القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

المقام الثاني

حكم العبادات والأعمال

الصادرة تقية

هل يجوز الاكتفاء بالأعمال الصادرة على خلاف الواقع تقية أم لا؟

وقبل كل شيء لا بد من بيان الأصل الاولى في المسئلة كي يرجع اليه عند إعواز الدليل على احد الطرفين فنقول ومن الله التوفيق :

الظاهر ان الأصل هنا هو الفساد إذا كان أدلة الجزئية والشرطية في الجزء أو الشرط الذي أخل به تقية مطلقة.

توضيح ذلك : إذا عمل بالتقية في الأحكام كالصلاة متكتفا (اى قابضا لليد) أو الوضوء مع المسح على الخفين ، أو في الموضوعات كالإفطار في يوم الشك خوفا من سلطان جائر حكم بأنه يوم عيد مع عدم ثبوته أو اليقين بأنه من رمضان ، فلا شك في انه أخل ببعض الاجزاء أو الشرائط أو بعض الموانع المعتبرة عدمها في صلاة المختار أو وضوئه أو صيامه.

فلو كان دليل وجوب المسح على البشرة مثلا عاما شاملا لحالتي الاختيار والاضطرار ، بحيث لم يختص وجوبه بالأول فقط ، كان مقتضى الدليل الحكم بفساد مثل هذا الوضوء وكذا الصلاة التي تؤتى معه.

فهو وان كان معذورا من جهة التقية في ترك الوضوء الواجب عليه الا ان معذوريته تكليفا لا تمنع عن فساد عمله ، ولزوم الإعادة في الوقت أو القضاء خارجه ، وضعا.

الا ان يدل دليل على اجزاء هذا العمل وصحته ، بحيث كان حاكما على

٤٤١

أدلة الجزئية والشرطية والمانعية.

فالأصل الاولى في جميع هذه الاعمال هو الفساد ما لم يثبت خلافه.

وهل يجوز التمسك بحديث الرفع لإثبات أصل ثانوي على الصحة لأن المقام داخل في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «وما أكرهوا عليه وما اضطروا اليه» قد يقال انه كذلك وانه بناء على شمول الحديث للأحكام الوضعية ترتفع الجزئية وما شاكلها لصدق الاضطرار على موارد التقية بلا اشكال ، بل صدق الإكراه عليها أيضا أحيانا.

ولكن الإنصاف انه محل للإيراد صغرى وكبرى :

اما الصغرى فلان عنوان الإكراه غير صادق هنا مطلقا ، لأنه لا بد فيه من توعيد وتخويف غير موجود في موارد التقية عادتا ، لأن المأخوذ في مفهومها هو الاختفاء ، وهو لا يساعد الإكراه الذي يخالط العلم بالشيء.

واما الاضطرار فهو مختص بالتقية الصادرة خوفا لا في أمثال التقية التحبيبى ، أو مثل تقية إبراهيم مقدمة لكسر الأصنام وإيقاظ عبدتها عن نومتهم ، بما هو مذكور في كتاب الله العزيز ، وأمثالها. فهذا الدليل لو تمَّ لكان أخص من المدعى.

واما الكبرى فهي متوقفة على شمول حديث الرفع للآثار الوضعية وعدم اختصاصه برفع المؤاخذة ، مضافا الى ان الجزئية والشرطية ـ كما ذكر في محله ـ ليستا من الأحكام الوضعية وكذا المانعية ، بل هي انتزاعات عقلية عن الأمر بالجزء والشرط وترك المانع فتدبر.

والعجب من العلامة الأنصاري قدس‌سره انه ذكر في رسالته هنا ان «الانصاف ظهور الرواية في رفع المؤاخذة» فأسقط دلالتها على المطلوب.

٤٤٢

ولكن قال في «الفرائد» بعد ذكر الاحتمالات الثلث فيها ، ان رفع المؤاخذة أظهر ، نعم يظهر من بعض الاخبار الصحيحة عدم اختصاص الموضوع عن الأمة بخصوص المؤاخذة ثمَّ ذكر رواية المحاسن المعروفة ، في الإكراه على الخلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك فجعلها شاهدة على عدم اختصاص الحديث برفع خصوص المؤاخذة.

اللهم الا ان يقال انه قد رجع عن عقيدته في الرسالة ، والأمر سهل.

هذا ولكن ذكرنا في محله من أصل البراءة ان الرفع هنا مقابل الوضع وهو وضع الفعل على عاتق المكلف فكان الفعل الواجب أو ترك الحرام وضع على المكلف في عالم الاعتبار ، وله ثقل ، فالموضوع هو نفس الافعال أو التروك ، لا التكليف من الوجوب أو الحرمة ، بل التكليف هو نفس الوضع لا الموضوع ، واما الموضوع عليه فهو المكلف (تدبر جيدا).

فمتعلق الرفع أيضا الأفعال الخارجية التي لها ثقل في عالم الاعتبار ، فهو كناية عن نفى التكاليف كما ان الوضع كناية عن التكليف. والحاصل ان نائب الفاعل في رفع أو وضع عنه (لا وضع عليه الذي هو بمعنى التكليف) هو نفس الافعال ، فرفعها كناية عن عدم التكليف بها ، فعلى هذا يمكن ان يقال :

ان المسح على البشرة إذا اضطر الى تركه للتقية ، بنفسها مرفوعة عن عاتق المكلف فليس مأمورا به وكذا أشباهه فنفس الاجزاء والشرائط وترك الموانع داخله تحت حديث الرفع ، ترتفع عن المكلف عند اضطراره الى تركها ، فلا مانع من شمول الحديث بنفسها لها ويكون حديث المحاسن

٤٤٣

مؤيدا له. وتتمة الكلام في محله.

ولكن قد عرفت ان حديث الرفع لو تمَّ لم يشمل إلا موارد الاضطرار من التقية لا جميع أقسامها على اختلافها.

فتلخص مما ذكر ان شمول حديث الرفع لجميع موارد المسئلة مشكل.

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل في المسئلة وقد تحصل منه ان الأصل الاولى هو الفساد الا ان يدل حديث الرفع أو دليل خاص من عمومات التقية وغيرها على الصحة.

هل هناك عموم أو إطلاق يدل على الاجزاء؟

لا ينبغي الشك في انه إذا أمر الشارع المقدس بإتيان عبادة على وفق التقية انه يوجب الاجزاء ، كما إذا قال امسح على الخف عند التقية ، أو صل متكتفا ، أو شبه ذلك.

وفي الحقيقة هذا داخل في المأمور به بالأمر الاضطراري ، نظير الصلاة مع الطهارة المائية ، وقد حقق في محله ان الأوامر الاضطرارية تدل على الاجزاء بلا اشكال ولا يجب اعادتها بعدها.

نعم ، الكلام هنا فيما إذا كان التقية في بعض الوقت أو في تمام الوقت كالكلام هناك إذا كان الاضطرار (كفقدان الماء) في خصوص الوقت أو تمامه.

فان كان هناك إطلاق يدل على جواز العمل بالتقية لو اضطر إليها ،

٤٤٤

ولو في بعض الوقت ، اجزئه ولا تجب الإعادة في الوقت إذا ارتفع سبب التقية ، واما لو لم يكن هناك عموم أو إطلاق كذلك ، لم يجز الاكتفاء به بل لا بدان يكون العذر شاملا ومستوعبا لجميع الوقت ، كما ذكر مثل ذلك كله في التيمم وسائر الابدال الاضطرارية.

وعليه يبتني جواز البدار في أول الوقت وعدمه ؛ إذا كان مصاحبا للعذر في أوله مع رجاء زواله في آخره.

هذا كله إذا ورد الدليل على جواز العمل بالتقية في العبادة بعنوانها العام ، أو في خصوص عبادة معينة كالصلاة مثلا ، فإنها ـ على كل حال ـ أخص من أدلة تلك العبادة أو كالأخص.

واما إذا ورد الأمر بها بعنوان غير عنوان العبادة بل بعنوان عام ، كقوله : «التقية في كل ما يضطر إليه الإنسان» فإن ذلك لا يدل على الاجزاء ، ولا يدخل تحت أدلة الأوامر الاضطرارية ، فإن غاية ما يستفاد من ذلك ، جواز العمل على وفق التقية ولو استوجب ارتكاب ما هو محرم بالذات.

فهو كالدليل الدال على «ان كل شيء حرمه الله فقد أحله لمن اضطر ـ إليه» فإنه لا يدل على أزيد من الحكم التكليفي وجواز العمل عند الضرورة ، ولا دلالة له على الحكم الوضعي من حيث الصحة والفساد.

وللمحقق الأجل شيخنا العلامة الأنصاري (قدس‌سره) في المقام كلام لا يخلو عن نظر :

قال في رسالته المعمولة في المسئلة في ملحقات مكاسبه : «اللازم ملاحظة أدلة الاجزاء أو الشرائط المتعذرة لأجل التقية ، فإن اقتضت مدخليتها

٤٤٥

مطلقا فاللازم الحكم بسقوط الأمر عن المكلف حين تعذرها ، ولو في تمام الوقت ، كما لو تعذرت الصلاة في تمام الوقت الا مع الوضوء بالنبيذ ـ الى ان قال ـ فهو كفا قد الطهورين.

وان اقتضت مدخليتها في العبادة بشرط التمكن منها دخلت في مسئلة اولى الاعذار في انه إذا استوعب العذر الوقت ، لم يسقط الأمر رأسا وان كان في جزء من الوقت ، كان داخلا في مسئلة جواز البدار لهم وعدمه». (هذا محصل كلامه).

والحق ان يقال : انه لا بد من ملاحظة أدلة جواز التقية فإن كانت ناظرة إلى العبادات كان حاكما عليها ولا يلاحظ النسبة بينهما كما عرفت ، وكان كالأوامر الاضطرارية الواردة في اجزاء العبادات وشرائطها.

وان لم تكن كذلك بل كانت دالة على جواز التقية مطلقا بعنوان الاضطرار فلا دلالة لها على الاجزاء ، نعم لو كان في أدلة الاجزاء والشرائط قصورا بحيث كانت مختصة بحال الاختيار فقط كان العمل مجزيا لسقوط الجزء والشرط حينئذ واما لو كانت مطلقة ـ كما هو الغالب فيها ـ فلا وجه للاجزاء

وإذ قد تبين ذلك فلنرجع إلى إطلاقات أدلة التقية وملاحظة حالها وانها من اى القسمين ، وكذلك الأدلة الخاصة الواردة فيها وملاحظة حدودها وخصوصياتها.

فنقول : يدل على الاجزاء روايات :

١ ـ ما رواه الكليني (قدس‌سره) في الكافي عن ابى عمر الأعجمي عن ابى عبد الله عليه‌السلام في حديث : والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح

٤٤٦

على الخفين (وقد نقلناه سابقا عن الوسائل الحديث ٣ من الباب ٢٥ من أبواب الأمر بالمعروف).

وهو دليل عام ناظر الى العبادات أيضا بقرينة استثناء المسح على الخفين فإنه إخراج ما لولاه لدخل ، فهو شاهد على كون العام بعمومه ناظرا إلى الأعمال العبادية التي تصدر عن تقية ولكن في سند الحديث ضعف ظاهر لجهالة حال ابى عمر الأعجمي بل لم يعرف اسمه وكأنه لا رواية للرجل إلا في هذا الباب فقط.

٢ ـ ما رواه في الكافي أيضا بسند صحيح عن زرارة قال : قلت له في مسح الخفين تقية؟ فقال : ثلاثة لا اتقى فيهن أحدا شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج (الحديث ٥ من الباب ٢٥).

فان مفهومها جواز التقية في غيرها من العبادات ، وحيث ان اثنين منها من العبادات تدل على جريان التقية في غيرها مطلقا حتى العبادات فتكون ناظرة إليها أيضا فيثبت المقصود وهو تحصيل عموم يدل الأمر بها حتى في العبادات يستكشف منه الاجزاء.

وقد مر في باب التقية المحرمة معنى استثناء هذه الثلاثة ومعنى استنباط زرارة من اختصاصه الثلاثة به عليه‌السلام دون غيره ، وانه في غير محله ، ومخالف لغيره من الأحاديث فراجع هناك.

٣ ـ ما عن الخصال بإسناده عن على عليه‌السلام في حديث الأربعمائة قال : ليس في شرب المسكر والمسح على الخفين تقية (١).

__________________

(١) رواه في الوسائل في الجلد الأول الحديث ١٨ من الباب ٣٨ من أبواب الوضوء.

٤٤٧

ودلالته كسابقة من حيث المفهوم وغيره :

٤ ـ ما روى في الجلد ٨ من الوسائل من أبواب أقسام الحج عن درست الواسطي عن محمد بن فضل الهاشمي قال دخلت مع إخواني على ابى عبد الله عليه‌السلام فقلنا انا نريد الحج وبعضنا صرورة فقال : عليك بالتمتع ثمَّ قال انا لا نتقي أحدا بالتمتع بالعمرة إلى الحج واجتناب المسكر والمسح على الخفين معناه لا نمسح (١).

وهو أيضا دليل أو مشعر بجواز التقية في غير هذه الثلث.

٥ ـ ما رواه في الوسائل في المجلد ٥ في الباب ٥٦ من أبواب صلاة الجماعة عن سماعة قال : سألته عن رجل كان يصلى فخرج الامام وقد صلى الرجل ركعة من صلاة فريضة قال : ان كان اماما عدلا فليصل اخرى وينصرف ويجعلها تطوعا وليدخل مع الإمام في صلوته كما هو ، وان لم يكن امام عدل فليبن على صلاته كما هو ويصلى ركعة أخرى ويجلس قدر ما يقول اشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله ثمَّ ليتم صلوته معه على قدر ما استطاع فإن التقية واسعة وليس شيء من التقية الا وصاحبها مأجور عليها ان شاء الله (٢).

وهذه من أقوى الروايات دلالة على جواز التقية في العبادات و ـ الاكتفاء بها كما في الأوامر الاضطرارية مثل التيمم ونحوه.

هذه الروايات الثلث يمكن استفادة حكم العبادات عنها بالخصوص واما ما يدل على عنوان عام يدخل العبادات تحته بعمومها وإطلاقها فهو أيضا

__________________

(١) الحديث ٥ من الباب ٣ من أبواب أقسام الحج

(٢) الحديث ٢ من الباب ٥٦ من أبواب صلاة الجماعة.

٤٤٨

كثير منها :

٦ ـ ما رواه أيضا في الكافي عن زرارة عن زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : التقية في كل ضرورة وصاحبها اعلم بها حين تنزل به (الحديث ١ من الباب ٢٥).

٧ ـ ما رواه أيضا في الكافي عن زرارة ومحمد بن مسلم وغيرهما قالوا سمعنا أبا جعفر عليه‌السلام يقول : التقية في كل شيء يضطر اليه ابن آدم فقد أحله الله له (الحديث ٢ من الباب ٢٥).

٨ ـ ما رواه في المحاسن عن عمر بن يحيى بن سالم (أو معمر بن يحيى) عن ابى جعفر عليه‌السلام قال التقية في كل ضرورة (الحديث ٨ من الباب ٢٥).

٩ ـ ما رواه عن مسعدة بن صدقة عن ابى عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : وكل شيء يعمله المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدى الى الفساد في الدين فإنه جائز (الحديث ٦ من ٢٥).

دل هذه الروايات الأربع على ان التقية تجري في كل ما يضطر إليه الإنسان ، وظاهرها وان كان الجواز من حيث الحكم التكليفي والجواز في مقابل الحرمة الموجودة في الشيء بعنوانه الاولى ، الا ان عمومها يدل على جريانها في العبادات أيضا ، لا سيما ان التقية فيها من أظهر مصاديقها ومن أشدها وأكثرها ابتلاء ، والجواز التكليفي بإتيان العبادة على وجه التقية لدفع ما يترتب على تركه من الضرر وان كان لا ينافي وجوب إعادتها في الوقت أو خارجه إذا ارتفع العذر ، ولكن هذا أمر يحتاج الى البيان لغالب الناس والتوجيه اليه ، وسكوت هذه العمومات وسائر أدلة وجوب التقية

٤٤٩

أو جوازها في مواردها ، عن الإشارة إلى وجوب القضاء أو الإعادة مما يوجب الاطمئنان بجواز الاكتفاء بما يؤتى تقية ، ولو لم تكن العمومات السابقة.

والحاصل ان هذه الروايات المطلقة والروايات السابقة ـ بعد معاضدة بعضها ببعض ـ تؤسس لنا أصلا عاما وهو جواز الاكتفاء بالعبادات التي يؤتى بها تقية في مواردها ، كما في الأوامر الواقعية الاضطرارية.

وهناك روايات أخر واردة في أبواب الصلاة أو غيرها تدل أو تشير إلى صحة العمل على وجه التقية في موردها بالخصوص.

وفي مجموع هذه غنى وكفاية على ما نحن بصدده من صحة العبادات في حال التقية من غير حاجة الى الإعادة والقضاء.

وهناك مسئلة مهمة تكون كالتتمة لهذه المسئلة نفردها بالبحث لمزيد الاهتمام بها وهي حال الصلاة التي يؤتى بها تحبيبا وتوسلا الى حفظ الوحدة مع المخالفين في المذهب وحكم الاكتفاء بها.

٤٥٠

حكم الصلاة التي يؤتى خلف المخالف والمعاند

في المذهب تحبيبا وحفظا للوحدة

لا اشكال ولا كلام في جواز الصلاة خلف المخالف في المذهب عند الخوف وجواز الاعتداد بها ، وهل يجب فيها ملاحظة عدم المندوحة وعدم إمكان الصلاة في زمان أو مكان آخر ، فيه كلام سيأتي ان شاء الله في تنبيهات التقية.

إنما الكلام في انه هل يجوز الصلاة خلفهم عند عدم الخوف أيضا بل من باب حسن العشرة معهم ، والتحبب إليهم ، كما هو كذلك في عصرنا هذا غالبا ، لا سيما في مواسم الحج فان عدم الحضور في جماعتهم ليس مما يخاف منه على نفس أو مال أو عرض ، ولكن الدخول معهم في صلوتهم أوفق بالاخوة الإسلامية وأقرب الى حسن العشرة.

ظاهر طائفة كثيرة من الاخبار رجحان ذلك والندب اليه مؤكدا ، بل لعلها متواترة في هذا المضمون.

وهل ينوي الاقتداء بها أو ينوي منفردا ويقرأ في نفسه مهما أمكن

٤٥١

ويأتي بما يأتي به المنفرد ولكن يأتي بالأفعال معهم للغايات المذكورة ،

ثمَّ لو قلنا بأنه ينوي الاقتداء فهل يعتد بتلك الصلاة أو يصلى صلاة اخرى قبلها أو بعدها على وفق مذهبه.

ولو قلنا انه لا ينوي الاقتداء بل يصلى صلاة المنفرد فهل يعتد بها إذا أخل ببعض الاجزاء أو الشرائط حفظا لظاهر الجماعة أو يختص الاعتداد بها بما كان حافظا لجميع الاجزاء والشرائط؟

لا بد لنا قبل كل شيء من ذكر الأخبار الواردة في المسئلة المتفرقة في أبواب الجماعة ، ثمَّ استكشاف الحق في جميع ذلك منها.

وهي روايات :

١ ـ ما رواه الصدوق في الفقيه عن زيد الشحام عن الصادق عليه‌السلام قال يا زيد خالقوا الناس بأخلاقهم صلوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم وان استطعتم ان تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا ، فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا هؤلاء الجعفرية ، رحم الله جعفرا ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه وإذا تركتم ذلك قالوا هؤلاء الجعفرية فعل الله بجعفر ، ما كان اسوء ما يؤدب أصحابه (١).

لا شك ان المراد بالصلاة في مساجدهم الصلاة معهم وبجماعتهم لا الصلاة منفردا في المساجد التي يجتمعون فيها ، واما دلالتها على جواز الاعتداد بتلك الصلاة فليس إلا بالإطلاق المقامى ، ولكن يمكن عدم كونها بصدد البيان من هذه الجهة.

٢ ـ ما رواه الصدوق أيضا عن حماد عن ابى عبد الله عليه‌السلام انه قال :

__________________

(١) الحديث من الباب ٧٥ من أبواب الجماعة من الوسائل (ج ٥).

٤٥٢

من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصف الأول (١).

٣ ـ ما عن الكافي عن الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله صلى الله ـ عليه وآله (٢).

٤ ـ ما رواه الشيخ في التهذيب عن إسحاق بن عمار قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا إسحاق أتصلي معهم في المسجد؟ قلت : نعم قال : صل معهم فإن المصلي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل الله (٣).

وظاهر هذه الأحاديث الثلث المتقارب مضمونها رجحان الصلاة معهم مع نية الاقتداء بهم ، كما ان ظاهرها جواز الاكتفاء بها وعدم وجوب إعادتها الا ان يدل عليه دليل من الخارج.

والحاصل انا لو خلينا وهذه الروايات حكمنا بجواز الدخول معهم في صلوتهم ونية الاقتداء بهم والاعتداد بتلك الصلاة مهما كانت مخالفة لما عليه مذهبنا ؛ وكان وجه التشبيه بالصلاة خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حيث أثرها في عز المسلمين وشوكتهم وقص ظهور الاعداء ولذا شبه بمن يشهر سيفه في سبيل الله.

الا انه قد يدعى مخالفة أمثال هذه الظهورات لما عليه الطائفة كما

__________________

(١) الحديث ١ من الباب ٥ من أبواب صلاة الجماعة من الوسائل.

(٢) الحديث ٤ من الباب ٥ من أبواب صلاة الجماعة من الوسائل.

(٣) الحديث ٧ من الباب ٥ من أبواب صلاة الجماعة من الوسائل.

٤٥٣

ستعرف دعواه فيما سيمر عليك ان شاء الله من كلام «الحدائق».

٥ ـ ما رواه في «المحاسن» عن عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : أوصيكم بتقوى الله عزوجل ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلوا ، ان الله تبارك وتعالى يقول في كتابه (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ، ثمَّ قال : عودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، واشهدوا لهم وعليهم ، وصلوا معهم في مساجدهم (١).

٦ ـ ما رواه على بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : صلى حسن وحسين خلف مروان ونحن نصلي معهم! (٢)

٧ ـ ما رواه احمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن سماعة قال : سألته عن مناكحتهم والصلاة خلفهم ، فقال : هذا أمر شديد لم تستطيعوا ذلك قد انكح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلى على عليه‌السلام ورائهم.

وهذه الروايات الثلث أيضا ظاهرة في جواز الصلاة معهم تحبيبا وحفظا لوحدة الأمة أو شبه ذلك (نعم يمكن ان يكون رواية على بن جعفر ناظرا الى حال الخوف على النفس وشبهه) كما ان ظاهرها نية الاقتداء والاعتداد بتلك الصلاة وعطف الصلاة على النكاح دليل آخر على ان المراد الإتيان بالصلاة الواجبة الواقعية معهم والاكتفاء به.

كما ان قوله عليه‌السلام هذا أمر شديد لم تستطيعوا ذلك أيضا ناظر الى هذا المعنى إذ لو كان المراد إتيان الصلاة منفردا في نفسه وإظهار كونها جماعة مع عدم القصد إليها ، أو الإتيان بها واعادتها بعد ذلك أو فعلها

__________________

(١) الحديث ٨ من الباب ٥ من أبواب صلاة الجماعة.

(٢) الحديث ٨ من الباب ٥ من أبواب صلاة الجماعة.

٤٥٤

قبلها ، لم يكن امرا شديدا لا يستطيعون ، بل هما من الأمور السهلة التي يستطيع عليها كل احد.

٨ ـ ما رواه الصدوق مرسلا قال : قال الصادق عليه‌السلام إذا صليت معهم غفر لك بعدد من خالفك (١).

ودلالتها على أصل الجواز كغيرها ظاهرة ، الا ان إطلاقها من حيث الاكتفاء بها وكونها بصدد البيان من هذه الجهة قابل للتأمل والكلام.

الى غير ذلك مما يطلع عليه الخبير المتتبع.

هذا ويظهر من غير واحد من الروايات الواردة في الباب ٦ من أبواب الجماعة انه لا يحتسب بتلك الصلاة بل يصلى قبلها أو بعدها فتكون الصلاة الفريضة ما يصلى قبلها أو بعدها وتكون الصلاة معهم مستحبا أو واجبا للتقية تحبيبا أو خوف أو إليك بعض هذه الروايات :

(١) ما رواه الصدوق في «الفقيه» عن عمر بن يزيد عن ابى عبد الله عليه‌السلام انه قال : ما منكم احد يصلى صلاة فريضة في وقتها ثمَّ يصلى معهم صلاة تقية وهو متوضئ إلا كتب الله له بها خمسا وعشرين درجة فارغبوا في ذلك (٢).

ولو كان الاقتداء بهم جائزا لم يكن وجه في الترغيب إلى الصلاة فرادى قبل ذلك في بيته ، فهذا الترغيب دليل على عدم جواز الاعتداد بتلك الصلاة. اللهم الا ان يقال ان هذا النحو من الجمع مندوب اليه ولا دلالة في الحديث على وجوبه ، فلا ينافي جواز الاقتداء بهم في صلوتهم

__________________

(١) الحديث ٢ من الباب ٥ من أبواب صلاة الجماعة.

(٢) الحديث ١ من الباب ٦ من أبواب صلاة الجماعة.

٤٥٥

ولو تحبيبا لهم ، ولكن هذا الحمل لا يخلو عن بعد فتأمل.

٢ ـ وما رواه أيضا عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام انه قال ما من عبد يصلى في الوقت ويفرغ ثمَّ يأتيهم ويصلى معهم وهو على وضوء الا كتب الله له خمسا وعشرين درجة (١).

٣ ـ وما رواه هو أيضا عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام انه قال أيضا ان على بابى مسجدا يكون فيه قوم مخالفون معاندون وهم يمسون في الصلاة فأنا أصلي العصر ثمَّ اخرج فأصلي معهم ؛ فقال اما تحب ان تحسب لك بأربع وعشرين صلاة (٢).

٤ ـ ما رواه الشيخ عن نشيط بن صالح عن ابى الحسن الأول عليه‌السلام قال : قلت له الرجل منا يصلى صلوته في جوف بيته مغلقا عليه بابه ثمَّ يخرج فصلى مع جيرته تكون صلوته تلك وحده في بيته جماعة؟ فقال الذي يصلى في بيته يضاعف الله له ضعفي أجر الجماعة ، تكون له خمسين درجة ، والذي يصلى مع جيرته يكتب له أجر من صلى خلف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويدخل معهم في صلوتهم فيخلف عليهم ذنوبه ويخرج بحسناتهم (٣).

والذي يظهر بالتأمل فيها انه أراد بما اجابه إمضاء فعل السائل بفعل الصلوتين وانه يوجر أجران على كل واحد ، فلو كان الاعتداد بصلاة المخالف أو المعاند جائزا لم يحتج الى مثل ذلك ولا سيما انه كان في شدة

__________________

(١) الحديث ٢ من الباب ٦ من أبواب الجماعة.

(٢) الحديث ٣ من الباب ٦ من أبواب الجماعة.

(٣) الحديث ٦ من الباب ٦ من أبواب الجماعة.

٤٥٦

حتى أغلق عليه بابه عند الصلاة وحده فتدبر.

ويمكن ان يكون المراد جواز الاعتداد بكل من الصلوتين وان الأول له ضعف أجر الجماعة وان ثواب الثاني ثواب من صلى خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الى غير ذلك مما يدل على هذا المعنى.

هذا مضافا الى الروايات الكثيرة الدالة على عدم جواز الصلاة خلف المخالف والمعاند وغيرهما الواردة في الباب ١٠ و ١١ و ١٢ فلعل الجمع بين مجموع هذه الروايات والطائفة الأولى الدالة بإطلاقها على جواز الاقتداء معهم والدخول في جماعتهم هو الحمل على ما إذا صلى صلوته قبله أو بعده إذا قدر عليه ولم يكن هناك خوف.

وبالجملة القول بجواز الاكتفاء بتلك الصلاة إذا صلاها معهم تحبيبا ولم يكن هناك تقية من غير هذه الناحية مشكل ، وان كان ظاهر إطلاق الطائفة الاولى من الروايات ذلك.

هذا ولكن لا شك في جواز الدخول معهم في صلوتهم على ما يدل عليه الطائفة الاولى وغيرها فما يظهر من بعض احاديث الباب من عدم الاقتداء معهم وارائتهم كأنه يصلى معهم ولا يصلى ، لا بد من حملها على ما لا ينافي ذلك فراجع وتدبر.

ثمَّ انه لا يخفى ان جميع ما ذكرنا انما هو في التقية بعنوان التحبيب أو حفظ الوحدة ، أما التقية خوفا فلا إشكال في الاكتفاء بما يؤتى معها ، وهل يعتبر فيها عدم المندوحة يعني عدم إمكان الصلاة صحيحة تامة في غير ذاك الوقت أو غير ذاك المكان فيه كلام يأتي ان شاء الله في تنبيهات المسئلة.

٤٥٧
٤٥٨

تنبيهات

بقي هنا مسائل هامة ترتبط

بالتقية أو تلحق بها نذكرها

طي تنبيهات

١ ـ هل تختص التقية بما يكون عن المخالف

في المذهب

لا شك في ان أكثر روايات الباب ناظرة إلى حكم التقية عن المخالفين وقد يوجب هذا توهم اختصاص حكمها بهم فقط ولا تجري في غيرهم.

قال العلامة الأنصاري في رسالته المعمولة في المسألة ما هذا نصه :

«ويشترط في الأول (يعني الأدلة الدالة على اذن الشارع بالتقية) ان يكون التقية من مذهب المخالفين لأنه المتيقن من الأدلة الواردة في الاذن في العبادات على وجه التقية لأن المتبادر من التقية التقية من مذهب المخالفين فلا يجري في التقية عن الكفار أو ظلمة الشيعة. لكن في رواية مسعدة بن صدقه الاتية ما يظهر منه عموم الحكم لغير المخالفين مع كفاية عمومات التقية في ذلك».

وأشار بقوله «في رواية مسعدة بن صدقة الاتية» الى ما رواه عن ابى ـ عبد الله عليه‌السلام في تفسير ما يتقى فيه «ان يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم

٤٥٩

على غير حكم الحق وفعله فكل شيء يعلمه المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدى الى الفساد في الدين فهو جائز» (١).

أقول ـ لا ينبغي الشك في عدم اختصاص التقية لغة ولا اصطلاحا ولا دليلا بخصوص ما كان في قبال المخالفين في المذهب من العامة ، لما قد عرفت من انها هي إخفاء العقيدة أو عمل ديني لما في إظهاره من الضرر ، وان ملاكها في الأصل قاعدة الأهم والمهم وترجيح المحذور الأخف لدفع محذور الأهم ، وانها قاعدة عقلية تشهد به جميع العقلاء على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ، ولو أنكره بعض باللسان لبعض الدواعي فهو مؤمن به بالجنان ويظهر في اعماله وأحواله عند اضطراره اليه.

ومن الواضح انه ليس في شيء من ذلك اختصاص بالمخالفين ، بل لا فرق في ذلك بينهم وبين الكافرين أو ظلمة الشيعة ، بل ما يبتلى به كثير من الناس ولا سيما الضعفاء في قبال ظلمة الشيعة أكثر وأهم مما يبتلى به تجاه غيرهم ، وان لم يكن ذلك في العبادات بل كان في غيرها.

هذا مضافا الى ورود كثير من روايات الباب بل بعض الايات من الذكر الحكيم في التقية من الكافرين وأشباههم مثل ما ورد في إبراهيم عليه‌السلام وتقيته من قومه ، وتقية مؤمن آل فرعون ، وما ورد في تقية عمار ياسر من مشركي مكة وغير واحد من المسلمين الأولين منهم أيضا.

وما ورد في حق رجلين أخذهما مسيلمة الكذاب وأجبرهما على الشهادة بنبوته فأظهر واحد الكفر ونجى ولم يظهر الأخر فقبل فبلغ الخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستصوب فعل كل واحد لما فيه من مصلحة خاصة.

__________________

(١) الحديث ٦ من الباب ٢٥ من أبواب الأمر بالمعروف.

٤٦٠