القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

يعتنى بهذا الشك ويكر النظر إليه مرة بعد مرة كلما شك في شيء مما يعتبر فيها؟

مع ان احتمال الفساد من ناحية الغفلة موجود في غالب أفعال الإنسان كيف وقد صار الغفلة والنسيان كالطبيعة الثانية له ، وللغفلات تعرض للاريب.

وكلما كان الفعل أدق وكان اجزائه وشرائطه أكثر كان هذا الاحتمال فيه أقوى ، فإذا كتب كاتب كتابا ضخما كان احتمال الغلط فيه من ناحية الغفلة والاشتباه فيه قويا جدا ولكن إذا كان الكاتب ذو بصيرة في فعله ونية صادقة في كتابته عازما على بذل مجهوده في تصحيح الكتاب لا يعتنى باحتمال الفساد فيه إذا فرغ منه وجاوز عنه الا ان يكون هناك قرائن وأمارات توجب الظن بوجود الخلل في بعض نواحيه.

ولا فرق في ذلك بين ان يكون الكاتب غيره أو نفسه فشك في عمل نفسه. نعم إذا كان هو مشتغلا بعمله فشك في شيء منه في محله يكر النظر اليه حتى يكون على ثقة من صحته وأدائه كما هو حقه.

ولعمر الحق ان هذا أمر ظاهر لا سترة عليه لمن راجع أفعال العقلاء وديدنهم في أمورهم المختلفة في الجملة ؛ وان كان باب المناقشة في جزئيات المسئلة وحدودها سعة وضيقا واسعا ولكن أصل هذه القاعدة ـ على إجمالها ـ محفوظة عندهم.

والظاهر ان الوجه في بنائهم هذا ان احتمال الغفلة حين الاشتغال بالعمل في حد ذاته أمر مرجوح لا يعتنى به. أضف اليه ان العاقل الشاعر الذاكر حين الفعل لا يأتي بما هو مخالف لأغراضه واهدافه.

وهذا هو بعينه ما أشار إليه الإمام (عليه‌السلام) في عبارة وجيزة لطيفة في رواية «بكير بن أعين» الماضية (١) حيث قال : «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك».

فإنه كالصغرى لكبرى محذوفة تعرف من سياق الكلام وهي ان الذاكر لفعله لا يأتي بما هو مخالف لمقصود وغرضه وإذا انضمت هذه الكبرى الى صغرى مذكورة في كلامه عليه‌السلام

__________________

(١) نقلناها تحت الرقم ٥ في الروايات العامة.

٢٢١

وهو انه «حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» لان احتمال الغفلة أمر مرجوح بالنسبة إلى المشتغل بالعمل حينه ، كان قضيتها صحة العمل وعدم الاعتناء بالشك ، فالصغرى تسد احتمال الغفلة ، والكبرى تسد احتمال العمد في فعل ما هو مخل بغرضه.

وكذلك قوله في رواية محمد بن مسلم : «وكان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك» (١)

هذا كله مضافا الى ما في هذا الأصل من رفع الحرج عن الناس الذي هو الملاك في كثير من الطرق والأصول العقلائية. وببالي ان صاحب الجواهر (قدس‌سره) تمسك بقاعدة الحرج أيضا في مسئلة الشك في عدد أشواط الطواف التي مضى ذكرها آنفا ، وكأنه (قدس‌سره) أيضا ناظر الى هذا المعنى ، لان مسئلة الشك في عدد أشواط الطواف لا خصوصية لها من هذه الجهة.

وان قال قائل : كيف يكون الذكر هو الأصل في حال الفاعل مع انا كثيرا ما نغفل عن تفاصيل أعمالنا وهل يوجد بين الناس من يكون حاضر القلب ، ذاكرا لجميع أفعال صلوته وسائر عباداته دائما ، اللهم إلا الأوحدي منهم. فالغفلة عن تفاصيل الفعل واجزائه وشرائطه حين العمل لعلها الغالب ، من غير فرق بين الصلاة والصيام والطهارات والحج.

بل يظهر من غير واحد من الروايات الواردة في باب حضور القلب في الصلاة وأبواب الشكوك ان الأمر كان على هذا الحال عند كثير من أصحاب الأئمة وكانوا يشكون عندهم عليه‌السلام عن انصراف قلوبهم عن تفاصيل العمل (أو عن الله) في صلواتهم أو غيرها.

قلنا ـ هذه الغفلات ليست غفلة محضا بل هي مشوبة بنوع من الذكر الإجمالي وذلك لان الإنسان إذا كان بصدد إتيان شيء من المركبات الخارجية ، ولم يعهد به من قبل ، كمن يصلى لأول مرة ، فلا مناص له من الذكر الكامل والعلم التفصيلي عند الإتيان بكل جزء

__________________

(١) نقلناها تحت الرقم ٦ في الروايات العامة

٢٢٢

جزء منه ، بحيث كلما غفل عنه وقف عن العمل لعدم اعتياده به.

ولكن بعد الإتيان به مرات عديدة ـ تتفاوت بتفاوت الاعمال والأشخاص ـ يحصل له ملكة خاصة خاصة ونوع من الارتكاز الإجمالي بالنسبة إلى تفاصيل العمل وخصوصياته واجزائه ، ويقوم ذلك مقام الذكر الكامل والعلم بتفاصيله.

وحينئذ صورة العمل وخصوصياته وان محت عن صفحة ذهنه ، عند غلبة الغفلة ، لكنها بعد مرتكزة في أعماق ذهنه وباطن شعوره ، ولذا يأتي بها غالبا على وجه الصحة حينئذ ولا يقف عنه عند انصراف ذهنه وغلبة الغفلة كالمتردد الحائر ، كيف لا ، والفعل فعل ارادى اختياري لا بد من استناده إلى إرادة ما قطعا.

والحاصل ان الفاعل في هذه المقامات ليس ساهيا غافلا بالمرة ؛ بل هو ذاكر بنوع من الذكر ؛ سمه «الذكر الإجمالي» أو ما شئت.

بقي هنا أمران

الأول ـ ان بناء العقلاء على هذه القاعدة في أمورهم لا يلازم القول باتحاد سعة دائرتها عند الشرع مع ما هو عندهم ، فلو دلت الإطلاقات السابقة على جريانها في موارد لم يثبت استقرار السيرة العقلائية عليها يبنى عليها ، فكم من أصل أو قاعدة أو امارة ثبت في الشرع بنحو أوسع أو أضيق مما عند العرف والعقلاء ، مع كون أصولها متخذة منهم.

الثاني ـ الظاهر ان بناء العقلاء على هذه القاعدة في أفعالهم انما هو في موارد لم يكن قرائن ظنية يعتنى بها على خلافها ؛ فلو كان الفاعل ممن يكثر عليه السهو ، أو نحو ذلك من القرائن والأمارات الظنية الغالبة ، أشكل الركون إليها عند الشك في العمل ولو بعد الفراغ والتجاوز منه.

٢٢٣

٢ ـ في أنها قاعدة واحدة أو قاعدتان

ذهب غير واحد من أعاظم المتأخرين والمعاصرين ـ وفي مقدمهم العلامة الأنصاري (قدس‌سره الشريف) على ما يستفاد من ظاهر كلماته في الرسالة ـ إلى أنها قاعدة واحدة عامة لموارد الفراغ عن العمل والتجاوز عن اجزائه ، بينما ذهب آخرون كالمحقق الخراساني والفقيه النابه الهمداني (قدس‌سرهما) في محكي تعاليقهما على الرسالة إلى أنهما قاعدتان مختلفتان واردتان على موضوعين مختلفين.

واختار المحقق النائيني (قده) في بعض ما ذكره أخيرا في المسئلة مذهبا ثالثا وهو انه ليس هناك إلا قاعدة الفراغ الشاملة لجميع الأبواب ، وموضوعها الاعمال المستقلة التامة ، لا اجزاء عمل واحد ، ولكنه أضاف الى ذلك ان الاخبار الواردة في خصوص الشك في اجزائه الصلاة تدل على ان الشارع المقدس نزل اجزاء الصلاة منزلة الاعمال المستقلة فاجرى فيها تلك القاعدة أيضا.

فبمقتضى حكومة هذه الاخبار على أدلة القاعدة حصل لقاعدة الفراغ فرد ادعائي تنزيلي قبال افرادها الحقيقية.

فإذن لا يبقى مجال للبحث عن تصوير الجامع بينهما ، (فان المفروض كون دخول احد الفردين في الكبرى المجعولة في طول الفرد الأخر لا في عرضه) ، لكي يبحث عن كيفية الجامع بينهما ، فان ذلك انما هو في الافراد العرضية لا غير.

هذا والبحث عن هذه المسئلة تارة يقع في مقام الثبوت ؛ وانه هل يوجد هناك ما بمفاده يكون جامعا بين حكم «الفراغ عن نفس العمل» و «التجاوز عن اجزائه» أو لا يوجد هناك جامع أصلا؟

واخرى في مقام الإثبات وان مفاد اخبار الباب وأدلة القاعدة هل هو جعل قاعدة

٢٢٤

واحدة تشمل بعمومها للشك في اجزاء العمل في أثنائه وللشك في صحته بعد الفراغ عنه ؛ (بعد إحراز إمكانهما من جهة مقام الثبوت).

وبعد ذلك كله نتكلم فيما افاده المحقق النائيني (قدس‌سره) وما اختاره من المذهب الثالث

اما المقام الأول فحاصل الكلام فيه انه قد يتوهم عدم إمكان الجمع بين القاعدتين في لسان واحد وجعل واحد ثبوتا.

واستدل عليه بأمور ذكرها المحقق النائيني (قده) في كلماته في المقام وان لم يرتض بها نفسه وأجاب عنها بما سيأتي نقله ونقده.

أولها ـ ان لازمه الجمع بين اللحاظين في متعلق الشك فان متعلقه في قاعدة التجاوز هو أصل وجود العمل بمفاد كان التامة ، بينما يكون في قاعدة الفراغ صحته بمفاد كان الناقصة ، والجمع بين هذين اللحاظين في إنشاء واحد وخطاب واحد محال.

ويمكن الجواب عنه أولا بأن استحالة الجمع بين اللحاظين في إنشاء واحد ، وكلام واحد ، وكذا استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وان دارت في السن المتأخرين واشتهرت بينهم ، وبنوا عليه ما بنوا من مسائل مختلفة في طيات كتب الأصول الحديثة ، من المشهورات التي لا أصل لها ، وما بنوا عليها من المسائل الأصولية وغيرها ـ وما أكثره وأوفره ـ كلها مخدوشة ممنوعة.

وذلك لما حققناه في محله من وقوع ذلك فضلا عن إمكانه.

وحاصله أر اللحاظ في هذه الموارد لا يجب ان يكون تفصيليا وفي آن واحد حقيقي ، مقارنا لآن صدور الكلام والإنشاء ، بل يجوز تصور هذه الأمور المختلفة تفصيلا من قبل ولو آنا ما ، ثمَّ أشار إليها إجمالا عند الاستعمال وفي آن الإنشاء ، وهذا أمر ممكن جدا بل واقع كثيرا ، وهذه الإشارة الإجمالية كافية في مقام الإنشاء واستعمال اللفظ.

والوجدان أقوى شاهد على ذلك فهل ترى من نفسك إشكالا أو حزازة واستحالة

٢٢٥

في قول القائل عند إنشاء هاتين القاعدتين : «إذا جاوزت عن محل شيء فشكك فيه ليس بشيء سواء كان في أصل وجوده أم في صحته وسواء كان في اجزاء عمل واحد أم في أمور مستقلة.

وهل ترى فرقا بين ان يضيف الى كلامه قوله «سواء إلخ» وبين ان يضمر ذلك في نفسه من غير تصريح به في الكلام؟ أو ليس قوله «سواء إلخ» توضيحا للإطلاق المراد من كلامه السابق ، وهل هو إنشاء جديد مذكور في ذيل الكلام غير ما هو مذكور في صدره؟ كلا وهذا أمر وجداني لا يرفع اليد عنه ببعض السفسطات الباطلة ، كيف وقد عرفت ان اللحاظ الإجمالي حين الإنشاء ، أو استعمال اللفظ ؛ كاف قطعا ولا حاجة الى اللحاظ التفصيلي كي يقع الكلام في عدم إمكان المتعدد منه في استعمال واحد.

هذا مضافا الى ان آن استعمال اللفظ ليس آنا حقيقيا عقليا ، وليس استعمال اللفظ في المعنى من قبيل فناء العنوان في المعنون والمرآت في المرئي كما توهم «فان هذه كلها استحسانات زائفة لا قيمة لها عند أبناء المحاورة إذا رجعنا إليهم ، وكثير منها من قبيل خلط الحقائق بالاعتباريات ، والأمور العقلية بالأمور العرفية ، وتوضيح ذلك أكثر مما ذكر موكول الى محله (١).

__________________

(١) ـ كما ان استعمال اللفظ الواحد في معان متعددة ، بلا ملاحظة جامع بينها ، أمر شائع في ألسنة أبناء المحاورة من أهل الأدب والشعر ، وغيرهم ، ومن الطف ما ذكر في المقام ما أفاده العلامة الخبير والأديب الماهر الشيخ محمد رضا الأصفهاني (قده) في كتابه المسمى به «الوقاية» ناقلا له من بعض الأدباء في وصف نبينا الأعظم سلام الله عليه :

المرتمى في الدجى والمبتلى بعمى

والمشتكى ظمأ والمبتغى دينا

يأتون سدته من كل ناحية

ويستفيدون من نعمائه عينا

يمدح هذا الشاعر ، النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بان كل ذي حاجة يأتي بابه ويستفيد من نعمائه : فمنهم من وقع في ظلماء يبتغى شمسا مضيئة ونورا يهتدى به ، ومنهم من ابتلى بالعمى يطلب عينا يدله على الطريق : ومنهم من يشتكي من الظلماء يروم عينا صافية يرتوي بها ويبرد كبده الحرى ، ومنهم

٢٢٦

وثانيا ـ ان وصف الصحة ـ على ما هو التحقيق ـ ليست من الأوصاف الحقيقية العارضة للعمل حقيقة ، مثل عروض العلم والبياض للإنسان والثلج ، بل هو أمر انتزاعي ينتزع من وجود الشيء جامعا لجميع اجزائه وشرائطه ، ففقدانها انما هو بفقدان جزء من اجزائه أو شرط من شروطه ، ومن المعلوم ان الجعل لا يتعلق بها الا باعتبار منشأ انتزاعها.

فالشك في الصحة يرجع لا محالة إلى الشك في وجود جزء أو شرط بمفاد كان التامة ، فإذن لا يبقى فرق بين متعلق الشك في مورد قاعدة الفراغ ؛ والتجاوز ، فان متعلقه في كل منهما هو الوجود بمفاد كان التامة فتدبر.

وثالثا ـ انه لا يلزم الجمع بين الحاظين لإمكان إرجاع قاعدة الفراغ الى ما هو مفاد كان التامة ؛ بأن يجعل متعلق الشك نفس صحة العمل ، لا اتصاف العمل بالصحة ، والفرق بينهما ظاهر ، لرجوع الأول إلى مفاد كان التامة والثانية إلى مفاد كان الناقصة.

ذكر هذا الوجه الأخير المحقق النائيني (قده) وارتضى به في آخر كلامه بعد ما أورد عليه في أوله بوجهين

__________________

ـ مديون يطلب بدينه يبتغى عين الذهب

كل أولئك يأتون بابه وكل واحد منهم يستفيد منه بما يسد به خلته وبرفع حاجته.

ومن الواضح ان لفظة «العين» في المصراع الأخير استعمل في أربع معان :

العين بمعنى الشمس ، والباصرة ، والنابعة ، وبمعنى الذهب ، كل واحد لو احد من الطوائف الأربع ،.

ولا يخفى على العارف بأساليب الكلام ولطائفها ومن له نصيب من قريحة الشعر وذوق الأدب ، أن لطف هذا الشعر انما هو باستعمال لفظ العين في معان اربع كل واحد مستقل عن الأخر. وإرجاع جميع هذه المعاني إلى معنى جامع قريب أو بعيد مع انه يذهب بلطف الشعر وطراوته ، مخالف للوجدان لعدم انسباقه الى الذهن عند إطلاقه ، ولو كان كذلك لا نسبق اليه بلا تأمل.

كما ان تأويله إلى المسمى به «العين» يأباه الطبع السليم والقريحة الوقادة ولا ينسبق الى الذهن أيضا من اللفظ بالوجدان. وقد أوضحنا جواز استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى بدفع جميع ما ذكروا فيه من الاشكال فيما كبناه في «الأصول اللفظية»

٢٢٧

أحدهما ـ انه مخالف لظاهر اخبار الباب ؛ لظهورها في الحكم باتصاف العمل الموجود بالصحة ، لا بنفس الصحة بعنوان كان التامة ، فإرجاع التعبد فيها الى التعبد بوجود صحة العمل ربما يشبه بالأكل من القفا.

ثانيهما ـ انه لو تمَّ فإنما يتم في باب الأحكام التكليفية ، التي لا يعتبر فيها الإحراز وجود الصحيح خارجا ؛ ولكن لا يتم في باب الأحكام الوضعية ، لأن الأثر يترتب على اتصاف العقد الموجود بالصحة ولا يترتب على مجرد وجود الصحيح في الخارج ؛ فان من الواضح ان مجرد التعبد بهذا لا يترتب عليه أي اثر خارجي ، بل الآثار انما تترتب على هذا الفرد الموجود إذا اتصف بالصحة.

هذا ما افاده المحقق المذكور في هذا المقام ولكن في كلا الوجهين نظر :

اما الأول فلأنه خروج عن محل البحث لما عرفت من ان الكلام هنا في مقام الثبوت ، وما ذكره من مخالفته لظاهر الروايات راجع الى مقام الإثبات ، والاستظهار من الأدلة ؛ وسيأتي الكلام فيه (فتأمل).

واما الثاني فلان الأثر في المعاملات يترتب على ما هو مفاد كان التامة أيضا ولكن مع حفظ المورد والموضوع ؛ مثلا إذا شككنا في تحقق عقد صحيح مستجمع لشرائطه على امرأة خاصة بمهر معين إلى أجل معلوم ، وكان الشك في أصل وجود هذا العقد الخاص بعنوان كان التامة ، ثمَّ ثبت حكم الشارع بوجوده كذلك ، رتبنا عليه الأثر ، وكان لتلك المرأة جميع ما للزوجة من الآثار الشرعية.

وكأنه (قدس‌سره) توهم ان وجود العقد بمفاد كان التامة دائما يلازم إبهامه وإجماله. وعدم تشخيص مورده حتى يترتب عليه الأثر ، مع ان إبهام متعلق العقد أو تعينه وتشخصه لا ربط له بكون الشك في وجوده بمفاد كان التامة أو غيرها ؛ فان متعلق الشك قد يكون وجود عقد خاص معين من جميع الجهات مع كونه من قبيل مفاد كان التامة (تأمل فإنه لا يخلو عن دقة).

٢٢٨

«ثانيها»

ان المركب حيث انه مؤلف من اجزاء ؛ فلا محالة يكون لحاظ كل جزء بنفسه سابقا في الرتبة على لحاظ الكل ، إذ في رتبة لحاظ المركب والكل يكون الجزء مندكا فيه ، مثلا لحاظ كل حرف بنفسه مقدم على لحاظ الكلمة المؤلفة منها ، كما ان لحاظ الكلمة في نفسها مقدم غلى لحاظ الآية ، وهكذا بالنسبة إلى السورة والصلاة جميعا.

و (ح) كيف يمكن ان يراد من لفظ «الشيء» في قوله «كل شيء شك فيه وقد جاوزه إلخ» الكل والجزء معا وبلحاظ واحد ، مع انهما مختلفان في مرتبة اللحاظ؟!

والجواب عنه :

أولا ـ ما مر من إمكان الجمع بين اللحاظين في كلام واحد ، فان هذا الوجه أيضا يرجع في الحقيقة إلى استحالة الجمع بين اللحاظ الاستقلالي للجزء ـ وهو لحاظه بنفسه ـ ولحاظه مندكا في الكل ـ وهو لحاظه التبعي ـ في مرتبة واحدة.

وثانيا ـ ان ما ذكر انما يلزم إذا لوحظ الكل والجزء تفصيلا وبهذين العنوانين ، ولكن لحاظهما بعنوان إجمالي شامل لهما ، كعنوان «العمل» (لا بشرط) فلا مانع منه أصلا فقوله «كل شيء إلخ» في معنى قوله «كل عمل إلخ» فكما يندرج «مجموع العمل» تحت هذا العنوان ، يندرج «جزئه» أيضا فيه على نحو إجمالي ، والحاصل ان الاشكال انما هو في فرض ملاحظة هذين العنوانين بنفسهما ، لا إذا لو خطا بعنوان عام شامل لهما.

والعجب انه (قدس‌سره) مثل له باجزاء الكلمة وكلمات الآية ، وآيات السورة ؛ مع ان كثيرا من الاعلام صرحوا بشمول قاعدة التجاوز بنفسها للاجزاء واجزاء الأجزاء فإذا شك في قراءة السورة بعد مضى محلها جرت فيها القاعدة ، كما انه إذا شك في قراءة آية منها بعد مضى محلها جرت فيها أيضا ؛ فالسورة بنفسها مشمولة لها ، كما ان آية من آياتها أيضا مشمولة ، فراجع «العروة» وتعليقات الاعلام عليها في مسئلة الشك بعد المحل في اجزاء الصلاة.

٢٢٩

فلو كان لحاظ الكل واجزائه في خطاب واحد مستحيلا جرى ذلك في الجزء وو اجزاء الجزء.

ومما ذكرنا تعرف عدم الحاجة في حل الإشكال إلى تكلف القول بأن الأدلة الواردة في المسئلة متكفلة لحكم قاعدة الفراغ عن العمل فقط ، فالمجعول أولا وبالذات هو هذه القاعدة ، الا أن الأدلة الخاصة الواردة في باب إجزاء الصلاة تنزل اجزائها منزلة الكل ، فحصل للقاعدة فردان : فرد حقيقي ، وفرد تنزيلي ، بعد حكومة أدلة قاعدة التجاوز (اى الروايات الواردة في باب الشك في اجزاء الصلاة) على أدلتها ، فإذن لا يلزم الجمع بين اللحاظين في إطلاق واحد أصلا.

ذكر ذلك المحقق النائيني في أواخر كلامه في المسئلة وجعله طريقا لحل هذه العقدة ، والاشكال الاتى في الوجه الثالث من لزوم التدافع بين القاعدتين ، وبنى عليه ما بنى.

ولكن فيه من التكلف والتعسف ما لا يخفى ، وسيأتي توضيحه بنحو أو في ان شاء الله تعالى.

«ثالثها»

لزوم التدافع بين القاعدتين في موارد التجاوز عن محل الجزء المشكوك ، فإنه باعتبار لحاظ الجزء بنفسه ، كما هو مورد قاعدة التجاوز يصدق انه تجاوز عن محله ، فلا يعتنى بالشك فيه ، وباعتبار لحاظ الكل يصدق انه لم يتجاوزه ، فيجب الاعتناء به وتدار كه ، وهذا هو التدافع بينهما.

والجواب عنه ان هذا التدافع ساقط جدا لأنه :

أولا ـ لا تدافع بين نفس القاعدتين ، وانما يكون التدافع ـ على فرض وجوده ـ بين أصل قاعدة التجاوز وعكس قاعدة الفراغ ، وهذا انما يلزم لو كان عكسها كنفسها مجعولة.

واما لو كان المجعول أصلها فقط وكان لزوم التدارك عند عدم الفراغ من باب قاعدة الاشتغال ـ كما هو الظاهر ـ فلا تدافع بينهما أصلا. فإن مخالفتهما من قبيل مخالفة ما فيه

٢٣٠

الاقتضاء وما لا اقتضاء فيه ومن الواضح عدم المنافاة بينهما.

فلزوم تدارك الجزء المشكوك قبل الفراغ من باب عدم وجود ما يعذر به العبد وما يقتضي براءته ، فاذا اقتضى قاعدة التجاوز عدم وجوب التدارك عليه كان عذرا له في تركه ومبرئا للذمة.

والحاصل ان التدافع بينهما ثابت لو كان «عكس» قاعدة الفراغ كأصلها مجعولة وكان كل واحد منهما من قبيل ما فيه الاقتضاء ، فهذا يقتضي التدارك قبل الفراغ عن الكل بينما تكون قاعدة التجاوز مقتضية لعدم وجوبه عند التجاوز عن الجزء ، (فح) يلزم التدافع بينهما ، الا ان يخصص عكس القاعدة بموارد لا تجرى فيها قاعدة التجاوز ، كالشرائط التي تعتبر في مجموع الصلاة ، بناء على عدم جريان قاعدة التجاوز فيها بالنسبة الى الاجزاء السابقة.

هذا ولكن قد عرفت ان المجعول هو نفس القاعدة لا عكسها وان التدارك قبل الفراغ انما هو بمقتضى قاعدة الاشتغال والتكليف الأصلي.

ومن هنا تعرف وجه النظر فيما افاده من الاشكال والجواب في المقام بقوله : «ان قلت» و «قلت» فراجع كلامه.

«رابعها»

ان المعتبر في قاعدة التجاوز هو التجاوز عن «محل المشكوك» والمعتبر في قاعدة الفراغ هو التجاوز عن «نفس العمل» ، فكيف يمكن ارادة التجاوز عن محل الشيء وعن نفسه معا من لفظ واحد؟

والجواب عن هذا الاشكال يظهر مما ذكرناه وأوضحناه في الوجوه السابقة ولاسيما الوجه الأول ، ونزيدك هنا ان الاختلاف بينهما ليس اختلافا في مفادهما وما يراد من لفظ «التجاوز» ومتعلقه وانما هو في المصاديق لا غير.

ففي موارد إحراز نفس العمل مع الشك في صحته من جهة الشك في الإخلال ببعض

٢٣١

ما يعتبر فيه ، يتحقق المضي عنه بالتجاوز عن نفسه ، وفي موارد الشك في نفس الاجزاء يكون المضي عنه بالتجاوز عن محله ؛ فالملاك هو صدق التجاوز عن الشيء والمضي عنه وهو مفهوم واحد وان كان ما يتحقق به مختلفة.

هذا ولكن الإنصاف ان صدق التجاوز عن الشيء بالتجاوز عن محله يحتاج الى نوع من المسامحة لأن التجاوز عن الشيء ظاهر في التجاوز عن نفسه لا عن محله ولكن هذا المقدار لا يوجب إشكالا في اندراج القاعدتين تحت عموم واحد ، غاية الأمر يكون للتجاوز فردان : فرد حقيقي وهو التجاوز عن نفس العمل ، وفرد ادعائي وهو التجاوز عن محله ولا يذهب عليك ان هذا ليس من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ولو قلنا بامتناعه كما لا يخفى ، كما ان هذا غير ما افاده المحقق المذكور من إرجاع إحدى القاعدتين إلى الأخرى.

هذا كله بحسب مقام الثبوت فتحصل منه انه لا مانع من اتحاد القاعدتين وإنشائهما بلفظ واحد ، كما انه لا مانع من إنشائهما بانشائين مختلفين ، لو كان هناك داع اليه ، وقد عرفت ان جميع ما ذكروه من الموانع والإشكالات وجوه فاسدة لا يمكن الركون إليها ، وانه لا يلزم اىّ محذور عقلي من هذه الناحية.

واما بحسب مقام الإثبات وظهور أدلة المسئلة ، فالمستفاد من بناء العقلاء الذي قد عرفت ثبوته في المسئلة وقد أشير إليه في روايات الباب الواردة من أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) أيضا بقولهم : «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» وقولهم «كان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك» هو اتحادهما وعدم الفرق بينهما لاتحاد الملاك في الموردين وان اختلفت مصاديقهما من بعض الجهات.

فما دام الإنسان مشتغلا بعمل يكون خبيرا بحاله ، مقبلا إلى شأنه ، عالما بكيفياته (ولو

٢٣٢

بالعلم الإجمالي الارتكازي الذي عرفته آنفا) فيكون اذكر وأبصر منه حين يشك (عند مضيه وانصرام اجله وانمحاء تفاصيله عن ذهنه). بلا تفاوت في ذلك بين الكل والجزء وبين الفراغ عن نفس الشيء أو التجاوز عن محله.

اما الأدلة النقلية التي هي العمدة في المسئلة فالإنصاف انه لا يستفاد منها ـ على اختلاف ألسنتها وتعابيرها شيئان مختلفان ، بل الناظر فيها ، إذا كان خالي النظر ، غير مشوب الذهن بما دار بين الاعلام من النقض والإبرام في اتحاد القاعدتين واختلافهما ، لا يتبادر الى ذهنه إلا قاعدة واحدة عامة تجري في اجزاء العمل وكلها بعد مضيها وانصرامها.

ولا ينافي ذلك كونها مقيدة ببعض القيود في بعض مصاديقها ؛ كاعتبار الدخول في الغير بالنسبة إلى جريانها في الاجزاء (لو قلنا به) كما سيأتي ان شاء الله.

ويؤيد هذا المعنى تقارب التعبيرات ؛ لو لم نقل باتحادها ، في اخبار الباب الواردة في موارد الفراغ عن نفس العمل ، والتجاوز عن الاجزاء ؛ من التعبير بالمضي (كما في روايتي إسماعيل ومحمد بن مسلم) وان الشك ليس بشيء (كما في روايتي زرارة وابن ابى يعفور).

حتى ان التعبير ب «التجاوز» أو «الدخول في الغير» لا يختص بموارد قاعدة التجاوز (على ما اختاره القائلون بالتعدد) بل ورد ذلك بعينه في الأحاديث الواردة في مورد قاعدة الفراغ أيضا فرواية ابن ابى يعفور المروية عن الصادق عليه‌السلام «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غبرة فليس شكك بشيء إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» بناء على رجوع الضمير في قوله «قد دخلت في غيره» الى الوضوء ، واردة في باب قاعدة الفراغ مع ذكر اعتبار الدخول في الغير فيها وما وقع فيها من التعبير بالتجاوز.

وفي غير هذه الرواية أيضا شواهد على المقصود فراجع وتدبر.

فتحصل من ذلك كله ان الحق هو اتحاد القاعدتين وفاقا لما يظهر من شيخنا العلامة

٢٣٣

الأنصاري وغيره (رضوان الله عليهم).

بقي هنا شيء

وهو انه ما ثمرة هذا النزاع واى فرق بحسب النتيجة بين القول باتحاد القاعدتين وتعددهما؟

وسيظهر لك ذلك في البحوث الآتية لا سيما البحث عن اعتبار الدخول في الغير ، وجريان قاعدة التجاوز في الأعمال المستقلة ، ونحوهما.

٢٣٤

٣ ـ في انها من الامارات أو من الأصول العملية؟

قد وقع الخلاف في ان قاعدة التجاوز والفراغ ـ سواء قلنا باتحادهما كما هو التحقيق أو تعددهما كما عليه شرذمة من المتأخرين والمعاصرين ـ هل هي من الأصول العملية أو مندرجة في سلك الامارات؟.

وأنت إذا أحطت خبرا بما أسلفناه في بيان مدرك القاعدة لا تشك في اندراجها في سلك الأمارات الظنية ، لما عرفت من ان الحق ثبوتها عند العقلاء وأهل العرف قبل ثبوتها في الشرع ، وان ملاكها عندهم هو غلبة الذكر على الفاعل حين العمل (بما عرفت توضيحه).

فهي مبتنية عندهم على «أصالة عدم الغفلة حين العمل» منضمة الى عدم احتمال ارتكاب الفاعل العالم بالاجزاء وشرائط العمل ما هو خلاف مراده ومرامه.

وقد عرفت أيضا ان الشارع المقدس أمضاها بهذا الملاك عينا ، والشاهد له روايتا «بكير بن أعين» و «محمد بن مسلم» (١) ففي الأولى علل الحكم بقوله : هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك ، وفي الثانية بقوله ، وكان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك ، (والانصراف في الصلاة آخر أزمنة الاشتغال بالفعل).

فمع ذلك لا يبقى مجال للتشكيك في حجية القاعدة على نحو سائر الأمارات المعتبرة عقلا وشرعا.

هذا ومن أوضح القرائن عليه انه ورد في غير مورد من الروايات الخاصة إشارات لطيفة الى هذا المعنى لا يبقى معها شك في المسئلة ، وإليك بيانها :

__________________

(١) ذكرناهما تحت الرقم ٥ و ٦ سابقا عند ذكر روايات القاعدة.

٢٣٥

ففي رواية عبد الرحمن عن ابى عبد الله عليه‌السلام الواردة فيمن أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال : قد ركع (١)

وفي رواية أخرى عن فضيل بن يسار عن ابى عبد الله عليه‌السلام أيضا بعد سؤاله بقوله : استتم قائما فلا ادرى أركعت أم لا؟ قال عليه‌السلام : بلى قد ركعت (٢).

وفي رواية ثالثة عن حماد بن عثمان عن ابى عبد الله عليه‌السلام أيضا بعد سؤاله بقوله : أشك وانا ساجد فلا ادرى أركعت أم لا؟ فقال : قد ركعت امضه (٣)

هذا ما ظفرنا به من الروايات الخاصة المشتملة على التصريح بوقوع الفعل المشكوك ووجوده بقوله : «قد ركع» أو : «بلى قد ركعت» أو : «قد ركعت امضه» وقد نقلناها سابقا تحت الرقم ٣ و ٤ و ٥ من الروايات الخاصة الدالة على القاعدة.

وهي شاهدة على كشف القاعدة عن الواقع وان اعتبارها انما هو من جهة كشفها عن ذلك ، لا انها مجرد حكم لرفع الحيرة والشك عند العمل من دون ان تكون ناظرة إلى الواقع وإحرازه ، كما هو شأن الأصول العملية.

نسبتها مع سائر الأصول ـ ومن هنا لا يبقى مجال للشك في تقديمها على الاستصحاب وسائر الأصول العملية الواردة في مواردها ، لتقدم الامارات عليها جميعا.

واما لو قلنا بأنها مندرجة في سلك الأصول العملية أشكل تقديمها على غيرها كالاستصحاب وشبهه.

نعم ذكر شيخنا العلامة الأنصاري في صدر كلامه في المسئلة ان هذه القاعدة مقدمة على خصوص الاستصحاب (وشبهه) وان كانت من الأصول العملية ، لورودها في مورده ولكونها أخص منه مطلقا ؛ فإنه ما من مورد يجرى فيه القاعدة الا وهناك استصحاب يقتضي الفساد (انتهى ملخص كلامه).

وهذا الكلام وان ارتضاه غير واحد ممن تأخر عنه وركنوا إليه في وجه تقديم القاعدة

__________________

(١ و ٢ و ٣) ـ رواها في الوسائل في الباب ١٣ من أبواب الركوع

٢٣٦

على الاستصحاب (على القول بأنها منسلكة في سلك الأصول العملية) الا انه لا يخلو عن نقد واشكال.

وذلك لان موارد جريان القاعدة لا تنحصر بموارد يجرى فيها استصحاب الفساد بل هي على أنحاء ثلثة :

قسم يجرى فيه استصحاب الفساد ، وقسم يجرى فيه استصحاب الصحة ، وقسم لا يجرى فيها استصحاب أصلا ، لا ذا ولا ذاك.

اما الأول فامثلته كثيرة ، واما الثاني فهو كالشك في صحة الصلاة بعد الفراغ عنها من جهة الشك في الطهارة أو الستر أو غيرهما من الشرائط مع القطع بسبق وجودها قبل الصلاة وعدم العلم بحصول خلافها.

والثالث كالشك في الصحة من ناحية هذه الشرائط مع عدم العلم بالحالة السابقة من جهة تعاقب حالتين مختلفتين لا يدرى أيتهما كانت مقدمة على الأخرى.

والموارد التي تكون من القسم الثاني والثالث ليست نادرة لا يعتنى بها حتى يكون حمل العمومات أو الإطلاقات عليها من قبيل الحمل على الفرد النادر ، وتخصيصها بها من التخصيص المستهجن ، بل هي كثيرة جدا ولا سيما القسم الثاني.

اللهم الا ان يقال : انه لا شك في ندرة القسم الثالث كما انه لا شك في لغوية جعل القاعدة لخصوص الموارد التي تكون من القسم الثاني ؛ لكفاية الاستصحاب الجاري فيها وفي غيرها ، الموافق للقاعدة بحسب النتيجة.

فإذن لا يمكن حصر موارد القاعدة فيها ؛ بل لا بد من جريانها في موارد القسم الأول أيضا وهي موارد استصحاب الفساد.

وأحسن من جميع ذلك ان يقال : ان الروايات الخاصة الواردة في بعض مصاديق القاعدة (التي مرت عليك عند بيان مدركها) بل وبعض العمومات الواردة في مورد الشك في الركوع والسجود ومثلهما دليل قاطع على تقديم القاعدة على أصالة الفساد واستصحاب

٢٣٧

العدم ، لوضوح ان هذه الموارد من موارد استصحاب العدم.

فمثل قوله عليه‌السلام في رواية إسماعيل بن جابر عن ابى عبد الله عليه‌السلام ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض وان شك في السجود بعد ما قام فليمض ، كل شيء شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ، وهكذا مصححة زرارة وموثقة ابن ابى يعفور وغير هما دليل واضح على جريانها في موارد أصالة الفساد فتدبر جيدا.

بقي هنا شيء ـ وهو ان القاعدة بامارية القاعدة ـ كما هو المختار ـ لا يوجب الحكم بثبوت جميع لوازمها وملازماتها ، كما دار في السنة كثير من المتأخرين والمعاصرين في باب الامارات وانه تثبت بها جميع ذلك.

مثلا إذا شك بعد الفراغ عن الظهر في صحتها من جهة الشك في الطهارة ، فلا إشكال في الحكم بصحتها وصحة ما يترتب على فعلها من صلاة العصر ؛ واما الحكم بتحقق الطهارة حتى لا يجب تحصيلها للصلوات الاتية فلا ، بل يجب عليه تحصيلها لصلاة العصر وغيرها ؛ فان مورد جريان القاعدة هو نفس صلاة الظهر وهي تدل على صحتها ؛ كأنها أمر معلوم بالوجدان من هذه الجهة (أي من حيث اشتمالها على الطهارة المعتبرة فيها) واما تحقق نفس الطهارة مع قطع النظر عن هذه الحيثية فلا (تأمل فإنه لا يخلو عن دقة).

نعم لو اجرى القاعدة في نفس الطهارة بأن شك في صحتها بعد إحراز أصل وجودها ، كانت كأنّها حصلت بالوجدان ؛ فلا يجب تحصيلها للصلوات الاتية.

والسر في جميع ذلك ما ذكرناه في محله من ان كون شيء أمارة لا يلازم إثبات جميع «ملازماته» وما يقال من إثباتها جميع اللوازم والملازمات ولو بألف واسطة حديث ظاهري خال عن التحقيق ، ولو بنى عليه لزم فقه جديد كما لا يخفى على الخبير ؛ بل انما يترتب عليها من الاثار الواقعية ولوازمها في موردها بمقدار ما ينصرف إليه إطلاق أدلتها ، ويختلف ذلك باختلاف المقامات.

٢٣٨

مثلا لا شك في كون البينة من أوضح الامارات وأتمها دليلا وسعة ، ولكن هل يمكن الأخذ بجميع لوازمها وملازماتها والقول بحجية مثبتاتها كيف كانت؟ مثلا إذا شهد شاهدان أو أكثر بأن زيدا كان جالسا في مكان فلاني ، ثمَّ جاء رجل ورمى الى جانبه سهما لو كان جالسا في مكانه اصابه وقتله ، فهل ترى بمجرد شهادة الشهود اجراء حكم القتل (عمدا أو خطئا) في حقه ولو لم يحصل القطع بوقوع القتل من الأمارة المذكورة ، استنادا الى ان ذلك من آثارها الشرعية ولو بوسائط؟

أو انه إذا قامت البينة بأن هذا اليوم أول يوم من شوال ويوم فطر وعلمنا ان زيدا يجيء من سفره ذاك اليوم بعينه فهل يمكن ترتيب آثار مجيء زيد بمجرد هذه الشهادة؟ (فتدبر فإنه حقيق به).

٢٣٩

٤ ـ في اعتبار الدخول في الغير وعدمه

اختلفوا في اعتبار الدخول في الغير وعدمه في جريان القاعدة على أقوال :

الأول ـ ما يستفاد من كلمات شيخنا العلامة (قدس‌سره) في هذا المقام من اعتباره في جميع الموارد ولكن هذا «الغير» لا يجب ان يكون دائما فعلا وجوديا بل يجوز ان يكون حالة عدمية أحيانا ، مثلا بالنسبة إلى مجموع الصلاة هو الحالة الحاصلة بعدها ولو لم يدخل في فعل وجودي بعد ، وإليك نص عبارته :

«الأقوى اعتبار الدخول في الغير وعدم كفاية مجرد الفراغ ، الا انه قد يكون الفراغ عن الشيء ملازما للدخول في غيره ، كما لو فرغ عن الصلاة والوضوء ، فان حالة عدم الاشتغال بهما بعد مغايرة لحالهما وان لم يشتغل بفعل وجودي ، فهو دخول في الغير بالنسبة إليهما».

الثاني ـ اعتبار الدخول في فعل وجودي بعد العمل ، يظهر ذلك من كلمات المحقق الخراساني (قده) في تعليقاته على «الرسائل» حيث انه بعد ما صرح باعتبار الدخول في الغير في مورد قاعدة التجاوز عند الشك في اجزاء فعل واحد ، قال :

واما قاعدة الفراغ فالظاهر منها أيضا اعتبار الدخول في الغير لظهور قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة في الوضوء : «وقد صرت الى حال آخر» وصدر موثقة ابن ابى يعفور : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره» انتهى.

وكلامه هذا مبنى على إرجاع ضمير «غيره» في الحديث الى الوضوء ، الى دخلت في غير الوضوء من الأفعال الوجودية (لا في غير ذاك الجزء) واستدلاله بهاتين الروايتين دليل على عدم اكتفائه في ذلك بمجرد الفراغ عن العمل وعدم كفاية مجرد صدق عنوان

٢٤٠