القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

قوله لا ضرر اى لا يضر الرجل أخاه وهو ضد النفع وقوله لا ضرار اى لا يضار كل منهما صاحبه ؛ وفي «الدر المنثور» للسيوطي : لا ضرر اى لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه ، ولا ضرار اى لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه ، وفي «تاج العروس» مثل هذا بعينه ، وكذا «الطريحي في المجمع» انتهى موضع الحاجة من كلامه.

هذا ولكن الإنصاف ان ما افاده هذا الشيخ الجليل العلامة المدقق غير كاف في إثبات مرامه ، لأن إرادة النهي من لفظة «لا» فيما نقله من التراكيب المشابهة لحديث الضرر غير معلوم ، بل الظاهر ـ كما يظهر بالتأمل ـ ان «لا» في جميعها حتى في قوله تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) ، وقوله تعالى (لا مِساسَ) مستعملة في معنى النفي ؛ فليس معنى قوله (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) ، لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الحج ، بل مفادها نفى وجود هذه الأمور عن ناحية الحج وان كان لازمه النهى عنها ولكن بينه وبين ما افاده من استعمال «لا» في النهي فرق ظاهر ستطلع على آثاره عند بيان المعنى المختار ، والشاهد عليه ان المتبادر من أمثال هذه التراكيب عند العرف الساذج ليس إلا النفي فهل يحتمل احد ان قوله تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) ، معناه المطابقي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الحج؟ ولعل منشأ الشبهة هو ما ذكرنا من ان النفي في كثير من هذه التراكيب كناية عن النهى فاشتبه المعنى الكنائي بالمعنى المطابقي ، وسيظهر لك ان بينهما فرقا كثيرا من حيث النتيجة.

ثمَّ لا يخفى عليك ما في هذا التعبير الكنائي من لطف البيان وافادة المراد بوجه آكد ، وان هذا الا نظير قول الرجل لخادمه : ليس في بيتي الكذب والخيانة ليعرفه بأبلغ البيان ان هذه الأمور مما لا ينبغي له ارتكابه في بيته ابدا ومن ارتكبها كان خارجا عن أهل البيت ويظهر ذلك بالرجوع الى الارتكاز الذي نعهده من مثل هذه التراكيب في العربية بل وفي غيرها من الألسنة ، فإنا لا نشك بعد التأمل في موارد استعمالها ان كلمة «لا» ومعادلها من سائر اللغات في هذه الموارد استعملت في النفي الذي هو معناها الأصلي إذا دخلت على الاسم.

ومن أقوى الشواهد على ذلك انه يصح تبديلها بغيرها من حروف النفي ، فيقال

٦١

بدل قوله (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) ، ليس في الحج رفث ولا فسوق ولا جدال فهل يمكن القول بان «ليس» أيضا استعملت في معنى النهى؟ ـ هذا مضافا الى عدم إمكان إرادة النهي من بعض هذه التراكيب بوجه من الوجوه وهل يمكن ان يقال ان معنى قوله «لا إخصاء في الإسلام» هو «لا تخصوا في الإسلام» وهل لنا انس بهذا التعبير وهل الإسلام يمكن ان يكون ظرفا للاخصاء؟

واما ما نقله «قدس‌سره» عن أئمة اللغة فلعل نظرهم إلى النتيجة والمغزى لا الى المعنى المطابقي كما هو دأبهم في سائر المقامات لما قد عرفت من انا لا نضائق عن القول بإرادة معنى النهى بالمآل عن هذا النفي بعنوان الكناية وانما الكلام هنا في مفاد كلمة «لا» هذا مضافا الى ان حجية قولهم في أمثال هذه التراكيب التي نعلم وضع مفرداتها بل وهيئاتها في الجملة من دون الحاجة الى الرجوع إليهم مشكل ولو قلنا بحجية قول اللغوي.

هذا كله مع ما عرفت في مقدمات البحث من قوة احتمال ورود هذه الفقرة ذيل رواية الشفعة التي لا تناسب النهى أصلا بل ظاهرها النفي لجعلها كبرى كلية للحكم الوضعي المذكور في صدر الرواية ولو قلنا بورود قيد «في الإسلام» بعد قوله لا ضرر ولا ضرار كان ارادة النفي هنا أوضح كما مر في المقدمات.

واما المعنى الثالث فغاية ما يمكن ان يقال في توجيهه ان الضرر إذا كان متداركا لم يصدق عليه عنوان «الضرر» بنظر العرف وان صح إطلاقه عليه بالدقة العقلية فنفى الشارع للضرر على الإطلاق مع ما نرى من وجوده في الخارج دليل على ان جميع أنواع الضرر الحاصلة من ناحية المكلفين متداركة بحكم الشرع ، وان فاعلها مأمور بتداركها وجبرانها ، والألم يصح نفيها ، فهذا القيد اعنى «عدم التدارك» انما يستفاد من الخارج من باب دلالة الاقتضاء.

وأورد عليه العلامة الأنصاري قدس‌سره بعد عده اردء الوجوه بان الضرر الخارجي لا ينزل منزلة العدم بمجرد حكم الشارع بلزوم تداركه وانما يصح ذلك إذا كان الضرر متداركا فعلا وخارجا ، واستحسنه المحقق النائيني (قده) وقال : انه حرى بالتحقيق

٦٢

خصوصا لو أريد من لزوم التدارك وجوبه التكليفي من دون اشتغال ذمة الضار بشيء ، فإن مجرد حكم الشارع بوجوب تداركه لا يبرر عده كالعدم.

هذا والانصاف ان شيئا مما ذكراه ـ أعلى الله مقامهما ـ غير وارد على هذا الوجه بل لقائله أن يقول : ان النفي هنا بلحاظ عالم التشريع والخارج كما التزم به المحقق النائيني في بيان مختاره على ما عرفت في الوجه الأول ؛ فالشارع لا يرى الضرر الذي حكم بتداركه من قبل الضار ضررا في عالم التشريع ، لأنه متدارك فعلا بلحاظ حكمه ، فلا يرى منه بهذا النظر عين ولا اثر فالتدارك فعلى بهذه الملاحظة لا شأنى.

ومنه تعرف انه لا فرق في ذلك بين الإلزام تكليفا بتدارك الضرر أو اشتغال ذمة الضار بشيء لأن وجهة نظر الشارع في مقام التشريع في الحقيقة الى من يأتمر بأوامره وينتهى بنواهيه ، ولو لا ذلك لم يكن لاشتغال الذمة أيضا أثر في عده كالمعدوم إذا فرضنا المكلف عاصيا غير معتن بتشريعات الشارع المقدس وأحكامه الوضعية والتكليفية. نعم يرد على هذا الوجه أمران آخران يخربان بنيانه من القواعد : أحدهما ـ انه لو كان مراده النفي بلحاظ عالم التشريع (وقد عرفت انه لا مناص منه) فلا داعي لتقييد الضرر المنفي بغير المتدارك بل يجوز نفى وجود الضرر بهذا اللحاظ مطلقا فيرجع الى عدم جعل الأحكام الضررية كما هو مفاد الوجه الأول فلا تصل النوبة الى هذا الوجه ، والحاصل انه لا دليل على تقييد نفى الضرر بغير المتدارك على كل حال ثانيهما ان التدارك في عالم التشريع بل وفي الخارج أيضا لا يكفي في سلب عنوان الضرر حقيقة عما هو مصداقه مع قطع النظر عن التدارك بل هو نوع من التسامح العرفي أو نحو من المجاز بلحاظ الاشتراك في الاثار ، فان الضرر المتدارك في حكم العدم من جهة كثير من الاثار نعم لو كان التدارك من جميع الجهات والحيثيات بحيث لا يرى أهل العرف فرقا بين التالف والبدل في شيء من الخصوصيات حتى من جهة الزمان بان يكون التدارك بعد التلف بلا فصل أمكن الحكم بسلب عنوان الضرر منه بالنظر العرفي وان كان ضررا بالدقة العقلية ، ولكنه أيضا غير صاف عن شوب الاشكال.

واما الوجه الأول فغاية ما يمكن ان يقال في تقريبه هو ما ذكره المحقق النائيني

٦٣

في كلام طويل له في المقام حاصله :

«ان النفي في المقام وأشباهه من حديث الرفع ولا صلاة الا بطهور وغيرهما محمول على معناه الحقيقي بالنظر الى عالم التشريع ، فإن الأحكام التكليفية وكذا الوضعية أمرها بيد الشارع ان شاء رفعها وان شاء وضعها ، فالنفي إذا تعلق بحكم شرعي يكون نفيا حقيقيا لارتفاعه واقعا في عالم التشريع ، هذا بالنسبة إلى النفي ، واما إطلاق «الضرر» على الأحكام المستلزمة له فهو أيضا حقيقي ، لأن إطلاق المسببات التوليدية كالإحراق على إيجاد أسبابها شائع ذائع ، فمن ألقى شيئا في النار يقال انه أحرقه ، قولا حقيقيا.

وحينئذ نقول : كما ان الشارع إذا حكم بحكم شرعي وضعي أو تكليفي يوجب الضرر على المكلفين يصدق انه أضر بهم وليس هذا إطلاقا مجازيا ، فكذا إذا نفاه يصدق عليه انه نفى الضرر عنه ، نعم لو كانت الأحكام الشرعية من قبيل المعدات للضرر لا من قبيل الأسباب ، أو كان من قبيل الأسباب غير التوليدية كان اسناد الضرر الى من أوجدها إسنادا مجازيا ، ولكن الأحكام الشرعية ليست ، كذلك بل حكم الشارع بالنسبة إلى محيط التشريع كالسبب التوليدي لا غير ، اما في الأحكام الوضعية فواضح ، فان حكم الشارع بلزوم البيع الغبني مثلا يوجب إلقاء المغبون في الضرر وكذا في أشباهه واما في الأحكام التكليفية فإسناد الإضرار فيها الى الشارع انما هو بملاحظة داعي المكلف وإرادته المنبعثة عن حكم الشرع ؛ ففي الحقيقة الحكم التكليفي سبب لانبعاث اراده المكلف وهي سبب للفعل ، فهو أيضا من سنخ الأسباب التوليدية» هذه خلاصة ما افاده وقد لخصناه لطوله.

ويرد عليه أمور :

أولها ـ ان النفي بلحاظ عالم التشريع دون الخارج بنفسه نوع من المجاز ، لأن ألفاظ النفي والإثبات موضوعة للوجود والعدم الخارجيين ، اما الوجود والعدم في وعاء الاعتبار والتشريع فليسا وجودا وعدما حقيقيا ، بل هما نوع من الوجود والعدم الادعائيين ، فالحكم بالعدم على ما انعدم في ذاك العالم وبالوجود على ما وجد فيه ؛ وكذا حمل

٦٤

عنوان الضرر على الأحكام المجعولة فيها كلها تحتاج الى نوع من العناية والمسامحة ، بل إطلاق العالم على ذاك العالم الفرضي الاعتباري أيضا من باب المجاز ؛ غاية الأمر انها من باب الحقيقة الادعائية (والمجازات كلها أو جلها من هذا القبيل على المختار) فالشارع المقدس إذا اعتبر شيئا نفيا أو إثباتا في عالم التشريع فقد جعله فردا ادعائيا للوجود والعدم الخارجيين وأطلق الألفاظ عليه بهذه الملاحظة ، والحاصل ان النفي في المقام وأشباهه ليس محمولا على معناه الحقيقي.

ثانيها ـ انه لو سلمنا ان النفي هنا حقيقي بلحاظ عالم التشريع ـ كما افاده ـ لم تبق حاجة في توجيه انطباق عنوان «الضرر» على الأحكام الضررية إلى بحث الأسباب التوليدية ، فإن جعل الأحكام الضررية ؛ وضعية كانت أو تكليفية ، بنفسه مصداق لعنوان الإضرار في وعاء التشريع لا سبب له ، فان الجعل والاعتبار في عالم التشريع كالإيجاد في عالم التكوين ، فمن شرع قانونا ضرريا فقد أضر بمن يشمله بنفس هذا الجعل وبعبارة أخرى : الحكم بجواز أخذ مال الغير بغير حق ، بالنسبة إلى عالم التشريع كالأخذ منه في عالم الخارج ، فكما ان أخذه منه بنفسه مصداق للضرر فكذلك الحكم بالجواز في عالم التشريع مصداق له بهذا النظر فبنفس هذا الحكم ينتزع منه المال في عالم الاعتبار ويعطى غيره ولا فرق فيه بين الأحكام التكليفية والوضعية ، نعم لو كان النفي بلحاظ عالم التكوين مست الحاجة الى بحث الأسباب التوليدية في توجيه انطباق عنوان الضرر على الأحكام الضررية كما لا يخفى.

ثالثها ـ ان ما ذكره من كون الأحكام التكليفية من سنخ الأسباب التوليدية بتوسيط ارادة المكلفين المنبعثة من تلك الاحكام فهو أيضا في غير محله ، فإن أفعال المكلفين وان استندت إلى إراداتهم الا ان إراداتهم مستندة الى اختيارهم ـ على ما هو التحقيق من بطلان الجبر ـ فليست الأحكام الشرعية عللا توليدية للإرادة بل العلة لها هو الاختيار والاحكام من قبيل المعدات والدواعي المؤكدة لاختيار احد الطرفين لا غير هذا مضافا الى انه لو تمَّ هذا البيان كان اللازم الحكم بصدق عنوان الضرر في عالم الخارج لا عالم التشريع لان انبعاث الإرادة عن الأحكام التكليفية يوجب تحقق الفعل

٦٥

في الخارج ، فنفى التكليف الضرري يستلزم نفى وجود الضرر في هذا الوعاء ولو من طريق إعدام إرادة المكلفين المنبعثة عنه ، فكأنه وقع الخلط في كلامه قدس‌سره بين ظرفى الخارج والتشريع.

وهذه الإيرادات واردة على التقريب الذي اختاره المحقق النائيني في بيان الوجه الأول ، واماما يرد على هذا الوجه على جميع تقريباته ويهدم بنيانه من القواعد فهو : انه مبنى على ان الفاعل للضرر في قوله لا ضرر ولا ضرار هو الشارع المقدس بان يكون المنفي في الحقيقة إضرار الشارع بالمكلفين ، ومئاله الى نفى الأحكام المستلزمة للضرر فحاصل معنى الرواية على هذا انه لا ضرر ولا ضرار من ناحية الشارع على المكلفين فإنه لم يكتب عليهم أحكاما وضعية أو تكليفية توجب الإضرار بهم كلزوم البيع الغبني على المغبون ووجوب الوضوء والصوم الضرريين وغيرها من أشباهها ؛ فنفى العبادات الضررية بهذه القاعدة تنادي بأعلى صوته بان الفاعل للضرر في هذه الفقرة عندهم هو الشارع لا غير.

مع ان هناك قرائن كثيرة تشهد على ان الفاعل هو الناس بعضهم ببعض ، فالمنفي في الحقيقة نفى جواز إضرار بعضهم ببعض (وضعا أو تكليفا) لا أقول ان النفي بمعنى النهى كما اختاره المحقق الأصفهاني ، بل هو بمعناه الأصلي ولكن المنفي هو الضرر الناشي من ناحية المكلفين ، وسيأتي تحقيق هذا المعنى وبيان نتائجه عند بيان المذهب المختار إنشاء الله ، والذي يدل على ان الفاعل في هذه الفقرة هو الناس لا الشارع المقدس أمور :

منها ـ ان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «انك رجل مضار» بمنزلة الصغرى لقوله «لا ضرر ولا ضرار» ولا شك ان الفاعل في هذه الجملة هو «سمرة بن جندب» فهو من أقوى الشواهد على ان الفاعل في الفقرة الثانية أيضا هم المكلفون لا غير.

ومنها ـ ان كلمة «ضرار» بما له من المعنى وهو الضرر العمدي الناشي عن الأغراض الفاسدة كما قويناه لا تناسب كون الفاعل هو الشارع المقدس قطعا ؛ لان احتمال إضرار الشارع بالمكلفين بهذا الوجه منفي مطلقا عند كل احد من غير الحاجة الى البيان

٦٦

بل الذي يحتاج اليه هو نفى إضرار بعض المكلفين ببعض كذلك ، مثل ما في قضية سمرة

ومنها ـ قوله في ذيل رواية «منع فضل الماء» التي رواها عقبة بن خالد : «انه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء وقال لا ضرر ولا ضرار» بناء على ان ورود هذه الفقرة ذيلها كما قويناه ظاهر في ان نفى الضرر والضرار بمنزلة التعليل للنهى عن منع فضل الماء ، فكأنه قال لا يمنع صاحب البئر فضل مائه لما فيه من الإضرار بالممنوع ، وإضرار الناس بعضهم ببعض منفي في الشريعة ، فظاهر هذه الرواية أيضا كون الفاعل ، المكلفين واحتمال كونه هو الشارع يحتاج الى تكليف بعيد.

هذا مضافا الى ظهور كلمات أئمة اللغة في ذلك حيث انهم فسروه بما يرجع الى النهي عن الإضرار ، ومن الواضح انه لا يتم الا على كون الفاعل هو الناس وقد عرفت عند التعرض لما اختاره المحقق الأصفهاني ونقده انه لا يستفاد من تفسيرهم ان لفظة «لا» استعملت في النهى وان كان كناية عنه فراجع ، والحاصل ان هذه التفسيرات أيضا مؤيدة لما ذكرنا ، وكذا ما يظهر من ائمة الفقه ومهرته من التمسك بهذه القاعدة في أبواب المعاملات وما يحذو حذوها مما يرجع الى مناسبات بين الناس وليس التمسك بها في أبواب العبادات بهذه المثابة كما لا يخفى على من له انس بكلماتهم.

ومما ذكرنا يظهر حال الوجه الثاني من الوجوه المذكورة في معنى الحديث ، حيث انه يشترك مع الوجه الأول من جهات شتى وان كان قابلا للتطبيق على المذهب المختار كما سنشير اليه فيما يلي.

فذلكة الكلام في معنى الحديث

قد عرفت مما ذكرنا في توضيح الوجوه التي ذكرها الاعلام في تفسير الحديث وما يتوجه إليها من الإيرادات أمورا :

الأول ـ ان كلمة «لا» هنا بمعنى النفي لا النهي

الثاني ـ ان الفاعل للضرر في قوله «لا ضرر ولا ضرار» هو الناس لا الشارع المقدس

الثالث ـ ان المنفي هو نفس الضرر والضرار لا الاحكام التي ينشأ منها الضرر ولكنه كناية عن عدم امضائهما في الشرع ، ومن هذه الأمور يستنتج المذهب المختار في

٦٧

تفسير الحديث.

بيان ذلك : ان ظاهر هذه الفقرة نفى وجود الضرر والضرار بين المكلفين ، ولكن عدم صدق هذا المعنى في الخارج ، مضافا الى قرينة المقام ، وهو كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله بصدد بيان الحكم الشرعي والقضاء بين الأنصاري وسمرة بن جندب ، يكون شاهدا على انه كناية عن عدم إمضاء هذا الفعل الضرري في الشريعة لا وضعا ولا تكليفا فكأنه إذا لم يمضه لا يرى منه عين ولا أثر في محيط التشريع ؛ وان هو إلا نظير قول الرجل لخادمه لا يكون : في بيتي الخيانة والكذب وقول الزور ، يعنى ان هذه الأمور غير مجازة عندي فكأني لا ارى منها عينا ولا أثرا ؛ فنفى هذه الأمور كناية عن نفى إمضائها وعدم ترخيصها بوجه من الوجوه وكذا الكلام في أشباهه مثل قوله : لا رهبانية في الإسلام ولا إخصاء في الإسلام حيث ان المنفي فيها أيضا نفس هذه الافعال ولكنه تفيد نفى الترخيص والإمضاء بأبلغ الوجوه كما هو الشأن في جميع الكنايات.

ومن ذلك تعرف ان مفاد الحديث لا ينحصر في النهي التكليفي عن الإضرار بالغير بل يعمه والأحكام الوضعية ، فكما ان دخول سمرة بن جندب على الأنصاري بغير استيذان منه ضرر منهي عنه تكليفا فكذلك البيع الغبني إذا ووقع على وجه اللزوم بنفسه مصداق للضرر والإضرار فهو أيضا غير ممضى من ناحية الشرع وعدم إمضائه يساوق عدم نفوذه وتأثيره.

وهذا المعنى المختار وان وافق ما ذهب إليه الأكثر من حيث النتيجة في أكثر نواحيها الا انه يفارق عنه في أبواب العبادات الضررية من الوضوء والصوم الضرريين وما ضاهاهما ، فعلى مختارهم يمكن نفى وجوبهما بهذه القاعدة ولكن على المختار لا يمكن لعدم أوله إلى الضرر والإضرار بين الناس وقد عرفت ان الفاعل للضرر المنفي هو الناس لا الشارع المقدس وهذا فرق ظاهر بين المذهبين من حيث النتيجة ، فلا تغفل.

لا يقال ـ : ان قوله لا ضرر ولا ضرار وان لم يكن ناظرا الى غير الضرر الناشي من أفعال المكلفين ؛ من المضار الناشئة من احكامه تعالى ، الا انه يمكن استفادة حكمه منه بالأولوية القطعية فإن الشارع إذا نهى عن إضرار الناس بعضهم ببعض ومن عليهم بهذا

٦٨

الحكم كيف يرضى بالقائهم في الضرر من ناحية أو أمره ونواهيه ؛ فاذن لا يبقى شك في ان تكاليفه لا تشتمل على ضرر ؛ وان وجد ما ظاهره ذلك من عموم أو إطلاق يشمل موارد الضرر فاللازم تخصيصه وتقييده. واما الأحكام المشتملة على الضرر دائما أو غالبا فضررها متدارك لا محالة بما فيها من المصالح الغالبة ويكشف عن ذلك حكمه بها مع هذا الحال فهي وان كانت ضررية بظاهرها ، ولكن لا ريب في ان الشارع حكم بها لمصالح تفوق على ما فيها من المضار فالجهاد وان كان فيه تلف النفوس ، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ، الا ان فيه عز المسلمين وحفظ بيضة الإسلام وثغوره ، واحكامه وحدوده وفيه من المنافع العاجلة والآجلة ما لا يحصى ، ومن الواضح ان كون الشيء نافعا أو ضارا تابع لا قوى الجهات الموجودة فيه من المنافع والمضار ، ولا يزال العقلاء يقدمون على أمور فيها ضرر من بعض الجهات لمنافع أقوى تترتب عليها ، ولا يسمونها ضررا وشرا بل يعدونها نفعا وخيرا ، والحاصل انه لا بد من تقييد إطلاقات الأحكام الواردة في غير هذه الموارد وحصرها على غير موارد الضرر.

لأنا نقول : إذا كان حكم الشارع في الموارد التي تستلزم الضرر دائما أو غالبا كاشفا عن مصالح تربو على المضار الظاهرة فيها ومعه لا يكون الحكم ضرريا فليكن إطلاق حكمه أو عمومه في مثل الصوم والوضوء الشامل للصوم والوضوء الضرريين أيضا كاشفا عن وجود مصالح في هذه الموارد ينتفي معها عنوان الضرر ، فالتمسك بالأولوية القطعية في هذه الموارد والتعدي من دليل نفى الضرر إليها بهذه الأولوية ممنوع جدا بعد عدم إحراز موضوع الضرر فيها بل وإحراز عدمه.

ومن أقوى المؤيدات على ما ذكرنا من عدم شمول دليل نفى الضرر للعبادات الضررية وأمثالها من التكاليف التي ينشأ منها الضرر في بعض مصاديقها ان قدماء الأصحاب بل وكثير من متأخريهم (فيما حضرني من كلماتهم) مع استقامة أنظارهم في فهم المفاهيم العرفية من الكتاب والسنة لم يفهموا من قاعدة نفى الضرر شمولها لمثل هذه الاحكام ولم يستندوا إليها في أبواب العبادات الضررية ، وانما استدلوا بها في أبواب المعاملات مثل خيار الغبن وغيره مما يرجع الى إضرار الناس بعضهم ببعض

٦٩

فقط فهذا من المؤيدات القوية لما استظهرناه من ان دليل نفى الضرر لا يدل على نفى هذه الاحكام لا بمعناه المطابقي ولا بالأولوية القطعية ، وإليك بعض ما حضرني من كلماتهم عاجلا ولا بد من التتبع والتأمل لكي يظهر حقيقة الحال.

قال شيخ الطائفة في المسألة ١١٠ من كتاب الطهارة في باب أحكام الجبائر : «انه إذا خاف التلف من استعمال الماء أو الزيادة في العلة يمسح عليها ، ثمَّ قال دليلنا قوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وإيجاب نزع الجبائر فيه حرج ، ثمَّ استدل بالإجماع وببعض الاخبار ولم يستدل بقاعدة لا ضرر ، ومثله استدلاله في غير واحد من مسائل التيمم فراجع.

وقال المحقق في «المعتبر» في مسألة خوف زيادة المرض أو بطؤ برئه أو ظهور الشين في الأعضاء انه يجوز التيمم في هذه الحالات ثمَّ استدل له بقوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وغيره من الأدلة ولم يستدل بهذه القاعدة.

وكذا العلامة قد استدل في «التذكرة» بجواز التيمم عند خوف الشين في البدن باستعمال الماء بقوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، ولم يستند إلى قاعدة نفى الضرر.

وافتى صاحب المدارك في مسألة من وجد الماء بثمن يضر بالحال بجواز التيمم ، وذكر في تأييد هذه الفتوى بعد الاستدلال بالروايات بقوله (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وقوله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ، وهكذا في غير واحد من موارد الضرر في أبواب التيمم استدل بقاعدة نفى الحرج ولم يتعرض لقاعدة نفى الضرر أصلا.

فهؤلاء الاعلام وغيرهم رضوان الله عليهم مع استنادهم غالبا في أبواب المعاملات مثل مسألة خيار الغبن وغيرها بقاعدة نفى الضرر لا يستندون إليها ـ فيما حضرنا من كلماتهم ـ في أبواب العبادات الضررية وغيرها من التكاليف التي تكون من حقوق الله ولا ترجع إلى معاملة الناس بعضهم ببعض ، وأظن أن الاستناد بهذه القاعدة في هذه الأبواب نشأ بين المتأخرين أو متأخري المتأخرين من الأصحاب ، وقد عرفت ان القرائن

٧٠

الكثيرة الموجودة في نفس روايات الباب تشرف الفقيه على القطع بعدم شمولها لها ، وفتاوى الأصحاب أيضا شاهدة له ، ولو تنزلنا منه وحكمنا باجمالها فاللازم أيضا الأخذ بالمتيقن منها فتبقى إطلاقات أدلة هذه التكاليف سليمة عن المعارض أو الحاكم.

هذا ولكن الذي يسهل الخطب إمكان الاستناد إلى قاعدة «نفى الحرج» في جل هذه الموارد فيستغنى بها عن غيرها ولكن مع ذلك تظهر الثمرة في موارد نادرة يصدق عليها عنوان الضرر دون الحرج فراجع وتأمل.

***

وهنا احتمال آخر في معنى الحديث يحكى عن بعض «أعاظم العصر» وهو ان مفاد هذه القاعدة حكم سلطاني بمنع إضرار الناس بعضهم ببعض ، فإن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مقامات ثلثة : مقام النبوة وتبليغ الرسالة وهو من هذه الجهة مبلغ عن الله وحاك لاحكامه الظاهرية والواقعية ، كالمجتهد بالنسبة إلى الأحكام الشرعية المستفادة من الكتاب والسنة ، و «مقام القضاء» وذاك عند تنازع الناس في حقوقهم وأموالهم فللنبى القضاء وفصل الخصومة بينهم ، و «مقام السلطنة» والرئاسة من قبل الله ، نافذ امره ونهيه فيما يراه مصلحة للأمة كنصب أمراء الجيوش والقضاة وأشباهها.

وظاهر ان حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله في قضية سمرة بنفي الضرر والضرار ليس من الأول ولا الثاني ، لأنه لم يكن للأنصاري ـ ولا لسمرة ـ شك في حكم تكليفي أو وضعي في قضيتهما ، أو تنازع في حق اختلفا فيه من جهة اشتباههما في المصاديق أو الحكم ، وانما وقع ما وقع من الأنصاري في مقام الشكوى والتظلم والاستنصار منه صلى‌الله‌عليه‌وآله بما انه سلطان على المسلمين وسائسهم مع وضوح الحكم والموضوع كليهما ، فأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلع النخلة حسما لمادة الفساد ثمَّ عقبه بقوله لا ضرر ولا ضرار ، فهذا حكم سلطاني عام بعد حكمه الخاص ؛ ومعناه انه لا يضر أحد أحدا في حمى سلطاني وحوزة رعيتي وعلى جميع الأمة إطاعته في ذلك والانتهاء بنهية ، لا بما انه حكم من احكام الله بل بما انه حكم من قبل سلطان مفترض الطاعة ويشهد لهذا المعنى تصدير هذه الفقرة في رواية «عبادة بن صامت» المروية من طرق العامة بقوله : وقضى. الظاهر في هذا النوع من الحكم. هذا ملخص ما يحكى

٧١

عنه دام علاء في كلام طويل له في المقام.

ولكن لا يخفى على المتأمل انه لا يمكن عد هذا معنى آخر للحديث بل يئول الى المعنى الثالث من المعاني السابقة الذي اختاره شيخ الشريعة الأصفهاني قدس الله سره الشريف (من ارادة النهي من هذه الفقرة) غاية الأمر ان ظاهر القائلين بهذا المعنى هو النهي التشريعي على وزان سائر الأحكام الشرعية ومفاد هذا البيان كونه سنخا آخر من النهى سماه نهيا سلطانيا ، ومن المعلوم انه لا يظهر ثمرة بينهما بعد وجوب امتثال كل منهما على جميع الأمة بلا تفاوت في ذلك ، والظاهر انه دام علاه أيضا ليس بصدد ذلك بل بصدد بيان تقريب آخر في إثبات كون «لا» بمعنى النهى لا النفي خلافا للعلامة الأنصاري قدس الله سره واتباعه ، فلا يكون هذه القضية ناظرة إلى نفى الأحكام الضررية وحاكمة عليها ولا يجوز الاستدلال بها لنفي الأحكام الضررية مطلقا ومع ذلك يرد عليه أولا ـ ان كون «لا» هنا ناهية خلاف التحقيق كما مربيانه مشروحا وثانيا ـ انه ان كان مراده من مقام سلطنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ان له تشريعا كتشريع الله في الأحكام الكلية على الموضوعات الكلية كالسلاطين في سابق الأيام ـ وان كانت سلطنته حقة ـ إعطاء الله ذلك رعاية لمقامه السامي ، فهذا كما ترى ولا يظن ان يكون هذا مراده.

وان أراد ان له مقام ولاية الأمر والحكومة الشرعية بمعنى ان «الأمور الخاصة الجزئية» التي ترتبط بمصالح الأمة ، مما لا تندرج تحت ضابطة كلية ، كنصب الولاة وأمراء الجيوش وعمال الصدقات وغيرها من أمثالها ؛ كلها بيده وان تطبيق هذه الأمور على ما يراها مصلحة للعباد وتشخيص مصاديقها موكول الى نظره الشريف فهو وان كان من مقاماته قطعا ؛ الا انه لا يشمل مثل «الضرر والضرار» وما أشبههما «من الموضوعات الكلية» التي لها في الشرع حكم كلى لا محالة وليست من سنخ تلك الأمور الخاصة التي لا تنضبط تحت قاعدة كلية يرد فيها حكم كلى كما هو ظاهر.

وبعبارة اخرى : ان مقام السلطنة والحكومة وان كانت من مقامات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام ؛ بل وحكام الشرع في الجملة بلا إشكال ، الا انها تختص بأمور شخصية جزئية ترتبط بمصالح الأمة مما لا تندرج تحت ضابط كلى ولا يمكن تشريعها

٧٢

في ضمن أحكام كلية ، كنصب أمراء الجيوش والقضاء وجباة الصدقات وأمثالها مما لا يحيط الأحكام الكلية بجزئياتها وتختلف بحسب الأزمنة والظروف. فهذه الأمور وان كانت أحكامها الكلية واردة في الشرع بنحو بسيط ، مثل ما ورد في صفات القاضي وجابى الصدقة وغير ذلك ، الا ان تشخيص مواردها وتطبيقها على مصاديقها موكولة إلى نظر السلطان وولى الأمر. واما غير هذه الأمور من الأحكام الكلية الواردة على موضوعاتها الكلية فليست بيد السلطان بل بيد الشارع المقدس ، وليس للنبي تشريع في قبال تشريع الله حتى يكون هناك تشريعان في الأحكام الكلية.

وان شئت قلت : ما من «موضوع كلى» الا وله حكم كلي في الشرع من قبل الله سبحانه وح لا يبقى مورد لتشريع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أحكاما كلية على موضوعاتها الكلية ، وانما سلطانه صلى‌الله‌عليه‌وآله على تعيين مصاديقها ، وتطبيق مصالح المسلمين على مواردها فيما يختلف باختلاف الظروف المختلفة ، ومن المعلوم ان الضرر والضرار من الموضوعات الكلية التي تحتاج الى حكم كلى فليستا في حيطة سلطنة ولى أمر المسلمين بل في حيطة التشريع الإلهي لا غير. نعم لو كان حكمه مقصورا على قلع شجرة سمرة أمكن القول بأنه من قبيل الأحكام السلطانية ولكن ليس كذلك.

وثالثا ـ الظاهر ان حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله في قضية سمرة كان من باب القضاء وكان المقام من مقامات التنازع في الحقوق والأموال ، غاية الأمر انه قد يكون النزاع ناشيا من الجهل بالحكم واخرى من الجهل بمصاديقه. والشاهد على ذلك ان سمرة ـ كما يظهر من الرواية ـ كان يدعى ان وجوب الاستيذان من الأنصاري تضييق في دائرة سلطنته فيما كان له من حق العبور الى نخلته ، فلذا قال : أستاذن في طريقي إلى عذقي؟ والأنصاري يرى ان له إلزامه بذلك فشكاه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقضى له عليه ، ثمَّ ذكر حكما عاما شرعيا يستفاد منه أحكام أشباهه ويشهد بذلك ما ورد في الرواية من التعبير بالقضاء وذكره في ضمن أقضية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في روايات الفريقين وقد كان هذا العنوان (عنوان القضاء) مستعملا في هذا المعنى من لدن زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان محفوفا بقرينة الدعوى والشكوى والمنازعة.

٧٣

تنبيهات

قد ذكر غير واحد من الاعلام هنا تنبيهات بينوا فيها حدود هذه القاعدة ومجراها ، وفروعا تستنبط منها ، ومغزاها ورفع ما يورد عليها من الإيرادات ؛ فنذكرها ونذكر ما عندنا فيها ثمَّ نعقبها بما أهملوا ذكرها من الأمور المهمة التي لها دخل في تحقيق حدود القاعدة وفروعها فنقول ومن الله سبحانه نستمد التوفيق :

التنبيه الأول

هل هذه القاعدة موهونة بكثرة التخصيصات

ذهب غير واحد من المحققين تبعا لشيخنا العلامة الأنصاري (قده) فيما أفاده في الفرائد الى ان هذه القاعدة وان كانت متينة سندا ودلالة الا انها موهونة بكثرة التخصيصات الواردة عليها ، بحيث يكون الخارج منها أضعاف ما بقي تحتها ، بل لو أريد العمل بها على عمومها حصل منها فقه جديد ، ومن هنا يعلم بان لها معنى آخر غير ما يظهر لنا في بادي النظر لا يرد عليه تخصيص كثير ، وعليه تكون القاعدة مجملة لنا ، وعلينا الاقتصار في العمل بها على موارد عمل بها الأصحاب مما يعلم انحصار مدرك المسئلة عندهم بهذه القاعدة ، لا غير.

وزعموا ان عملهم جابر لها ، كأنه وصلت إليهم قرائن بينت لهم مغزاها ومفادها مما لم تصل إلينا ، مع ان الناظر في كلماتهم يعلم علما قطعيا بعدم وصول شيء آخر إليهم هنا عدا هذه الروايات المعروفة المشهورة ، عملوا بظواهرها وبنوا عليها أحكاما كثيرة في مختلف أبواب الفقه ، فراجع كلام شيخ الطائفة والعلامة وغير هما من نظرائهما من القدماء والمتأخرين في أبواب بيع الغبن وشبهها مما استندوا فيها بهذه القاعدة تجدها شاهدة صدق على ما ادعينا ، فكيف يكون عملهم ـ والحال هذه ـ جابرا لهذا الضعف ودافعا لهذا الاشكال وقد شاع اليوم هذا النحو من الاستدلال في موارد كثيرة لم يتسير لهم حل

٧٤

بعض الإشكالات الواردة على بعض القواعد فاستراحوا الى عمل الأصحاب ، مع ان التدبر في كلماتهم يرشدنا الى ان أصحابنا الأقدمين لم يزيدوا علينا في كثير من هذه المباحث شيئا إلا صرافة الذهن وجودة النظر العرفي الموجبة لكشف مغزى كلماتهم عليهم‌السلام لهم.

وكأن هذا المعنى قد ألجأ شيخنا العلامة الأنصاري في بعض كلماته الى حل هذا الإشكال ، تارة بمنع أكثرية الخارج منها وان سلم كثرته ، واخرى بخروج ما خرج بعنوان واحد بناء على ما اختاره في أبواب العموم والخصوص من عدم استهجان كثرة التخصيص إذا كان بعنوان واحد.

وأورد عليه «المحقق الخراساني» في بعض حواشيه على الفرائد بأن خروج أفراد كثيرة بعنوان واحد انما يمنع من استهجان التخصيص إذا كانت افراد العام هي العناوين لا الأشخاص.

أقول ـ الظاهر ان تسالمهم قدس الله أرواحهم على كثرة ما خرج من عموم قاعدة لا ضرر انما نشأ مما يتراءى في بادي النظر من وجود احكام ضررية كثيرة في الشريعة كوجوب الأخماس والزكوات وأداء الديات وتحمل الخسارات عند الإتلاف والضمانات وغير ذلك مما تتضمن ضررا ماليا ، وكوجوب الجهاد والحج وغير هما مما يحتاج الى بذل الأموال والأنفس ؛ وكوجوب تحمل الحدود الشرعية والقصاص وأشباهها مما تتضمن ضررا نفسيا أو عرضيا فان هذه الأحكام ثابتة في الشريعة ظاهرة عند أهلها ، خواصهم وعوامهم.

وفيه أولا ـ ان هذا الاشكال على فرض صحته (ولكنه غير صحيح كما يأتي) انما يلزم القائلين بكون مفاد القاعدة نفى الأحكام الضررية في الشريعة ، واما على المختار من ان مفادها نفى إضرار الناس بعضهم ببعض وان الشارع لم يمض الإضرار في عالمى الوضع والتكليف فلا مجال له قطعا. نعم قد عرفت ان هذه القاعدة تدل بالملازمة والأولوية على انه لا ضرر من ناحية أحكام الشرع على احد ؛ ومن المعلوم ان هذه الملازمة لا تنفى شيئا من الاحكام التي يتراءى منها الضرر ، بل أقصى ما يستفاد منها هو ان هذه الاحكام ،

٧٥

بعد ثبوتها وتحققها ولو بطرق ظاهرية ، مشتملة على مصالح جمة تكون بلحاظها نافعا محبوبا لا ضارا مبغوضا ؛ وما نراه من الضرر أحيانا بادي الأمر انما هو لعدم علمنا بمنافعها ومصالحها ، والا فالعالم بفوائد الخمس والزكاة والديات يراها لازمة ببداهة عقله وحكومة فطرته لما فيها من المصالح.

وثانيا ـ نمنع كون هذه الاحكام كلها أو جلها ضررية بنظر العرف والعقلاء ، فإن أشباهها أو ما يقرب منها متداولة معروفة بينهم ؛ يحكمون بها ويرونها حقا نافعا لا ضارا باطلا ، فإنهم لا يزالون يحكمون بلزوم بذل الخراج والعشور وان فيها صلاح المجتمع الذي يقوم صلاح الافراد بصلاحه ولا يحفظ منافعهم الا به ، وقد استدل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذا الارتكاز العقلائي في عهده المعروف الى «مالك» حيث قال : «فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز المسلمين وسبل الأمن وليس تقوم الرعية إلا بهم ، ثمَّ لا قوام للجنود الا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقومون به على جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم».

وكذلك عندهم حدود وديات ، يرون إجرائها صلاح المجتمع الذي يرتبط به صلاح كل فرد فرد منهم وان كانت في الانظار البادية الساذجة ضررية والحاصل ان جل هذه الأمور أو أشباهها موجودة عند العقلاء ولا يرون فيها ضررا بل يرونها نافعة ، والقول بان العرف بالنظر البادى يحكم بكونها ضررية فيشملها قاعدة لا ضرر ، ساقط جدا ؛ لان العرف لو حكم بكونها مصاديق للضرر من باب المسامحة لا يلزمنا متابعته بعد ما يحكم بعدم كونها كذلك بعد تكرار النظر ، وبالجملة الصغرى في جل الأمثلة المذكورة ممنوعة فإن بقي هناك موارد يصدق عليها عنوان الضرر بالنظر الغير المسامحي العرفي فلا شك انها طفيفة لا يلزم منها تخصيص الأكثر.

واما ما أفاده العلامة الأنصاري من كفاية الخروج بعنوان واحد في دفع محذور تخصيص الأكثر ، وما ذكره «المحقق الخراساني» من ان ذلك انما يصح إذا كان ما تحت العام هي العناوين لا الافراد ، فكلاهما ممنوعان ، لما حققناه في محله من استهجان التخصيص ببعض مراتبه وان كان بعنوان واحد أو كان ما تحت العام هي العناوين لا الافراد ؛

٧٦

كما يظهر بمراجعة أمثلتها العرفية.

التنبيه الثاني

هل في هذا الحديث شيء يخالف القواعد؟

قال شيخنا العلامة الأنصاري (رضوان الله عليه) بعد نقل قضية سمرة : «وفي هذه القصة إشكال من حيث حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلع العذق مع ان القواعد لا تقتضيه ونفى الضرر لا يوجب ذلك ـ ثمَّ قال ـ لكن لا يخل بالاستدلال» انتهى كلامه.

وحاصل الاشكال عدم انطباق بعض ما ذكر في الرواية على هذه القاعدة ولا على سائر القواعد المعمولة ، لأن أقصى ما يستفاد من قاعدة نفى الضرر هو لزوم استيذان سمرة من الأنصاري لما في تركه من الضرر عليه ، واما قلع نخلته ورميها اليه عند إبائه عن الاستيذان فلا ، مع ان ظاهر الرواية ان هذا الحكم معلل بالقاعدة المذكورة.

أقول ـ ويمكن الذب عنه بان الظاهر ان حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك كان من باب حسم مادة الظلم والفساد وإحقاق الحق ؛ لأن النخلة لو بقيت ـ والحال هذه ـ كان الأنصاري دائما في عذاب وشدة ، بل لعلها صارت منشأ لمفاسد أخر ؛ فلم يكن هناك طريق لدفع شر «سمرة» وقطع ظلمه عن الأنصاري ، الواجب على ولى أمر المسلمين ؛ الا بقلع نخلته ورميها اليه وعليه يستقيم تعليل هذا الحكم بنفي الضرر لان ضرر دخول سمرة على الأنصاري بلا اذن منه إذا كان منفيا في الشريعة وانحصر طريق دفعه في قلع النخلة صح تعليل الحكم بقلعه بأنه لا ضرر ولا ضرار ، فهو من قبيل التعليل بالعلة السابقة ، فالتعليل في محله والاشكال مدفوع.

وغير خفي ان هذا الحكم لا يختص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل لحكام الشرع أيضا ذلك إذا لم يجدوا بدا منه في قطع يد الظالم وحفظ حق المظلوم. فما افاده المحقق النائيني في المقام من ان القلع لعله كان من باب قطع الفساد لكونه صلى‌الله‌عليه‌وآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، في غير محله.

٧٧

وذكر هذا المحقق طريقا آخر في دفع هذا الاشكال حاصله : ان الضرر وان كان ينشأ من دخول سمرة على الأنصاري بلا استيذان منه ولكن كان منشأ جواز دخوله هو استحقاقه لكون النخلة باقية في البستان ، فالضرر وان نشأ عن الدخول الا انه كان معلولا لاستحقاق إبقاء النخلة ، فرفع هذا الحكم انما كان برفع منشأ وهو استحقاق الإبقاء كارتفاع وجوب المقدمة برفع ذيها ، فالقاعدة رافعة لاستحقاق بقاء النخلة ولازمه جواز قلعه فيصح ح تعليل الحكم المزبور بالقاعدة «انتهى ملخصا»

وأنت خبير بما فيه ، فإنه مخالف للوجدان ولظاهر الرواية معا ، لظهورها في ان سمرة لو كان يرضى بالاستيذان من الأنصاري لم يكن عليه بأس ولم يجز قلع نخلته ولكنه لما ابى وأصر على الإضرار بالأنصاري حكم بذلك في حقه ، مع ان ما ذكره قدس ـ سره لو تمَّ لاقتضى جواز قلع النخلة في هذا الحال أيضا ؛ لما ذكره من ان استحقاقه لإبقائها كان موجبا لجواز الدخول على الأنصاري بغير اذن منه وهذا الجواز بنفسه حكم ضرري وان لم يعمل بمقتضاه ولم يدخل على الأنصاري بغير اذن منه ، هذا أولا واما ثانيا ـ ان بقاء العذق في البستان كان له آثار شرعية مختلفة ، منها جواز الدخول بلا استيذان فاذا كان خصوص هذا الأثر ضرريا فاللازم نفى ترتبه لا نفى ذات المؤثر بجميع آثاره ، والسر في هذا ان الحكم باستحقاق إبقاء النخلة كما انه من الأحكام الشرعية أمره بيد الشارع رفعا ووضعا ؛ فكذلك ماله من الاثار المختلفة المترتبة عليه شرعا ؛ والجزء الأخير من العلة التامة للضرر هو ترتب بعض آثاره عليه فاللازم رفع ذلك الأثر خاصة لا ذات الموضوع بجميع آثاره ، فاللازم ان يحكم بجواز إبقاء النخلة وترتب جميع آثاره عليه ما عدا الدخول عليه بغير اذنه.

واما قياسه على باب المقدمة فهو كما ترى ، للفرق الواضح بين المقامين فان الترتب هناك تكويني ليس أمرها بيد الشارع ، بما انه شارع ، فليس له رفع وجوب المقدمة إلا برفع وجوب ذيها ، بخلاف المقام فكأنه قدس‌سره خلط بين الترتب الشرعي والتكويني فتدبر جيدا.

٧٨

التنبيه الثالث

في وجه تقديم هذه القاعدة على أدلة الأحكام الأولية

المعروف في وجه تقديم عموم هذه القاعدة على أدلة الأحكام الشرعية انه من باب حكومتها عليها فليستا من قبيل المتعارضين حتى تلاحظ النسبة بينهما أو يطلب الترجيح ، وقد ذكر في وجه تقديمها عليها وجوه أخر. ولكن هذا البحث مبنى على مختاراتهم في معنى الحديث.

فمن قال بان معناه نفى الحكم الضرري فهو قائل بالحكومة لا محالة ، لأنه بمدلوله اللفظي ناظر إلى أدلة الأحكام الأولية فيكون حاكما عليها ، وكذلك الكلام على مذهب من يقول بان معناه نفى الحكم الضرري بلسان نفى موضوعه ، واما بناء على ثالث الأقوال في معنى الحديث ، وهو ان يكون النفي بمعنى النهى ، فلا يبقى مورد للحكومة ولا ربط له بأدلة الاحكام ، بل هو كسائر النواهي الشرعية الواردة في مواردها بلا تفاوت بينها وكذا الكلام على المعنى الرابع وهو ارادة نفى الصفة ـ اعنى صفة عدم التدارك ـ عن نفى الضرر ليكون إشارة إلى لزوم تدارك الضرر ؛ فإنه ح حكم مستقل في قبال سائر الأحكام يختص بموارد الغرامات ويدل على اشتغال ذمة الضار بغرامة ضرره ؛ فيقدم على العمومات الدالة على براءة الذمة منها ، اما لكونه أخص منها ، أو لعدم بقاء المورد له على فرض عدم التقدم ، أو لقوته وإبائه عن التخصيص ، هذا كله على مختارات القوم.

واما بناء على مختارنا في معنى الحديث من ان مفاده نفى إمضاء إضرار الناس بعضهم ببعض في عالمى الوضع والتكليف فالظاهر أيضا عدم حكومته على أدلة الأحكام الأخر لعدم كونه ناظرا إليها فإن الحكومة عبارة عن كون احد الدليلين بمدلوله اللفظي ناظرا إلى الأخر بحيث لولاه لكان لغوا باطلا.

اما بان يتصرف في موضوعه كقول المولى لعبده : «ان الفاسق ليس بعالم ، في قبال قوله أكرم العلماء.

٧٩

أو بالتصرف في متعلقه كقوله «مجرد الإطعام ليس من الإكرام»

أو بالتصرف في حكمه كقوله : «انما عنيت بذاك الأمر غير الفاسق».

أو بالتصرف في نسبة الحكم الى موضوعه كقوله «إكرام الفاسق ليس إكراما للعالم».

فاذن لا تنحصر الحكومة في الثلاثة الأولى كما افاده المحقق النائيني في بعض كلماته في المقام ، ومن المعلوم ان شيئا من هذه الأمور غير موجود في المقام.

نعم هو مقدم على أدلة سائر الأحكام لوجهين آخرين : أحدهما : قوة الدلالة لاشتماله على نفى وجود الضرر رأسا الظاهر في كمال التحاشي والتباعد عنه ، لاسيما إذا أضيف إليه قيد «في الإسلام» لو ثبت هذا القيد بحسب الاخبار وقد عرفت الكلام فيه في مقدمة البحث ، ثانيهما : إبائه عن التخصيص لكونه في مقام الامتنان وللمناسبات المغروسة في الأذهان بين هذا الحكم وموضوعه كما لا يخفى على المتأمل الخبير ، ولذا يستنفر الطبع من تخصيص هذا الحكم ولو بالتخصيص المتصل بان يقال لا يجوز لأحد ان يضر بأحد إلا في كذا وكذا ، ولو خرج منه بعض الموارد كما إذا كان الإضرار بحق فهو في الحقيقة خروج موضوعي ، لأنه إحقاق حق لا إضرار فتأمل.

التنبيه الرابع

هل الحكم بنفي الضرر من باب الرخصة أو العزيمة؟

قد عرفت عند بيان المختار في مفاد القاعدة انها لا تدل على نفى التكاليف الضررية كالوضوء والصوم الضرريين ، وان اللازم الرجوع في هذه الموارد إلى «قاعدة نفى الحرج» واما على مختار القوم من دلالتها على نفيها فهل هو من باب الرخصة أو العزيمة :

لا إشكال في عدم وجوب الوضوء الضرري وشبهه إذا كان المكلف عالما بموضوع الضرر على مختارهم وانما الكلام في صحتها (ح) وان لم يكن واجبا. نقل المحقق النائيني القول بالصحة عن بعض الأعاظم ولم يسمه واستدل له بان «لا ضرر» انما

٨٠