القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

الكبائر (ورواه في الوسائل عنه في الباب ٨ من أبواب الوصية) والظاهر منها ـ بقرينة سائر الروايات الواردة في ذلك الباب ـ ان الضرار في الوصية هو الوصية بتمام المال أو بأكثر من الثلث ، ولا يخفى ان المستفاد منها عدم صحة هذه الوصية وعدم نفوذها ، سيما بملاحظة الآية الشريفة فهي لا تدل على حكم تكليفي فحسب بل عليه وعلى الحكم الوضعي.

١٦ ـ ما رواه الصدوق في عقاب الأعمال بإسناده عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث ومن أضر بامرأة حتى تفتدي منه نفسها لم يرض الله له بعقوبة دون النار ـ الى ان قال ـ ومن ضار مسلما فليس منا ولسنا منه في الدنيا والآخرة.

وغير خفي ان الفقرة الأخيرة مطلقة تدل على عدم جواز الإضرار بالمسلم مطلقا

١٧ ـ ما رواه الكليني بإسناده عن الحلبي عن ابى عبد الله (ع) في حديث : انه نهى ان يضار بالصبي أو تضار امه في رضاعه (رواه في الوسائل في باب أقل مدة الرضاع وأكثرها من أبواب أحكام الأولاد) ، وفي ذيل هذا الباب رواية أخرى قريبة منها.

١٨ ـ ما رواه الكليني أيضا بإسناده عن الحلبي عن ابى عبد الله (ع) قال سالته عن الشيء يوضع على الطريق فتمر الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره فقال : كل شيء يضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه (رواه في الوسائل في الباب ٩ من أبواب موجبات الضمان من كتاب الديات).

فحكم عليه‌السلام بان التصرف في الشارع المباح بما يوجب الإضرار بالغير موجب للضمان ، وان كون الطريق عاما لا يمنع من هذا الحكم

١٩ ـ ما رواه الشيخ بإسناده عن ابى الصباح الكناني عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : كل من أضر بشيىء من طريق المسلمين فهو له ضامن (رواه في ذاك الباب بعينه)

٢٠ ـ ما رواه الصدوق بإسناده عن الحسن بن زياد عن ابى عبد الله (ع) قال : لا ينبغي للرجل ان يطلق امرأته ثمَّ يراجعها وليس به فيها حاجة ثمَّ يطلقها ، فهذا الضرار الذي نهى الله عزوجل عنه ، الا ان يطلق ثمَّ يراجع وهو ينوي الإمساك (رواه في الوسائل في الباب ٣٤ من أبواب أقسام الطلاق من كتاب الطلاق).

٤١

وقوله فهذا الضرار الذي نهى الله عزوجل عنه إشارة إلى قوله تعالى (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا)(١) وفي ذاك الباب بعينه روايات أخر في هذا المعنى فراجع. هذه ما وصل إلينا من طرق الأصحاب عموما وخصوصا ، وهنا روايات أخر خاصة وأرده في أبواب مختلفة يعثر عليها المتتبع قد طوينا الكشح عنها ، والعمدة هي العمومات المتقدمة

***

واما ما ورد من طرق العامة فهي روايات :

١ ـ ما رواه أحمد في مسنده (٢) قال حدثنا عبد الله ، قال حدثنا أبو كامل الجحدري ، قال حدثنا الفضيل بن سليمان ، قال حدثنا موسى بن عقبة ، عن إسحاق بن يحيى عن الوليد بن عبادة بن صامت عن عبادة قال : ان من قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان المعدن جبار ، والبئر جبار ، والعجماء جرحها جبار ، والعجماء البهيمة من الانعام والجبار هو الهدر الذي لا يغرم ، وقضى في الركاز الخمس ، وقضى ان النخل لمن أبرها الا ان يشترط المبتاع ، وقضى ان مال المملوك لمن باعه. الى ان قال : وقضى للجدتين من الميراث بالسدس بينهما ، وقضى ان من أعتق شركاء في مملوك فعليه جواز عتقه ان كان له مال ، وقضى ان لا ضرر ولا ضرار وقضى انه ليس لعرق ظالم حق ، وقضى بين أهل المدينة في النخل لا يمنع نفع بئر ، وقضى بين أهل البادية (المدينة خ ل) انه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل الكلاء.

قال في المجمع : الجبار بالضم والتخفيف (كغراب) الهدر يعنى لا غرم ، والعجماء البهيمة سميت بذلك لأنها لا تتكلم ؛ والمعنى : ان البهيمة العجماء تنفلت فيتلف شيئا فذلك الشيء هدر وكذلك إذا انهار على احد فهو هدر (يعنى لا غرامة في التلف في شيء من هذه الموارد).

أقول : لا شك في ان هذه الأقضية صدرت في وقائع مختلفة ولكن «عبادة» ذكر متون الأقضية وحذف مواردها وجمعها في حديث واحد ، ومضمونها من أقوى الشواهد

__________________

(١) البقرة ـ ٢٣١.

(٢) المجلد الخامس ص ٣٢٦ و ٣٢٧.

٤٢

على ذلك ، وعلى هذا فمن القريب جدا ان يكون قوله : «لا ضرر ولا ضرار» غير صادر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستقلا وبلا سابقة دعوى ولا منازعة ، بل لعله كان ذلك قضاء في واقعة أو وقائع متعددة ؛ نقله عبادة مجردا عنها ، فيحتمل قريبا ان يكون بعينه ما ورد في قضية سمرة مع الأنصاري ، أو ما ورد فيها وفي حكمي الشفعة ومنع فضل الماء (بناء على القول بوروده في ذيلها أيضا على ما سيأتي شرحه) وحينئذ لا يجوز لنا الأخذ بما يظهر منه بادي النظر من وروده مستقلا والاستدلال به على انه كان قضاء مستقلا فليكن هذا أيضا على ذكر منك.

٢ ـ ما أرسله ابن الأثير في النهاية انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام واحتمال التقطيع في كلام ابن الأثير عند النقل أيضا قريب فلا يصح عده قضاء مستقلا

٣ ـ وهنا عبارات مختلفة من محققي أصحابنا تدل على ان الحديث كان متفقا عليه بين العامة والخاصة :

منها ما ذكره العلامة قدس الله سره في التذكرة في المسألة الاولى من خيار الغبن ، قال الغبن سبب الخيار للمغبون عند علمائنا وبه قال مالك واحمد لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ضرر ولا ضرار في الإسلام انتهى.

ويظهر من عبارته ان مستند مالك واحمد أيضا في هذا الحكم هو حديث نفى الضرر ، ولكن يحتمل ان يكون دليلا لمختاره ومختار الأصحاب فقط ، وكيف كان فتمسك العلامة بهذا الحديث في هذا المقام شاهد على كونه معتمدا عليه عند العامة والخاصة

ومنها ما افاده السيد أبو المكارم بن زهرة في الغنية في أواخر أبواب الخيار من كتاب البيع لإثبات حكم الأرش من قوله : ويحتج على المخالف بقوله (ص) : لا ضرر ولا ضرار.

ومنها ما افاده شيخ الطائفة في المسألة ٦٠ من كتاب البيع من الخلاف في باب حكم خيار الغبن : دليلنا ما روى عن النّبي (ص) انه قال : لا ضرر ولا ضرار انتهى

وليعلم انه قدس‌سره لم يذكر هنا قيد «في الإسلام» مع ذكره في كتاب الشفعة من الخلاف بعينه حيث قال : في المسألة ١٤ منه ان قوله النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ضرر ولا ضرار في الإسلام يدل على ذلك فاذن يشكل الاعتماد على ذكره هذا القيد هناك والاستدلال به

٤٣

على وجوده في متن الرواية.

والحاصل ان أمثال هذه التعبيرات والاستدلالات في كتب العامة والخاصة تدل على كون هذه الرواية كالمجمع عليهم بينهم ، حيث أرسلوها إرسال المسلمات.

ومما ينبغي التنبيه عليه هنا ان صاحب الوسائل قدس‌سره روى هذه الفقرة أعني قوله «لا ضرر ولا ضرار» مجردة عن غيرها في أبواب مختلفة من الوسائل مثل الباب ١٧ من أبواب الخيار ، وقد يوهم ذلك انها رواية أو روايات أخر حتى يستند إليها في إثبات صدور هذه الفقرة مستقلة ، ولكن هذه الشبهة تزول بسرعة بعد ملاحظة إسناد هذه الاخبار ، فإن اسنادها بعينه اسناد رواية زرارة الواردة في قضية سمرة بن جندب ، ورواية عقبة الواردة في قضاء رسول الله في منع فضل الماء فراجع ، وديدن صاحب الوسائل في تقطيع الروايات معلوم لكل من له أنس بكتابه.

***

هذا ما وقفنا عليه من الروايات الدالة على هذه القاعدة عموما وخصوصا في كتب الفريقين ، وقد تحصل منه ان هذه الفقرة (لا ضرر ولا ضرار) نقلها زرارة وأبو عبيدة الحذاء عن الامام الباقر عليه‌السلام ، وعقبة بن خالد عن الامام الصادق عليه‌السلام ، ورواها الصدوق والقاضي نعمان المصري مرسلا ، وأرسله الشيخ والعلامة وابن زهرة رضوان الله عليهم في كتبهم إرسال المسلمات ومن طرق العامة رواه احمد مسندا وابن الأثير مرسلا. وقد وردت روايات خاصة في مواضع شتى تؤيد مضمونها ، فاذن لو لم ندع التواتر فيها ـ كما ادعاه فخر الدين في محكي الإيضاح من باب الرهن ؛ فلا أقل انها من المستفيضات التي لا ينبغي التأمل في جواز الاعتماد عليها حتى من القائلين بعدم حجية خبر الواحد هذا تمام الكلام في مدرك القاعدة.

٤٤

المقام الثاني

في مفاد هذه القاعدة

وقبل الشروع في بيان مفاد القاعدة ومغزاها لا بد من تقديم أمرين لهما دخل تام في فهم معنى هذه الروايات

الأول ـ قد عرفت ان قوله «لا ضرر ولا ضرار» مذيل في غير واحد من طرق الرواية بقوله (في الإسلام) فهل هذا القيد ثابت بطرق صحيحة يركن إليها ، بحيث لو توقف استظهار بعض ما ذكر في معناها عليه يحكم به أم لا؟.

الذي يظهر بعد التأمّل التام في أسانيد الروايات ومضامينها ان تذييل الحديث بهذا الذيل غير ثابت. لما عرفت عند بيان الاخبار من عدم وروده إلا في مرسلة الصدوق (١) ومرسلة ابن الأثير (٢) ومرسلة الطريحي في مجمع البحرين في مادة «ضرر» ذيل حديث الشفعة (٣) لكن الظاهر انه سهو من قلمه الشريف لان حديث الشفعة مذكورة في جوامع أخبارنا بدون هذا القيد ولا شك انه أخذ الحديث منها ، وفي كلام الشيخ في كتاب الشفعة في المسألة الرابعة عشرة (٤) وقد عرفت انه نفسه نقله مجردا عن هذا القيد «المسألة الستين» من كتاب البيع ، وفي كلام العلامة في التذكرة في المسألة الاولى من خيار الغبن (٥).

والانصاف ان شيئا من هذه المرسلات بل ولا مجموعها مع ما عرفت من السهو والاشتباه في غير واحد منها لم تبلغ حدا يمكن الركون عليها ، فما يظهر من بعض كلمات

__________________

(١) ذكرناها تحت الرقم ٦

(٢) ذكرناها تحت الرقم ٢ من أحاديث العامة

(٣) ذكرناها تحت الرقم ٤.

(٤ و ٥) ذكرناهما تحت الرقم ٣ من أحاديث العامة.

٤٥

شيخ الشريعة الأصفهاني قدس‌سره من عدم وجود هذا القيد إلا في كلام ابن الأثير في النهاية وان كان مخالفا للواقع ، لما عرفت من نقله في كلام الصدوق وكلام غير واحد من ائمة الفقه. الا ان هذا المقدار غير كاف في إثباته ، كما ان ما نقله من بعض معاصريه من دعوى التواتر في هذا القيد وإسناده إلى المحققين أيضا في غير محله ، والحاصل ان إثبات هذه الزيادة بنقل من عرفت دونه خرط القتاد.

وعلى هذا لا تصل النوبة إلى ملاحظة التعارض بين طرق الرواية ، وما ورد فيه هذه الزيادة وما لم يرد ، حتى يقال بتقديم ما اشتمل على الزيادة ، لما قرر في محله من تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة ، نظرا الى ان الزيادة سهوا من الراوي نادر الوقوع جدا بخلاف النقيصة. فيؤخذ بما اشتمل على الزيادة ، حتى يجاب عنه بما افاده المحقق النائيني بأن مبنى ذلك ليس إلا سيرة العقلاء ؛ ولا يعلم بنائهم على تقديم أصالة عدم الزيادة في أمثال هذه المقامات التي يحتمل قريبا كون الزيادة من الراوي عند النقل بالمعنى لمغروسيتها في ذهنه ، بمناسبة الحكم والموضوع ، وملاحظة أشباهه من قوله : لا رهبانية في الإسلام ، لا إخصاء في الإسلام ، وغير ذلك من أمثالهما انتهى ما افاده ملخصا.

هذا مع انا لم نجد أصلا لهذا الأصل وما أشبهه مما ينسب الى بناء العقلاء فإنه ليس عندهم اثر من هذه الأصول التي تنسب إليهم بل الذي وجدنا منهم ان مدارهم في هذه المقامات ، إذا أدت حاجتهم إليها في عمل أنفسهم ، على الاطمئنان من اى طريق حصل وعند الاحتجاج مع خصومهم على قرائن لفظية أو حالية أو مقامية توجب الاطمئنان عادة لمن اطلع عليها ، ولم نجد لهم تعبد خاص بتقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة ، وان شئت اختبر نفسك عند مطالعة الكتب التي ترد عليك كل يوم فهل تأخذ بأصالة عدم الزيادة بعنوان أصل عقلائي ولو لم تفد الاطمئنان ، والانصاف ان العقلاء لا يعرفون كثيرا من هذه الأصول التي تنسب إليهم وان بنائهم في هذه الموارد على الأخذ بما تطمئن به أنفسهم لا غير

٤٦

واما التذييل بقوله «على مؤمن» فقد عرفت انه وارد في رواية ابن مسكان عن زرارة مجردة المروية في الكافي ، ولكن عرفت ان ابن بكير روى هذه الرواية بعينها عن زرارة مجرد عن هذا القيد ، وروى أيضا هذه القضية بعينها أبو عبيدة الحذاء عن الباقر عليه‌السلام مجردة عنه ، فأحد الروايتين عن زرارة وأبو عبيدة الحذاء نقلاه مجردا والراوي الأخر عنه نقله مقيدا فكيف يمكن الاعتماد على الأخير في إثباته ، سيما مع ملاحظة انه ليس قيدا يهتم بشأنه في بادي النظر.

ثمَّ اعلم ان هذا البحث أعني زيادة «في الإسلام ، أو على مؤمن» لو ثبت يترتب عليه بعض الفوائد الهامة ، وليس كما افاده المحقق النائيني قده خاليا عن الفائدة ؛ لظهور الفائدة في تنقيح مفاد الحديث وتأييد كون كلمة «لا» نافية ؛ الذي استند اليه العلامة الأنصاري في إثبات حكومة القاعدة على العمومات ، لا ناهية حتى يكون مفادها حكما فرعيا بعدم إضرار الناس بعضهم ببعض. بيان ذلك :

ان الجار والمجرور (أعني في الإسلام) هنا متعلق بفعل عام مقدر وعلى اصطلاح النحاة الظرف هنا ظرف لغو ، والتقدير لا ضرر موجود في الإسلام ؛ ومعناه انه لا يوجد حكم ضرري في أحكام الإسلام وهذا المعنى يوافق حكومة القاعدة على عمومات الاحكام ، ولا يناسب كون لا ناهية بأن يكون معناه لا تضروا في الإسلام ، لأن الإسلام ليس ظرفا لا ضرار الناس بعضهم ببعض الأعلى تكلف بعيد ، والعجب من المحقق النائيني قدس الله نفسه حيث أنكر ذلك واعتقد بجواز إرادة النهي مع هذا القيد أيضا وكان الشبهة نشأت عن الخلط بين اصطلاح النحاة في الظرف ، وبين الظرف والمظروف بمعناهما العرفي فراجع وتأمل وسيأتي تتمة لهذا الكلام عند تحقيق مفاد الحديث.

***

الثاني ـ لا يخفى على الناظر في روايات الباب ورود قوله «لا ضرر ولا ضرار» ذيل قضية سمرة ، وظاهر غير واحد منها وروده مستقلا أيضا ، ولكن الإنصاف أنه ظهور بدوي يزول بالتأمل ، فإن احتمال التقطيع فيها قوى جدا وقد أشرنا الى بعض ما علم التقطيع فيه ، عند نقل الاخبار ، هذا مضافا الى عدم اعتبار الطرق المشتملة على ذكر هذه القضية

٤٧

مجردة عن غيرها ، فلا يمكن الركون إليها.

ولكن ظاهر حديثي الشفعة ومنع فضل الماء (١) المرويين عن عقبة بن خالد ورودها ذيل قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشفعة ومنع فضل الماء ، لكن قد وقع التشكيك من غير واحد من محققي الأصحاب في هذا الظهور واحتمل كونه من باب الجمع في الرواية ، وأول من فتح باب هذا التشكيك العلامة الجليل شيخ الشريعة الأصفهاني قده فإنه إصرار على عدم ورودها في هاتين القضيتين وأتعب نفسه الزكية في جمع القرائن على ذلك ، وتبعه المحقق النائيني وأيده بقرائن أخر.

وتظهر ثمرة هذا النزاع في تحقيق مفاد الحديث وانه نفى الأحكام الضرورية الحاكم على عمومات أدلة الاحكام ، أو ان مفاده النهى عن إضرار الناس بعضهم ببعض ؛ فإنه لو ثبت ورودها ذيل حديثي الشفعة ومنع فضل الماء كانت كالعلة لتشريع هذين الحكمين في الشريعة وهذا لا يناسب النهى بل يناسب النفي كما هو ظاهر.

وكيف كان فعمدة ما استند اليه المحقق المذكور في إثبات هذا المدعى المخالف لظاهر الرواية مقايسة قضايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحكية عن طرق العامة المنتهية الى «عبادة بن صامت» ، وما ورد من طرق الخاصة المنتهية في كثير من مواردها الى «عقبة بن خالد» فان توافقهما واتحادهما في كثير من عباراتهما مع خلو رواية «عبادة» من هذا الذيل مع انه نقل قضائه في الشفعة وفضل الماء بعينه ، كما نقله «عقبة بن خالد» مما يضعف الاعتماد على هذا الظهور البدوي ويوجب قوة الظن بان الجمع بين هذه الفقرة وسائر فقرات الرواية كان من باب الجمع في الرواية من ناحية الراوي ، لا انها صدرت في قضية واحدة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، سيما مع كون عبادة ضابطا متقنا في نقل الأحاديث ومن خيار الشيعة على ما قيل. كما انه لا يمكن الاستشهاد بظهور لفظة «فاء» في قوله «فلا ضرر ولا ضرار» في ذيل حديث منع فضل الماء في كون ما بعده متفرعا على ما قبله ومتصلا به ، لما عرفت سابقا من ان النسخ المصححة من الكافي خالية عنها بل المذكور فيها هو الواو بدل الفاء (فراجع الروايات السابقة وتأملها)

__________________

(١) ـ ذكرناهما تحت الرقم ٤ و ٥.

٤٨

هذا ملخص ما أفاده العلامة الأصفهاني في كلام طويل له في رسالته المعمولة في المسألة ، ولكن الإنصاف ان رواية عقبة بن خالد أقوى ظهورا في اتصال هذه الفقرة بقضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الشفعة ومنع فضل الماء من رواية عبادة في الانفصال ، بيان ذلك : انه لا شك لمن تأمل رواية عبادة بن صامت انه لخص قضايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وارتكب التقطيع فيها ولم ينقلها مع مواردها بل نقلها مجردة عن ذكر المورد ، لأنا نعلم قطعا بعدم صدور هذه القضايا أو أكثرها عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا مقدمة ، بل كل واحد منها كان واردا في مورد خاص ، مثل قضية سمرة بن جندب وشبهها ؛ ولكن عبادة لخصها وجمعها في عبارة واحدة ، ومن هنا يحتمل قريبا ان يكون قد حذف قوله لا ضرر ولا ضرار عن ذيل قضائه في منع فضل الماء ؛ حيث لا يتفاوت معه المعنى حتى يعد خارجا عن حدود النقل بالمعنى المتداول بين الروات ، واكتفى بذكر هذه الفقرة أعني لا ضرر بعنوان قضاء مستقل لوروده في موارد مختلفة.

ومما يقرب هذه الاحتمال انه لا شك في ورود «لا ضرر» في ذيل قضية سمرة ولكن عبادة لم ينقل موردها بل اكتفى بنقل قضائه بان لا ضرر ولا ضرار مجردا عن كل شيء ؛ فيستكشف من ذلك عدم اعتنائه بنقل هذه الخصوصيات ، فاكتفائه بذكر هذه الفقرة مستقلة ؛ عن تذييل قضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشفعة ومنع فضل الماء بها ، قريب جدا.

هذا مع ان الكلام بعد في سند رواية عبادة بن صامت ، فان مجرد توثيق عبادة لو ثبت لا يكفي في الاعتماد على الرواية ، لاشتمال سندها على رجال آخرين لم يثبت لنا وثاقتهم لما عرفت من ان أحمد نقلها في مسنده بست وسائط عن عبادة ؛ هذا كله مضافا الى ان الجمع بين الروايات في نقل واحد بهذا الوجه (بإلحاق حكم يكون كالكبرى برواية خاصة تكون كالصغرى له) غير معهود من الروات ، بل هو أشبه بالفتاوى والاجتهادات التي تداولت بعد عصر الروات كما لا يخفى ؛ فالحاصل ان صرف النظر عن ظهور رواية عقبة في ورود جميع فقراتها في واقعة واحدة وارتباط بعضها ببعض بأمثال هذه الاحتمالات مشكل جدا ، ووجود «فاء التفريع» وان كان مؤيدا للاتصال ولكن عدمها لا يدل على عدمه ، بل العطف بالواو أيضا ظاهر فيه وان كان

٤٩

أضعف ظهورا من الفاء.

وقد تبع هذا المحقق على هذا القول ، المحقق النائيني قدس‌سرهما في رسالته المعروفة واستدل له مضافا الى ما ذكره بوجوه أخرى :

أحدهما ـ أن أقضية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مضبوطة عند الإمامية وأهل السنة ، وبعد اتفاق ما رواه العامة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مع ما رواه أصحابنا عن ابى عبد الله عليه‌السلام وبعد ورود «لا ضرر» مستقلا في طريقهم ، يحدس الفقيه ان ما ورد في طريقنا أيضا كان قضاء مستقلا من دون ان يكون تتمة لحديثى الشفعة ومنع فضل الماء وانما الحقه بها عقبة بن خالد من باب الجمع في الرواية والثقل

ثانيها ـ ان جملة «ولا ضرار» على ما سيجيء من معناها لا تناسب حديث الشفعة ولا حديث منع فضل الماء فلا يحتمل تذييلهما بها في كلام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثالثها ـ ان بيع الشريك بغير رضا شريكه ليس مقتضيا للضرر فضلا عن ان يكون علة له فلا يصح تعليل فساده بحديث لا ضرر ، وكذلك كراهة منع فضل الماء ـ على ما هو الأقوى من انه ليس وجه التحريم ـ لا يمكن تعليلها بلا ضرر ، فيستكشف من هذا عدم كونه من تتمة الحديثين.

ثمَّ أورد على نفسه بإمكان كونه من قبيل العلة في التشريع (يعنى به حكمة الحكم فأجاب عنه بأن حكمه الاحكام لو لم تكن دائمية فلا أقل من لزوم كونها غالبية والحال انه ليس الضرر في موارد الشفعة ومنع فضل الماء غالبيا هذه خلاصة ما افاده.

هذا ولكن يدفع الأول ما عرفت آنفا من ان القرائن شاهدة على عدم كون هذه الفقرة قضاء مستقلا حتى يلزم خلو رواية عقبة عنها ، بل الظاهر ان عبادة هو الذي حذف موردها أو مواردها وجعلها قضاء مستقلا ؛ وليس عليه حرج لعدم كونه بصدد نقل جميع الخصوصيات كما تنادي به روايته. ويشهد له أيضا ترك ذكر قضائه في حق سمرة بن جندب الذي وردت هذه الفقرة في ذيلها وكذلك عقبة بن خالد لم يذكر قضية سمرة وما حكمه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هناك ، فلعله أو كل أمرها إلى شهرتها ، أو لم يكن بصدد استقصاء جميع قضاياه صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنه لم يثبت لنا كونه بصدد ذلك ، فلا «عقبة بن خالد» كان بصدد

٥٠

استقصاء قضايا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا «عبادة» كان بصدد بيان خصوصيات قضاياه.

ويجاب عن الثاني بأنه يمكن ان يكون ذكر «ولا ضرار» بعد قوله «لا ضرر» من قبيل الاستشهاد بثلث فقرات من حديث الرفع (رفع ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوه وما اخطأوا) في رواية البزنطي وصفوان عن ابى الحسن عليه‌السلام الواردة في رجل اكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، فان مورد استشهاده عليه‌السلام لم يكن جميع الثلاثة ، بل خصوص رفع الإكراه ، وهذا أمر شائع عند الاستشهاد بالقضايا التي تشتهر بعبارة مخصوصة وجيزة ، فإنها كثيرا ما تنقل بجميعها في مقام الاستشهاد وان كان مورد الاستشهاد خصوص بعض فقراتها ، فذكر لا ضرار في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عقيب قوله لا ضرر عند قضائه في الشفعة أو منع فضل الماء ، تتميما لهذه القضية التي اعتمد عليها في غير مقام لا ينافي عدم انطباقه على مورد الحديثين ، وان هذا إلا مثل سؤال بعضنا عن بعض عن حكم النائم والجواب عنه بما ورد من رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ ، مع ان مورد الاستشهاد احدى فقراتها فقط ؛ هذا مضافا الى ان منافاة قوله «ولا ضرار» لمورد الحديثين غير واضح كما سيأتي البحث عنه إنشاء الله عند البحث عن معنى كلمتي الضرر والضرار فانتظر.

ويدفع الثالث ان حمل النهي في مسألة منع فضل الماء على الكراهة غير معلوم ، بيان ذلك : ان القدر المتيقن من مورد الرواية هو ما إذا كان الممنوع في حاجة شديدة ، ويشق عليه تحصيل ماء آخر لسقيه أو سقى مواشيه بحيث لو منع من فضل ماء البئر وقع في مضرة شديدة وحرج وضيق في المعيشة ، ولا إطلاق لها يشمل غير هذه الصورة ، فإنها واردة في حق أهل بوادي المدينة ومن ضاهاهم والظاهر ان الأمر بالنسبة إليهم ، وتلك الابار في ذاك العصر كان من هذا القبيل ولا أقل من الشك فلا يمكن التعدي عنها الى غير هذه الموارد. ثمَّ انه لا يبعد من مذاق الشارع المقدس ان يأمر مالك البئر ان لا يمنع فضل مائه في أمثال المقام اما مجانا وبلا عوض أو في مقابل القيمة ، على خلاف في ذلك بين القائلين بوجوب البذل كما عرفت شرحه عند نقل الأحاديث رعاية لمصالح جمع من ذوي الحاجة من المسلمين. وقاعدة تسلط الناس على أموالهم

٥١

وان كانت قاعدة مسلمة ثابتة عند الشرع والعقلاء ؛ الا انه لا مانع من تحديدها من بعض النواحي من قبل الشارع المقدس ، لمصالح هامة كما وقع التحديد من ناحية العقلاء في بعض الموارد ، كيف وقد حددها الشارع في مواضع أخر ؛ في مورد الاحتكار والأكل في المخمصة وأمثالهما.

ولا مانع من القول بوجوب بذل فضل الماء هنا كما صار اليه جمع من الفقهاء ، هذا شيخ الطائفة قد أوجب على مالك البئر بذل فضل مائه مجانا حيث قال فيما حكى عن مبسوطه : «ان كل موضع قلنا فيه يملك البئر فإنه أحق بمائها بقدر حاجته لشربه وشرب ماشيته وسقي زرعه ، فاذا فضل بعد ذلك شيء وجب بذله بلا عوض لمن احتاج اليه لشربه وشرب ماشيته ـ الى ان قال ـ اما لسقي زرعه فلا يجب عليه ؛ لكنه يستحب» وذكر في الخلاف نحوه ، وفي المختلف حكايته عن ابن الجنيد وعن الغنية أيضا ، فراجع.

نعم ظاهر المشهور عدم وجوب البذل ولعل الوجه فيه ترددهم في صحة أسانيد الروايات الدالة على هذا الحكم ـ كما حكى عن المسالك ـ أو استنادهم فيه الى عموم السلطنة وغيرها واستبعاد تخصيصها بأمثال هذه الروايات ، واستيفاء البحث عن هذا الحكم موكول الى محله من كتاب «احياء الموات».

والغرض من جميع ما ذكرنا ان القول بحرمة منع فضل الماء مما لا استبعاد فيه ، كما ان انطباق عنوان الضرر على القدر المتيقن من مورد الرواية بالنظر الوسيع العرفي قريب جدا كانطباقه على مورد الاحتكار وشبهه ؛ فاذن لا وجه للقول بان الذيل كان حديثا مستقلا وقع الجمع بينه وبين سائر فقرات الرواية من الراوي ، فانطباق لا ضرر على مورد الرواية قريب بعد ملاحظة ما ذكرنا في توضيحه ، والعجب ان المحقق النائيني قده لم يكتف بما ذكر حتى منع انطباق لا ضرر على مورد الرواية ولو بعنوان حكمة الحكم. مع ما عرفت من ان انطباقه على القدر المتقن من مورد الرواية بعنوان علة الحكم أيضا قريب فضلا عن حكمة الحكم. هذا كله مضافا الى ان التعليل بما يشتمل على حكم إلزامي لتأكيد الا وأمر الاستحبابية أو النواهي

٥٢

التنزيهية المؤكدة غير بعيد ، فمجرد كون الحكم المعلل غير إلزامي لا يكفى شاهدا للحكم بعدم تذييله بهذه العلة المشتملة علي حكم إلزامي فتدبر.

واما حديث الشفعة فلا مانع من ورود لا ضرر فيه بعنوان حكمة الحكم والقول بأن الحكمة لا بد أن تكون امرا غالبيا ، وليس الضرر الحاصل بترك الأخذ بالشفعة ولزوم بيع الشريك على شريكه كذلك ممنوع بعدم الدليل على لزوم كونها امرا غالبيا بل يكفى كونها كثير الوقوع ، وان لم يكن غالبيا بل لا يبعد كفاية عدم كونها نادرا ، الا ترى انه قد ورد في غير مورد من المناهي انه يورث الجنون أو البرص أو أمثال ذلك ، مع ان هذه اللوازم ليست دائمية بل ولا غالبية.

وأضعف منه القول بان الضرر الناشي من ترك الشفعة اتفاقي نادر الوقوع ـ كما يظهر من بعض كلمات المحقق النائيني في رسالته الميل إليه ـ فإنه ممنوع جدا لما نشاهد من حال الناس وعدم رضائهم بأي شريك بل الذين يرضونهم للشركة أقل بمراتب بالنسبة الى من لا يرضونه. ولا شك لمن لا حظ حال الشركاء في المساكن والأرضين وغيرها انه لو لا حكم الشفعة وجاز للشريك بيع حصته ممن شاء عمن دون رعاية نظر شريكه ، لوقع بين الناس من التشاجر والتنازع والبغضاء وفساد الأموال والأنفس ما لا يخفى. نعم هذا الضرر ليس دائميا حتى يصلح لان يكون علة لهذا الحكم ولكنه يصلح ان يكون حكمة له بلا اشكال.

ولقائل أن يقول : كيف يجعل حكم واحد (مثل لا ضرر) علة في مقام مثل قضية سمرة ؛ وحكمة في مقام آخر كما فيما نحن فيه؟ وقد أشار الى هذا الاشكال المحقق النائيني في رسالته وارتضاه. لكن الإنصاف انه أيضا في غير محله لعدم المانع من ذلك أصلا ، وهل ترى مانعا من جعل حفظ النفوس حكمة في باب القصاص والديات ؛ وعلة في باب وجوب بذل الطعام عند المخمصة لمن لا يجد اليه سبيلا بل قد يكون حكم واحد في قضية واحدة علة من جهة وحكمة من اخرى ، كما نريهم يسرحون بان الإسكار علة لتحريم الخمر ولذا يجوز التعدي عن الخمر إلى سائر المسكرات ؛ مع ما يرى منهم انه من قبيل الحكمة من جهة المقدار والكم ؛ وان «ما أسكر كثيره فقليله حرام»

٥٣

كما ورد في عدة روايات ، وحينئذ أي مانع من جعل قول الشارع «لأنه مسكر» مثلا علة في بعض المقامات وحكمة في أخرى مع جوازه في مقام واحد من جهتين.

ولا يتوهم ان ذلك يوجب اختلافا في معنى هذه الفقرة حتى يستبعد استعمالها في معنيين مختلفين (ولو في مقامين مختلفين كما في محل البحث) فان المعنى في الجميع واحد لا اختلاف فيه أصلا ، وانما الاختلاف في كيفية التعليل بها ونحو ارتباط هذه الكبرى مع صغراها ، فإنها قد تكون علة لتشريع حكم عام فتكون حكمة ، ولا يجب دوران ذلك الحكم مدارها بل قد تتخلف عنها كما في حكم الشفعة ، وفي بعض المقامات تكون ضابطة كلية تلقى الى المكلفين يدور الحكم معها حيثما دارت ، واما تشخيص كون العلة من قبيل الأول أو الثاني فإنما هو من القرائن اللفظية والمقامية وكيف كان فلا يتوجه على الحديث إيراد من هذه الناحية أيضا.

وقد تحصل مما ذكرنا ان الاستشكال في مناسبة لا ضرر لمورد الحديثين ضعيف جدا ، ولو بنى على أمثال هذه التشكيكات جرى الإشكال في كثير من الظواهر المرتبطة بعضها ببعض ، والانصاف انا لو خلينا وأنفسنا لا نجد أي فرق بين هذين الحديثين وسائر الروايات الواردة في وقائع مختلفة المشتملة على ذكر التعليلات والكبريات ، بل لعله لو لم يفتح باب هذا التشكيك ما كان يبدو في أذهانهم قدس الله أسرارهم شيء من هذه الإيرادات وانما حصلت ما حصلت بعد إبداء هذا الاحتمال.

وإذ قد عرفت ذلك فلنرجع الى بيان مفاد هذه الفقرة التي هي العمدة في مدرك هذه القاعدة ، والبحث عنها تارة يكون حول مفردات الحديث اعنى كلمتي «الضرر» و «الضرار» واخرى في معنى الجملة ، فيقع البحث في مقامين :

الأول في معنى الضرر والضرار

قد اختلف عبارات اللغويين في معناهما فاما الضرر :

فعن «الصحاح» انه خلاف النفع.

وعن «القاموس» : انه ضد النفع وانه سوء الحال.

وعن «النهاية» و «مجمع البحرين» : انه نقص في الحق.

٥٤

وعن «المصباح» انه فعل المكروه بأحد والنقص في الأعيان.

وذكر الراغب في «مفرداته» انه سوء الحال ، اما في النفس لقلة العلم والفضل واما في البدن لعدم جارحة ونقص ، واما في الحال من قلة مال وجاء (١).

والظاهر ان الاختلاف بين هذه التعبيرات من جهة وضوح معنى الكلمة لا لاختلاف في معناها ، بل الرجوع الى أقوال أهل اللغة ـ لو قلنا بحجية قول اللغوي ـ في أمثال هذه المقامات التي يكون المعنى ظاهرا عند أهل العرف يعرفه كل من انس بهم ولو من غير أهل لسانهم ، مشكل ، لان الرجوع إليهم من باب رجوع الجاهل الى العالم وأهل الخبرة ، وهنا ليس كذلك لان كل من يزاول هذه اللغة كمزاولتنا يكون من أهل الخبرة بالنسبة إلى أمثال هذه اللغات الدارجة ، بحيث يحصل له من تتبع موارد استعمالاتها الكثيرة نوع ارتكاز بالنسبة إلى معناها اللغوي يمكنه الرجوع اليه عند الشك في بعض مصاديقه ؛ مضافا الى انه ليس من دأب اللغويين التعرض لخصوصيات معنى هذه اللغات اتكالا على وضوحها ، فاللازم علينا الرجوع الى ما ارتكز في أذهاننا وأذهان أهل العرف من معناها.

والذي نجده من ارتكازنا الحاصل من تتبع موارد استعمالات هذه الكلمة ان معناها هو «فقد كل ما نجده وننتفع به من مواهب الحيات من نفس أو مال أو عرض أو غير ذلك» وما قد يقال بعدم صدقه في موارد فقد العرض كما ترى نعم استعماله في بعض موارد فقد العرض قليل ، بل الظاهر صدقه في موارد اجتماع الأسباب وحصول المقتضى لبعض وتلك المنافع إذا منع منه مانع ، كما ان الظاهر انه مقابل للنفع كما يشهد به كثير من آيات الذكر الحكيم مثل قوله تعالى (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) وقوله : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) ، وقوله (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) ، وقوله : عز من قائل (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ؛ الى غير ذلك.

هذا والأمر فيه سهل بعد إمكان الرجوع الى ما ارتكز في الذهن من تتبع موارد

__________________

(١) ذكره في معنى الضر بالضم والتشديد وهو والضرر بالفتح والضرر بمعنى واحد كما وقع التصريح به في بعض كلمات اللغويين.

٥٥

استعمالاته عند الشك في بعض مصاديقه فان الرجوع الى هذا الارتكاز يغني عن إتعاب النفس في تحصيل ضابطة كلية له.

واما الضرار فهو مصدر باب المفاعلة من ضاره يضاره ؛ وذكر في معناه أمور :

الأول ـ انه فعل الاثنين والضرر فعل الواحد.

الثاني ـ انه المجازاة على الضرر.

الثالث ـ انه الإضرار بالغير بما لا ينتفع به بخلاف الضرر فإنه الإضرار بما ينتفع

الرابع ـ انهما بمعنى واحد. ذكر هذه المعاني الأربعة في «النهاية» وظاهرها انه مشترك لفظي بين هذه المعاني.

الخامس ـ انه بمعنى الضيق ذكره في القاموس.

السادس ـ انه الإضرار العمدي والضرر أعم منه ؛ مال اليه المحقق النائيني في آخر كلامه بعد ان جعلهما بمعنى واحد في أول كلامه ولذا احتمل كونه للتأكيد في محل الكلام والتحقيق ان المعنى الأخير أقرب من الجميع فإنه الذي يظهر بالتتبع في موارد استعماله في الكتاب العزيز والروايات قال الله تعالى (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا)(١) فان قوله (لِتَعْتَدُوا) من أقوى الشواهد على ان الضرار هنا بمعنى التعمد في الضرر بقصد الاعتداء وقد مر في رواية العشرين من الروايات السابقة ما يؤيده ويؤكده وقوله تعالى (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)(٢) وقد مر ان المعروف في تفسيرها انه تعالى نهى عن إضرار الا بولدها بترك إرضاعه غيظا على أبيه وعن إضرار الأب بولده بانتزاعه عن امه طلبا للإضرار بها.

وقوله تعالى (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)(٣) وكونه بمعنى الإضرار العمدي بالسحر واضح ، وقوله عز من قائل (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ)(٤) وقد مر ان المعروف في تفسيرها النهى عن الإضرار بالورثة بإقراره بدين ليس عليه

__________________

(١) البقرة ـ ٢٣١.

(٢) البقرة ٢٣٣.

(٣) البقرة ـ ١٠٢.

(٤) النساء ـ ١٢

٥٦

دفعا لهم عن ميراثهم.

وقوله تعالى (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ)(١) نهى عن الإضرار بالمطلقات والتضييق عليهن في النفقة والسكنى طلبا للإضرار بهن. وقد مضى في الحديث التاسع من الأحاديث السابقة المروية عن هارون بن حمزة الغنوي عن ابى عبد الله عليه‌السلام من ان البعير المريض إذا برء وطلب الشريك الرأس والجلد فهو الضرار ، ولا يخفى انه إذا ازدادت القيمة بالبرء ومع ذلك طلب الرأس والجلد فليس الا لقصد الإضرار بصاحبه بل الظاهر ان قوله في رواية سمرة : انك رجل مضار ناظر الى هذا المعنى فإن القرائن تشهد على انه لم يقصد بعمله إلا الإضرار بالأنصاري فهذا المعنى أقرب معانيه.

واما احتمال كونه فعل الاثنين فالظاهر انه بملاحظة كونه من باب المفاعلة ، ولكنه قياس في غير محله لعدم استعماله في شيء من الموارد التي أشرنا إليها آنفا في هذا المعنى.

واما كونه بمعنى المجازاة على الضرر ، فلعله مأخوذ من سابقة وهو أيضا ضعيف لما عرفت.

واما كونه بمعنى الإضرار بالغير بما لا ينتفع ، فالظاهر انه من لوازم المعنى المختار في كثير من الموارد فهو من قبيل ذكر الملزوم وارادة اللازم.

واما كونهما بمعنى واحد فهو في الجملة صحيح على ما ذكرنا لان الضرر أعم من العمدي وغيره فيتصادقان في العمدي ويفترقان في غيره.

واما كونه بمعنى «الضيق» كما ذكره في القاموس بناء على ان المراد منه الإيقاع في الحرج والكلفة في مقابل الضرر الذي هو إيراد نقص في الأموال والأنفس (كما قد يفسر بذلك) فهو أيضا مما لا يمكن المساعدة عليه ، فإنه لا يلائم موارد استعماله ، فان قوله تعالى (أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) ناظر إلى الإضرار بالورثة ضررا ماليا بان يوصي بوصية أو يقر بدين ليس عليه ، منعا لهم عن حقهم كما عرفت في أوائل الكتاب ، ولو قيل ان هذا عين الإلقاء في الضيق والكلفة قلنا بان جميع موارد إيراد النقص في الأموال والأنفس

__________________

(١) الطلاق ـ ٦.

٥٧

من هذا القبيل.

وقد مر في الرواية الخامسة عشرة أيضا : ان الضرار في الوصية من الكبائر ، وهو أيضا مستعمل في هذا المعنى أعني إيراد النقص المالى على الغير ، وقد مر في رواية هارون بن حمزة الغنوي (الرواية العاشرة) استعماله في مورد الضرر المالى ، وأيضا قوله تعالى (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) يشمل الضرر في الأموال والأنفس بلا إشكال فإنه من أوضح مصاديق السحر وقد استعمل الضرر أيضا في هذا المورد بعينه في قوله تعالى : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ).

وبالجملة القرائن الكثيرة المستفادة من موارد استعمال هذه الكلمة تؤكد كونها بمعنى التعمد في الضرر.

واما سائر المعاني المذكورة فهي اما ناشئة من توهم كونه بين الاثنين لكونه مصدرا لباب المفاعلة واما تكون من لوازم المعنى المختار أو غير ذلك من الأمور التي لا يسعنا الاعتماد عليه. هذا تمام الكلام في معنى كلمتي «الضرر» و «الضرار»

الثاني ـ في معنى الحديث ومفاده

اعلم ان في معنى الحديث الشريف احتمالات قال بكل منها قائل :

الأول ـ ان معنى نفى الضرر نفى الأحكام الضررية ، اما بان يكون مجازا من باب ذكر المسبب وارادة السبب كما يظهر من شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري فإن لزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون وكذا الحكم بجواز دخول سمرة دار الأنصاري بغير اذنه موجب للضرر (وان كان له حق العبور في الجملة) فنفى الضرر هنا بمعنى نفى ذلك الحكم الوضعي أو التكليفي المستلزم له ، وهكذا في سائر المقامات واما يكون إطلاق الضرر على الحكم الموجب له من باب الحقيقة الادعائية ؛ كما هو الشأن في جميع المجازات على قول جمع من المحققين ، واما من باب الإطلاق الحقيقي بلا احتياج الى الادعاء كما اختاره المحقق النائيني قدس‌سره.

الثاني ـ انه من قبيل نفى الحكم بلسان نفى الموضوع ، بان يكون نفى الضرر كناية عن نفى احكام الضرر في الشريعة ، اختاره المحقق الخراساني قدس‌سره في

٥٨

الكفاية وفي حاشيته على الفوائد ، ولكن الظاهر ان مختاره في الكتابين وان كان متقارب المضمون الا ان بينهما فرقا من حيث ان ظاهر كلامه في الأول ان نفى الضرر كناية عن نفى جميع احكامه ، وظاهر الثاني انه كناية عن نفى الإضرار بالغير أو تحمل الضرر عنه خاصة ، فراجعهما وتأمل.

الثالث ـ ان يكون المراد من نفى الضرر نفى صفة من صفاته اعنى «عدم التدارك» فقوله : لا ضرر اى : لا ضرر غير متدارك موجود في الشريعة ، حكاه العلامة الأنصاري في رسالته المطبوعة في ملحقات المكاسب من بعض الفحول ولم يسمه. وهذه الاحتمالات الثلاثة تبتنى على إرادة النفي من لفظة «لا».

الرابع ـ ان يكون المراد منه النهى عن إضرار الناس بعضهم ببعض بان يراد من لفظة «لا» النهى ، اختاره جمع من اعلام المتأخرين وفي مقدمهم علامة عصره شيخ الشريعة الأصفهاني في رسالته التي صنفها في هذه القاعدة وهي رسالة نافعة مشتملة على فوائد جمة من أشباه التركيب أيضا بما سيأتي الإشارة اليه ، ومن كلمات أئمة اللغة أيضا.

فهذه أقوال أربعة في معنى الحديث ، لو لم نجعل ما ذكره المحقق الخراساني في الحاشية والكفاية قولين مختلفين ، ويختلف مفادها ونتائجها : فعلى الأخير يسقط الحديث عن الاستدلال به في الأبواب المختلفة من الفقه بالكلية ، ولا يستفاد منه الا حكم فرعى تكليفي بعدم جواز إضرار الناس بعضهم ببعض ؛ وعلى الثالث لا يستفاد منه إلا لزوم الغرامة والتدارك في موارد الإضرار ، واما على الأولين يكون مشتملا على قاعدة عامة حاكمة على عمومات الاحكام الأولية بما سنتلو ذكره إنشاء الله ، ولكن الحق انه لا تظهر ثمرة مهمة بين هذين كما ستعرف.

المختار في معنى الحديث

ولنذكر أولا ما قيل أو يمكن ان يقال في توجيه كل واحد من المعاني المذكورة حتى تكون على بصيرة من أمرها ، ثمَّ لنبحث عما هو المختار سواء أكان بين هذه المعاني أو معنى آخر سواها فنقول ومن الله الهداية

٥٩

أما المعنى الرابع فغاية ما يمكن ان يقال في توجيهه ما ذكره شيخ الشريعة الأصفهاني في رسالته ، فإنه (قده) انتصر له باوفى البيان واتى بما لا مزيد عليه وإليك نص عبارته :

«ان حديث الضرر محتمل عند القوم لمعان : أحدها ان يراد به النهى عن الضرر ، فيكون نظير قوله تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) وقوله تعالى (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) ، اى لا يمس بعض بعضا فصار السامري يهيم في البرية مع الوحش والسباع لا يمس أحدا ؛ ولا يمسه احد ؛ عاقبه الله تعالى بذلك وكان إذا لقي أحدا يقول : لا مساس! اى لا تقربني ولا تمسني ، ومثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام ، وقوله لا جلب ولا جنب ولا اعتراض ، وقوله لا إخصاء في الإسلام ولا بنيان كنيسة وقوله لا حمى في الإسلام ، وقوله ولا مناجشة ، وقوله لا حمى في الأراك ؛ وقوله لا حمى الا ما حمى الله ورسوله ، وقوله لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ، وقوله لا صمات يوم الى الليل ، وقوله لا صرورة في الإسلام ، وقوله لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وقوله لا هجر بين المسلمين فوق ثلثة أيام وقوله لا غش بين المسلمين.

هذا كله مما في الكتاب والسنة النبوية ، ولو ذهبنا لنستقصى ما وقع من نظائرها في الروايات واستعمالات الفصحاء نظما ونثرا لطال المقال وادى الملال ، وفيما ذكرنا كفاية في إثبات شيوع هذا المعنى في هذا التركيب ، اعنى تركيب «لا» التي لنفى الجنس وفي رد من قال في إبطال احتمال النفي ان النفي بمعنى النهى وان كان ليس بعزيز الا انه لم يعهد من مثل هذا التركيب».

ثمَّ ذكر في تأييد هذا المعنى في كلام له في غير المقام ما نصه : ولنذكر بعض كلمات أئمة اللغة ومهرة أهل اللسان تراهم متفقين على إرادة النهي لا يرتابون فيه ولا يحتملون غيره ، ففي «النهاية الأثيرية» : قوله لا ضرر اى لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه ؛ والضرار فعال من الضرر اى لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه ، وفي «لسان العرب» وهو كتاب جليل في اللغة في عشرين مجلدا معنى

٦٠