القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

السلام بالآية الشريفة في مقامات ليس فيها أمر زائد على ما فيها من الصعوبة والمشقة والعسر ، فراجع الأحاديث السابقة تجد فيها شواهد مختلفة لهذا المعنى.

والحق ان «الحرج» في الأصل وإن كان بمعنى الضيق الا ان الضيق المعتبر في الأمور الحرجية ليس امرا وراء صعوبة العمل وشدته والمشقة الحاصلة منه ، فان العمل إذا كان صعبا وعسرا كان المكلف منه في ضيق ، بخلاف ما إذا كان سهلا ويسرا

وما ذكره قدس‌سره من الأمثلة شاهدا على ما ادعاه قابل للمنع والإنكار ، فإن من حمل عبده على شرب دواء كريه غاية الكراهة ولو مرة واحدة يقال ان هذا العمل حرج عليه ، وليس ذلك إلا لأنه يقع منه في ضيق وإن كان هذا الضيق في آنات خاصة وكذلك الحال في سائر الأمثلة ، والحاصل ان المعتبر في معنى الحرج وجود نوع ضيق ومحدودية فيه ، ولو كان هذا الضيق حاصلا من صعوبة العمل وتعسره ؛ ولا يعتبر فيه مداومته في يوم أو أيام عديدة وتكراره ، ويزيدك هذا وضوحا بملاحظة ما ذكرناه في معنى هذه الكلمة ، وموارد استعمالها من الكتاب والسنة وغيرهما ، فراجع وتأمل.

نعم هنا اشكال وهو انه لو كان المراد من «الحرج» المنفي في هذه القاعدة مجرد الضيق والصعوبة في قبال السعة والسهولة ؛ على ما هو الظاهر من معناه لغة وعرفا ، يلزم نفى كل تكليف يشتمل على ادنى مراتب الصعوبة والمشقة وهذا يوجب رفع اليد عن كثير من التكاليف الشرعية كالصيام في أيام الصيف لكثير من الناس والوضوء في ليالي الشتاء بالمياه الباردة وغير ذلك من أشباهه ، بل جل التكاليف يشتمل على نوع مشقة في كثير من الأوقات والحالات ؛ وهذا مما لا يتفوه به فقيه ، ولو بنى عليه حصل منه فقه جديد.

وهذا يكشف عن ان معناه اللغوي والعرفي وإن كان وسيعا في نفسه ، الا ان المراد منه هنا مرتبة خاصة منه لا مطلق الصعوبة والمشقة والضيق ، ولكن أي مرتبة منه؟ وما حدها؟ وما الدليل على تعيين حد خاص بعينه؟ هذه أسئلة أشكلت أجوبتها على غير واحد من الأكابر على ما يظهر من كلماتهم في مقامات مختلفة.

١٨١

ولذا قال الشيخ الحر العاملي «قدس الله سره الشريف» في كتابه المسمى ب «الفصول المهمة» بعد ذكر طائفة من الاخبار النافية للحرج «نفى الحرج مجمل لا يمكن الجزم به فيما عدا التكليف بما لا يطاق ، والا لزم رفع جميع التكاليف» انتهى.

وذهابه (قده) إلى إجمال أدلة نفى الحرج انما نشأ من قيام قرينة مقامية كما عرفت على إرادة مرتبة خاصة منه لعدم إمكان إرادة جميع مراتبه ولكن أشكل عليه الأمر في تعيين هذه المرتبة لعدم قيام دليل عليه عنده.

لكن الحق كما يظهر بعد إمعان النظر إمكان تعيين هذه المرتبة وهي «ما يلزم منه مشقة شديدة لا يتحملها الناس عادة في مقاصدهم» فإنها القدر المسلم من أدلة نفى الحرج ، أو ان القدر المسلم خروجه منها هو ما دون هذه المرتبة كما يشهد به رواية عبد الأعلى مولى آل سام الواردة في حكم الجبيرة وكذا غيره من روايات الباب.

والظاهر ان فقهاء الأصحاب (قدس‌سرهم) أيضا لم يفهموا من عمومات نفى الحرج الا ذاك ، ولذا صرح غير واحد منهم في مسألة «جواز التيمم بخوف الشين في أعضاء الوضوء» بوجوب تقييدها بما لا يتحمل عادة أو بالشديد منه ، أو بالفاحش ؛ على اختلاف تعابيرهم

قال الشيخ الأجل صاحب الجواهر (قده) عند التعرض لهذه المسألة ما حاصله : «لا أعرف في جواز التيمم عند خوف الشين خلافا بين الأصحاب وظاهر إطلاق كثير منهم عدم الفرق بين شديدة وضعيفة ، وهو مشكل جدا إذ لم نعثر له على دليل سوى عمومات العسر والحرج ، واحتمال دخوله في المرض أو في إطلاق ما دل على التيمم عند خوف البرد ، ومن المعلوم عدم العسر في ضعيفة ، بل لا يكاد ينفك عنه غالب الناس في أوقات البرد ، وعدم صدق اسم المرض عليه ؛ وظهور أدلة خوف البرد في غيره ؛ ثمَّ قال ولعله لذا قيده في موضع من المنتهى بالفاحش ، واختاره جماعة ممن تأخر عنه منهم المحقق الثاني في جامعه والشهيد الثاني في روضه والفاضل الهندي في كشفه ، واليه يرجع ما عن جماعة أخرى من التقييد بما لا يتحمل عادة ، فالأقوى الاقتصار على الشديد منه الذي يعسر تحمله عادة» انتهى كلامه.

وكأنه قدس‌سره تفطن لما ذكرناه من وجود القرينة المقامية على صرف إطلاقات

١٨٢

أدلة نفى الحرج في هذا المقام ، ولكن قد عرفت عدم اختصاصها به.

والظاهر ان مراد غير هؤلاء المحققين الذين قيدوا الإطلاق بما عرفت من «الشديد» أو «الفاحش» أيضا ذلك فلا خلاف بينهم فيه كما ان الظاهر انحصار مدرك المسألة المذكورة في قاعدة لا حرج.

وقد تعرض للمسألة كثير من أعاظم المتأخرين منهم المحقق اليزدي في «عروته» قال : «بل لو خاف من الشين الذي يكون تحمله شاقا تيمم» انتهى. وقرره عليه كثير من محققي المحشين وزاد بعضهم : «إذا كانت بحيث لا يتحمل عادة».

ثمَّ لا يخفى عليك ان عدم تحمل مشقة الفعل عادة يختلف باختلاف الافعال وما يرام منها من حيث الاهتمام بشأنها وباختلاف الحالات وغيرها فتدبر جيدا.

فتحصل من جميع ذلك ان المعيار في قاعدة نفى الحرج ليس مطلق المشقة والعسر الموجودين في كثير من التكاليف الشرعية أو أكثرها بل المشقة الشديدة التي لا يتحمل عادة في مثل ذاك الفعل ؛ وان الدليل عليه قيام قرينة مقامية على هذا التقييد كما عرفت ، فليس قاعدة نفى الحرج مجملة مبهمة ؛ كما انه لا يلزم منه تخصيص الأكثر أو المستوعب ، وسيأتي تتمة لهذا الكلام في «التنبيه الأول» من التنبيهات الاتية إنشاء الله.

١٨٣

مفاد القاعدة

ووجه تقدمها على سائر العمومات

لا يخفى ان العسر والحرج والاصر وأمثال هذه العناوين أوصاف للأفعال التي تتعلق بها الاحكام لا لنفس الاحكام ، مثلا وضوء المختار لمن على يده جبيرة أمر حرجي متعسر ، فالمتصف بهذه الصفة نفس هذا العمل لا الوجوب المتعلق به ، فلا يقال وجوب الوضوء على مثل هذا الشخص أمر حرجي وفيه ضيق على المكلف الا من باب الوصف بحال المتعلق ، فإنه لو كان في الوجوب ضيق فإنما هو من ناحية العمل المتعلق به.

ويشهد له نفى الجعل عنه في قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فان الجعل على المكلفين كناية عن التكليف ، والمجعول هو نفس العمل المكلف به وهو المتصف بالحرج هنا ، فكأن «المكلف به» أمر يضعه الشارع على عاتق المكلفين ويكون ثقله عليهم ، كما انه قد يرفعه عنهم (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) فقوله (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) بمعنى : لم يكلفكم عملا حرجيا متعسرا

وأوضح من ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رواية الاحتجاج السابقة (١) : «يعني بالإصر الشدائد التي كانت على الأمم السابقة ـ الى ان قال ـ كنت لا اقبل صلوتهم إلا في بقاع من الأرض معلومة اخترتها لهم وان بعدت وقد جعلت الأرض كلها لأمتك مسجدا وطهورا فهذه من الاصار التي كانت على الأمم قبلك فرفعتها عن أمتك». الى غير ذلك من فقراتها ، فإنها ظاهرة أو صريحة في ان نفس هذه الاعمال كانت من الاصار الثابتة في حق الأمم الماضية المرفوعة عن هذه الأمة المرحومة.

فالمرفوع أولا وبالذات هي نفس الافعال الحرجية الا ان رفعها عن المكلفين أو عدم جعلها عليهم كناية عن عدم إيجابها كما ان وضعها عليهم كناية عن إيجابها فالوضع والرفع في عالم التشريع هو الإيجاب ونفيه وهذا التعبير ـ كما عرفت ـ مأخوذ من

__________________

(١) نقلناها تحت الرقم «١١».

١٨٤

مشابهة الإلزام بشيء وإيجابه لوضعه على عاتق المكلف فكأن الشارع المقدس إذا أوجبه على المكلفين وضعه عليهم في الخارج وإذا لم يوجبه عليهم رفعه عنهم.

والحاصل ان العسر والحرج كمقابليهما من أوصاف أفعال المكلفين وهي التي قد تكون شاقا ضيقا كما قد تكون سهلا يسيرا.

وإذا قد عرفت ذلك فاعلم انه لا إشكال في تقدم عمومات نفى الحرج على العمومات المثبتة للأحكام بعناوينها الأولية ووجوب تخصيصها بها ، ويشهد له استشهاد الامام عليه‌السلام بها في قبال كثير من الأدلة المثبتة للأحكام مضافا الى فهم الفقهاء رضوان الله عليهم واستنادهم إليها في فروع فقهية كثيرة ، ولكن ما وجه هذا التقدم؟ فهل هو من جهة حكومتها عليها أو أمر آخر ورائها؟

التحقيق انه على ما ذكرنا من ان العسر والحرج وأشباههما من أوصاف أفعال المكلفين لا الأحكام المتعلقة بها لا يصح لنا ان نقول بان وجه تقدم عمومات هذه القاعدة على أدلة الاحكام هو حكومتها عليها ، فإنها عبارة عن كون احد الدليلين بمدلوله اللفظي ناظرا إلى الأخر بحيث لولاه لكان لغوا.

اما بان يتصرف في موضوعه ؛ أو في حكمه ؛ أو في متعلقه ، أو في انتساب المتعلق الى موضوعه ؛ وقد مر بيانه في القاعدة الاولى من هذه السلسلة وهي. «قاعدة لا ضرر» عند ذكر نسبتها مع سائر الأدلة.

ومن المعلوم ان دليل نفى الحرج إنما ينفي وجوده وجعله على المكلفين في عالم التشريع ، من دون ان يكون ناظرا الى غيره من أدلة أحكام الشرع نظر التصرف فيها بأحد الأنحاء الأربعة المتقدمة ، فمن هذه الجهة يكونان في عرض واحد فهما من قبيل المتعارضين ، ففي الحقيقة أدلة نفى الحرج تكون من سنخ ما دل على انه «لم يجعل على النساء جمعة ولا جماعة ولا أذان ولا اقامة» فلو كان هناك ما يدل بعمومها على ان عليهن بعض هذه الأمور كانتا من المتعارضين ، لا ان الأول حاكم على الثاني ؛ فلا يقدم عليه الا من باب التخصيص ، ومجرد كون لسانه «نفى الجعل» لا يكفي في تقدمه على غيره

كما ان من الواضح ان النسبة بينها وبين أدلة الأحكام هي العموم من وجه ،

١٨٥

فكما انه يمكن تخصيصها بأدلة نفى الحرج يمكن تخصيص أدلة نفى الحرج بها.

الا ان كونها في مقام الامتنان على الأمة يأبى من التخصيص جدا. فتخصص الأدلة المثبتة للأحكام بها لقوة دلالتها بالنسبة إليها ، وهذا أمر ظاهر لمن راجع العمومات السابقة. ومنه يظهر وجه استشهاد الامام عليه‌السلام بها في مقابل كثير من العمومات المثبتة للاحكام ، وفهم الفقهاء واستشهادهم بها في أبواب شتى.

نعم لو قلنا بان العسر والحرج من أوصاف نفس الأحكام الشرعية وانها هي التي قد تكون عسرة حرجية واخرى سهلة يسيرة وان قوله تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) في قوة قولنا ان الاحكام المجعولة الثابتة بأدلتها ليس فيها ما يكون حرجا وضيقا على المكلفين ، فح يصح القول بحكومتها عليها لأنها ناظرة إليها ومفسرة لها بما هو ملاك الحكومة ، ولكن قد عرفت آنفا ضعف هذا المبنى وانها من صفات أفعال المكلفين بل القول بالحكومة على هذا المبنى أيضا عندي غير صافية عن شوب الاشكال كما لا يخفى على من تدبر.

هذا وقد بقي هنا أمور هامة نذكرها في طي تنبيهات :

١٨٦

التنبيه الأول

هل القاعدة موهونة بكثرة التخصيصات الواردة عليها؟

من الإشكالات القوية التي أوردت على هذه القاعدة ، انه كيف يمكن الحكم بعمومها وارتفاع كل أمر حرجي في الشريعة بها ، مع ما يتراءى من كثرة التكاليف الشاقة الحرجية في أبواب العبادات وغيرها ، كالوضوء بالمياه الباردة في ليالي الشتاء والصوم في الأيام الحارة من الصيف مع ما فيهما من المشقة الظاهرة ، وكالجهاد بالأموال والأنفس ؛ ومقارعة السيف والسنان ، ومقابلة الشجعان ، وعدم الفرار من الزحف وتحمل لومة اللائمين في إجراء أحكام الله ، وتسليم النفس لإجراء الحدود والقصاص ، والهجرة عن الأوطان لتحصيل مسائل الدين ؛ وبثها بين المسلمين الواجب كفاية ، وأشد منها الجهاد الأكبر مع النفس وجنود الشياطين.

فهذه التخصيصات الكثيرة توهنها وتمنع عن التمسك بعمومها ، لان قبح تخصيص الأكثر دليل على ان المراد منها غير ما يفهم منها في بدء الأمر فيكون معناها مجملة مبهمة غير قابلة للاستدلال ، فان ما يظهر منها بادئ الأمر غير مراد والمراد منها غير معلوم ؛ فعمومها كعمومات «القرعة» وما أشبهها موهونة لا يجوز العمل بها إلا في موارد عمل بها الأصحاب

وكأنه الى هذا المعنى أشار المحدث الجليل الحر العاملي قدس‌سره في كتابه المسمى ب «الفصول المهمة» حيث قال بعد نقل طائفة من الاخبار النافية للحرج : «نفى الحرج مجمل لا يمكن الجزم به فيما عدا تكليف ما لا يطاق وإلا لزم رفع جميع التكاليف» انتهى.

فالتزم بعد القول باجمالها وإبهامها بسقوطها عن الحجية إلا في القدر المتيقن منها وهو التكليف بما لا يطاق.

أقول ـ قوله : «وإلا لزم رفع جميع التكاليف» ان كان مراده منه المبالغة في كثرة التخصيصات الواردة عليها بما عرفت آنفا ؛ وأشرنا إليه أيضا عند ذكر معنى

١٨٧

«العسر والحرج» فله وجه مع قطع النظر عما سيأتي ، واما ان كان مراده منه ما يظهر منه في ابتداء النظر من نفى عامة التكاليف الشرعية ، لما في جمعيها من مرتبة من العسر والحرج ، فهو مبنى على ان يكون المراد من «الحرج» مطلق الكلفة الحاصلة ولو من الأمور البسيطة العادية ، وهو ممنوع جدا ، كما عرفت عند تحقيق معنى هذه الكلمة.

مضافا الى ان غير واحد من التكاليف الشرعية لا يشتمل على أدنى مشقة وكلفة ، لموافقتها لكثير من الطباع فالقول باستلزام عموم نفى الحرج لنفى عامة التكاليف ممنوع من هذه الجهة أيضا.

أضف الى ذلك ان ما ذكره هذا المحدث الجليل هدم لأساس هذه القاعدة رأسا ، لأن بطلان التكليف بما لا يطاق ظاهر لكل احد بل لا يبعد كونه من ضروريات الدين ؛ فحصر مفادها في خصوص التكليف بما لا يطاق مساوق لسقوطها عن الحجية وهو مخالف لسيرة الفقهاء حيث يستدلون بها في كثير من أبواب الفقه لنفى التكاليف الحرجية غير البالغة حد ما لا يطاق ، بل مخالف لما عرفت من استدلال الامام عليه‌السلام بها لكثير من المسائل وتعليمه عليه‌السلام لاستنباط الحكم من هذه القاعدة العامة.

واما قصر العمل بها على خصوص الموارد التي عمل بها الأصحاب ، مع انا نعلم أو نظن انه لم يكن عند أكثرهم أو جميعهم في هذا الباب إلا هذه الايات والاخبار المأثورة عنهم عليهم‌السلام ؛ فمما لا وجه له.

واحتمال ان يكون قد وصل إليهم من المدارك ما لم يصل إلينا ، أو كان لهذه العمومات قرائن متصلة ترفع إبهامها وتوضح المراد منها ، وصلت إليهم دوننا ، ضعيف جدا ، ومن أقوى الشواهد على بطلانه انهم يستندون في إثبات المسائل إلى نفس هذه الايات والروايات معتمدين في إثبات مقاصدهم عليها لا غير.

ما ذكر في دفع هذا الاشكال

وقد يذب عن الاشكال بوجوه لا تخلو عن إيرادات ؛ نذكرها ونذكر ما فيها من

١٨٨

جهات الضعف ؛ ثمَّ نتبعها بما عندنا في حسم مادته.

الأول ـ ما حكاه المحقق النراقي عن بعض سادة مشايخه ـ والظاهر انه السيد السند العلامة الطباطبائي قدس‌سرهما ـ قال : اما ما ورد في هذه الشريعة من التكاليف الشديدة كالحج والجهاد والزكاة بالنسبة الى بعض الناس والدية على العاقلة ونحوها ؛ فليس شيء منها من الحرج ، فإن العادة قاضية بوقوع مثلها ، والناس يرتكبون مثل ذلك من دون تكليف ومن دون عوض ؛ كالمحارب للحمية ؛ أو بعوض يسير.

وبالجملة فما جرت العادة على الإتيان بمثله والمسامحة فيه وان كان عظيما في نفسه كبذل النفس والمال ، فليس من الحرج في شيء ؛ نعم تعذيب النفس وتحريم المباحات والمنع عن جميع المشتبهات أو نوع منها على الدوام حرج وضيق ومثله منفي في الشرع (انتهى).

وهذا القول كما تراه على طرف الإفراط ؛ كما ان ما ذكره المحدث الحر العاملي على طرف التفريط ، وكلاهما خارجان عن حد السواء ، يوجبان سقوط القاعدة عن قابلية الاستدلال بها في الفقه رأسا اما الأول فقد عرفت حاله ، واما الأخير فلان لازمه وجوب العمل بالتكاليف الواردة في الشرع من الواجبات والمحرمات وان بلغت من العسر والحرج ما بلغت من دون اى استثناء فينحصر مفاد القاعدة في خصوص تعذيب النفس وتحريم المباحات وأمثالها وهو كما ترى.

فإنه يرد عليه جميع ما أوردناه على سابقة من مخالفته لاستدلال الأئمة عليهم‌السلام بآية نفى الحرج في موارد عديدة ومخالفته لفهم الفقهاء واستنادهم إليها في أبواب شتى.

أضف الى ذلك مخالفته للوجدان فان مجرد ارتكاب الناس لبعض الأمور الشاقة ، لا جور يترقبونها أو لعلل اخرى لا يخرجها عن كونها أمورا شاقة حرجية ، اللهم الا ان يرجع هذا القول الى بعض ما سنشير إليه في الوجه المختار.

الثاني ـ ما حكاه قدس‌سره أيضا عن بعض فضلاء عصره وحاصله : ان الذي يقتضيه النظر بعد القطع بورود تكاليف شاقة ومضار كثيرة في الشريعة ان المراد بنفي

١٨٩

العسر والحرج والضرر ، ما هو زائد على ما هو لازم لطبائع التكاليف الثابتة بالنسبة إلى طاقة أوساط الناس ؛ المبرئين عن المرض والقدر الذي هو معيار التكاليف ، بل هي منفية من الأصل إلا ما ثبت وبقدر ما ثبت.

والحاصل انا نقول : ان المراد ان الله سبحانه لا يريد بعبادة العسر والحرج والضرر الا من جهة التكاليف الثابتة بحسب أحوال متعارف الأوساط وهم الأغلبون ، فالباقي منفي سواء لم يثبت أصله أصلا أو ثبت ولكن على نهج لا يستلزم هذه الزيادة. ثمَّ قال :

ان ذلك النفي اما من جهة تنصيص الشارع ؛ كما في كثير من أبواب الفقه من العبادات وغيرها ، كالقصر في السفر والخوف في الصلاة والإفطار في الصوم ونحو ذلك ، واما من جهة التعميم كجواز العمل بالاجتهاد لغير المقصر في الجزئيات كالوقت والقبلة ، أو الكليات كالأحكام الشرعية (انتهى).

أقول ـ عبارته المحكية عنه قدس‌سره وإن كانت لا تخلو عن إجمال وإبهام الا ان الظاهر ان مراده ان الأصل الاولى في الاحكام عدم كونها حرجية ولا ضررية ؛ وانما يخرج من هذا الأصل في موارد ثبت فيها تكليف حرجي أو ضرري إما بالعموم أو بالخصوص فيقتصر في هذه الموارد التي ثبت فيها تكاليف حرجية أو ضررية على ما ثبت وبقدر ما ثبت ، واما الزائد عليها فهو منفي بهذه القاعدة.

غاية الأمر ان التكاليف الحرجية الثابتة بأدلتها تنصرف إلى طاقة أوساط الناس المبرئين عن الأمراض والاعذار ، واما بالنسبة إلى غيرهم فحيث لا دليل على إثباتها فهي أيضا منفية بهذه القاعدة.

واما ما ذكره في آخر كلامه فالظاهر انه ناظر الى ان نفى الحرج والضرر قد يكونان بعمومات هذه القاعدة ، واخرى بتنصيص الشارع عليه خصوصا ، كما في صلاة القصر في السفر ، والإفطار في الصوم في السفر وللمريض والشيخ الكبير وأشباههم ، وثالثة بتنصيصه عليه عموما ، كتجويزه العمل بالظن في الموضوعات كالوقت والقبلة لجميع آحاد الناس غير المقصر منهم ، وفي الأحكام الشرعية الكلية للمجتهدين خاصة ، هذا حاصل ما يستفاد من كلامه.

١٩٠

ولازمه اختصاص نفى الحرج والضرر بموارد لم يدل على خلافه دليل أصلا ، لا عموما ولا خصوصا وفساد هذا القول أيضا ظاهر لمنافاته لما عرفت من تمسك الأئمة عليهم‌السلام بعموم نفى الحرج لنفى كثير من الاحكام في موارد يستلزم العسر والحرج وتخصيص أدلتها به ، ولسيرة كثير من الفقهاء رضوان الله عليهم ، ولظاهر عمومات نفى الحرج والضرر الواردة في مقام الامتنان الابية عن مثل هذه التخصيصات الكثيرة.

أضف اليه ان النسبة بينها وبين الأدلة المثبتة للأحكام عموم من وجه. فلا وجه لتقديمها على عمومات نفى الحرج والضرر.

واما ما احتمله المحقق النراقي (قده) من ان المستفاد من كلامه كون قاعدة نفى الحرج من باب أصل البراءة فيكون تقديم ما ثبت بأدلة الاحكام من باب تقديم الأدلة الاجتهادية على الأصول العملية مع انه بعيد عن مساق كلامه ، ظاهر الفساد ، لأن الأصول العملية ناظرة إلى بيان وظيفة الشاك ؛ وليس في أدلة نفى الحرج والضرر من الشك عين ولا اثر.

الثالث ـ ان العسر والحرج يختلف باختلاف العوارض الخارجية فقد يكون شيء عسرا وحرجا ولكن يكون باعتبار أمر خارجي سهلا ويسرا ؛ ومن الأمور الموجبة لسهولة كل عسر ، وسعة كل ضيق ، مقابلته بالعوض الكثير والأجر الجزيل ، ولا شك ان كل ما كلف الله سبحانه به من التكاليف يقابله ما لا يحصى من الأجر ، قال تعالى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) ؛ وعلى هذا لا يكون شيء من التكاليف عسرا وحرجا ، فكل ما كلف الله به من الأمور الشاقة ظاهرا فقد ارتفعت مشقتها بما وعدلها من الأجر الجميل والثواب الجزيل (انتهى).

وفيه ـ ان لازمه أيضا سقوط أدلة نفى الحرج عن جواز الاستدلال بها رأسا لأن كل ما ورد الأمر به أو النهي عنه ففي امتثال امره ونهيه أجر الهى بالملازمة الثابتة من حكم العقل فلا يصح نفيه بأدلة نفى الحرج ؛ بل تكون هذه الأدلة لغوا بالمرة ولا يبقى لقوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) معنى ، الا ان يكون المراد نفى التكاليف المشتملة على المشقة الخالية عن الأجر والثواب ولكنه يرجع الى توضيح أمر واضح.

١٩١

ويرد عليه أيضا ما أوردناه على ما تقدمه ، من مخالفته للأخبار الحاكية لاستدلال المعصومين عليهم‌السلام بها لنفي الأمور الحرجية ؛ كما انه مخالف لفهم فقهاء الأصحاب المستدلين بها في فروع كثيرة.

هذا مضافا الى عدم تماميته في نفسه لان مجرد ترتب الأجر الجميل والثواب الجزيل على شيء لا يمنع عن صدق العسر والحرج عليه ، مثلا نقل الصخور العظيمة من قلل الجبال ، أو تحمل منن اللئام ؛ من الأمور العسرة الحرجية وان كان في مقابلها أجور جزيلة. نعم ترتب الأجر والثواب عليها يكون داعيا على الإتيان بها ومصححا لارتكابها عند العقلاء لا انه مانع عن صدق عنوان العسر والحرج عليه.

ويشهد على ذلك ظهور بعض الايات وصراحة بعض الاخبار الماضية في ثبوت تكاليف عسرة حرجية في حق الأمم الماضية ، مع انه لا ينبغي الشك في ترتب أجور جميلة على طاعاتهم وامتثالاتهم ؛ فهذا دليل على انه لا منافاة بين صدق عنوان الحرج والعسر على شيء مع ترتب الأجر الجميل عليه.

والحاصل ان العسر والحرج وان كان يختلف باختلاف بعض العوارض الخارجية ـ كغير هما من العناوين ـ الا ان اختلافها بمجرد ترتب الأجر والثواب الأخروي أو الأجور الدنيوية عليهما ممنوع جدا.

الرابع ـ ما اختاره المحقق النراقي وجعله الطريق الوحيد في حل الاشكال بحذافيره وإليك نص عبارته :

«انه لا حاجة الى ارتكاب أمثال هذه التأويلات والتوجيهات بل الأمر في قاعدة نفى العسر والحرج كما في سائر العمومات المخصصة الواردة في الكتاب الكريم والاخبار الواردة في الشرع القويم ؛ فإن أدلة نفى العسر والحرج تدل على انتفائهما كلية ، لأنهما لفظان مطلقان واقعان موقع النفي فيفيدان العموم ، وقد ورد في الشرع التكليف ببعض الأمور الشاقة والتكاليف الصعبة أيضا ولا يلزم منها ورود إشكال في المقام كما لا يرد بعد قوله سبحانه (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) إشكال في تحريم كثير مما ورائه ، ولا بعد قوله : «(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) إلخ» تحريم أشياء كثيرة ؛

١٩٢

بل يخصص بأدلة تحريم غيره عموم ذلك فكذا هاهنا.

فان تخصيص العمومات بمخصصات كثيرة ليس بعزيز بل هو أمر في أدلة الأحكام شائع وعليه استمرت طريقة الفقهاء ، فغاية الأمر كون أدلة نفى العسر والحرج عمومات يجب العمل بها فيما لم يظهر لها مخصص وبعد ظهوره يعمل بقاعدة التخصيص» انتهى.

ويرد عليه أولا ـ ان قبح تخصيص الأكثر أو التخصيص الكثير المستهجن أمر ظاهر لا يجوز ارتكابه ، ولا يصح الالتزام به في كلام الشارع الحكيم ؛ كما ان لزوم مثل هذا التخصيص في المقام مما لا ينبغي الريب فيه بعد كثرة التكاليف الحرجية التي أشرنا إليها إجمالا عند تقريب أصل الإشكال ، من الواجبات المالية الكثيرة ؛ والجهاد الأصغر والأكبر ، والحج والصيام والقصاص والحدود والديات وغيرها.

وما استشهد به من الآيتين على ما ادعاه من جواز التخصيصات الكثيرة قابل للمنع

فان الظاهر ان الحصر في قوله تعالى : «(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) إلخ» حصر إضافي في مقابل ما حرمة أهل الكتاب على أنفسهم وبدعهم في باب الذبائح أو غيره فتدبر. كما ان قوله تعالى (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) أيضا ظاهر في الحصر الإضافي أو محتمل له ، وتمام الكلام فيه في محله.

وثانيا ـ ان عمومات نفى الحرج واردة في مقام الامتنان على الأمة المرحومة كما ان ظاهر روايات الباب أو صريحها انه من خصائص هذه الأمة فكيف يجوز تخصيصها بمثل هذه المخصصات الكثيرة والحال هذه؟ وكيف يكون نفى الحرج من مختصات الأمة مع إثبات احكام حرجية كثيرة فيها؟ فان ذلك جار في جميع الأمم.

اللهم الا ان يقال بان امتياز هذه الأمة انما هو في قلة أحكامها الحرجية بالنسبة إلى الماضين وان كانت في نفسها كثيرة. هذا ولكن إشكال إباء هذه العمومات الواردة في مقام الامتنان عن مثل هذه التخصيصات باق بحاله.

وثالثا ـ ان القول بجواز تخصيص عمومات نفى الحرج بمخصصات كثيرة ، يمنع عن التمسك بها رأسا لأنك قد عرفت ان النسبة بينها وبين عمومات الأدلة المثبتة للأحكام هي العموم من وجه كما عرفت ، فلا وجه لتقديمها عليها عند التعارض الا بما ذكرنا من

١٩٣

ابائها عن التخصيص.

المختار في حل الاشكال

الخامس ـ وهو المختار في حسم مادة الاشكال ، ان ما يدعى من التكاليف الحرجية الواردة في الشريعة على أقسام :

منها ـ ما ليس حرجيا وان ادعى كونها كذلك ؛ كحج بيت الله الحرام وأداء الخمس والزكاة (لا سيما مع ما عرفت عند ذكر معنى «الحرج» من ان المراد منه هنا ليس مطلق المشقة والضيق ، بل المشقة التي لا تتحمل عادة على ما بسطنا الكلام فيه) فان إخراج خمس أرباح المكاسب بعد وضع مئونة السنة بجميع أنحائها ، وكذا إخراج خمس غيرها من المعادن والكنوز ، والزكوات المقدرة في الشرع التي هي قليل من كثير ليست أمورا شاقة لا تتحمل عادة.

لا سيما مع صرفها في مصارف يعود نفعها غالبا الى المجتمع اجمع حتى المعطين ، كصرفها في إصلاح حال الفقراء والمساكين وأبناء السبيل ، وعمارة الشوارع ، وبناء القناطر ، وحفظ ثغور الإسلام ، وتقوية جيوش المسلمين ، وأمن السيل. فهذه في الحقيقة مثل سائر ما يصرفونها في محاويجهم الشخصية وإصلاح أمورهم الخاصة ، مما لا يعدونه ضررا وحرجا ، بل إصلاحا ونفعا.

وهذا المعنى وإن كان عند بعض الأذهان البادية من الاستحسانات الا انه اليوم ظاهر لكل خبير بوضع المجتمعات البشرية وما فيه نجاحها وفلاحها ؛ ولذا ترى العقلاء من جميع الأمم يسلكون هذا المسلك ويكلفون افرادها بأداء واجبات مالية يصلحون بها حال الضعفاء وذوي الحاجات وسائر الأمور العامة التي يعود نفعها الى مجتمعهم اجمع ؛ ولا يعدونه ضررا ولا حرجا بل قد عرفت انها في الحقيقة من قبيل مصارفهم الشخصية.

وان أبيت عن ذلك فقد عرفت ان الواجبات المالية في أنفسها ، ومع قطع النظر عن هذا ؛ ليست أمورا شاقة حرجية لا تتحمل عادة الذي هو الملاك في هذا الباب.

أضف الى ذلك ان إطلاق العسر والحرج على الأمور المالية مطلقا لا يخلو عن اشكال ـ كما أشار إليه المحقق النائيني في آخر رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر ـ لظهور

١٩٤

عنوان الحرج في المشقة في الجوارح لا في الجوانح ومن المعلوم ان بذل الأموال ليس فيه مشقة بهذا المعنى ولو بلغ ما بلغ ، اللهم الا فيما يسرى المشاق الروحية الى البدن كمن لا ينام طول ليلته إذا بذل ما لا كثيرا ، على تأمل في ذلك أيضا.

ومنها ـ ما يكون من ناحية فعل المكلف وسوء اختياره ، كالقصاص والحدود وما شاكلهما ، فان المكلف بسوء اختياره يقع في هذه الأمور الحرجية ، فلو لم يقتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض ، أو لم يجن عليها بجناية أخرى توجب القصاص أو الحد أو لم يعتد على غيره بمال أو بعرض ؛ لا يعتدى عليه بمثله ولا يعاقب به.

ومن الواضح انصراف أدلة نفى العسر والحرج عما أقدم عليه بسوء اختياره لا سيما في هذه الموارد التي لا يكون نفيه منة على من ارتكبها الا بترك الامتنان بل الظلم الفاحش على غيره ، فهذه الموارد لم تكن داخلة تحت عمومات نفى الحرج حتى يكون خروجها عنها بالتخصيص.

ومنها ـ ما هو قابل للإنكار ، فمثل التوضي بالماء البارد في ليالي الشتاء أو الصيام في الأيام الحارة من الصيف إذا بلغ مشقته حدا لا تتحمل عادة فلا يبعد القول بعدم وجوبه ، ولكن بلوغه هذا الحد لغالب الناس في محل المنع.

ومنها ـ ما يبقى من الموارد النادرة التي يمكن التزام تخصيص القاعدة بها إذا كان دليله أخص من أدلة نفى الحرج أو بمنزلة الأخص ؛ كالجهاد الذي فيه من المشقة والحرج ما لا يخفى قال الله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) وقال تعالى : حاكيا عن وقعة الأحزاب ، (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) ، وقد سمى في كتابه العزيز الساعات التي كانت قبل غزوة تبوك (ساعَةِ الْعُسْرَةِ) ففي هذا المورد وشبهه نلتزم بتخصيص عمومات لا حرج بها.

لا يقال ـ كيف يجوز تخصيص عمومات نفى الحرج بهذه الموارد ولو كانت قليلة بالنسبة الى ما يبقى تحتها مع اعترافك بورودها مورد الامتنان الآبي عن التخصيص

قلنا ـ عدم جواز تخصيص العمومات الواردة في مقام البيان انما هو في موارد

١٩٥

يكون تخصيصها منافيا للمنة. واما إذا كان موافقا لها فلا مانع منه ، وما نحن فيه من هذا القبيل فان منافع الجهاد ومصالحه من ظهور المسلمين على الاعداء وحفظ ثغورهم وبقاء عزهم وجعل كلمة الله هي العليا وتفريق احزاب الكفر وجعل كلمتهم هي السفلى ؛ لما كانت ظاهرة واضحة لكل احد صار هذا قرينة عرفية على جواز التخصيص ولم يناف ورود العام مورد الامتنان ؛ بل كان ترك تشريع هذا الحكم الظاهر مصلحته منافيا له ، وكل ما كان من هذا القبيل جاز تخصيص عمومها به من دون اى محذور.

والحاصل ان حال العمومات الواردة في مقام البيان ليست حال سائر العمومات التي يجوز تخصيصها بكل مخصص ؛ كما انه ليس حالها حال بعض العمومات المعللة بعلل عقلية عامة لا يجوز تخصيصها ابدأ بأي مخصص كان ، بل حكمها في جواز التخصيص وعدمه جوازه بما لا ينافي الامتنان وعدم جوازه فيما ينافيه.

التنبيه الثاني

هل العبرة بالحرج الشخصي أو النوعي؟

هذا البحث نظير ما أسلفناه في قاعدة «لا ضرر» والكلام فيه من جهات كثيرة كالكلام فيه وان كان بينهما اختلاف من بعض الجهات نشير إليها.

وحاصل القول ان العبرة في ارتفاع الحكم بلزوم العسر والحرج هل هو بالحرج الشخصي بأن يكون لزوم الحرج في مورد رافعا للتكليف في خصوص ذاك المورد ، أو النوعي بحيث كان لزومه على نوع المكلفين رافعا للتكليف عن عامتهم؟.

والحق هو الأول. لظهور جميع العناوين الواردة في لسان الأدلة في مصاديقها الشخصية فعنوان الضرر انما يصدق في خصوص موارده واشخاصه وكذلك الحرج وغيرهما من العناوين الواردة في الأدلة ؛ وارادة الحرج أو الضرر النوعي تحتاج إلى قرينة مفقودة في المقام.

نعم يظهر من احاديث الباب استدلال الامام عليه‌السلام في موارد مختلفة بعموم قوله

١٩٦

تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) لنفى الحكم عن جميع الافراد مع عدم كونه حرجيا إلا في حق غالبهم ، مثل رواية أبي بصير الدالة على عدم. انفعال الماء الكر. مستندا الى عموم هذه الآية ، مع ان من المعلوم عدم لزوم العسر والحرج من عدم هذا الحكم على جميع المكلفين وكذلك غيره وهذه الرواية وأمثالها هي غاية ما يمكن ان يستشهد به للوجه الثاني.

ولكن يمكن ان يجاب عنه بما ذكرناه عند ذكر روايات الباب من ان استنادهم عليهم‌السلام بهذه الفقرة من الآية الشريفة على وجهين : تارة يكون بعنوان العلة للحكم ويكون ضابطة كلية يعطي بيد المكلفين ويدور الحكم معه حيثما دار ، كما في رواية عبد الأعلى مولى آل سام فيمن عثر وانقطع ظفره إلخ ولا إشكال في ان الحرج في أمثال هذه الموارد أخذ شخصيا.

واخرى بعنوان حكمة الحكم اعنى ما كان داعيا وباعثا على تشريعه وان كان هناك بواعث أخر غيرها فيكون كالمعدات أو العلل الناقصة ومن الواضح ان الحكم في هذه الموارد لا يدور مدار العلة ، بل قد يتجاوز عنها الى غيرها ، وقد لا يشمل جميع مواردها ، ولذا لا يجوز الاستناد الى ما ورد في أدلة الاحكام من علل التشريع ولا يعامل معها معاملة المنصوص العلة ، فلا يكون جامعا ولا مانعا.

وما يتوهم ان الحرج قد أخذ فيه نوعيا في الحقيقة من قبيل القسم الأخير أعني ما يكون حكمة للحكم فالحرج فيه أيضا شخصي ولكن دائرة التعليل لا تنطبق على دائرة الحكم لا ان الحرج فيه نوعي فتدبر.

والحاصل ان استدلالهم عليهم‌السلام في بعض الموارد التي يكون الحرج فيها نوعيا بآية نفى الحرج لا يكون دليلا على الوجه الثاني ؛ ولا يجوز التعدي منه الى غيره من الموارد التي يكون الحرج فيها نوعيا ؛ بل يجب الاقتصار على خصوص مورده ، لان سياقه سياق بيان حكمة التشريع لا علة الحكم.

كما انا نعلم خارجا ان الحكمة في تشريع كثير من الأحكام هي التوسعة ورفع الحرج عن المكلفين (ولو لم يستند فيها إلى آية نفى الحرج وغيرها من أشباهها) كالقصر

١٩٧

في الصلاة والصيام ، ورفع الصوم عن المرضى والشيوخ ؛ والعدول من الوضوء والغسل الى التيمم في كثير من الموارد ، وكثير من احكام مستثنيات أبواب النجاسات. ولا يكون هذا دليلا على أخذ الحرج نوعيا في قاعدة نفى الحرج.

هذا كله مضافا الى عدم انضباط الحرج النوعي ، فهل الملاك فيه هو نوع المكلفين في جميع الأزمنة والأمكنة ، أو أهل عصر واحد ، أو أهل مكان واحد ، أو صنف خاص منهم أو غير ذلك من الاحتمالات فتأمل ؛ فتحصل من جميع ذلك ان المعيار في هذا الباب هو الحرج الشخصي لا غير.

التنبيه الثالث

حكم تعارض دليلي نفى الحرج ونفى الضرر

إذا تعارض الضرر والحرج في مورد ـ كما إذا كان تصرف المالك في ملكه موجبا لا ضرار جاره وترك تصرفه فيه حرجا عليه لان منع المالك عن تصرفه في ملكه كيف يشاء أمر حرجي ـ فهل يقدم قاعدة نفى الحرج أو يؤخذ بقاعدة نفى الضرر أو يتساقطان ويرجع الى أدلة أخر؟.

قال شيخنا الأعظم قدس‌سره الشريف في بحث قاعدة «لا ضرر» من «الفرائد» : «إذا كان تصرف المالك في ملكه موجبا لتضرر جاره وتركه موجبا لتضرر نفسه ، فإنه يرجع الى «عموم الناس مسلطون على أموالهم» ، ولو عد مطلق هجره عن التصرف في ملكه ضررا لم يعتبر في ترجيح المالك ضررا زائد على ترك التصرف ، فيرجع الى عموم التسلط ؛ ويمكن الرجوع الى «قاعدة نفى الحرج» لان منع المالك لدفع ضرر الغير حرج وضيق عليه ، اما لحكومته ابتداء على نفى الضرر ، واما لتعارضهما والرجوع الى الأصل» انتهى.

وقال المحقق النائيني (قده) في آخر رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر ما حاصله : «ان حكومة لا حرج على لا ضرر ـ كما احتمله الشيخ الأعظم ـ تتوقف على أمرين

١٩٨

الأول ـ كون لا حرج مثبتا للحكم أيضا أي كما انه حاكم على الأحكام الوجودية يكون حاكما على الأحكام العدمية أيضا ، والا لا يعقل تعارضه مع لا ضرر واجتماعه معه في مورد واحد حتى يكون حاكما عليه. وان شئت قلت : ان هذا الشرط يرجع الى منع الصغرى وحاصله عدم إمكان تعارض لا ضرر مع لا حرج.

الثاني ـ ان يكون لا حرج ناظرا الى لا ضرر ، ومعنى النظر ان يكون الحكم في طرف المحكوم مفروض التحقق حتى يكون الحاكم ناظرا الى الحكم الثابت في المحكوم واما لو كان كل منهما في عرض الأخر ولا أولوية لفرض تحقق أحدهما قبل الأخر فلا معنى للحكومة وبالجملة لا وجه لجعل لا حرج حاكما على لا ضرر فلا يمكن علاج التعارض بالحكومة.

كما انه لا يمكن علاجه بتقديم لا ضرر على لا حرج مطلقا من باب ان مورد الضرر أقل من الحرج ـ لا كل ضرري حرجي ولا عكس ـ فان فيه أولا ان أقلية المورد انما توجب الترجيح إذا كان المتعارضان متضادين دائما لا مثل المقام الذي يتوافقان غالبا وثانيا ـ ان الحرج هو المشقة في الجوارح لا في الروح ؛ فقد يكون الشيء ضرريا كالنقص في المال ولا يكون حرجيا ، فقولك كل ضرري حرجي ولا عكس غير صحيح (انتهى).

أقول ـ ولقد أجاد فيما أفاد بقوله ثانيا من ان ملاك الحكومة ـ وهو نظر احد الدليلين الى الآخر والتصرف فيه بأحد أنحائه التي مضى شرحها ـ مفقود في المقام

توضيحه : ان أدلة نفى الضرر ونفى الحرج متساوي الإقدام بالنسبة إلى موضوعاتهما وقد عرفت مما ذكرنا هنا وهناك (في قاعدة لا ضرر) ان لسانهما واحد فلا وجه لحكومة إحداهما على الأخرى ، بل قد عرفت انه لا حكومة لهما على الأدلة المثبتة للأحكام رأسا وانما يقدمان على غيرهما لورود هما مورد الامتنان ولجهات أخر مضى شرحها فلا معنى لتقدم إحداهما على غيرها وحكومتها عليها بل هما متعارضان متكافئان والنسبة بينهما عموم من وجه.

واما القول بأن النسبة بينهما عموم مطلق ـ لان كل أمر ضرري حرجي ولا عكس ـ

١٩٩

كما حكاه المحقق المذكور ، ساقط جدا لا لما ذكره فقط ، بلى لان تصادق مورد الضرر والحرج لو ثبت فإنما هو في مورد الإضرار على النفس لا في مورد الإضرار بالغير فمثل دخول «سمرة بن جندب» على الأنصاري بلا اذن منه كان ضررا عليه مرفوعا بحكم قاعدة نفى الضرر ، ولكن لم يكن هذا فعلا حرجيا لا لسمرة ولا للأنصاري ؛ اما الأول فواضح واما الثاني فلأنه لم يكن دخول سمرة فعلا للأنصاري ، نعم دخوله بلا اذن كان ضيقا على الأنصاري ، ولكن من الواضح ان قاعدة لا حرج لا ينفى كل ضيق حاصل من أي ناحية بل الضيق والحرج المرفوع بها هو ما حصل من ناحية التكاليف الواردة في الشرع ، فقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) اى ما جعل عليكم تكليفا يلزم منه الحرج والضيق ، بقرينة قوله «عليكم».

وان شئت قلت : عمومات نفى الحرج إنما تنفى الحرج الحاصل من ناحية التكاليف الشرعية على نفس المكلفين بها ؛ واما الحرج والضيق الحاصل من أفعالهم على غيرهم فلا دلالة لها عليه ، وانما المتكفل له قاعدة لا ضرر. ولا فرق في ذلك بين شمول قاعدة نفى الحرج للعدميات أيضا وبين اختصاصها بالوجوديات فقط.

وإذ قد ثبت ان النسبة بينهما عموم من وجه فالحكم في موارد تعارضها هو تساقطهما في مورد الاجتماع والرجوع الى غيرهما ، الا ان يكون هناك مرجحات خاصة في بعض الموارد ، كاهتمام الشارع ببعض المواضيع مثل حقوق الناس وأشباهها فيعمل بها.

واما ما ذكره قدس‌سره بقوله «أولا» وحاصله توقف حكومة أدلة لا حرج على أدلة نفى الضرر على شموله للعدميات ، ففيه ان موارد التعارض لا تنحصر بمورد السؤال مما يكون الطرفان من قبيل النقيضين أحدهما وجودي والأخر عدمي ، بل قد يكون من قبيل الضدين وذلك كما إذا كان القيام في مكان موجبا للضرر على غيره والقيام في غير ذاك المكان حرجا عليه نفسه ودار امره بينهما ، فالتعارض في هذا المثال وأشباهه ثابت من دون توقف على شمول لا حرج للعدميات ، نعم خصوص المثال الذي ذكره الشيخ الأعظم قده في كلامه يكون من قبيل المتناقضين ، ولكن ما ادعاه المحقق النائيني ظاهر في انحصار مورد تعارضهما بالمتناقضين كما يظهر لمن تدبر في كلامه.

٢٠٠