنابة في نفسها ليس لها محل شرعي يفوت بالفصل الطويل؟

فالإنصاف أن الاعتماد على المحل العادي في اجزاء القاعدة بالمعنى الذي ذكرنا قريب جدا. ولعل ما حكى عن الفخر وغيره من أعاظم أصحابنا أيضا ناظر الى هذا المعنى.

هذا ولكن الذي منع غير واحد من كبراء الأصحاب عن اختيار هذا القول وجعلهم في وحشة منه ، ان فتح هذا الباب يوجب فقها جديدا ، فان لازمه انه إذا كان من عادة الإنسان الإتيان بالصلاة أول وقته ، أو الوضوء بعد الحدث فورا ، الحكم بعدم وجوب الإتيان بها عليه لو شك آخر وقتها وكذا عدم وجوب تحصيل الطهارة لو شك بعد حدثه بفصل طويل.

ولكنه توهم باطل فان ما ذكرنا من البيان يختص بما إذا أحرز اقدام الفاعل على العمل قاصد الإتيان تمام اجزائه وشرائطه ثمَّ بعد ذلك شك في تماميتها ، فان هذا الفعل محكوم بالصحة والتمامية ، ولو كان المحل الشرعي لتدارك بعض اجزائه باقيا ، فإن العادة كافية هنا ، واما إذا شك في أصل وجوده ولم يحرز اقدام المكلف على العمل قاصدا له كذلك فلا.

ولعل ما حكى عن الفخر وغير واحد من أعاظم الأصحاب أيضا ناظرة الى هذا المعنى فإنهم مثلوا بغسل الجنابة لمعتاد الموالاة إذا شك في الجزء الأخير منه ومن الواضح ان هذا لا يوجب فقها جديدا ولا ما يستوحش منه من الفتاوى (فافهم).

٢٥٢

٧ ـ عموم القاعدة لجميع أبواب الفقه

لا يخفى ان مورد جريان قاعدة التجاوز ، بالنسبة الى الاجزاء عند الشك في أصل وجودها ، وقاعدة الفراغ بالنسبة إلى مجموع العمل عند الشك في بعض ما يعتبر فيها ، وان كان في غير واحد من اخبار الباب هو «الصلاة» و «الطهور» الا ان إطلاقات الاخبار لا تختص بهما ، بل يشملهما وغيرهما من سائر العبادات ، بل المعاملات من العقود والإيقاعات ، وغيرها ، وقد عرفت انها تشير الى كبرى واحدة تحتوي على القاعدتين معا.

فلو شك في صحة عقد أو إيقاع بعد الفراغ عنه ومضيه لم يعتد بالشك ويمضى عليه كما هو ، وكذا لو شك في صحة غسل ميت وكفنه ودفنه فان العمومات والإطلاقات تقتضي صحتها بعد مضيها ، ولا وجه لتخصيصها بباب الصلاة والطهارة ، أو أبواب العبادات ، والقول بأنها القدر المتيقن في مقام التخاطب فلا تشمل العمومات غيرها ، كما ترى ، لما تحقق في محله من ان مجرد وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يضر بإطلاق الدليل ، والا أشكل الأمر في جميع الإطلاقات الواردة في الاخبار ، التي وقع السؤال فيها عن موارد خاصة ، ولا يظن بأحد الالتزام به في أبواب الفقه ، هذا مضافا الى ان بعض الاخبار العامة غير وارد في مورد خاص ودعوى القدر المتيقن فيه أيضا باطل جدا.

ولكن في إجراء قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الكلمات واجزاء عقد البيع ونحوه اشكال يظهر وجهه بما سيأتي في الفصل الاتى ان شاء الله

وقد عرفت سابقا ان الفقيه المتتبع الماهر صاحب الجواهر تمسك بهذه القاعدة في مسئلة الشك في عدد أشواط الطواف ، بعد الفراغ منه ، مضافا الى ما ورد فيها من الروايات الخاصة ، ولعل المتتبع في كلماتهم يقف على غيره مما يتمسك فيها بهذه القاعدة.

وصرح في الجواهر أيضا في باب الشك في أفعال الوضوء : «ان هذه القاعدة محكمة في الصلاة وغيرها من الحج والعمرة وغيرهما» (١)

__________________

(١) ـ المجلد الأول ص ٣٥٥

٢٥٣

٨ ـ عمومها للاجزاء غير المستقلة

هذا كله بالنسبة الى عدم اختصاصها بأبواب الطهارة والصلاة ، وشمولها لجميع أبواب الفقه ، واما بالنسبة الى الاجزاء غير المستقلة (أي اجزاء كل جزء) مثل آيات الحمد وكلمات جملة واحدة ، فقد استشكل بعضهم كالمحقق النائيني (قده) في جريان قاعدة التجاوز فيها حينما صرح آخرون في تعليقاتهم «على العروة الوثقى» بجريانها فيها وغاية ما يمكن ان يقال في وجه المنع أمران :

أحدهما أن إطلاقات الأدلة بطبعها الاولى لا دلالة لها الا على قاعدة الفراغ بالنسبة إلى مجموع العمل ، ولكن الأخبار الخاصة وبعض الاخبار العامة المصدرة بالشك في اجزاء الصلاة ، من الركوع والسجود ، كدليل حاكم عليها توجب سعة دائرتها ، ومن المعلوم ان القدر الثابت من الدليل الحاكم هنا هو الاجزاء المستقلة واما بالنسبة الى اجزاء الجزء فلا.

وأنت خبير بان هذا يبتني على ما اختاره المحقق المذكور (قدس‌سره) في أصل بناء القاعدتين ، وقد أشرنا إلى فساده غير مرة ، وانه بناء على تعددهما كل واحد مستقل بالجعل ، وبناء على اتحادهما كلاهما متساوي الإقدام بالنسبة إلى إطلاقات أدلتهما.

ثانيهما ـ ان قاعدة التجاوز تقتضي عدم الاعتداد بالشك في الجزء بعد ما جاوز «محله الشرعي» ، ومن المعلوم ان الاجزاء غير المستقلة مثل «الله» و «أكبر» في تكبيرة الإحرام ليس لها محل شرعي تعبدي ، وانما يكون هذا الترتيب الخاص من «مقومات التكبير» بحيث لو قال : «أكبر الله» كان آتيا بما هو مباين للمأمور به لا آتيا به في غير محله. وهذا المعنى بالنسبة إلى حروف كلمة واحدة أظهر ، فإجراء القاعدة في مثل هذه الاجزاء محل تأمل واشكال.

٢٥٤

وفيه : ان محل اجزاء الجزء ليس دائما من قبيل مقوماتها بحيث إذا حولت اجزائه عن محلها صار امرا مغاير إله ، أو غلطا رأسا ، كما في جزئي تكبيرة الإحرام ، ففي مثل ذلك ربما نقول بعدم جريان قاعدة التجاوز فيه مطلقا ، ولكن قد يكون من قبيل آيات السورة الواحدة ، وتغييرها عن محلها يكون من قبيل تغير الأجزاء الأصلية للصلاة عن محالها كما لا يخفى ، فكل من هذه الايات مأمور بها ، ولها محل شرعي بحسب نزول الايات أوامر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقراءتها كذلك ، على تفصيل في محله ، فاذا شك في قراءة الآية السابقة يصدق أنها «شيء» شك فيه وقد جاوز عنه ودخل في غيره

فعموم لفظ «الشيء» كعنوان «التجاوز» و «الدخول في الغير» (لو قلنا باعتباره) شامل لها ، بل يمكن القول بشمولها لجزئى التكبير لما قد عرفت سابقا من ان عنوان «المحل» فضلا عن «المحل الشرعي» غير موجود في روايات الباب حتى يتكلم فيه ، بل المذكور فيها عنوان الشيء والتجاوز وأمثالهما ، وهي صادقة بالنسبة إلى كلمة «الله» بعد الدخول في «أكبر» نعم في خصوص هذا المورد اشكال ناش من ان جريان القاعدة انما يكون بعد إحراز عنوان الصلاة ، ومع هذا الشك لم يحرز دخوله في الصلاة بعد فتأمل

وان سلمنا ورود الاشكال هنا فجريان القاعدة في غيرها سليمة عنه ، نعم في إجراء القاعدة في اجزاء كلمه واحدة بل الكلمات المتقاربة كجزئى تكبيرة الإحرام وما شابهها اشكال آخر ، وهو قوة انصراف الإطلاقات عنها ، لا سيما بعد ملاحظة التعليلات الواردة فيها ، فإن صورة العمل لا يكاد يخفى عن الذهن عادة بمجرد ذلك الزمان القليل فلا يصدق في حقه انه في الحرف الأول اذكر منه في الثاني ، بل هو بعد كأنه في محل الفعل غير متجاوز عنه ، فالأخذ بالإطلاق بالنسبة إليها مشكل جدا.

نعم لو كان الشك في آيات السورة ، أو فصول الأذان والإقامة ، لا سيما في الايات والفصول المتباعدة لم يبعد الأخذ بها.

٢٥٥

بقي هنا شيء : وهو انه هل تجري قاعدة «التجاوز» في الأعمال المستقلة كما تجري في اجزائها ، فيحكم بتحققها بعد التجاوز عن محلها ، أو الدخول في عمل مستقل بعدها ، أولا؟ مثلا : إذا دخل في صلاة العصر فشك في انه صلى الظهر أم لا؟ فهل يحكم بتحقق صلاة الظهر بمقتضى القاعدة لا من ناحية شرطية ترتب العصر عليها (فان ذلك أمر راجع الى باب الاجزاء والشرائط) بل من ناحية نفس صلاة الظهر ، بحيث لا يجب الإتيان بها ولو بعد صلاة العصر ، أو يجب الإتيان بها؟

قد يقال : ان القاعدة كما تجري في مثل «الأذان والإقامة» بعد الدخول في الصلاة لورود النص فيها كما مر ، كذلك تجري في مثل صلاة الظهر في المثال المذكور وشبهها ، نعم بناء على تعدد القاعدتين وتوهم اختصاص دليل قاعدة التجاوز بخصوص اجزاء الصلاة وما هو كالشرط ولو لكمالها كالأذان والإقامة ، لم تجر في غير الاجزاء وشبهها

هذا ولكن التحقيق عدم جريان القاعدة في مفروض المسئلة ، ولو قلنا باتحاد القاعدتين ودخولهما تحت عنوان واحد شامل لجميع الأبواب (كما هو المختار (وذلك لان صلاة الظهر لها اعتباران :

اعتبار من ناحية نفسها واعتبار من ناحية ترتب العصر عليها ، وموضوع «التجاوز» في مفروض المسئلة انما يصدق بالاعتبار الثاني ، فإن محل صلاة الظهر ، من ناحية اشتراط ترتب العصر عليها ، يمضى بالدخول في العصر ، ولكن محلها بالاعتبار الأول وفي نفسها باقية الى آخر وقتها الممتد الى الغروب ، ولذا لو نسيها وتذكر بعد صلاة العصر وجب الإتيان بها ، وان شئت قلت الترتيب شرط لصحة صلاة العصر لا لصحة الظهر ، فاذا لم يصدق عنوان التجاوز عليها بهذا الاعتبار كيف تجري القاعدة فيها؟.

نعم بعد مضى وقتها ودخول وقت آخر يحكم بتحققها بمقتضى عموم هذه القاعدة ،

٢٥٦

ولو لم يكن هناك دليل آخر يدل على عدم الاعتناء بالشك بعد الوقت.

ثمَّ لا يخفى عليك انه لا فرق في ذلك بين القول بكون القاعدة امارة وبين كونها أصلا ، لما عرفت سابقا من ان الامارة انما تثبت آثار الواقع في خصوص موردها لا بالنسبة إلى غيره (فراجع ما ذكر هناك).

٢٥٧

٩ ـ جريان القاعدة عند الشك في صحة الاجزاء

لا إشكال في جريان القاعدة عند الشك في صحة المركب ، كالصلاة والوضوء ، إذا شك فيه من جهة الإخلال ببعض ما يعتبر فيها من الاجزاء والشرائط.

وهل تجري في موارد الشك في صحة «الجزء» كما إذا شك في صحة القراءة أو الركوع من جهة الإخلال ببعض ما يعتبر فيها من الشرائط ، فيحكم بصحتها بمقتضى القاعدة ، أو تختص بالشك في أصل وجود الاجزاء ، كما هو مورد احاديث الباب ، ولا تجرى عند الشك في صحتها؟.

الحق انه لو قلنا باتحاد القاعدتين كما هو المختار فلا إشكال في كون الحكم عاما للكل واجزائه ، وذلك لما عرفت من انه بناء على هذا يكون قوله «كل ما شككت فيه مما قد مضى» وشبهه من اخبار الباب عاما شاملا للشك في الشيء بعد الفراغ والتجاوز عنه ، من غير فرق بين الكل والجزء ، ولا بين التجاوز عن نفسه (بان يكون أصل وجوده محرزا) وبين المضي عن محله (بان يشك في أصل وجوده) غاية الأمر ان صدق التجاوز والمضي في الأول حقيقي وفي الثاني بنوع من العناية والادعاء.

اما إذا قلنا بتغاير القاعدتين ، واختصاص قاعدة التجاوز بالاجزاء ، كاختصاص قاعدة الفراغ بالكل ، فقد يشكل الأمر من جهة ظهور أخبار قاعدة التجاوز في الشك في أصل وجود الجزء ، ولا في صحته بعد الفراغ عن وجوده ، كما قيل باختصاصها باجزاء الصلاة وعدم جريانها في غيرها ، ولا دليل على التعميم هنا إلا أمور :

أحدها ـ ان الشك في صحة الجزء راجع الى الشك في «وجود الشيء الصحيح» على نحو كان التامة ، فعموم القاعدة يشملها

وفيه : انه خلاف ظاهر الاخبار على هذا المبنى ، لأنها ظاهرة في الشك في أصل

٢٥٨

وجود الشيء من رأس ، لا وجود الشيء بصفة الصحة.

ثانيها ـ ان عمومها وان كان لا يشمله في بدء النظر الا انه شامل له بتنقيح المناط ، لعدم خصوصية في هذا الفرد ، اعنى الفرد الذي يشك في أصل وجوده.

بل يمكن دعوى الفحوى والأولوية القطعية ، لأن الشك في أصل وجود الجزء إذا كان داخلا تحتها كان الشك في صحته بعد إحراز وجوده اولى وأقرب ـ وهذا الوجه حسن جدا.

ثالثها ـ ان يستند في هذا التعميم الى ان أصالة الصحة في فعل المسلم أصل برأسه ، ومدركها ظهور حال المسلم كما قال فخر الدين في الإيضاح : «ان الأصل في فعل العاقل المكلف الذي يقصد براءة ذمته بفعل صحيح وهو يعلم الكيفية والكمية ، الصحة» ذكر هذا الوجه شيخنا العلامة الأنصاري ثمَّ استشهد له بعموم التعليل في قوله «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» (انتهى).

أقول هذا راجع الى ما أشرنا إليه غير مرة من ان أصالة الصحة كما تجري في أفعال الغير كذلك تجري في فعل النفس ، وانها مما جرت عليه سيرة العقلاء في أفعالهم واحتجاجاتهم ، وان التعليل الوارد في هذه الرواية ورواية محمد بن مسلم «هو حين انصرف أقرب الى الحق منه حين يشك» إشارة الى هذه السيرة العقلائية.

٢٥٩

١٠ ـ جريان القاعدة في «الشرائط»

قد عرفت انه لا إشكال في جريان القاعدة في الاجزاء عموما كما هو المختار ، أو خصوص اجزاء الصلاة كما هو مذهب بعض ، ولكن في جريانها في الشرائط كلام واشكال واختار كل مذهبا :

فمن قائل بعدم جريانها فيها مطلقا ، ولزوم اعادة المشروط ولو شك بعد الفراغ عنه ، فيجب إعادة الصلاة بعد الفراغ عنها إذا شك في شيء من الطهارة وشبهها ، نقله شيخنا العلامة الأنصاري عن بعض أصحابنا ولم يسم قائله.

وهو مذهب عجيب ، لا وجه له أصلا لعدم قصور في النصوص الخاصة الدالة على عدم الاعتناء بالشك في الصلاة والطهور بعد مضيهما ، ولا في الروايات المطلقة ولا من حيث الفتوى.

ومن قائل بجريانها فيها مطلقا ـ حتى قال بعضهم بان جريانها فيها يوجب إحراز وجود الشرط حتى بالنسبة إلى الأعمال الآتية ، فلا يجب تحصيل الطهارة على من شك في صلاة بعد الفراغ عنها من ناحية الشك في الطهارة حتى بالنسبة إلى الصلوات الآتية.

وهذا القول أيضا جائر عن قصد السبيل ، قد عرفت فساده سابقا.

ومن قائل بجريانها بالنسبة إلى نفس العمل المشروط ، اما مطلقا ، واما في خصوص ما إذا فرغ عن المشروط كله ، واما إذا كان في الأثناء فلا تجرى فيه.

والتحقيق ان الشرط دائما يكون من قبيل الكيفيات أو الحالات المقارنة للمشروط ، خلافا لما ذكره غير واحد من المحققين في المقام من إمكان كون الشرط عملا مستقلا يؤتى به قبل المشروط ، كما في الوضوء بناء على ما يستفاد من ظاهر قوله تعالى : «(إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) إلخ» فإن هذا خلاف مفهوم الشرط فالشرط دائما من قبيل الحالات والأوصاف والكيفيات المقارنة ، التي يكون تقييدها داخلا في المشروط دون ذواتها ، وهذا هو الفارق بينه وبين الجزء.

٢٦٠