القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

لا يحتاج إلى مئونة الاستدلال ، بل هو أمر واضح ظاهر ؛ بداهة ان الشارع المقدس لم يرد بتشريع احكام الدين ونظاماته ابطال نظام المجتمع وتعطيل معيشتهم ؛ بل المقصد الأقصى من إثبات كثير من تكاليفه ليس الا حفظ هذا النظام على الوجه الأحسن ، وتحكيم قواعده على نهج صحيح يشتمل على منافع دينية ودنيوية للناس ، كأحكام الديات والقصاص التي فيها حياة لاولى الألباب وكثير من احكام المعاملات وغيرها ، فكيف يكلف الناس بأمور توجب اختلالا في هذا النظام.

واما الثالث فهو داخل في «قاعدة لا ضرر» خارجة عما يختص بهذه القاعدة ؛ وان أمكن الاستدلال بكليهما في كثير من موارد الضرر لبعض ما يترتب على كل منهما من الخصوصية. فتحصل من جميع ذلك ان مركز البحث في «قاعدة لا حرج» هو القسم الرابع من الأقسام المتقدمة ، وهو الافعال الحرجية غير البالغة حد ما لا يطاق وغير الموجبة لاختلال النظام ولا ما يتضمن ضررا في الأموال والأنفس ، ومنه يظهر حال الأدلة التي يستند إليها في إثبات القاعدة وما يكون مرتبطا بمحل البحث وما هو خارج عن محل الكلام.

وها نحن نشرع الان بذكر ما ظفر نابها من الأدلة

١٦١

مدارك قاعدة لا حرج

واستدل لها بالأدلة الأربعة ؛ ولكن الإنصاف انه لا مجال فيها للأدلة العقلية ولا الإجماع ، بعد ما عرفت من اختصاص محل البحث بالتكاليف الحرجية التي لا تبلغ حد ما لا يطاق ؛ ولا حد اختلال النظام ، ولا توجب ضررا على الأموال والأنفس.

أما العقل فلانه لا مانع عقلا من تشريع الاحكام الحرجية والإلزام بالأمور العسرة الشديدة ، والشاهد له وجود تكاليف حرجية في الشرعيات والعرفيات ثابتة بأدلتها كما سيأتي الإشارة إليه في التنبيهات الاتية إنشاء الله ، وإلزام الموالي العرفية عبيدهم بل التزام كثير من الناس من قبل أنفسهم بأمور عسرة حرجية لما يرقبون فيها من المنافع الدنيوية أمر شائع ذائع ؛ وسيأتي ان مثل هذه التكاليف كانت كثيرة في الأمم الماضية وان صارت قليلة في هذه الأمة المرحومة.

واما الإجماع فلان دعواه على القاعدة بجميع نواحيها مشكل جدا بعد عدم تعرض الأكثر لها بعنوان كلى عام ؛ وانما تعرض لها من تعرض في موارد خاصة ؛ واما دعواه في خصوص بعض الموارد كالوضوء والغسل الحرجيين وان كان بمكان من الإمكان الا انه لا ينفع في إثبات القاعدة ، بل لا يتم على مباني القوم حتى في موارده الخاصة لاختصاص حجية الإجماع عندهم بمسائل لا دلالة عليها من الكتاب والسنة مما يصح استناد المجمعين إليها في إثبات المسألة ، والمقام من هذا القبيل لما ستعرف من الأدلة النقلية الكثيرة الدالة عليها ، التي يعلم أو يظن استناد المجمعين إليها في إثبات القاعدة.

فاذن العمدة من بين الأدلة هنا هي الكتاب والسنة.

١٦٢

ما يدل عليها من الكتاب العزيز

واستدل لها بآيات منه :

منها ـ قوله تعالى (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ)(١) وهي من أقوى الأدلة الدالة عليها وإليها استند في اخبار كثيرة لنفى تكاليف حرجية في الشريعة المقدسة ، تارة بعنوان الحكمة لتشريع بعض الاحكام ؛ واخرى بعنوان العلة لها بما سيأتي نقله ، ومعها لا يبقى ريب في دلالتها على المطلوب ؛ بل لا ينبغي الريب فيها مع عزل النظر عن هذه الاخبار الكثيرة أيضا لتمامية دلالتها في حد ذاتها.

والمراد من «المجاهدة» فيها هي المجاهدة في امتثال الواجبات وترك المحرمات ـ كما اختاره أكثر المفسرين ـ وحق الجهاد اما هو الإخلاص في هذه المجاهدة العظيمة كما يحكى عن أكثر المفسرين ؛ أو الإطاعة الخالية عن المعصية كما يحكى عن بعضهم ولعل الجميع يرجع الى معنى واحد وهو المجاهدة البالغة حد الكمال الخالية عن شوائب النقصان.

ومعنى الآية ـ والله اعلم ـ انه لا عذر لا حد في ترك المجاهدة في امتثال أو أمر الله تعالى واجتناب نواهيه بعد ما كانت الشريعة سمحة سهلة وليس في أحكام الدين أمر حرجي يشكل امتثاله ، فكأنه يقول : كيف لا تجاهدون في الله حق جهاده وقد اجتباكم من بين الأمم ولم يجعل عليكم في الشريعة وأحكامها امرا حرجيا؟.

ومنها ـ قوله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٢)

__________________

(١) سورة الحج ـ الاية ٧٨.

(٢) سورة المائدة ـ الاية ٦.

١٦٣

وفي دلالتها على المقصود تأمل ، فإن المستفاد من صدرها وذيلها ان الأمر بالغسل والوضوء عند وجدان الماء ، والتيمم عند فقدانه ؛ انما هو لمصلحة تطهير النفوس ، أو هي والأبدان ، من الأقذار الباطنة والظاهرة ، فلا يريد الله تعالى بتشريع هذه التكاليف إلقاء الناس في مشقة وضيق بلا فائدة فيها ؛ بل انما يريد تطهيرهم بها ، فالمراد من «الحرج» هنا ليس مطلق المشقة بل المشاق الخالية عن الفائدة والمصالح العالية التي يرغب فيها لتحصيلها.

والشاهد على ذلك كلمة «لكن» الاستدراكية في قوله (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) بعد قوله (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) وان هو الا نظير قول القائل : «اشتر لي طعاما من ذاك المكان البعيد ما أريد لا جعلك بذلك في كلفة ومشقة وانما أريد تحصيل الطعام الطيب» فالمراد من الحرج هنا المشاق التي لا طائل تحتها ، ولا فائدة مهمة فيها تجبر كلفتها ، فلا يمكن التمسك بها لإثبات هذه القاعدة الكلية كما هو ظاهر.

وان شئت قلت : المقصود إثبات قاعدة كلية دافعة للتكاليف الحرجية يمكن التمسك بها في قبال العمومات المثبتة للتكاليف حتى في موارد العسر والحرج ، نظير إطلاقات وجوب الوضوء والغسل الشاملة لموارد الحرج.

ومن الواضح ان إطلاقات الأدلة الأولية كما تدل على ثبوت الحكم حتى في موارد العسر والحرج كذلك تدل على وجود مصالح في مواردها أو في نفس تلك الأحكام بالملازمة القطعية وح لا يمكن نفى هذه التكاليف في موارد الحرج بالاية الشريفة بناء على ما عرفت من ظهورها في نفى المشقة الخالية عن فائدة جابرة لها.

ومنها ـ قوله تعالى (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). (١)

وغاية ما يمكن ان يقال في تقريب دلالتها على المدعى هو ان الظاهر من قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) بعد نفى وجوب الصيام عن طائفتين ، المسافرين والمرضى ، انه بمنزلة التعليل لهذا الحكم ، فيكون كسائر الكبريات

__________________

(١) سورة البقرة ـ الاية ـ ١٨٥.

١٦٤

الكلية التي يستدل بها لإثبات أحكام خاصة ولكن مفادها عام شامل لمورد الاستدلال وغيره ؛ فتدل هذه الفقرة على نفى جميع الأحكام العسرة والحرجية فتأمل.

ومنها ـ قوله تعالى : «(رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا.»)(١).

وجه الاستدلال بها ان نبينا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل ربه ليلة المعراج أمورا حكاها الله تعالى في هذه الآية الشريفة ومنها رفع «الاصر» عن أمته. وكرامته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ربه ومقامه عنده تعالى يقتضي اجابة هذه الدعوة وإعطائه ذلك ، ويشهد لهذه الإجابة نقلها في القرآن العظيم والاهتمام بأمرها ، فلو لا اجابته له لم يناسب نقلها في كتابه في مقام الامتنان على هذه الأمة المرحومة وهو ظاهر.

وحيث ان «الاصر» في اللغة كما سيأتي عند تحقيق معنى العسر والحرج والاصر بمعنى الثقل ، أو الحبس ، أو الشدائد ، كانت الآية دليلا على نفى التكاليف الحرجية عن هذه الأمة.

هذا كله مع قطع النظر عن الروايات الواردة في تفسيرها ، واما بالنظر إليها فالأمر أوضح جدا ، فقد وقع التصريح في غير واحد منها بأنه تعالى أجاب رسوله وأعطاه ذلك ورفع عن أمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاصار ؛ وقد ذكر في بعض هذه الاخبار موارد كثيرة من هذه الاصار التي كانت في الأمم الماضية ورفعها الله عن هذه الأمة رحمة لها وإكراما لنبيه الأعظم ، وسيأتي نقل نماذج من هذه الاخبار عند ذكر الروايات الدالة على القاعدة.

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا في بيان التي يمكن التمسك بها في إثبات هذه القاعدة ان أظهرها دلالة على المطلوب هي الآية الاولى ، المستدل بها في كثير من الاخبار الواردة في المسألة ، التي يظهر من مجموعها ان للاية خصوصية في هذا الباب ، وان كان غيرها أيضا لا تخلو عن دلالة أو تأييد للمدعي ، ففي مجموعها غنى وكفاية وان لم تبلغ في الظهور وقوة الدلالة مرتبة الروايات التالية.

__________________

(١) سورة البقرة ـ الاية ـ ٢٨٦.

١٦٥

ما يدل عليها من السنة

واما ما يمكن الاستدلال به على هذه القاعدة من السنة فهي اخبار كثيرة بين صريح في المدعى ، وظاهر فيه ، وقابل للنقض والإبرام وإليك ما ظفر نابها وما يمكن ان يقال في وجه دلالتها :

١ ـ ما رواه الشيخ بإسناده عن ابى بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : انا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر يكون الى جانب القرية فيكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي وتبول فيه الدابة وتروث؟ فقال : ان عرض في قلبك شيء فقل هكذا ، يعنى : افرج الماء بيدك ثمَّ توضأ ، فإن الدين ليس بمضيق ؛ فان الله يقول (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١).

وظاهرها ان الحكمة في عدم انفعال الماء الكر (بناء على ان مثل هذا الغدير الذي وقع السؤال عنه في الرواية كر غالبا كما هو الظاهر) هي التوسعة على الأمة ورفع الضيق والحرج عنها ، ومنه يستفاد ان كلما يكون حرجيا وضيقا على الناس فهو مرفوع عنهم ويؤكد هذا التعميم استدلاله عليه‌السلام بقوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

والاستناد الى هذه القاعدة في إثبات حكم عدم انفعال الكر وان كان من قبيل حكمة الحكم لا العلة ، كما هو كذلك في غير واحد من الروايات الاتية أيضا ، الا ان مجرد ذلك غير ضائر ، لأنه لا مانع من كون قضية واحدة بعينها حكمة لحكم وعلة لحكم آخر ؛ وقد حققنا ذلك في مبحث قاعدة لا ضرر وأثبتنا ضعف ما قد يلوح من بعض كلمات المحقق النائيني (قدس الله سره) من عدم إمكان كون قضية واحدة حكمة لحكم في مقام وعلة لحكم آخر في مقام آخر فراجع.

٢ ـ ما رواه في الكافي عن الفضيل بن يسار عن ابى عبد الله عليه‌السلام في الرجل الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الإناء؟ فقال : لا بأس ، ما جعل عليكم في الدين

__________________

(١) الحديث ١٤ من الباب ٩ من أبواب الماء المطلق من الوسائل

١٦٦

من حرج (١).

وسؤال الراوي فيها يحتمل وجهين : أحدهما ـ ان يكون من جهة الاغتسال بغسالة الحدث الأكبر ، فإنه إذا اغتسل من الإناء وانتضح من غسالته فيه امتزج ماء الإناء به ، وقد لا يكون ذلك بمقدار يستهلك فيه ، فيكون باقي الغسل بغسالة الحدث الأكبر ؛ فتكون الرواية دليلا على جواز الاغتسال به في مقام الضرورة ، أو مطلقا ، بناء على إلغاء خصوصية المورد. ثانيهما ـ ان يكون من جهة انفعال الماء القليل ، لان الجنب لا يخلو عن نجاسة بدنية غالبا ؛ فتكون الرواية من الروايات الدالة على عدم انفعال الماء القليل ؛ وتنسلك في سلكها ؛ كما استدل به بعض القائلين بعدم الانفعال ، على مذهبه.

هذا ولكن إجمالها من هذه الناحية لا يضر بدلالتها على ما نحن بصدده ، لان استناده عليه‌السلام في إثبات هذا الحكم بقاعدة رفع الحرج يدل على اعتبارها على نحو عام في جميع المقامات كما هو ظاهر. وفي كون استناده إليها في هذا المقام من قبيل الاستناد إلى الحكمة والعلة احتمالان يظهر وجههما لمن تدبر.

ومما يستفاد من الرواية ان الحرج المرفوع عن الأمة أمر وسيع يشمل مثل الاجتناب عن هذا الإناء ، فان الاجتناب عن مثله في تلك الأوساط ، مما كان المياه فيها قليلة ، وان كان عسرا الا انه لم يكن في الاجتناب عنه مشقة عظيمة ، وليكن هذا على ذكر منك.

٣ ـ ما رواه شيخ الطائفة (قده) بإسناده عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال سالته عن الجنب يحمل (يجعل) الركوة أو النور (٢) فيدخل إصبعه فيه؟ قال : ان كان يده قذرة فأهرقه (فليهرقه) وان كان لم يصبها قذر فليغتسل منه ؛ هذا مما قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٣).

__________________

(١) الحديث ٥ من الباب ٩ من أبواب الماء المضاف.

(٢) «الركوة» : ما يجعل تحت المعصرة فيجتمع فيه عصير العنب ، و «التور» : إناء صغير

(٣) الحديث ١١ من الباب ٩ من أبواب الماء المطلق.

١٦٧

ذكره العلامة المجلسي (قده) في باب ما يمكن ان يستنبط منه متفرقات أصول مسائل الفقه (١).

أقول ـ لعل وجه استناده عليه‌السلام الى قاعدة نفى الحرج لجواز الاغتسال عن الماء القليل الذي أدخل إصبعه فيه ولو لم يصبها قذر ، هو نفى النجاسة المتوهمة في بدن الجنب اجمع بما انه جنب ؛ ولو لم تصبها نجاسة عينية فإنه لا شك في لزوم العسر والحرج منه لو كان الأمر كذلك.

ويمكن ان يكون ناظرا الى نفى الحكم الاستحبابي بالاجتناب عن القذرات العرفية لا الشرعية ، الموجودة في اليد غالبا ، أو النجاسات الشرعية المشكوكة التي لا يجب الاجتناب عنها ، ولذا ورد في كثير من الروايات الواردة في كيفية اغتسال الجنب الأمر بغسل الكفين أولا قبل الشروع في الغسل (٢).

فالاستناد إلى آية نفى الحرج انما هو لنفى هذا الحكم الاستحبابي بالنسبة إلى مثل هذا الشخص فتدبر.

هذا ولكن إبهام الرواية من هذه الناحية أيضا لا يقدح في الاستدلال بها على المقصود بعد استناده عليه‌السلام بالاية الشريفة لجواز الاغتسال من مثل هذا الإناء ، ثمَّ لا يخفى ان الرواية كسابقتها في احتمال كون الاستناد فيها إلى القاعدة من قبيل الاستناد إلى علة الحكم أو حكمته.

٤ ـ ما رواه محمد بن يعقوب بإسناده عن محمد بن ميسر قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد ان يغتسل منه ، وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان؟

قال : يضع يده ثمَّ يتوضأ ثمَّ يغتسل ، هذا مما قال الله عزوجل : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٣)

__________________

(١) بحار الأنوار المجلد الأول ص ١٥٢.

(٢) راجع الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

(٣) الحديث ٥ من الباب ٨ من أبواب الماء المطلق.

١٦٨

والقذارة هنا ان كانت بمعنى النجاسة كانت الرواية من أدلة عدم انفعال الماء القليل ـ كما استدل بها القائلون بهذا القول ـ وان كانت قذارة عرفية كما هو المحتمل على القول بانفعال الماء القليل ؛ كانت الرواية ناظرة إلى نفى حكم استحبابي وهو غسل اليدين خارج الإناء قبل الاغتراف منه في مورد الرواية وأشباهه وهذا الحكم الاستحبابي إما يكون رعاية للتنزه عن القذارات العرفية أو اجتنابا عن القذرات الشرعية المحتملة التي لا يجب الاجتناب عنها في فرض الشك ، كما عرفت آنفا ؛ وعلى كل تقدير تكون الرواية من أدلة القاعدة فإن إبهامها من حيث موردها لا يضر بالقاعدة المستدل بها فيها.

٥ ـ ما رواه شيخ الطائفة المحقة بإسناده الى عبد الأعلى مولى آل سام قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة ، فكيف اصنع بالوضوء؟ قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزوجل ، قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، امسح عليه (١) وهو من أظهر الروايات دلالة على المطلوب لصراحتها في إرجاع حكم المسألة الى كتاب الله عزوجل وامره عليه‌السلام باستفادة أشباهها من قوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فلو كان في الأحاديث السابقة شائبة الإشكال من جهة احتمال كون نفى الحرج فيها من قبيل الحكمة للحكم لا العلة ـ وقد عرفت ان الاشكال فيها من هذه الناحية أيضا لا وجه له ـ يرتفع بصراحة هذا الحديث في كون نفى الحرج علة للحكم بحيث يدور مدارها ويجوز التعدي من موردها الى غيره.

نعم يبقى فيها إشكالات من جهات أخر لا بد من التعرض لها وبيان ما يمكن ان يقال في حلها :

الأول ـ في كيفية استفادة وجوب المسح على المرارة من قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فان نفى الحرج إنما ينفي وجوب الوضوء عليه على نحو وضوء المختار ، واما وجوب المسح على الجبيرة فلا.

__________________

(١) الحديث ٥ من الباب ٣٩ من أبواب الوضوء من الوسائل

١٦٩

ويمكن الجواب عنه بوجهين : أحدهما ما افاده شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره الشريف وحاصله ان المسح الواجب في الوضوء يشتمل على أمرين : إمرار اليد على المحل ؛ ومباشرتها للبشرة ؛ والمتعسر في مفروض سؤال الراوي هو الثاني أعني مباشرة اليد للبشرة لا إمرار اليد على المحل فسقوط الثاني بالحرج لا يوجب سقوط الوظيفة الاولى. (١)

ويرد عليه ان إرجاع حكم المسح الى هذين الحكمين وتحليله إليهما مما لا يساعد عليه فهم العرف في أمثال المقام ، فان الظاهر بنظر العرف ان إمرار اليد على المحل انما هو مقدمة لحصول المسح على البشرة لا انه أمر مطلوب في نفسه ، فوجوبه من هذه الجهة من قبيل وجوب المقدمة ومن المعلوم سقوطه عند سقوط وجوب ذيها ، ويشهد له ما ورد في باب حرمة المسح على الخفين وذم القائلين به من قوله عليه‌السلام : إذا كان يوم القيامة ورد الله كل شيء إلى شيئه ورد الجلد الى الغنم فترى أصحاب المسح اين يذهب وضوئهم؟! (٢) فإن ظاهره ان المسح على الخفين كالعدم لا انه مشتمل لجزء من وظيفة المسح وفاقد لجزئها فتأمل.

ثانيهما ـ ان يكون مراده عليه‌السلام من التمسك بالاية الشريفة نفى وجوب المسح الواجب على المختار ، واما بدلية المسح على المرارة فهو أمر آخر مستفاد من قاعدة الميسور المركوزة في الأذهان ؛ لا سيما في أبواب الوضوء والصلاة كما لا يخفى على من راجع احكام الشرع فيها ؛ هذا ولو بقي في الرواية إبهام من هذه الناحية لم يقدح في الاستدلال بها على المطلوب فتدبر.

الثاني ـ في امره عليه‌السلام بالمسح على الجبيرة مع ان الظاهر عدم وقوع جميع أظفاره وكفاية المسح على غيره من الأظفار الباقية ـ بناء على كفاية المسح ولو على إصبع واحدا وأقل منه ـ ويمكن الذب عنه بان الأمر بالمسح عليها للعمل باستحباب

__________________

(١) ذكره في «الفرائد» في باب حجية ظواهر الكتاب

(٢) الحديث ٤ من الباب ٣٨ من أبواب الوضوء.

١٧٠

المسح بجميع الكف على ظهر القدم أجمع ، أو ان الظفر الساقط لعله كان من أظفار يده لوقوعه على الأرض بعد عثرة وهو وان كان بعيدا عن مساق السؤال الا انه ليس فيها ما ينافيه صريحا كما لا يخفى على من راجعها وتأمل فيها حقه ، ومن المعلوم ان الواجب في غسل اليد غسلها بتمامها.

الثالث ـ في سنده لضعفه بعبد الأعلى مولى آل سام. فإنه وان كان يظهر من بعض القرائن المذكورة في الكتب الرجالية كونه إماميا ممدوحا الا انه لم يثبت ووثاقته ومجرد ذلك لا يكفي في الاعتماد على روايته.

ويمكن دفعه بكفاية كون مثل «ابن محبوب» في سلسلة السند فإنه رواه عن على ابن الحسن بن رباط ، الذي قيل في حقه انه ثقة لا غمز فيه ، عن عبد الأعلى عن الصادق عليه‌السلام وابن محبوب من أصحاب الإجماع ويجب تصحيح ما يصح عنه.

ولكن لنا في هذا ـ اعنى تصحيح ما يصح عن أصحاب الإجماع والاكتفاء بصحة السند إليهم وعدم ملاحظة من بعدهم ـ كلام واشكال وان كان من المشهورات ، فرب مشهور لا أصل له وليس المقام مقام بسط الكلام فيه ، ولعلنا نشير إليه في بعض المباحث الاتية لمناسبات تأتى إنشاء الله.

٦ ـ ما رواه الصدوق بإسناده عن زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام في حديث في تفسير آية الوضوء قال : فلما ان وضع الوضوء عمن لم يجد الماء اثبت بعض الغسل مسحا لأنه قال : (بِوُجُوهِكُمْ) ثمَّ وصل بها (وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) اى من ذلك التيمم ، لأنه علم ان ذلك اجمع لم يجر على الوجه ؛ لأنه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها ؛ ثمَّ قال (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) والحرج الضيق (١)

والانصاف انه لا يستفاد من الرواية أمر زائد على ما يستفاد من نفس الآية الشريفة وقد عرفت عند ذكر آيات الكتاب المستدل بها على القاعدة ان لنا في دلالة هذه الآية عليها تأملا وإشكالا ، لأن الظاهر من مقابلة نفى ارادة الحرج بإثبات إرادة التطهير بقوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) ان المراد بالحرج

__________________

(١) الحديث ١ من الباب ١٣ من أبواب التيمم.

١٧١

هنا هو العمل الشاق الخالي عن فائدة مرغوبة ، والا فمجرد ارادة التطهير من الوضوء والغسل والتيمم الذي بدل عنهما لا يرفع مشقة الفعل لو كان شاقا وحرجيا في نفسها ، فلا معنى لنفي ارادة الحرج وإثبات إرادة التطهير ، لان حالها من حيث العسر والضيق والمشقة لا تتفاوت بإرادة غاية الطهارة منها وعدمها.

٧ ـ ما رواه عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الاسناد عن مسعدة بن صدقة قال حدثني جعفر ، عن أبيه ، عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مما اعطى الله أمتي وفضلهم على سائر الأمم ؛ أعطاهم ثلث خصال لم يعطها إلا نبي (نبيا) وذلك ان الله تبارك وتعالى كان إذا بعث نبيا قال له : اجتهد في دينك ولا حرج عليك وان الله تبارك وتعالى اعطى ذلك أمتي حيث يقول (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) يقول : من ضيق الحديث (١)

وظاهر هذا الحديث ان رفع الحرج الذي منّ الله به على هذه الأمة المرحومة كان في الأمم الماضية خاصة بالأنبياء وان الله اعطى هذه الأمة ما لم يعطها إلا الأنبياء الماضين (صلوات الله عليهم) فلا ينافي ما دل على اختصاص رفع الحرج بهذه الأمة فتأمل

٨ ـ ما رواه العلامة المجلسي «قدس‌سره» من كتاب «عاصم بن حميد» عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فقال : في الصلاة والزكاة والصيام والخير ان تفعلوه (٢)

ذكره العلامة المجلسي في باب «ما يمكن ان يستنبط من الايات والاخبار من متفرقات أصول مسائل الفقه» وقال في ذيله : الظاهر ان الغرض تعميم نفى الحرج (انتهى).

والظاهر ان مراده ان نفى الحرج لا يختص بعبادة من العبادات بل يشمل جميعها وجميع الطاعات والخيرات التي يفعلها الإنسان فلم يجعل الشارع فيها امرا حرجيا فلو كان إطلاقها يشمل موارد الحرج لا بد من تخصيصها بغيره.

__________________

(١) ورواه في تفسير البرهان في ذيل الآية الشريفة عن كتاب عبد الله بن جعفر أيضا

(٢) بحار الأنوار ـ المجلد الأول صفحة ١٥٥.

١٧٢

٩ ـ ما رواه الشيخ بإسناده عن احمد بن محمد بن ابى نصر البزنطي قال : سألته عن الرجل يأتي السوق فيشترى جبة فراء لا يدرى أذكية هي أم غير ذكية؟ أيصلي فيها؟ فقال : نعم ، ليس عليكم المسألة ان أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ان الدين أوسع من ذلك (١).

دل على ان الحكمة في حلية ما يشترى من سوق المسلمين هي التوسعة على الأمة ورفع الضيق عنها ، وقوله : «ان الدين أوسع من ذلك» دليل على عدم اختصاص هذا الحكم بهذا المورد وان الدين وسيع في جميع نواحيه وليس فيه حكم حرجي والتضييق فيها إنما ينشأ من الجهالة ، كما نشأ للخوارج المتقشفين الضالين وهذه الرواية وان خلت عن عموم «نفى الحرج» بهذا العنوان الا انها مشتملة على معناه وهو نفى الضيق وإثبات التوسعة في أحكام الدين ، كما سيأتي شرحه في باب معنى الحرج لغة وعرفا.

١٠ ـ ما رواه الصدوق مرسلا قال : سئل على عليه‌السلام أيتوضأ من فضل وضوء جماعة المسلمين أحب إليك أو يتوضأ من ركو أبيض مخمر؟ فقال : لا ، بل من فضل وضوء جماعة المسلمين ، فإن أحب دينكم الى الله الحنيفية السمحة السهلة (٢) قال في المجمع : «الركوة المخمر اى المغطى» ويستفاد من جوابه عليه‌السلام تفضيله الوضوء من فضل وضوء جماعة المسلمين على الوضوء من الإناء المغطى ، واستناده في هذا الحكم إلى سهولة الشريعة دليل على ان الاحكام الحرجية المعسورة ليست منها ، ولا أقل من كونه مؤيدا لسائر أخبار الباب.

١١ ـ ما رواه الطبرسي في الاحتجاج مرسلا عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن على عليه‌السلام في حديث طويل يذكر فيه مناقب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما سئل ربه ليلة المعراج ؛ وفيه انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اللهم إذا أعطيتني ذلك (يعنى به رفع المؤاخذة على الخطاء والنسيان) فزدني ، فقال الله تعالى : سل ؛ قال (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا

__________________

(١) الحديث ٣ من الباب ٥٠ من أبواب النجاسات من الوسائل

(٢) الحديث ٣ من الباب ٨ من أبواب الماء المضاف.

١٧٣

يعنى بالإصر الشدائد التي كانت على من كان من قبلنا ؛ فأجابه الله الى ذلك فقال تبارك اسمه : قد رفعت عن أمتك الاصار التي كانت على الأمم السابقة : كنت لا اقبل صلوتهم إلا في بقاع من الأرض معلومة ؛ اخترتها لهم وان بعدت ، وقد جعلت الأرض كلها لأمتك مسجدا وطهورا ، فهذه من الاصار التي كانت على الأمم قبلك فرفعتها عن أمتك ، وكانت الأمم السالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوها من أجسادهم (١) وقد جعلت الماء لأمتك طهورا ؛ فهذه من الاصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك ـ الى ان قال ـ وكانت الأمم السالفة صلوتها مفروضة عليها في ظلم الليل وانصاف النهار وهي من الشدائد التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك وفرضت عليهم صلوتهم في أطراف الليل والنهار وفي أوقات نشاطهم. والحديث طويل.

ورواه العلامة المجلسي (قده) في بحار الأنوار في باب احتجاجات أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ورواه أيضا المحدث النبيل السيد هاشم البحراني في تفسيره المسمى بالبرهان في ذيل قوله تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) الاية.

والحديث ضعيف بالإرسال وفيه بعض الغرائب سيما في الفقرات التي لم نذكرها يظهر لمن راجعها ولكن يصلح مؤيدا لما سبقه.

١٢ ـ ما رواه على بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن أبي أبي عمير عن هشام عن ابى عبد الله عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا) إلخ : ان هذه الآية مشافهة الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة اسرى به الى السماء قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما انتهيت الى محل سدرة المنتهى ـ الى ان قال ـ فقلت (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) و

__________________

(١) الظاهر ان الضمير في قوله «قرضوها» راجع الى النجاسة يعنى قرضوا النجاسة وآثارها لا انهم كانوا يقرضون لحومهم ؛ وقرض عين النجاسة وآثارها عن أبدانهم لعله كان مثل حلق الشعر عنها ويشتمل على مشقة كثيرة وإلا فوجوب قرض اللحوم عليهم أمر بعيد جدا وما ورد في بعض الروايات من «ان بنى إسرائيل كانوا إذا أصابهم قطرة من بول قرضوا لحومهم بالمقاريض» لعله سهو من الراوي عند النقل بالمعنى ، والمقروض كان عين النجاسة وأثرها فتأمل.

١٧٤

قال الله : لا اؤاخذك ، فقلت (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) فقال الله : لا احملك ، فقلت (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فقال الله : قد أعطيتك ذلك لك ولأمتك ، فقال الصادق عليه‌السلام ما وفد الى الله تعالى أحدا كرم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث سئل لأمته هذه الخصال. (١).

وفي معناها أو ما يقرب منها روايات أخر واردة في تفسير الآية الشريفة من أرادها فليراجعها.

١٣ ـ ما رواه في «أصول الكافي» بإسناده عن حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال لي اكتب فاملى علىّ : ان من قولنا ان الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ثمَّ أرسل إليهم رسولا وانزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى ، وأمر بالصلاة والصيام فنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصلاة ، فقال : انا أنيمك وانا أوقظك ، فاذا قمت فصل ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون ؛ ليس كما يقولون : إذا نام عنها هلك ؛ وكذلك الصيام أنا أمرضك وانا اصحك فاذا شفيتك فاقضه ، ثمَّ قال أبو عبد الله : وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحدا في ضيق ـ الى ان قال ـ وقال : وما أمروا إلا بدون سعتهم وكل شيء أمر الناس به فهم يسعون له وكل شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم ولكن الناس لا خير فيهم ؛ ثمَّ تلا عليه‌السلام (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) الحديث (٢).

وظاهر بعض فقرات ذيل الحديث وان كان نفى التكليف بما لا يطاق الا ان ملاحظة مجموعها لا سيما قوله ، «لم تجد أحدا في ضيق» واستشهاده بالاية الأخيرة تشهد بأنها ناظرة إلى نفى التكاليف الحرجية أيضا.

١٤ ـ الرواية المشهورة المعروفة المروية عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بعثت بالحنيفية السمحة السهلة.

__________________

(١) ورواها المحدث البحراني (قده) أيضا في تفسيره في ذيل الآية الشريفة.

(٢) أصول الكافي ج ١ ص ١٦٤ من الطبعة الأخيرة.

١٧٥

هذا ما ظفرنا عليه من الروايات الدالة على هذه القاعدة الكلية وفي دلالة بعضها كسند بعضها الأخر وان كان تأمل أو إشكال الا ان في مجموعها غنى وكفاية إنشاء الله.

ونحن وان بذلنا الجهد في الظفر بهذه الروايات وتتبع مظانها ومواردها الا ان المتتبع لعله يظفر بروايات أخر غيرها تؤكدها أو تؤيدها ، وفي الروايات الواردة في الباب الأول من المجلد الأول من الوسائل (في مقدمة العبادات) أيضا روايات لا تخلو عن اشعار بها يظهر لمن راجعها ، ولكن هناك بعض الروايات تبدو في أول النظر دلالتها على المطلوب ولكن عند التأمل يظهر أنها ناظرة التي نفى التكليف بما لا يطاق الذي هو خارج عن نطاق البحث فكن على بصيرة منها.

١٧٦

المقام الثاني في مفاد القاعدة

المراد من العسر والحرج والاصر

اما «الحرج» فالذي يظهر من تتبع كلمات أئمة اللغة وموارد استعمالاته وغير واحد من الروايات السابقة المفسرة لها انها في الأصل بمعنى «الضيق».

قال في «القاموس» : الحرج المكان الضيق ، الكثير الشجر ، الإثم.

وقال في «الصحاح» : مكان حرج اى ضيق ؛ وفسره بالإثم أيضا.

وقال في «النهاية». الحرج في الأصل الضيق ، ويقع على الإثم والحرام وقيل الحرج أضيق الضيق.

وقال في «المجمع : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» اى من ضيق ـ الى ان قال ـ وفي كلام الشيخ على بن إبراهيم : الحرج الذي لا مدخل له والضيق ما يكون له مدخل ، والحرج الإثم.

وفي رواية زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (وهي الرواية السادسة مما ذكرنا) ورواية قرب الاسناد عن الصادق عليه‌السلام (وهي الرواية السابعة مما ذكرنا) تفسير الحرج صريحا بالضيق ، وقوله عليه‌السلام في رواية أبي بصير (وهي الرواية الأولى مما ذكرنا) : «ان الدين ليس بمضيق فان الله يقول : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ظاهرة في هذا المعنى أيضا فالمستفاد من هذه الروايات الثلث تفسير الحرج بالضيق.

وقد استعمل «الحرج» في الكتاب العزيز في معان ثلثة :

الأول ـ «الضيق» قال الله تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً)(١). وقال تعالى (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ)(٢)

__________________

(١) الانعام ـ ١٢٥.

(٢) الأعراف ـ ٢.

١٧٧

وقوله تعالى (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(١) فان ظاهر سياق هذه الايات يشهد بان المراد من الحرج فيها هو الضيق.

الثاني ـ «الإثم» كقوله تعالى (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)(٢) وقال تعالى (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)(٣) وقال تعالى (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ)(٤) فان الحرج في هذه الموارد استعمل بمعنى الإثم

الثالث «الكلفة» كقوله تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٥) وقوله تعالى (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)(٦)

ولكن الإنصاف ان جميع هذه المعاني راجعة إلى معناه الأصلي وهو «الضيق» واما الإثم والكلفة ، وكذا كثرة الشجر كما في قول القاموس : مكان حرج اى الكثير الشجر فهي من مصاديق الضيق فإن الإثم يوجب ضيقا على صاحبه في الآخرة بل وفي الدنيا ، فقوله تعالى (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) إلخ كأنه بمعنى قولنا ليس على هذه الطوائف ضيق ومحدودية في الدنيا من جهة بعض أفعالهم فهم مرخصون فيها ، بل ولا ضيق في الآخرة من جهة العذاب وغيره. وهكذا كثرة الشجر توجب ضيقا في المكان وما ذكرنا هو الذي يساعد عليه النظر الدقيق بعد ملاحظة موارد استعمالات هذه الكلمة.

ولكن الذي يظهر مما حكاه ابن الأثير في كلامه بقوله : «وقيل انه أضيق الضيق» وكذا ما حكاه في المجمع عن على بن إبراهيم من ان «الحرج ما لا مدخل له والضيق ما له مدخل» ان الحرج ليس مطلق الضيق ، بل هو ضيق خاص عبر عنه في النهاية بأضيق الضيق يعنى به الضيق الشديد وفي كلام على بن إبراهيم بما لا مدخل له ، وكأن مراده

__________________

(١) النساء ـ ٦٥.

(٢) التوبة ـ ٩١.

(٣) النور ـ ٦١.

(٤) الأحزاب ـ ٣٨.

(٥) الحج ـ ٧٨.

(٦) المائدة ـ ٦.

١٧٨

أيضا هو الضيق الشديد الذي بلغ حدا لا مخلص منه ولا مندوحة له.

والتحقيق عدم اعتبار شيء من الخصوصيتين فيه لخلو كلمات أئمة اللغة منها ، حتى ان ابن الأثير نفسه أسنده إلى قيل مشعرا بضعفة ، والأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) المفسرة له أيضا خالية عن القيدين ، مضافا الى عدم انطباقه بهذا المعنى على موارد كثير من الروايات السابقة ، حيث استدل فيها بقوله تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) لأمور لا يكون من أضيق الضيق ، ولا مما لا مدخل له فراجع وتأمل. واما ما حكاه في المجمع عن على بن إبراهيم فلا حجة فيه.

واما العسر : ففي «النهاية» انه ضد اليسر وهو الضيق والشدة والصعوبة.

وفي القاموس : العسر بالضم وبضمتين وبالتحريك ضد اليسر وتعسر علىّ الأمر وتعاسر واستعسر : اشتد والتوى ، ويوم عسر وعسير وأعسر : شديد أو شؤم. وقريب منه ما ذكره غيرهما.

واما الاصر : ففي «القاموس» الاصر بالكسر العهد والذنب والثقل.

وعن «النهاية» : الاصر الإثم والعقوبة وأصله من الضيق والحبس ، يقال أصره يأصره إذا حبسه وضيقه.

وعن «الصحاح» أصره حبسه وأصرت الشيء إصرا كسرته. ،. والاصر العهد والاصر الذنب والثقل. ويقرب منه غيره.

وفي «مفردات الراغب» : الاصر عقد الشيء وحبسه بقهره ، والمأصر محبس السفينة ، قال تعالى (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) أي الأمور التي تثبطهم وتقيدهم عن الخيرات والوصول الى الثوابات ، وعلى ذلك ولا تحمل علينا إصرا وقيل ثقلا وتحقيقه ما ذكرت ؛ والاصر العهد المؤكد الذي يثبط ناقضة عن الثواب والخيرات ؛ قال تعالى (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) ، الاصار : الأوتاد والطنب التي بها يعمد البيت (انتهى ملخصا).

وفي «مجمع البحرين» : أصل الاصر الضيق والحبس يقال أصره يأصره إذا ضيق عليه وحبسه ويقال للثقل إصرا لأنه يأصر صاحبه من الحركة لثقله وقوله تعالى

١٧٩

(يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) هو مثل لثقل تكليفهم.

والمتحصل من جميع ذلك ان «الاصر» في الأصل هو الحبس والضيق وانما يستعمل بمعنى العهد والإثم والثقل والعقوبة لمناسبات فيها مع هذا المعنى ، وتفسيره في بعض ـ الاخبار السابقة بالشدائد (الحديث ١١ مما ذكرنا) أيضا مأخوذ من هذا المعنى. فهو والحرج بمعنى واحد أو متقارب المعنى.

تنبيه ـ قد ظهر مما ذكرنا في معنى «العسر» و «الحرج» انهما لا يفترقان فرقا جوهريا وهل هما بمعنى واحد ، أو الأول أعم من الثاني؟ ذهب المحقق النراقي (قده) في عوائد إلى الأخير حيث قال :

«العسر كما أشرنا إليه أعم مطلقا من الضيق ، فان كل ضيق عسر ولا عكس ، فان من حمل عبده على شرب دواء كريه في يوم مثلا يقال انه يعسر عليه ولا يقال انه في ضيق أو ضيق عليه مولاه ؛ وكذا من يكون منتهى طاقته حمل مائة رطل ؛ إذا أمر بحمل تسعين مثلا ونقله الى فرسخ يقال انه يعسر عليه ولكن لا يقال انه في الضيق ، نعم لو أمر بحمله ونقله كل يوم يقال انه ضيق عليه ، وكذا يصح ان يقال ان التوضي بالماء البارد في يوم شديد البرد مما يعسر ، ولكن لا يقال ان المكلف في ضيق من ذلك» انتهى موضع الحاجة من كلامه.

ويظهر من كلامه هذا ان الحرج لا يدور مدار صعوبة العمل فحسب ، ـ وان بلغ من الصعوبة ما بلغ ـ بل يعتبر فيه مضافا الى ذلك نوع تضيق آخر على المكلف ، فمثل الوضوء أو الغسل مرة واحدة بالماء البارد شديد البرودة في أشد أيام الشتاء وإن كان صعبا جدا ، لكن ليس حرجيا لأنه ليس فيه ضيق على المكلف عنده ، نعم لو كرر هذا العمل أياما كان ضيقا وحرجا.

وأنت خبير بان هذا المعنى مضافا الى كونه مخالفا لفهم الأصحاب المستدلين بنفي الحرج في مقامات كثيرة لنفي ما فيه مجرد الصعوبة من التكاليف ؛ من دون اعتبار أمر زائد عليه ، مثل الضيق الحاصل من تكرار العمل ، مخالف لاستدلالات الأئمة عليهم

١٨٠