القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

منهما الضرر عليهما حتى يتعارضان ، نعم بعد شمول أدلة نفى الضرر لجواز تصرف المالك ينشأ منه حكم ضرري على المالك وهو عدم سلطنته على تصرفه في ماله بهذا النحو من التصرف ؛ ولكن من المعلوم ان هذا الحكم انما نشأ من ناحية أدلة لا ضرر ولا يعقل ان يكون منفيا بها وفي عرضها ، فليس المقام من باب تعارض الضررين.

واما فساد الكبرى (يعنى عدم جواز الرجوع الى قاعدة السلطنة وأدلة نفى الحرج بعد تعارض الضررين) فقد ذكر في وجهه ما حاصله : ان الرجوع الى العام عند تعارض المخصصات انما يصح في موارد تعارض المخصص مع ما في رتبته ، واما إذا تولد من تخصيص العام بمخصص ، فرد آخر من سنخ المخصص ، ووقع التعارض بين هذين الفردين من افراد المخصص ، فذلك لا يوجب الرجوع الى العام ، والمقام من هذا القبيل فإن حكومة أدلة نفى الضرر على عموم تسلط الناس على أموالهم أوجب الحكم بعدم جواز تصرف المالك بذاك النحو من التصرف وهذا الحكم ضرري بالنسبة إلى المالك وان شئت قلت : التعارض هنا بين مصداقين لمخصص معلوم لا بين دليلين مختلفين أحدهما مخصص للعام إجمالا. هذا كله بالنسبة الى عدم جواز الرجوع الى قاعدة السلطنة ، واما عدم جواز الرجوع الى دليل نفى الحرج فلان الرجوع اليه انما يصح إذا كان حاكما على دليل نفى الضرر وهو ممنوع. انتهى كلامه ملخصا.

أقول ـ وما افاده قدس‌سره قابل للنقد من جهات شتى ، ولنذكر أولا ما عندنا في حكم المسألة بجميع صورها ؛ ثمَّ لنشر الى مواضع الاشكال فيما افاده تحقيقا للحق وتوضيحا للمختار اما الأول :

***

لا ينبغي الإشكال في أن قاعدة السلطنة مع قطع النظر عن دليل لا ضرر قاصرة عن شمول بعض أنحاء التصرف في المال ، فإنها انما تدل على جواز تصرف المالك في ماله بما جرت عليه سيرة العقلاء من أنحاء التصرفات ، ولا دليل على جوازها فيما عداها ؛ ومنه يظهر حال كثير من الأمثلة التي ذكروها في المقام فان التصرفات التي لا يكون في فعلها نفع للمالك ولا في تركها ضرر عليه عادة وانما يقصد بها مجرد الإضرار بغيره ،

١٠١

وكذلك ما يصدر منه عبثا مع العلم بتضرر غيره منه ضررا معتدا به ، لا دليل على جوازها أصلا فإنها خارجة عن حدود السلطنة العرفية العقلائية في باب الأموال كما لا يخفى على الخبير بأحوال العقلاء واعتباراتهم وأمثلتها.

والوجه فيه ان سلطنة المالك على ماله كسائر الاعتبارات العقلائية لها حدود معلومة لا يتعدى منها ، ومن يتعد حدودها فهو خارج عن حيطة اعتباراتهم ، ولعل من ذلك ما ذكروه من مثال جعل حانوت حداد في صف العطارين مما يوجب تضررا فاحشا على جيرانه ، أو جعل داره مدبغة عظيمة يتأذى منه جيرانه ويشتد عليهم الأمر إلى حد بعيد لا يتحمل عادة ، فهل ترى العقلاء من أهل العرف يجوزون ذلك وهل يرون دائرة سلطنة المالك على ماله تشتمل هذه النواحي؟

وبذلك يظهر ان قاعدة السلطنة في حد ذاتها قاصرة عن شمول الصورة الرابعة من صور المسألة المتقدمة ، بل الصورة الثالثة أيضا ، حتى مع قطع النظر عن ورود أدلة لا ضرر.

اما إذا كان تصرف المالك في ماله لغرض عقلائي في حدوده المتعارفة المعمولة فيما بينهم ولكن لزم منه ضرر على غيره ولزم من تركه ضرر عليه أو فات منه بعض المنافع ؛ فهو أيضا على قسمين لأنه تارة يكون صدق عنوان الإضرار بالغير ملازما لصدق عنوان التصرف في ماله أيضا ، بأن يكون تصرف المالك في ماله مستلزما لتصرف ضرري في مال غيره ، ولو بعنوان التسبيب ، كما إذا حفر بئرا في داره خرج منه نضيض كثيرا سقط جدار الجار أو أسقط بعض بيوته عن حيز الانتفاع ، فإنه لا إشكال في صدق التصرف في ملك الغير بحفر البئر ولو بعنوان التسبيب في هذا المثال وأشباهه.

واخرى لا يصدق عليه هذا العنوان وان لزم منه تضرره ، كما إذا رفع جداره على جانب جدار جاره بما يتضرر به ويتنزل قيمة داره ، ولعل منه ما ذكروه ـ وورد في الروايات أيضا من ـ نقص ماء قناة لحفر قناة أخرى في أرض قريبة منها ، وكذا فساد ماء بئر جاره لحفر البالوعة في داره في مكان قريب منه في بعض الصور لا في جميعها كما لا يخفى. وإذ قد عرفت ذلك فاعلم انه ان كان من قبيل القسم الأول فهو من باب تعارض الضررين والسلطنتين ؛ فكما ان قاعدة السلطنة مع قطع النظر عن أدلة لا ضرر جارية في حق هذا

١٠٢

المالك فيجوز له التصرف في داره بحفر البئر فكذلك جارية في حق الأخر فيجوز منعه مما يوجب تصرفا في داره بمقتضى سلطنته بنفس تلك القاعدة ، فالتعارض بين السلطنتين ، كما ان أدلة لا ضرر متساوية النسبة إلى كليهما فكما ان تصرفه في داره بحفر البئر يكون ضرريا فكذلك ترك تصرفه فالحكم هنا هو الحكم في باب تعارض الضررين الذي فصلناه في المقام الأول وحاصله لزوم الجمع بين الحقين مهما أمكن.

واما ان كان من القسم الثاني فالحكم فيه هو الرجوع الى قاعدة السلطنة بعد تعارض الضرر من الجانبين ، بل قد عرفت إمكان القول بعدم شمول أدلة لا ضرر لمورد التعارض رأسا ، اما لعدم المقتضى للامتنان أو لانصرافها الى غير هذه الصورة ، وعلى كل تقدير لا إشكال في جواز الرجوع الى قاعدة السلطنة هنا والحكم بجواز مثل هذه التصرفات ، فللمالك التصرف في ملكه (بأنحاء التصرفات المتعارفة) وان تضرر منه جاره ما لم يلزم منه تصرف في ملكه ؛ سواء تضرر المالك من ترك هذا التصرف أو فاته بعض منافعه ، بل ترك تصرفه في ملكه بما يترقب منه من المنافع ضرر عليه غالبا.

هذا كله إذا لم يرد دليل خاص على المنع من بعض أنواع التصرف كما ورد في باب حريم البئر ، وقد مضى بعض رواياته واحكامه عند ذكر اخبار الباب ويطلب تفصيله من كتاب احياء الموات وغيره.

* * *

واما ما افاده المحقق السابق الذكر ففيه مواقع للنظر :

أما أولا فلان ما ذكره في نفى الصغرى من ان ضرر المالك ليس في عرض ضرر الجار لان المجعول في هذه الواقعة ليس إلا حكما واحدا ـ الى آخر ما افاده ـ ممنوع ، لأنه مبنى على كون حكم نفى الضرر من قبيل الرفع لا الأعم منه ومن الدفع ، مع انه لا إشكال في كونه أعم ، وح كما يمكن الاستدلال به على نفى جواز تصرف المالك في ملكه بهذا النوع من التصرف لكونه ضرريا ، فكذلك يمكن نفى حرمته أيضا لأنه ضرري ، ولا نحتاج الى ورود دليل دال على الحرمة والجواز كليهما بعمومه أو إطلاقه ، حتى يرفع اليد عنه في مورد الضرر بدليل نفى الضرر ، فما افاده (قده) من «انه

١٠٣

لا يتصور هنا الا حكم واحد وان الحكم بحرمة التصرف انما نشأ من شمول لا ضرر بجواز التصرف الثابت بعموم دليل السلطنة» خال عن التحصيل. بل الضرر الناشي من التصرف ومن تركه في حد سواء بالنسبة إلى أدلة نفى الضرر بعد كون النفي هنا أعم من الدفع والرفع.

وثانيا ـ ان ما افاده من عدم شمول لا ضرر للضرر الناشي من قبل هذا الحكم أيضا ممنوع ، للقطع بعدم خصوصية لبعض أنواع الضرر في هذا الحكم الامتنانى ؛ وان جميع الأحكام الضررية متساوية الإقدام فيما من الله به على عباده من رفعها عنهم في عالمى التكليف والوضع وجعلهم في فسحة منها ، فلو كان لتنقيح الملاك مورد فهذا مورده ؛ هذا كله لو لم نقل بشمول الدليل له بمقتضى الدلالة اللفظية لأن الحكم ورد على عنوان عام وطبيعة سارية الى جميع مصاديقها.

وثالثا ـ ان ما أفاده في منع الكبرى من عدم جواز الرجوع الى عموم دليل السلطنة بعد تعارض الضررين لعدم كونهما في رتبة واحدة ، ففيه مضافا الى ما عرفت من ابتنائه على مبنى فاسد وهو كون نفى الضرر من قبيل الرفع لا الأعم منه ومن الدفع ، انه لا مناص هنا من الرجوع الى العام الفوق بعد هذا التعارض ، لان البحث في الكبرى انما هو بعد الفراغ عن الصغرى وقبول وقوع التعارض بين الضررين ، ومعلوم انه لا ترجيح لا حدهما على الآخر حينئذ ، فكيف لا يتساقطان ولم لا يرجع الى عموم قاعدة السلطنة ، وليت شعري إذا فرضنا صغرى التعارض بين مصداقي الضرر في المقام ولم يجز الرجوع الى قاعدة نفى الضرر فما الوجه في عدم جواز التمسك بدليل المحكوم أعني قاعدة السلطنة ، وما المرجع في المقام لو لم تكن هي المرجع؟.

ورابعا ـ ان ما افاده من نفى صغرى «الحرج» نظرا إلى انه عبارة عن مشاق الجوارح لا الجوانح فهو أيضا بإطلاقه ممنوع ، لان مشاق الجوانح أيضا كثيرا ما يصدق عليها عنوان الحرج ، فالمصايب المؤلمة والحوادث المفجعة أمور حرجية بلا اشكال مع انها من مشاق الجوانح ، وقد قال الله تعالى (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ)(١) وقال أيضا : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا

__________________

(١) الأعراف ـ ٢.

١٠٤

فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(١) نعم مطلق ضرر المالك ومنعه من التصرف في ملكه لا يكون مصداقا للحرج كما أفاده العلامة الأنصاري قدس الله سرّه ، ولا يكون ذلك إلا في بعض الموارد التي يصعب على المالك تحمله جدا ويكون في صدره حرج منه وضيق.

التنبيه العاشر

في انه لا فرق بين توجه ضرر «الحكم» الى خصوص من كلف به أو غيره

إذا لزم من تكليف بعض المكلفين ضرر على غيره ، كما في المرضعة القليلة اللبن إذا أضر صيامها بولدها وكما في الحامل المقرب ، فهل يصح نفى وجوبه منها بدليل نفى الضرر كما ينفى وجوب الوضوء والغسل الضرريين به (على القول به).

الظاهر ذلك ، لعموم الدليل فإن المنفي على هذا القول هو الأحكام الضررية ومن المعلوم ان حكم الصوم هنا ضرري ولو باعتبار الولد ، ولا دليل على لزوم توجه الضرر الناشي من قبل الحكم الضرري إلى خصوص من كلف به ، بل لا يبعد نفى وجوب مثل هذا الصوم على المختار من عدم جواز نفى وجوب الوضوء والصوم الضررين بها فان صيامها ـ والحال هذا ـ إضرار بالولد وقد نفى الشارع «إضرار الناس بعضهم ببعض في عالمى الوضع والتكليف» فيشمله أدلة نفى الضرر ، ويؤيده أيضا نهيه سبحانه عن إضرار الأب والام بالولد في قوله تعالى (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) وقد مر الكلام في تفسير الآية في صدر الكتاب.

__________________

(١) النساء ـ ٦٥.

١٠٥

التنبيه الحادي عشر

تأييد للمختار في معنى الحديث

ذكر شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره في بعض كلماته في المقام اشكالا وجوابا عن بعض معاصريه لا بأس بنقله والبحث عنه لما فيه من تأييد المذهب المختار في معنى القاعدة.

حاصل الاشكال انه : كيف يجوز الاستدلال بقاعدة نفى الضرر لرفع التكاليف الضررية ، مثل وجوب الحج والصوم والوضوء إذا لزم منها الضرر ، مع ان الضرر ما لا يحصل نفع دنيوي أو أخروي في مقابله ، ونحن نعلم من عموم أوامر هذه التكاليف لموارد الضرر ان لها عوضا دينيا أو دنيويا يربو على ضررها فلا تكون اذن ضررية وحاصل الجواب ان المعلوم كون العوض في قبال ماهية هذه الأمور ، المستحقة في حالتي الضرر وعدمه ، لا في قبال الفرد الضرري منها ، فالضرر غير منجبر بالعوض ، نعم لو كان المأمور به متضمنا للضرر دائما بنفسه كما في الحكم بأداء الزكاة وسائر الواجبات المالية كان هذا البيان حقا ، انتهى ملخصا.

وأورد هو قدس‌سره على كل من الإيراد والجواب ، اما على الأول فبان الضرر عبارة عن خصوص الضرر الدنيوي ، واما المنافع الأخروية الحاصلة في قباله لا تخرجه عن كونه ضررا ، وعلى الثاني بما لفظه : «انه لو سلم وجود النفع في ماهية الفعل أو في مقدماته كان تضرر بنفس الصوم أو بالحج أو بمقدماته يكون الأمر بذلك الفعل نفسيا أو مقدمة امرا بالتضرر فلا يبقى فرق بين الأمر بالزكاة والأمر بالصوم المضر أو الحج المضر بنفسه أو بمقدماته» هكذا أفاد.

أقول ـ الإنصاف ان ما ذكره هذا المعاصر للشيخ العلامة قدس‌سرهما بعنوان الاشكال تحقيق لا محيص عنه وقد عرفته سابقا عند بيان المختار في معنى القاعدة ببيان اوفى وأتم ، وحاصل ما ذكرناه هناك ان إطلاقات الأوامر الشرعية إذا شملت مورد الضرر كما هو المفروض دلت بالالتزام على وجود المصلحة في مورد الفعل على

١٠٦

مذهب أهل العدل (لا على مجرد نفع أخروي كما ذكره هذا المعاصر) ومعها لا يصدق عليه عنوان الضرر.

واما ما افاده الشيخ العلامة من ان الأجر الأخروي لا يخرجه من تحت عنوان الضرر فهو غير متوجه الى هذا البيان لان مصالح الافعال المأمور بها الموجودة في نفس الافعال غير الأجور الأخروية التي تكون بإزاء اطاعتها ، مع ان ما ذكره (قده) أيضا قابل للبحث. فهل يصح في لسان أهل العرف من المتشرعين إطلاق عنوان الضرر والغرم بمالهما من المعنى الحقيقي على الإنفاق في سبيل الله وقد قال الله تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) الى غير ذلك مما دل على عدم نفاد ما يعطى في سبيل الله وبقائه بحسب النتيجة والأثر وان فني من جهة العين والظاهر والقول بان هذه الإطلاقات والتعبيرات لا تمنع من صدق عنوان «الضرر» بحسب أنظار أهل العرف مع قطع النظر عن أيمانهم بالأخرة ، مدفوع فان صدق عنوان الضرر لغة وعرفا تابع لتحقق نقص بلا منفعة واما تشخيص الانتفاع به وعدمه ليس بنظر العرف فلو رأى أهل العرف بحسب أنظارهم البادية المبنية على الغفلة عن المصالح الموجودة في متعلقات احكام الشرع تحقق هذا العنوان في بعض الموارد ولكن لم نرها بعد الدقة والتأمل فلا يلزمنا متابعتهم في إطلاق هذا اللفظ بعد ذلك والحكم بصدق العنوان المزبور في تلك الموارد.

التنبيه الثاني عشر

هل الاقدام مانع عن شمول لا ضرر أم لا؟

الحق انه لا فرق في جريان هذه القاعدة بين تحقق موضوع الضرر بأسباب خارجة عن اختيار المكلف وبين تحققه بسوء اختياره ، كمن شرب دواءا يضر معه الصوم ، أو أجنب نفسه متعمدا في حال يخاف من استعمال الماء ، ففي جميع هذه المقامات يجوز نفى الوجوب بأدلة لا ضرر (على القول بشمولها لأمثال هذه التكاليف) وذلك لعموم الأدلة ، وحصول الموضوع بسوء اختيار المكلف غير مانع منه ، ودعوى انصراف

١٠٧

الإطلاقات إلى غيره ممنوعة.

نعم في الأمور المالية ، وكلما يكون من سنخها من الحقوق ، إذا أقدم المكلف بنفسه على موضوع ضرري لا يجوز نفى صحته بأدلة لا ضرر ؛ لما أشرنا إليه سابقا من ان هذه الأمور بمقتضى طبعها الاولى أمرها بيد المكلف يصنع بها ما يشاء فإذا أقدم البالغ الرشيد على البيع بما دون ثمن المثل عن علم واختيار ، كان بيعه صحيحا ولا يمكن نفى صحته بأدلة نفى الضرر ، لا لمجرد ورودها مورد الامتنان ونفى الصحة هنا مناف له ، لما عرفت من ان ورودها في مقام الامتنان من قبيل الحكمة لا العلة بل لان باب الأموال والحقوق المشابهة لها بحسب طبيعتها الأولية يقتضي ذلك ويكون المكلف سلطانا عليها ينفذ تصرفه فيها ، ضرريا كان أم لا ، فكما ان الهبة والصلح بدون العوض وأشباهها أمور ضررية لا يجوز نفى صحتها بأدلة نفى الضرر فكذلك البيع بما دون ثمن المثل وشبهه.

ومن هنا تعرف النظر فيما افاده الشيخ الأعظم العلامة الأنصاري قدس‌سره في المقام حيث قال : «لو أقدم على أصل التضرر كالإقدام على البيع بدون ثمن المثل عالما ، فمثل هذا خارج عن القاعدة ، لأن الضرر حصل بفعل الشخص لا من حكم الشارع» انتهى

أقول ـ بل حصل الضرر بحكم الشارع وان تحقق موضوعه بفعل المكلف لأنه لو لم يمض هذا البيع لما كان مجرد اقدام المكلف على إنشاء البيع امرا ضرريا وان هو من هذه الجهة إلا كسائر الموضوعات الضررية التي أوجدها المكلف بسوء اختياره كمن أجنب متعمدا في حال يضر معه استعمال الماء. فالوجه في صحة هذه المعاملات ما قدمناه من ان نفوذ المعاملة من آثار السلطنة الثابتة للمالك على ماله يقبله كيف يشاء ولولاه لما كان سلطانا عليه وهو مناف لطبيعة الملكية وسلطنة المالك على أمواله كما هو ظاهر.

فرع ـ قد افتى غير واحد من الأصحاب في «كتاب الغصب» بوجوب رد الخشبة المغصوبة المستدخلة في البناء ، أو اللوح المغصوب المنصوب في السفينة ، وان تضرر

١٠٨

منه الغاصب ، وكذلك أفتوا بوجوب قلع الشجر وطم الحفر وضمان كل نقص يحدث بسببه فيمن غرس يغير أرضه وان جرت عليه من الدواهي ما جرت. واستدل له بان الغاصب هو الذي أدخل الضرر على نفسه بسبب الغصب ، وكأن المستدل بهذا ناظر الى ما أشرنا إليه من ان الضرر المقدم عليه في باب الأموال غير منفي بأدلة نفى الضرر ، فلا يرد عليه ما ذكره الشيخ قدس‌سره في بعض كلماته في المقام من ان حصول موضوع الضرر بسوء الاختيار غير مانع من شمول أدلته.

هذا ولكن يرد عليه ان المالك لا يجوز له تضييع المال بل له نقله الى غيره بأي وجه كان فاقد امه على أمر يوجب التضييع والفساد لا يكون ممضى من قبل الشارع وكون الموضوع من قبيل الأموال لا يقتضي نفوذ مثل هذه الأمور فتأمل.

هذا ويمكن الاستدلال له بما دل على أخذ الغاصب بأشق الأحوال وفي بعض موارد المسألة بما دل على انه «ليس لعرق ظالم حق» كما قيل ، فان هذه قواعد عقلائية قبل ان تكون شرعية يستند إليها العقلاء في أمورهم فهي المانع من شمول أدلة لا ضرر لمثل المقام ، لا سيما مع ملاحظة ورودها مورد الامتنان الذي يكون الغاصب أجنبيا عنه ، فورودها في هذا المقام وان لم يكن دليلا على المطلوب ـ كما عرفت ـ لكنه مؤيد له محالة.

ويمكن الاستدلال له أيضا بأنه داخل في المسألة التي مر ذكرها من عدم جواز الإضرار بالغير لدفع الضرر عن نفسه ، فإن الأمر هنا وان كان دائرا بين إضرار مالك السفينة ومالك اللوح ، الا ان الضرر بحسب أسبابه الشرعية التي تكون هنا كالأسباب الخارجية متوجه الى الغاصب لأنه الذي جعل مال الغير في محل يكون مأمورا بنزعه بحكم الشرع فالضرر أولا وبالذات متوجه اليه لا الى المالك فلا يجوز له دفع هذا الضرر عن نفسه بإضرار الغير فتأمل.

وقد ذكر المحقق النائيني هنا وجها آخر وهو ان الهيئة الحاصلة من نصب اللوح في السفينة ليست مملوكة للغاصب وإذا لم تكن مملوكة فرفعها ليس ضرارا عليه ، لان الضرر عبارة عن نقص ما كان واجدا له.

١٠٩

وفيه ـ مضافا الى أنه تدقيق عقلي في أمر عرفي كما لا يخفى ـ ان الكلام ليس في مجرد رفع الهيئة الحاصلة من نصب اللوح في السفينة أو الخشبة في الدار فقط بل فيما يحدث من الخلل في محمولات السفينة وسائر أجزائه أيضا الحاصلة بسبب رفع هذه الهيئة الاتصالية ؛ فرفعها وان كان رفعا لا مر غير مملوك ومن هذه الجهة لا يكون ضرريا ، الا انه منشأ لمضار كثيرة أخرى فيما يملكه الغاصب لصيرورة السفينة بسببه معرضا للغرق والفساد ، وكذا الحال في الحائط المبنى على خشبة الغير فإن إخراج الخشبة لا يوجب رفع الهيئة الاتصالية فقط ، بل يوجب الفساد في سائر نواحي البنيان

هذا آخر ما أردنا تحريره في بيان هذه القاعدة المهمة وفروعها ونتائجها والحمد لله أولا وآخرا وقد وقع الفراغ من تسويده ضحوة الجمعة ٢٧ رمضان المبارك سنة ١٣٧٩ ببلدة قم المشرفة.

١١٠

٢ ـ قاعدة الصحة

١١١
١١٢

وهذه القاعدة أيضا من أشهر القواعد الفقهية المتداولة بينهم ، يتمسك بها في جل أبواب الفقه أو كلها وقد عنونها كثير منهم بعنوان «أصالة الصحة في فعل الغير» وظاهره عدم جواز تمسك المكلف بها لإثبات صحة أفعال نفسه عند الشك فيها ، بل صرح بعضهم ـ كالمحقق النائيني ـ باختصاصها بفعل الغير وان المتبع في أفعال شخص المكلف هو «قاعدة الفراغ ، لا غير ؛ وستعرف في «المقام الثالث» إنشاء الله عدم صحة هذه الدعوى ولزوم تعميم القاعدة لأفعال المكلف نفسه ، ولذا نجعل عنوان بحثنا «أصالة الصحة في الأفعال الصادرة من الغير أو من النفس» وان كان بعض الأدلة يختص بالقسم الأول منه

كما ان تقييد عنوان البحث بقيد «أفعال المسلم» كما يتراءى من بعض بلا وجه ولذا أسقطناه منه.

ثمَّ اعلم ان هنا ابحاثا تقع في مقامات :

المقام الأول في مدرك القاعدة

واستدل لها بالأدلة الأربعة ولكن عمدتها ـ كما ستعرف ـ هو الإجماع العملي والسيرة المستمرة المتداولة بين العقلاء والاستقراء ، ولذا لم يتعرض غير واحد من الاعلام لما استدل له من الكتاب والسنة ، لعدم دلالتهما عليها. ولكن لما كان في ذكرها بعض الفوائد نشير إليها على سبيل الاجمال والاختصار ، وقبل البحث عنها لا بد لنا من تقديم أمر ينفعنا في تحقيق حال تلك الأدلة وهو :

ان حمل فعل الغير على الصحة يتصور له معان ثلث

١١٣

أولها ـ الاعتقاد الجميل في حقه وترك سوء الظن به بان لا يضمر المسلم لأخيه ما يزري به ويشينه ، ويعتقد انه لم يفعل سوءا عن علم وعمد وان صدر منه ذلك خطأ أو نسيانا.

وما قد يقال من ان الاعتقاد من الأمور الغير القابلة للخطاب التكليفي تحريما أو إيجابا لخروجه عن حيطة الاختيار ، ممنوع جدا ، لأنه في كثير من موارده أمر مقدور ؛ وكثيرا ما يحصل لنا اعتقاد سوء في حق احد وبعد ذلك نتفكر في امره ونبدى لأنفسنا احتمالات فيما شاهدناه أو سمعناه منه مما صار منشئا لهذا الاعتقاد ، ونقول لعله كان كذا وكذا ، من الاحتمالات التي كانت مغفولة بادي الأمر بما يصرفنا عن ذاك الاعتقاد القطعي أو الظني بالسوء ، وهذا أمر ممكن واقع كثيرا فهو قابل للخطاب الشرعي تحريما أو إيجابا.

والحاصل ان كثيرا من الاعتقادات الحاصلة لنا حاصلة من الأنظار البادية في أفعال الغير وعدم التوجه بما يحتمله من الاحتمالات ، فهي تزول بسرعة عند التوجه الى الوجوه التي تحتملها. فح لا مانع من ان يأمر الشارع الحكيم بتحصيل الاعتقاد الحسن في حق المسلمين ونفى اعتقاد السوء عنهم ، لما فيه من المصالح التي لا تحصى ، كجلب اعتماد المسلمين بعضهم ببعض ، ودفع الضغائن عنهم ، ودفعا لما في سوء الظن والاعتقاد من التفرقة والتباعد واختلال النظام واثارة الفتن بينهم ؛ كما هو ظاهر لمن تدبر.

ثانيها ـ ترتيب آثار الحسن الفاعلي عليها ؛ أي المعاملة مع فاعلة معاملة من اتى بفعل حسن وعدم المعاملة معه معاملة من ركب امرا قبيحا ، من حسن العشرة معه والركون اليه فيما يركن على من لم ير منه قبيح والفرق بينه وبين المعنى السابق ان الحمل على الصحة بهذا المعنى عمل خارجي بخلاف المعنى الأول فإن الحمل عليها هناك بمعنى الاعتقاد الحسن وترك اعتقاد السوء ، وهو وان كان مستلزما للثاني كثيرا الا ان الفرق بينهما ثابت في المعنى ، وفي النتيجة أحيانا.

وثالثها ـ ترتيب آثار الفعل الصحيح الواقعي على فعله ، بمعنى فرض عمله صحيحا واقعا وفي نفس الأمر ؛ لا بحسب اعتقاده فقط كما في الوجه السابق ، فيرتب عليه ما هو من آثاره الواقعية ، فيفرض فعله تام الاجزاء والشرائط واقعا ويرتب عليه ما يرتب عليه ، ويكون عمله منشئا للآثار الشرعية ، وهذا هو الذي نحن بصدده في إثبات هذه

١١٤

القاعدة لا المعنيين السابقين.

وإذ قد عرفت ذلك فلنرجع الى ذكر أدلتها الأربعة :

الأول ـ الكتاب

واستدل له من الكتاب العزيز بآيات منها قوله تعالى مخاطبا لبني إسرائيل : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(١) والاستدلال به يتوقف على أمرين : «أحدهما» كون القول هنا بمعنى الاعتقاد و «الثاني» كون الاعتقاد كناية عن ترتيب آثاره ؛ نظرا الى ما قد قيل من انه ليس امرا مقدورا قابلا للخطاب الشرعي ، فالأمر بالقول الحسن في حق الناس يؤول الى الأمر بترتيب آثار الحسن على أفعالهم.

وكلاهما محل تأمل وإشكال : اما الأول فلان حمل القول على هذا المعنى مضافا الى انه لا شاهد له في المقام ، مخالف لما يظهر من غير واحد من الاخبار الواردة في تفسير الآية : منها ـ ما عن تفسير العسكري عليه‌السلام ان معناه : «عاملوهم بخلق جميل» ويظهر من هذه الرواية ان القول الحسن كناية عن المعاشرة بالمعروف ومنها ـ ما عن جابر عن ابى جعفر عليه‌السلام في قول الله عزوجل (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) قال قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم فان الله يبغض اللعان الساب ، الحديث ومنها ـ ما عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول ـ الى ان قال ـ وقولوا للناس حسنا قال عودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم وصلوا معهم في مساجدهم الحديث ، وهذا الحديث أيضا إشارة إلى المعاشرة الحسنة. الى غير ذلك من الروايات الدالة على هذا المعنى.

واما الثاني فلان غاية ما يستفاد من الآية ـ بناء على تفسير القول بالاعتقاد ـ هو احد المعنيين الأولين ولا دلالة لها على المعنى الثالث أصلا.

ويرد على الاستدلال بها اشكال آخر وهو ان هذا الأمر وقع في سياق أوامر أخر بعضها وجوبي وبعضها استحبابي فان الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين

__________________

(١) البقرة ـ ٨٣

١١٥

(المقابل للزكاة) غير واجب فهذا السياق يضعف دلالتها على الوجوب فتدبر اما كون الخطاب إلى بني إسرائيل فلا يوجب وهنا في دلالة الآية كما لا يخفى. هذا كله مضافا الى ان الاعتقاد الحسن أمر مقدور كما عرفت.

ومنها قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً)(١) تقريب الاستدلال بها كما ذكر في الفرائد وغيره انه سبحانه نهى عن بعض الظن والقدر المتيقن منه ظن السوء ومعناه النهى عن ترتيب آثاره عليه لما مر آنفا ، ولازمه الأمر بترتيب آثار الحسن عليه لعدم الواسطة.

ويعلم الجواب منها مما ذكرناه في الجواب عن الاستدلال بالاية الاولى.

ومنها آيات وجوب الوفاء بالعقود والتجارة عن تراض وما أشبهها ، استدل بها شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره في الفرائد. والاستدلال بها عجيب ، لان هذه أحكام كلية واردة على موضوعاتها الواقعية ، والتمسك بعمومها عند الشك في تحقق مصداق التجارة عن تراض أو العقد العرفي المقيد بقيوده الثابتة شرعا ؛ من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية كما هو ظاهر.

الثاني ـ الاخبار

واستدل له من الاخبار بما دل على لزوم حمل أمر الأخ على أحسنه وهو كثير : منها ما ورد مستفيضا من ان المؤمن لا يتهم أخاه ؛ وانه إذا اتهم أخاه انماث الايمان في قلبه كانمياث الملح في الماء ، وان من اتهم أخاه فهو ملعون ومنها ما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير سبيلا.

ومنها ما ورد في وجوب تكذيب السمع والبصر عن الأخ المؤمن وانه ان شهد عندك خمسون قسامة فكذبهم وصدقه. الى غير ذلك مما هو كثير.

وعدم دلالتها على المقصود ظاهر ، فإنها ناظرة الى احد المعنيين الأولين من المعاني

__________________

(١) الحجرات ١٢.

١١٦

الثلاثة المذكورة لحمل فعل الغير على الصحة لا المعنى الثالث الذي نحن بصدده والغرض من جميع هذه التأكيدات تحكيم مباني الاخوة بين المؤمنين وإلزامهم بالمعاشرة بالمعروف وله شواهد كثير في نفس هذه الروايات لا تخفى.

هذا مضافا الى ان ذكر الأخ في كثيرة منها دليل على انه ليس حكما عموميا في حق كل احد وجميع الناس من المؤمنين وغيرهم (كما أشار إليه العلامة النراقي في عوائده) فلعله نظير كثير من الحقوق الواردة في باب حق المؤمن على أخيه التي لا تجري في حق جميع المسلمين بل ولا جميع المؤمنين بل يختص بالذين استحكمت بينهم عرى المودة والإخاء كما حقق في باب حقوق المؤمن.

الثالث ـ الإجماع

اما الإجماع القولي فإثباته بوجه كلى بعنوان «وجوب حمل أفعال المسلمين أو أفعال الغير مطلقا على الصحة» دونه خرط القتاد ، فان كلمات أكثرهم (كما اعترف به المحقق المولى محمد باقر الخراساني في كفايته وغيره فيما حكى عنهم ، والعلامة النراقي في عوائده) خالية عنه وانما تعرض لهذه القاعدة بعنوان مستقل شرذمة من متأخري الأصوليين ، وان كان الظاهر من بعض العبائر انها من القواعد المقبولة على نحو كلى ولكن الاكتفاء بمجرد ذلك في إثبات هذه القاعدة على نحو عام مشكل جدا والحاصل ان دعوى الإجماع القولي عليها كما يتراءى من بعضهم قابلة للذب والإنكار ، وعلى تقدير ثبوته ـ وهو غير ثابت ـ فالاعتماد على مثل هذه الإجماعات في أمثال هذه المسائل التي لها مدارك كثيرة أخر كما ترى.

نعم يمكن دعوى الإجماع في موارد خاصة كأبواب الذبائح والمناكح وبعض أبواب المعاملات وغير ذلك ولكنه غير كاف في إثبات هذه الكلية هذا حال الإجماع القولي

***

اما الإجماع العملي من العلماء بل من المسلمين جميعا ، وهو الذي يعبر عنه بسيرة المسلمين ، فهو غير قابل للإنكار في جل موارد هذه القاعدة أو كلها ، لأنهم لا يزالون يعاملون مع الأفعال الصادرة عن غيرهم معاملة الصحة في أبواب العبادات كصلاة الامام ،

١١٧

وأذان المؤذن واقامة المقيم للجماعة ، وصلاة الميت وتغسيله وحج النائب ، وأشباهها وكذا في أبواب المعاملات كالمعاملات الصادرة من الوكلاء ، وأبواب الذبائح والجلود والثياب والأواني التي يغسلها الغير ، ونظاهرها ، فإنه لا شك لأحد في ان المسلمين في جميع الأعصار والأمصار يعاملون مع هذه الأفعال إذا صدرت من غيرهم معاملة الصحة ، ولا يتوقفون عن ترتيب آثارها عليها استنادا إلى أنهم شاكون في صحتها ، وكذلك جرى ديدنهم على حمل أفعال أولياء الصغار والمجانين ؛ وأوصياء الأموات ومتولي الأوقاف وجباة الصدقات على الصحيح وهذا أمر معلوم لكل من عاشرهم ولو أياما قلائل.

وفي بعض هذه الموارد وان كانت قواعد وأمارات أخر تقتضي صحتها ، كقاعدة اليد ، وسوق المسلمين ونحوهما ، الا ان الناظر فيها بعين الانصاف يعلم علما قطعيا ان عملهم في هذه الموارد لا يكون مستندا الى هذه القواعد بل المدرك فيها جميعا هو قاعدة الصحة وان كانت مؤيدة في بعض مواردها بقواعد وأمارات أخرى ، كما انه لا يحتمل استناد المجمعين في جميع هذه الموارد على اختلافها الى نصوص خاصة وردت فيها

والعجب من المحقق النراقي (قده) حيث أنكر هذا الإجماع العملي في «عوائده» ولكن الظاهر ـ كما يظهر بمراجعة كلامه ـ ان عمدة اشكاله نشأت من تعميم البحث وعقد عنوانه للافعال والأقوال ، ولكنك خبير بان للبحث في الأقوال الصادرة عن الغير مقاما آخر لا يرتبط بالمقام.

بل التحقيق انه لا ينحصر هذا الإجماع العملي بالمسلمين بما هم مسلمون بل مدار أمور العقلاء على اختلافهم في العقائد والمذاهب والآراء والعادات ، في جميع الأزمنة والعصور عليه ، كما يظهر بأدنى تأمل في معاملاتهم وسياساتهم وغيرها فما لم يثبت فساد عمل الغير لهم يحكمون بصحته ويطالبون مدعى الفساد في الأفعال التي صدرت عن غيرهم من الوكلاء والأوصياء والخدام وأرباب الحرف والصنائع وآحاد الناس الدليل على ما ادعاه ، والا لا يتأملون في ترتيب آثار الصحة عليها.

اللهم الا ان يكون هناك أمارات الفساد وبعض قرائنه ؛ أو يكون الفاعل متهما

١١٨

فقد يتوقفون في هاتين الصورتين عن الحمل عليها حتى بتفحص عن حاله. وسيأتي إنشاء الله إمكان القول باستثنائهما عن قاعدة الصحة حتى في الأمور الشرعية عند ذكر التنبيهات

وحيث ان أفعال العقلاء وسيرهم وما يستندون إليها في أمورهم مبنية على أصول عقلائية غير تعبدية ، لا بد لنا من البحث في منشأ هذه السيرة وتحقيق حالها كي نكون على بصيرة من الفروع المشكوكة التي تترتب على هذا الأصل. فنقول ومن الله سبحانه نستمد التوفيق والهداية :

ان منشأ هذه السيرة العامة العقلائية في حمل الأفعال الصادرة عن الغير على الصحة لا يخلو عن أحد أمور ثلاثة :

أولها «الغلبة» ـ بأن يقال ان الافعال الصادرة عن الغير لما كانت صحيحة غالبا فصارت هذه الغلبة مورثة للظن بصحة الفرد المشكوك ، إلحاقا له بالأعم الأغلب فهذا الظن الناشي من الغلبة حجة عندهم في المقام ؛ ولا يلازم القول بحجية هذا الظن هنا حجيته في جميع المقامات ، لما فيه من دواع أخر ، كشدة الحاجة وعموم الابتلاء وغير ذلك ، انضمت اليه فأوجبت بنائهم على العمل به.

ولكن هذا احتمال ضعيف ، لما نشاهده من عدم اعتنائهم بشأن هذه الغلبة وبنائهم على هذا الأصل ولو في مقامات لا تكون الصحة غالبة فيها كبنائهم في غير هذه المقامات ، مضافا الى إمكان منع دعوى الغلبة وإنكار كون غالب الأفعال الصادرة من الناس صحيحة لو لم يكن الغالب على أفعالهم الفساد فتدبر.

ثانيها ـ توقف حفظ النظام وصلاح المجتمع عليها ، نظرا إلى انه لو لم يبن على الصحة في موارد الشك في الأفعال الصادرة عن الغير لزم العسر الأكيد والحرج الشديد واختل أمر المعاش ونظام أمور الناس ، لانسداد باب العلم العادي الذي يمكن الوصول اليه بطرق متعارفة في هذه الموارد لغالب الناس فصار هذا منشئا لبنائهم واتفاقهم على حملها على الصحة فيما إذا لم يقم دليل خاص عليها ، بل ومطالبة مدعى الفساد بالدليل ويقرب هذا المعنى الى الذهن ويزيده وضوحا ما يلزم من عدم البناء على هذا الأصل من فساد الأموال

١١٩

والأنفس والتنازع والتشاجر ولو في يوم واحد.

ثالثها ـ اقتضاء العمل بحسب طبيعته الأولية للصحة ، بيان ذلك : لا ريب في ان الاثار المترقبة من الأفعال إنما تترتب عليها إذا صدرت صحيحة والافراد الفاسدة لا يترتب عليها أثر أو الأثر المترقب منه وحيث ان غرض العقلاء من كل فعل هو آثاره المطلوبة فالدواعي النفسية والبواعث الفكرية انما تدعوا الى الافراد الصحيحة ، فكل فاعل ـ لو خلى وطبعه ـ يقصد الافعال الصحيحة ويتحرك نحوها فإنها التي تفيض عليه الاثار التي يطلبها والفوائد التي يرومها ؛ فلا يطلب الفاعل بحسب طبعها الأولى إلا الفرد الصحيح وما يصدر من الأفعال الفاسدة من بعض الفاعلين اما تكون من غفلة واشتباه أو أغراض فاسدة غير طبيعية ، وكل ذلك على خلاف الطبع. ويتضح ذلك عند ملاحظة حال العقلاء في جميع أمورهم من الحرف والصنائع وبناء الابنية ، ومن معاملاتهم وسياساتهم وغيرها.

فكما ان الصحة في مقابل العيب هو الأصل في كل مبيع لأنها مقتضى طبعها الاولى وسنة الله التي قد جرت في خلقه ، فينصرف البيع إليها من غير حاجة الى التصريح بها ، فيكون المعيب غير مقصود للمتبايعين لأنه مخالف للطبيعة الأولية في الخلقة ؛ فكذلك الأمر في الأفعال الصادرة من العقلاء فإن الدواعي الحاصلة لهم الباعثة على العمل انما تدعوا الى الفرد الصحيح الذي يكون منشئا للآثار ، لا الفاسد الذي لا يترتب عليه الأثر المرغوب فيه ، فبذلك صار الأصل في الأفعال الصادرة من الفاعلين ـ مسلمين كانوا أو غير مسلمين ـ هو الصحة ، والفساد انما ينشأ من أغراض غير طبيعية أو من خطأ الفاعل وغفلته الذي هو أيضا على خلاف الأصل والطبع. هذا غاية ما يمكن ان يقال في منشأ هذا الاعتبار العقلائي والأقرب من هذه الوجوه هو الوجه الأخير ثمَّ الثاني.

وكيف كان ـ استقرار سيرة العقلاء على هذا الأصل مما لا يكاد ينكر ، من غير فرق بين أرباب الديانات وغيرهم ؛ ومن غير فرق بين كون الفاعل مسلما أو غيره ، وجميع ما ورد في الشرع في هذا الباب في الموارد الخاصة كلها إمضاء لهذا البناء العقلائي لا تأسيس لأصل جديد.

١٢٠