القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

الرابع ـ دليل العقل

ودلالته عليه من وجهين :

الأول ـ انه لو لم يبن على الصحة في الأفعال الصادرة من الغير لاختل أمر المعاد ، والمعاش جميعا وبطلان التالي واضح عقلا وشرعا ، فلا يمكن الاقتداء بإمام إلا بعد العلم بصحة صلوته من حيث القراءة والطهارة وغيرهما ، ولا الركون الى فعل النائب والأجير ، ولا الاعتماد على الأفعال الواجبة كفاية الصادرة من الغير الا عند العلم بصحتها ولا يمكن الاعتماد على العقود والإيقاعات الصادرة من الغير مما يكون محلا لا بتلاء المكلف وكذا في تطهير الثياب وذبح الذبائح وغيرها مما لا تحصى

وقد يخدش فيه من وجهين من ناحية الصغرى والكبرى اما الأول فلان اختلال النظام فيما إذا اقتصر على العمل بما تطمئن به النفس من أفعال الغير ، وما يوجد فيه أمارات شرعية أخرى تدل على صحتها ، من «اليد» و «السوق» وغيرهما مما قامت الأدلة على اعتبارها ، لا يخلو عن اشكال ، واما ما ذكره المحقق الآشتياني في بعض كلماته في المقام ؛ من لزوم الاختلال في أمر المعاد لو لم يلزم في المعاش لاستلزامه عدم جواز الصلاة إلا خلف النبي ووصيه عليهم‌السلام فهو ممنوع لكفاية الاطمئنان الحاصل في كثير من الموارد لكثير من الناس كما لا يخفى.

واما الثاني فلعدم إثباته حجية هذا الأصل إلا في الجملة ولا يكفي في إثبات هذه الكلية ؛ فإن اللازم الاقتصار على العمل بما يندفع منه محذور اختلال النظام واما غيره فلا هذا ولكن لا يخفى أن ملاحظة ما يلزم منه الاختلال وما لا يلزم منه ذلك والتفكيك بينهما أيضا قد يكون بنفسه حرجيا ومنشأ للاختلال ، والإيكال على وجدان المكلفين في تشخيص مواردها قد يؤدى الى ذلك كما لا يخفى على الخبير.

وقد يستند في إثبات الكبرى تبعا لشيخنا الأعظم العلامة الأنصاري (قده) الى فحوى ما ورد في باب اليد في رواية «حفص بن غياث» من انه «لو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق» بعد حكمه «عليه‌السلام» بترتيب آثار الملكية على ما في اليد ، فيدل على ان كل ما لولاه لزم الاختلال فهو حق. ويمكن تأييده أيضا بما ورد في جواز شراء

١٢١

الفراء من سوق المسلمين عند الشك في تذكيتها وعدم وجوب السؤال عنه معللا بقوله «عليه‌السلام» ان الدين أوسع من ذلك وذم الخوارج الذين ضيقوا على أنفسهم (١) وغيره من أشباهه مما يدل على التوسعة في أمور الدين.

هذا ولكن الاستناد في إثبات الكبرى إلى الأدلة النقلية يخرجه عن الاستدلال العقلي مضافا الى ان إمكان منع الأولوية بعد ملاحظة إمكان الاعتماد إلى أمارات أخرى في كثير من موارد الشك في الصحة ، ولكن الإنصاف ان الدليل مما يمكن الركون اليه ولا أقل من تأييد المدعى به مع قطع النظر عن كونه دليلا عقليا أو نقليا.

الثاني ـ «الاستقراء» فان الناقد البصير إذا أمعن النظر في الأحكام الواردة في الشرع ، الثابتة عند أهله بإجماع أو غيره ، يرى ان الشارع المقدس لا يخرج في حكمه عما يطابق هذا الأصل في موارده ، بحيث يورثه الاطمئنان بثبوت هذه الكلية في الشرع فلا حظ ما ورد من الأحكام المختلفة في أبواب الطهارات والنجاسات مما يرتبط بفعل الغير وأبواب الذبائح والجلود ، وأبواب الشهادات ، والدعاوي والتنازع في صحة بعض العقود والإيقاعات وفسادها وغيرها تجده شاهد صدق على ما ذكرنا ، وكلما كررت النظر زادك وضوحا وظهورا.

وأورد عليه المحقق النراقي (قده) في «عوائده» بأن هذا الاستقراء غير مفيد لأن تامة لم يتحقق وناقصه لو سلمنا كونه مفيدا فإنما يفيد لو لم يعارضه خلافه في موارد خاصة اخرى أزيد مما يوافقه. ففي صحيحة الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال سئل عن رجل جمال استكرى منه إبل وبعث معه زيت إلى أرض فزعم ان بعض الزقاق انخرق فأهراق ما فيه فقال عليه‌السلام : انه ان شاء أخذ الزيت وقال انه انخرق ولكنه لا يصدق إلا ببينة عادلة ، وهذا صريح في عدم حمل قول الجمال على الصحة وموثقة عمار ابن موسى عن ابى عبد الله عليه‌السلام انه سئل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول : هذا مطبوخ على الثلث فقال : ان كان مسلما ورعا مأمونا فلا بأس ان يشرب ؛ الى غير ذلك مما ذكره.

وفيه ان التحقيق كما ذكرنا في محله حجية كل ما يورث الظن الاطمئناني

__________________

(١) راجع الحديث ٣ من أبواب ٥٠ من أبواب النجاسات من كتاب الطهارة من الوسائل

١٢٢

وسكون النفس ، لبناء العقلاء عليها كافة في جل أمورهم (عدا موارد خاصة) والاستقراء الغالبي وان لم يوجب العلم ، فلذا لا يعتمد عليه في الأمور التي تحتاج إلى أدلة قاطعة ؛ الا انه كاف في إثبات الأحكام الفرعية إذا انضم إليه قرائن أخر وحصل منه الاطمئنان. واما ما ذكره من المعارضات فهي اما واردة في مورد «أقوال الغير» لا أفعاله ، كالحديث الأول ، أو في موارد الاتهام كالحديث الثاني فتأمل.

هذا تمام الكلام فيما أردنا ذكره من أدلة هذه القاعدة ، وتحصل من جميعها ان هذه القاعدة من القواعد التي استقرت عليها سيرة أهل الشرع بل العقلاء جميعا وان العمدة في إثباتها هو ذلك وان كان غيرها من الأدلة أيضا لا يخلو عن تأييد لها أو دلالة عليها.

١٢٣

المقام الثاني

تنبيهات أصالة الصحة

الأول ـ هل المراد من «الصحة» هي الصحة الواقعية أو الصحة عند الفاعل؟ فيه خلاف مشهور ، وقد يعبر عن الصحة الواقعية بالصحة عند «الحامل» نظرا الى ان الصحيح الواقعي في نظره هو ما بنى على صحته اجتهاد أو تقليدا ؛ فلا فرق بين هذين التعبيرين فيما يراد في المقام.

وعلى كل حال المحكى عن المشهور هو البناء على الصحة الواقعية ، ويحكى عن «صاحب المدارك (قده) الأول ، ولكن قد عرفت عند حكاية الإجماع على الحجية ان هذه القاعدة بكليتها غير معنونة في كلمات المشهور فإسناد القول الثاني إليهم هنا لعله لظهور كلماتهم فيه في مقامات خاصة ، كفروع التنازع في أبواب المعاملات حيث أطلقوا القول بتقديم قول مدعى الصحة ولم يقيدوه بكونه عالما بالصحة والفساد الواقعيين ، كي يكون الحمل على الصحة عند الفاعل مساوقا للحمل على الصحة الواقعية ، ولو كان مرادهم من الصحة عند الفاعل لم يكن هناك بد من التقييد به ومن البعيد جدا ان يفرق بين الأبواب المختلفة فيحمل على الصحة الواقعية في مقام والصحة الفاعلية في مقام آخر ، فإسناد هذا القول الى المشهور بهذا الاعتبار قريب.

وتظهر الثمرة بين القولين فيما إذا كان معتقد الفاعل مخالفا لمعتقد الحامل كما إذا كان البائع ممن يرى جواز العقد بالفارسية أو بغير صيغة الماضي أو جواز تقديم القبول على الإيجاب أو غير ذلك ؛ على خلاف ما يعتقده الحامل. فاذا شك في صحة بيعه وفساده

١٢٤

لم يفده حمل فعل البائع على الصحة على القول الأول ، ويفيده على الثاني ، فإذن تنحصر فائدة هذه القاعدة على القول الأول بالموارد التي تطابق الصحة عند الفاعل الصحة عند الحامل ، واما في غيرها فإنما تفيد بالنسبة إلى الآثار التي يكون موضوعها الصحة الفاعلية كالايتمام على قول.

ثمَّ اعلم ان المدرك الوحيد في هذه المسألة هو ملاحظة الدليل الذي استندنا إليه في إثبات أصل القاعدة ؛ وحيث ان عمدتها ـ كما عرفت ـ هي السيرة المستمرة بين العقلاء من جميع الأمم وفي جميع الأعصار على اختلافهم في المذاهب والآراء فالحق هو الحمل على الصحة الواقعية لأنه لم يعهد منهم ان يتساءلوا بينهم من معتقد الفاعلين في المسائل المختلفة عند حمل أفعالهم على الصحة ، ويزيدك وضوحا ملاحظة حال المسلمين في الأعصار المختلفة مع تشعبهم في المذهب واختلافهم في المسائل الفرعية فلم يعهد منهم السؤال عن معتقد الفاعل إذا كان وكيلا في البيع وغيره أو وصيا عن ميت أو وليا على صغير أو غير ذلك ، بل تحمل أفعالهم على الصحيح عند الشك من غير فحص عن حال فاعلها.

ولعل قائلا يقول : ان منشأ هذه السيرة كما ذكرت أحد أمور ثلثة : أما الغلبة ؛ أو اقتضاء طبيعة العمل ، أو التعبد العقلائي دفعا للحرج وحفظا لنظام المجتمع ولا شك ان شيئا منها لا يقتضي أزيد من الصحة الفاعلية ضرورة أن الدواعي الباعثة على العمل انما تدعو الى الصحيح في نظر الفاعل وبحسب معتقده ، والغلبة انما تكون في موافقة عمله لما هو الصحيح عنده ، والحرج والاختلال يندفعان بالحمل على الصحة الفاعلية ، لتطابق الصحة عند الفاعل والحامل في كثير من الموارد وكفى بها في دفع محذور الحرج والاختلال.

وفيه ـ انه انما ذكرنا هذه الأمور بعنوان الحكمة والداعي لبناء العقلاء على هذا الأصل ، لا العلة التي يدور الحكم مدارها وقد عرفت ان ما نشاهده من سيرتهم هذه لا تنحصر بالموارد التي تطابق الصحة الفاعلية والصحة عند الحامل بل تعمها وغيرها. وقد عرفت ان استمرار سيرة المسلمين على هذه القاعدة المتخذة من سيرة العقلاء يؤكد

١٢٥

هذا المعنى ، لأنها جرت على ترتيب آثار الصحة الواقعية على العقود والإيقاعات الصادرة عن الغير وعباداتهم النيابية وأداء الواجبات الكفائية وغيرها من غير تحقيق وتفحص عن حال فاعليها ومعتقدهم ، مع ما يرى من الاختلاف الشديد بينهم في أحكام العبادات والمعاملات ، لا سيما مع ملاحظة ان هذه القاعدة تعم المخالفين أيضا وتدل على حمل أفعالهم على الصحة وترتيب آثارها عليها فيما لا يشترط فيه الولاية ، ومخالفتهم لنا في كثير من الفروع الفقهية واضح لكل احد ، ولم يعهد السؤال عن مذهب الفاعل أو الفحص عنه بطريق آخر.

نعم هاهنا صورتان قابلتان للبحث :

الاولى ـ ما إذا علم تفصيلا اعتقاد الفاعل ومخالفته لمعتقد الحامل بالكلية بحيث لم يجمعهما جامع ؛ كما إذا اعتقد الفاعل وجوب الجهر بالبسملة في الصلوات الإخفائية حينما يعتقد الحامل حرمته. فان حمل فعله على الصحة هنا ـ من باب احتمال مصادفته للواقع ولو سهوا منه ـ مشكل جدا ، لعدم جريان شيء من الأدلة السابقة فيه. وان هو الا الحمل على الفساد بالنظر الى معتقد فاعله.

الثانية ـ ما إذا علم جهل الفاعل بالحكم أو الموضوع أو كليهما علما تفصيليا كمن لا يعلم ترتيب اجزاء الوضوء أو الصلاة أو غيرهما ويأتي بها من غير علم بأحكامها ولكن يحتمل مطابقتها للواقع أحيانا من باب الصدفة والاتفاق ، والحمل على الصحة الواقعية هنا أيضا مشكل ؛ وان كان أخف اشكالا من الصورة الاولى ؛ ولذا اختار «المحقق الأصفهاني» قدس‌سره في تعليقاته على الكفاية الحمل عليها في هذه الصورة وادعى قيام السيرة عليها خصوصا بعد ملاحظة جهل غالب العوام بالأحكام.

وفيه ـ انه لم يثبت استقرار السيرة في الموارد التي يعلم فيها علما تفصيليا بجهل فاعلها في خصوص مسائل معينة ، نعم لا يبعد جريانها في موارد يعلم إجمالا بجهلهم ببعض المسائل أو بكثير منها ، لان غالب العوام ـ لا سيما أهل البوادي ومن ضاهاهم ـ من هذا القبيل ، مع انه لا إشكال في حمل أفعالهم على الصحة الواقعية وترتيب آثارها عليها.

١٢٦

ويمكن استظهار المقصود ـ اعنى لزوم الحمل على الصحة الواقعية لا الصحة بنظر الفاعل ـ من غير واحد من الروايات الواردة في موارد خاصة : مثل ما رواه الشيخ «رضوان الله عليه» في التهذيب والفقيه بإسناده عن إسماعيل بن عيسى قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال : «إذا رأيتم يصلون فيه فلا تسئلوا عنه» (١)

بناء على شموله لصورة العلم بكون معتقد الفاعل جواز الصلاة فيما دبغ من الجلود وان كانت غير مذكى لاشتهار فتاوى أبي حنيفة في العراق في ذاك العصر ومفروض سؤال الراوي أيضا هو الشراء من المخالفين ، فالعمل بهذه الامارة ـ اعنى الصلاة فيها ـ ليس الا من جهة حمل أفعال المسلمين على الصحة الواقعية فبالصلاة فيها يستكشف كونها مذكى لاعتبار التذكية في لباس المصلى واقعا.

اللهم الا ان يقال ان الرواية غير معمول بها لكفاية الأخذ من سوق المسلمين ومن يد المسلم من غير اعتبار الصلاة فيها ، فيحمل هذا الحكم على الاستحباب وضرب من الاحتياط ولكن يمكن القول بكفاية الحكم المذكور في إثبات المدعى وان كان حكما استحبابيا فتأمل.

نعم يظهر من بعض الروايات خلاف ذلك وان الحمل على الصحة انما يجوز فيما يوافق معتقد الفاعل لمعتقد الحامل كالروايات الكثيرة الواردة في باب «تحريم العصير إذا أخذ مطبوخا ممن يستحله» مثل ما رواه الكليني «رضوان الله عليه» بإسناده عن عمر بن يزيد قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يهدى اليه البختج من غير أصحابنا؟ فقال : «ان كان ممن يستحل المسكر فلا تشربه وان كان ممن لا يستحل فاشربه» ومثله غيره.

فان حمل فعل المسلم على الصحيح الواقعي يقتضي الحكم بالحلية هنا وليس هذه الصورة من الصورتين اللتين اخترنا استثنائهما من هذه القاعدة لوجود الجامع بين العقيدتين لاستحلال الفريقين المطبوخ على الثلث.

ويمكن الجواب عنه بان المورد من موارد التهمة وسيأتي الإشكال في جريان

__________________

(١) الحديث ٧ من الباب ٥٠ من أبواب النجاسات من كتاب الطهارة من الوسائل

١٢٧

القاعدة فيها ، وذلك لان مستحل المسكر لا داعي له الى طبخ العصير على الثلث غالبا فيسقط القاعدة في مورده ، فيكون المرجع فيه هو الاستصحاب ولا شك في انه يقتضي الحرمة.

التنبيه الثاني

في وجوب إحراز صورة العمل

يعتبر في جريان هذه القاعدة إحراز صورة العمل ، وهو القدر المشترك بين صحيحه وفاسده ؛ بحيث يصدق عليه عنوان ذاك العمل بالمعنى الأعم من الصحيح والفاسد ؛ فإذا رأينا رجلا يأتي بحركات نشك في صدق عنوان الصلاة عليها ولو فاسدا ، كما إذا انحنى ولا ندري أنه انحناء ركوع أو انحناء لأخذ شيء من الأرض ، لم يكن هناك مورد للحمل على الصحة كما هو ظاهر ومجرد كون الاتى بها قاصدا العنوان الصلاة غير كاف في هذا المعنى ما لم يحرز صورة العمل خارجا ؛ لوضوح عدم كفاية مجرد القصد في صدق عنوان على عمل خارجي حتى يؤتى بصورته الخاصة.

نعم إذا كانت صورة خاصة مشتركة بين عملين فالمميز هناك هو القصد ، فهذا الشرط غير ما سيأتي الإشارة إليه إنشاء الله عن قريب من اشتراط إحراز كون الفاعل بصدد العنوان الذي يراد حمل فعله على الصحيح منه.

وعلى كل حال اعتبار هذا الشرط في جريان أصالة الصحة في جميع مواردها أمر ظاهر لا سترة عليه ؛ وكأن ما ذكره المحقق الثاني في جامع المقاصد من : «عدم جريان أصالة الصحة في العقود الا بعد استكمال أركانها ليتحقق وجود العقد واما قبله فلا وجود له» أيضا ناظر الى هذا المعنى ولذا مثل له في بعض كلماته بما إذا اختلفا في كون المعقود عليه حرا أو عبدا أو اختلف الضامن والمضمون له فقال الضامن : ضمنت وانا صبي ؛ وقال المضمون له : بل ضمنت وأنت بالغ وكذا ما يحكى عن «العلامة» قدس‌سره من الإشكال في جريانها في هذا الفرض ، فان الظاهر ان منشأ استشكالهما في جريان قاعدة الصحة هنا هو ما ذكرنا من عدم إحراز عنوان العمل في هذه الأمثلة. وعلى اى حال فان كان مراد المحقق الثاني قدس‌سره من

١٢٨

استكمال الأركان ما ذكر ، ـ كما يظهر من أمثلته ـ فهو مما لا ينبغي الريب فيه ؛ وان كان مراده امرا ورائه فهو قابل للتأمل والبحث ، ولا نظن أحدا يخالف ما ذكرنا عند العمل بقاعدة الصحة ، وهل ترى أحدا يحكم بالصحة فيما يشك في صدق عنوان البيع أو النكاح ولو فاسدا على الفعل الخارجي؟ وهل تظن أحدا فيما إذا رأى أحدا ينحني لا يدرى أهو انحناء ركوع أو انحناء لأخذ شيء من الأرض يحكم بحمل فعله على الركوع الصحيح؟.

فكلما يكون الشك فيه مساوقا للشك في صدق عنوان العمل وصورته لا يكون مجرى للقاعدة ، فإذا شك في مالية العوضين رأسا لم يصدق هناك عنوان البيع ، لان البيع انما يصدق في محل قابل له ولو إجمالا ؛ فإذا شك في ان المبيع حر أو عبد أو انه خمر أو مائع آخر مباح ، بناء على ان الشارع تصرف في موضوع الخمر وأسقطها عن المالية رأسا ، لم يصدق هناك عنوان البيع ، وان هو إلا كبيع الماء على الشاطئ وأشباهه ؛ مما لا مالية له بنظر العرف والعقلاء فإنهم لا يرون بيعها إلا سفها وهذلا ، لا بيعا حقيقيا (ولو بيعا فاسدا) وكذلك إذا شك في بلوغ الضامن مثلا ؛ بناء على سقوط ذمة غير البالغ وعدم الاعتبار بعهدته وكونه في الشرع كمن لا اعتبار بذمته وعهدته عند العقلاء كغير المميزين والمجانين ؛ فإنه لا يصدق هناك عنوان الضمان ولو فاسدا.

وبعض هذه الأمثلة وان كان قابلا للنقض والإبرام الا انه لا إشكال في الكلية المذكورة وهو ان ما لا يصدق عليه عنوان العمل ـ ولو بالمعنى الأعم ـ خارج عن مسألة أصالة الصحة. ومن المعلوم ان انهدام الأركان أو الشك فيها يساوق الشك في تحقق العنوان غالبا أو دائما بل لعل المراد من الركن هنا هو ما يلزم من عدمه انتفاء العنوان فتأمل ؛ فإذن يكون قول المحقق الثاني ومن وافقه من لزوم إحراز أركان العقد في إجراء أصالة الصحة فيه قويا.

ثمَّ انه لا يختص هذا البحث بباب البيع بل هو عام لجميع موارد جريان أصالة الصحة لاتحاد الدليل ولأنا لا نجد اى مخصص له بباب دون باب للزوم إحراز عنوان العمل المشترك بين الصحيح والفاسد في الحكم عليه بالصحة عند الشك بمقتضى هذه

١٢٩

القاعدة ، ففي باب الوضوء إذا رأينا رجلا من بعيد يغسل يديه ولا ندري ان غسله غسل وضوء أو غيره فهل ترى أحدا يقول بحمل فعله على الوضوء الصحيح؟.

ولكن العجب من «المحقق النائيني» قدس‌سره حيث خص البحث هنا بباب العقود ، بل لعل ظاهر بعض كلمات شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري (قده) أيضا ذلك ، وقد عرفت مغزى البحث وما يؤول إليه كما عرفت انه لا وجه لتخصيصه بباب دون باب

ثمَّ اعلم ان في المسألة أقوالا أخر عدى ما ذكرنا وذكره المحقق الثاني :

أحدها ـ ما اختاره العلامة الأنصاري (قده) من لزوم إحراز جميع ما يعتبر إحرازه في صدق عنوان العقد الصحيح عرفا واختصاص القاعدة بما إذا شك فيما عداها من الشرائط الشرعية ، نظرا إلى انه ما لم يحرز العنوان الصحيح العرفي لا يكون هناك مجال لإجراء القاعدة.

وفيه : ما عرفت من كفاية إحراز القدر المشترك بين الصحيح والفاسد لأن هذه القاعدة لا تختص بالمتشرعين ، بل أهل العرف إذا حصل لهم الشك في صحة الأعمال الصادرة من غيرهم من العقود وغيرها يعتمدون على هذه القاعدة ويحكمون بصحتها ولا يتوقفون عن ذلك إذا أحرزوا صورة العمل ، وان الفاعل كان من قصده إيجاد العمل الصحيح خارجا ، ولو كان مجرى القاعدة خصوص موارد الشك في الشرائط الشرعية لم يبق لها مجال عند أهل العرف والعقلاء فيما بأيديهم من الاحكام.

ثانيها ـ ما ذهب اليه المحقق النحرير «العلامة الأصفهاني» (قدس‌سره) : من كفاية إحراز مجرد الإنشاء في العقود ، وانه أحرز مجرد إنشاء البيع أو النكاح أو غيرهما ثمَّ شك فيما يعتبر فيها من الشرائط عند العقلاء أو عند الشرع يحكم بصحتها حتى انه (قده) لم يعتبر إحراز كون الإنشاء بقصد الجد ، بل اكتفى بكون المنشئ في مقام الجد وان لم يعلم قصده لذلك جدا ؛ كل ذلك لعموم الأدلة التي عمدتها السيرة العقلائية

وفيه : انه ان كان مراده (قده) من الإنشاء هو ما يصدق عليه عنوان المعاملة المشترك بين صحيحها وفاسدها ، فلا ينبغي الشك في عدم كفاية مجرد الإنشاء في إحراز عنوانها ؛ بل يعتبر فيه مضافا إليه ، سائر أركانها من صلاحية العوضين والمتعاقدين ولو

١٣٠

إجمالا فلا وجه للاقتصار على الإنشاء فقط ، وان كان مراده كفاية مجرد الإنشاء ولو لم يصدق عليه عنوان المعاملة فقد عرفت في بيان المختار انه بمعزل عن الحق.

ثالثها ـ ما اختاره المحقق النائيني قدس‌سره ، وهو من أغرب الأقوال في المسألة ، وحاصلة لزوم إحراز جميع شرائط العوضين والمتعاقدين واختصاص القاعدة بموارد الشك في شرائط العقد فقط ؛ ودليله على هذا التبعيض ان العمدة في إثبات هذه القاعدة هنا هو الإجماع ومعقده هو «الشك في صحة العقد» وظاهر هذا العنوان خصوص الشرائط المعتبرة في العقد نفسه دون غيره مما يعتبر في صحته من صفات المتعاقدين والعوضين.

وفيه أولا ـ ما قد عرفت آنفا من ان حمل العقد الصادر من الغير على الصحة جزئي من جزئيات مسألة حمل فعل الغير على الصحة مطلقا ؛ وانه لم يقم دليل خاص عليه في أبواب المعاملات ، وقد عرفت أيضا ان دعوى الإجماع القولي في أصل المسألة مشكلة فضلا عن حصر الدليل فيه فتدبر. ثمَّ ان لازم ما افاده وجوب التماس دليل آخر لحمل فعل الغير على الصحة في أبواب العبادات وشبهها فيكون هناك قاعدتان مستقلتان إحداهما في أبواب المعاملات والأخرى في غيرها ، وربما يلوح من بعض كلماته قدس‌سره في المقام التزامه بهذا اللازم ، وهو عجيب ، حيث انه لا شك في أنها قاعدة واحدة مستندة الى دليل أو أدلة معلومة جارية في جميع أبواب الفقه من غير فرق بين أبواب العقود وغيرها ؛ ولم أقف على احتمال التفكيك بينهما في كلام غيره

ثانيا ـ سلمنا انحصار مورد القاعدة ومعقد الإجماع في أبواب المعاملات بالشك في «صحة العقد» ولكن الإنصاف ان المراد من صحة العقد ـ بظاهرها ـ هو صحته بمعنى ترتيب جميع آثاره الشرعية عليه من النقل والانتقال وغيرهما لا صحة العقد الإنشائي فقط ؛ ومن الواضح ان صحة العقد بهذا المعنى تتوقف على ضم سائر الشرائط المعتبرة في العوضين والمتعاقدين إلى شرائط الإنشاء ولا يكفى فيها مجرد إحراز شرائط الصيغة فإذن لا يبقى مجال لهذا التفصيل.

ثالثها ـ انه لا يظن بأحد الالتزام بهذا التفصيل عملا في الفقه في مختلف

١٣١

أبواب المعاملات ؛ حتى انه نفسه لا يمكنه الجري على وفق ما افاده عند العمل ، فان لازمه حصر مورد القاعدة بموارد الشك في صحة الإنشاء من ناحية الماضوية والصراحة ، والتنجيز وأمثالها ؛ بناء على اعتبار هذه الأمور فيها ، واما إذا شك في معلومية العوضين أو زيادة أحد العوضين على الأخر وعدمها مع كونهما جنسا واحدا وما أشبه ذلك فلا يمكن التمسك بها لإثبات صحة المعاملة المشكوكة من ناحيتها وهو كما ترى.

وما قد يلوح من بعض كلماته في المقام من : «ان اعتبار معلومية العوضين أو عدم كون أحدهما زائدا على الأخر انما هو مأخوذ في صحة العقد» لم نتحقق معناه ؛ فإنه ان أراد اعتبارها في صحة العقد بمعنى إنشاء الصيغة فهو كما ترى ، وان أراد اعتبارها في العقد المسببي وما يترتب عليه النقل والانتقال ، فجميع الشرائط كذلك ولا يرى بينها من تفاوت.

ولا بأس بالإشارة الى بعض الموارد التي صرحوا بجريان قاعدة الصحة فيها مع كون الشك فيها من ناحية شرائط المتعاقدين أو العوضين وهو ما ذكروه في رواية «ابن أشيم» المشهورة الواردة في العبد المأذون الذي دفع اليه مال ليشتري به نسمة ويعتقها ويحج عن أبيه ، فاشترى أباه وأعتقه ؛ ثمَّ تنازع مولى المأذون ومولى الأب وورثة الدافع وادعى كل منهم انه اشتراه بماله ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «يرد المملوك رقا لمولاه واى الفريقين أقاموا البينة بعد ذلك على انه اشتراه بماله كان رقا له». حيث استشكلوا على ظاهر الحديث بمخالفته للقواعد حيث ان الحكم بفساد العقد المذكور ومطالبة البينة من مدعى الصحة مخالف للقاعدة لأن مدعى الصحة تكفيه أصالة الصحة مع يمينه. ومن الواضح ان منشأ الشك هنا ليس من ناحية صحة الإنشاء وشرائطه بل من ناحية العوضين وان العبد المأذون اشترى أباه بمال مولى الأب حتى يكون البيع باطلا أو بمال مولاه أو ورثة الدافع حتى يكون صحيحا.

١٣٢

التنبيه الثالث

في ان الصحة المستفادة منها في كل مورد بحسبه

لا إشكال في انه لا تثبت بهذه القاعدة إلا الآثار المترتبة على صحة موردها ومجراها ومن المعلوم ان صحة كل شيء بحسبه ؛ فان كان موردها عبادة أو عقدا بجميع اجزائه وشرائطه فصحته صحة فعلية ويترتب عليه ما يترقب منه من الاثار فعلا.

واما إذا كان موردها جزاء من اجزائهما فصحته صحة تأهلية بمعنى قابلية ذاك الجزء لانضمام سائر الاجزاء أو الشرائط اليه وصيرورتها عبادة أو معاملة تامة ، وتترتب عليها آثار تلك العبادة أو المعاملة إذا لحقه سائر اجزائها وشرائطها. وهذا المعنى مما لا ينبغي التأمل فيه ، الا ان الكلام في بعض ما فرعوا عليه. فقد فرع عليه شيخنا الأعظم قدس‌سره الشريف فروعا :

منها ـ إذا شك في لحوق الإجازة لبيع الفضولي فأصالة الصحة في البيع الصادر منه لا تثبت لحوق اجازة المالك به ، لان صحته صحة تأهلية لا تدل على أزيد من صحة الإنشاء الصادر من الفضولي واشتماله على شرائط الصحة

ومنها ما إذا شك في تحقق القبض في الصرف والسلم ، فان جريان أصالة الصحة في العقد لا يدل على تحقق القبض.

ومنها ما لو ادعى بائع الوقف وجود المسوغ له في بيعه فإن أصالة الصحة لا تثبت وجوده لا سيما مع بناء بيع الوقف على الفساد.

ومنها ما لو ادعى الراهن اذن المرتهن في بيع العين المرهونة فإن أصالة صحة البيع لا تثبت اذنه «هذا ملخص ما أفاده».

أقول ـ قد عرفت من التنبيه السابق ان القاعدة الكلية في مجرى هذه القاعدة أنه مهما حصلت أركان العمل ، بأقل ما يصدق عليه عنوانه الأعم من الصحيح والفاسد ؛ جرت فيه أصالة الصحة عند الشك فيما زاد عليها ، مما يعتبر في صحته ؛ وأنت بعد الإحاطة بهذا تعرف حال هذه الفروع : فان من المعلوم ان مجرد الإيجاب والقبول لا يجدي في تحقق عنوان البيع أو النكاح أو غير هما ما لم ينضم إليه قابلية محله ، وغيره مما به قوامه وعليه أساسه ، فلا يكفي إحراز مجرد الإنشاء في إجراء القاعدة في البيع والنكاح

١٣٣

وشبههما ، لا لأن صحة كل شيء بحسبه ، بل لان عنوان البيع وأشباهه لا يصدق بمجرد نفس الإنشاء كما لا يخفى.

ومن هنا يعلم حال البيع الصادر من الفضولي فإنه بدون اجازة المالك ليس بيعا حقيقيا ولا يصدق عليه عنوانه (ولو بمعناه الأعم) ضرورة عدم أهلية الفضولي للعقد على مال غيره بل هو أشبه شيء بكتابة السند وتنظيمه للتوقيع عليه ممن بيده امره ، فليس موقف الفضولي موقف البائع حقيقة ولا يصدق على إنشائه عنوان البيع

نعم إذا تحقق إيجاب البيع وقبوله في محل قابل له ولو في الجملة ، ثمَّ شك في حصول بعض ما يتوقف صحته عليه من الشرائط ، كالقبض في الصرف والسلم فلا ينبغي الإشكال في جواز الاعتماد على هذا الأصل لإثباتها. فهل نجد من أنفسنا إلزاما على البحث والفحص عن حال بيع صرف أو سلم صدر من وكيلنا وانه هل اقبض المثمن أو قبض الثمن في مجلسه أم لا؟ فما افاده قدس‌سره من عدم جواز الركون الى هذا الأصل لإثبات صحة البيع وحصول النقل والانتقال ، عند الشك في تحقق القبض في الصرف والسلم بمعزل عن الحق وليت شعري ما الفرق بين هذا الشرط وغيره من الشروط المقارنة المعتبرة في العقود؟.

نعم إذا علمنا من الخارج ان المتبايعين أوقعا العقد مترددين في القبض والإقباض ثمَّ شككنا في انه بدا لهما فيهما فالأمر كما ذكره (قده) اما إذا أحرزنا انهما أوقعاه قاصدين للنقل والانتقال ؛ عازمين على القبض والإقباض ثمَّ شككنا في لحوقه فلا إشكال في جريان قاعدة الصحة فيه وبالجملة لا نجد اى فرق بين الشروط المقارنة للعقد والمتاخرة عنه بعد إحراز عنوانه خارجا فلا وجه للفرق بينهما أصلا.

واما مسألة الشك في مسوغات بيع الوقف فالظاهر انه لا ينبغي الإشكال فيها أيضا من الجهة المبحوث عنها لما عرفت في سابقة بل الظاهر انه ليس من فروع هذا البحث فان وجود المسوغات من الشرائط المقارنة المعتبرة في صحة العقد حين صدوره كالمالية والملكية وأشباههما ، ولو قلنا بأن أركان البيع غير حاصلة مع الشك في وجود المسوغ سقطت أصالة الصحة فيه من هذه الجهة لا لأن الصحة المستفادة منها صحة تأهلية كما هو محل

١٣٤

البحث نعم هنا اشكال آخر أشار إليه شيخنا الأعظم في ضمن كلامه في المقام وهو ان طبع هذه المعاملة وبنائها على الفساد وسيأتي الإشكال في جريان أصالة الصحة في أمثال هذه المسألة.

وقد ظهر مما ذكرنا حال الفرع الأخير وهو ما إذا شك في اجازة المرتهن في بيع العين المرهونة ؛ والأقوى فيه أيضا جريان أصالة الصحة لصدق عنوان البيع معه ، وعدم وجود اى فرق بين هذا الشرط وسائر شروطه ، اللهم الا ان يقال ان بيع العين المرهونة أيضا مبنى على الفساد كبيع العين الموقوفة وسيأتي الإشكال في أمثاله.

التنبيه الرابع

في لزوم إحراز كون الفاعل بصدد الفعل الذي يراد ترتيب آثاره

يعتبر في إجراء هذه القاعدة إحراز عنوان الفعل وكون الفاعل بصدده إذا كان مما يصلح لانطباق عناوين مختلفة عليه ولا يمتاز بعضها من بعض الا بقصد فاعله ، فغسل الثوب تارة يكون بعنوان التطهير الشرعي ، واخرى بعنوان ازالة قذارته العرفية ففي الأول يراعى إطلاق الماء وطهارته شرعا دون الثاني ، وكذاك حال قراءة الحمد بعنوان جزئيته للصلاة وقرائته بعنوان قراءة القرآن ، ولا شك في ان الحمل على الصحة من ناحية عنوان خاص يحتاج إلى إحراز كون الفاعل بصدده.

والأصل في ذلك ما مر مرارا من لزوم صدق العنوان الأعم من الصحيح والفاسد في إجراء هذه القاعدة ، فإذا كان العنوان من العناوين القصدية لا يكاد يصدق إلا إذا كان فاعله قاصدا له.

ولكن هنا أمر يجب التنبيه عليه وهو ان القوم قد افرطوا في باب العناوين القصدية وقد حققنا في محله ان «القصد» في كثير من هذه الموارد التي يسمونها عناوين قصدية لا اثر لا إلا في كون الفعل بعنوانه الخاص «اختياريا» مستندا الى فاعله لا في تحقق عنوان الفعل خارجا الا ترى ان عنوان التوهين ـ وهو من أظهر العناوين القصدية عندهم ـ كثيرا ما لا يتوقف وجوده خارجا على قصد فاعله كمن أقدم على تلويث بيت الله والكتب المقدسة ـ العياذ بالله ـ بأعين الناس ومرآهم وكان ذلك من غفلة أو نسيان

١٣٥

حيث انه لا يشك أهل العرف في ان عمله هذا يوجب وهنا لهذه المقدسات في أنظار الناس ، فيستنكرونها ويسرعون الى تطهيرها وازالة النجاسة عنها ، وان كان فاعلها عندهم معذورا غير مستحق للمؤاخذة واللوم من جهة غفلته ونسيانه إذا لم يكن مقصرا في مقدماته نعم لو كان العمل مشتركا بين عنوانين ولم يكن هناك ما يمتاز به خارجا من جهة من الجهات (لو وجد اعمال كذلك) ففي مثله يمكن القول بتوقف صدق احد العنوانين عليه على قصده.

وبناء على هذا المبنى يكون الدليل على اعتبار إحراز قصد الفاعل لهذه العناوين عدم جريان القاعدة في غير الأفعال الاختيارية لعدم بناء العقلاء عليه كما هو واضح وقد عرفت ان الفعل في هذه الموارد لا يكون اختياريا الا بقصد عنوانه.

نعم لا يبعد ان يقال بأنه لا يجب إحرازه بطرق علمية بل يكفى الظن الحاصل من ظاهر الحال بان يكون ظاهر حال الفاعل انه بصدد العنوان الفلاني ، فإن هذا الظن مما استقر بناء العقلاء على العمل به في مورد الصفات الباطنية ، كالقصد والعلم والعدالة مما لا طريق إليها غالبا الا ظواهر الحالات ويستندون إليها في كثير من احتجاجاتهم كما لا يخفى على من سبر أحوالهم ، نعم في غير هذه المقامات من الصفات الظاهرة التي يمكن إثباتها بطرق علمية غالبا لا اعتبار به عندهم.

بل هذا الظهور معتبر عندهم وان لم يكن هناك شك في صحة العمل على فرض قصده فحجية ظهور حال الفاعل في هذه المقامات أجنبية عن قاعدة الصحة وان كان يظهر بعض ثمراتها في إجراء القاعدة كما عرفت ومن هنا يظهر وجه النظر في بعض ما افاده المحقق الأصفهاني (قدس‌سره) في المقام بما لا نطيل الكلام بذكره فراجعه وتأمل.

وانما عقدنا تنبيها خاصا لهذا البحث مع ان شيخنا العلامة الأنصاري وغيره من المحققين أدرجوه في التنبيه الآتي ، لما فيه من الاثار الخاصة التي تظهر في إجراء القاعدة في مقامات مختلفة.

١٣٦

التنبيه الخامس

قد عرفت ان الصحة التي يحمل عليها فعل الغير هي الصحة عند الحامل وبعبارة أخرى الصحة الواقعية لا الصحة الفاعلية فيرتب عليه جميع ما يترتب على الفعل الصحيح الواقعي من آثاره من غير فرق بين تلك الاثار الا انه قد يظهر من بعض كلماتهم في بعض المقامات التفكيك بينها أحيانا ، مثل ما نسب الى المشهور من عدم جواز الاكتفاء بعمل النائب عند الشك الا ان يكون عدلا وان كان مستحقا للأجرة ؛ ومثل ما حكاه شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري قدس‌سره عن بعض من اشترط العدالة فيمن يوضؤ العاجز عن الوضوء ، وارتضاه المحقق الهمداني قده في بعض تعليقاته على الفرائد.

أقول ـ اما ذهاب المشهور الى اعتبار العدالة في النائب فمحل تأمل واشكال قال في «المدارك» في بحث النيابة من كتاب «الحج» ما لفظه : «ولم يذكر المصنف من الشرائط عدالة الأجير وقد اعتبرها المتأخرون في الحج الواجب لا لأن عبادة الفاسق تقع فاسدة بل لأن الإتيان بالحج الصحيح انما يعلم بخبره والفاسق لا يقبل اخباره بذلك». ويظهر منه ان الشهرة لو ثبتت فإنما هي حادثة بين المتأخرين ؛ هذا مضافا الى إمكان حمل كلام من اعتبر العدالة على خصوص صورة الشك في أصل تحقق العمل لا في صحته مع العلم بصدوره.

وعلى اى حال فقد استوجه الشيخ (قده) ما نسب الى المشهور من عدم جريان أصالة الصحة في عمل النائب ووجهه بما حاصله : ان لفعل النائب عنوانين : أحدهما : من حيث انه فعل من أفعاله وبه يستحق الأجرة ويترتب عليه غيره من آثاره ثانيهما : من حيث انه عمل تسبيبي للمنوب عنه ، حيث ان المنوب عنه بمنزلة الفاعل بالتسبيب وكأن فعل النائب صادر عنه وقائم به ؛ ومن هذه الجهة الفعل فعل المنوب عنه ، وأصالة الصحة في فعل النائب انما تنفع في ترتيب آثاره عليه من الجهة الأولى دون الثانية ، ففي موارد الشك لا محيص عن التفكيك بين العنوانين وترتيب خصوص آثاره التي تترتب عليه بعنوان انه فعل

١٣٧

النائب ، لا ما يترتب عليه بعنوان انه فعل المنوب عنه ؛ فمن هنا يحكم باستحقاقه الأجرة ولا يحكم ببراءة ذمة المنوب عنه. (انتهى محصل كلامه).

واعترض عليه جمع ممن تأخر عنه ، قائلين بشمول القاعدة لباب النيابة ، وجواز الحكم ببراءة ذمة المنوب عنه وعدم لزوم الاستنابة عنه ثانيا ، وذكروا في دفع استدلاله (قده) مقالات شتى تعلم من مراجعة كتبهم. ولكن الذي ظهر لي ان عمدة الإشكال في كلامه «قدس‌سره» انما نشأ من حسبانه فعل النائب فعلا تسبيبيا للمنوب عنه ، مع انه لا ينبغي الريب في عدم جواز إسناده اليه الا مجازا ، لان المفروض ان النائب فاعل مختار مستقل في فعله وان كان المنوب عنه محركا وداعيا له الى العمل ؛ ولا شك ان الفعل في هذه المقامات يستند الى المباشر ، فالفعل فعل النائب لا غير ، ولا فرق في ذلك بين القول بأن حقيقة النيابة عبارة عن تنزيل النائب نفسه منزلة المنوب عنه ، والقول بان حقيقتها هي قصد تفريغ ذمة الغير بعمله وانه لا يعقل تنزيل نفسه منزلته أو تنزيل فعله منزلة فعله. فان الفعل حقيقة فعله وصادر عنه باختياره وارادته وان كان فائدته لغيره. نعم قد يسند الفعل الى السبب وذلك فيما إذا كان أقوى من المباشر وكان المباشر مقهورا على العمل غير مستقل في إرادته ، لا في مثل المقام المفروض استقلاله فيه. فح إذا جرت أصالة الصحة في حق النائب والأجير يحكم بصحة فعلهما وتترتب عليه جميع ما للعمل الصحيح من الاثار ، فان كان عمله صلاة فهي صلاة صحيحة بحكم هذه القاعدة ويترتب عليها جميع ما للصلاة الصحيحة الصادرة منهما بهذا العنوان من الأثر ، ومنها براءة ذمة المنوب عنه وعدم لزوم الاستنابة عنه ثانيا.

ثمَّ ان المحقق النائيني «قده» أورد في بعض كلماته في المقام على مقالة الشيخ «قده» إيرادا حاصله ان التفكيك المذكور في كلام الشيخ بين استحقاق الأجرة وبين براءة ذمة المنوب عنه من غرائب الكلام ، إذ مع إحراز قصد النيابة يحكم بمقتضى قاعدة الصحة بصحة الفعل النيابي ويترتب عليه استحقاق الأجرة وبراءة ذمة المنوب عنه ؛ ومع عدم إحرازه لا يحكم بشيء منهما ، فان ما يترتب عليه استحقاق الأجرة ليس الا صدور الفعل الصحيح من النائب ، وهو بعينه موضوع للأثر الأخر وهو فراغ

١٣٨

ذمة المنوب عنه. فكيف يمكن التفكيك بينهما (انتهى)

ولكن يمكن ان يوجه هذا التفكيك بأن الملازمة بين هذين الأثرين وان كانت ثابتة بحسب الحكم الواقعي ؛ كما ان قاعدة الصحة لو كانت جارية اثبتتهما ، الا انه بعد المنع من جريانها لبعض ما ذكر يمكن القول باستحقاق الأجير الأجرة على ذاك العمل الذي يدعى صحته ، لا لقاعدة الصحة ؛ بل لأنه لما لم يكن هناك طريق عادة لإثبات صحة عمل الأجير إلا قوله فلا محالة تنصرف الإجارة إليه ، نعم للمستأجر ان يراقب الأجير أو يبعث معه من يراقبه في عمله ، واما إذا لم يراقبه وخلاه ونفسه وأو كل الأمر إليه فعليه ان يقبل قوله ، وهذا أمر ظاهر لمن سبر حال العقلاء في استيجاراتهم فتأمل.

ثمَّ انه قد يفصل في المقام بين مسألة النيابة ، ومسألة وضوء العاجز وشبهها ، بجريان القاعدة في الأولى دون الثانية ، اختاره المحقق الهمداني «قده» في بعض تعليقاته على الفرائد ، واستدل على مختاره بما حاصله : ان تكليف العاجز هو إيجاد الفعل بإعانة غيره فالواجب عليه هو الوضوء ولو كان بإعانة الغير فإجراء أصالة الصحة في فعل غيره ـ وهو التوضئة ـ لا يثبت صحة فعله وهو الوضوء هذا ملخص كلامه.

وفيه ـ ان فعل المعين إذا كان محكوما بالصحة بمقتضى القاعدة يترتب عليه جميع آثارها حتى ما كان مترتبا على لوازمه العقلية لأنها من الامارات المعتبرة لا من الأصول العملية ومن المعلوم ان صحة وضوئه من آثار صحة فعل الغير ؛ بل هما أمر واحد يتفاوتان من ناحية الإسناد إلى العاجز ومن يعينه ، فما افاده قدس‌سره من عدم إثباته صحة الوضوء ممنوع ، الا ان يرى القاعدة من الأصول العملية التي لا تثبت لوازمها العقلية ، ويرى هذين العنوانين المنطبق على فعل واحد باعتبارين من قبيل اللوازم العقلية وكلاهما محل اشكال.

نعم يمكن الإيراد على جريان القاعدة في أمثال المقام من ناحية أخرى ، وهو : ان السيرة العقلائية التي يستند إليها في إثبات كلية القاعدة غير جارية في أفعال الغير إذا كانت بمرأى ومسمع من المكلف ويكون منشأ شكه فيه عروض الغفلة له عن فعله أحيانا ؛ وانسداد باب العلم الذي هو الحكمة في حجية أمثال هذه الطرق انما هو في غير

١٣٩

هذه الأفعال التي تكون بمرأى من المكلف ، نعم إذا كان الفاعل مع حضوره كالبعيد ؛ كالحجام بالنسبة إلى غسل موضع الحجامة في الظهر ؛ فلا يبعد حينذاك إجراء أصالة الصحة في فعله ، ولعله اليه يشير ما ورد من «ان الحجام مؤتمن» فتأمل.

التنبيه السادس

هل القاعدة من الامارات أو من الأصول العملية؟

وقع الكلام بين الاعلام في أن قاعدة الصحة هل هي من الامارات المعتبرة ـ كما يظهر من كل من استند في حجيتها الى ظهور حال المسلم ـ أو من الأصول العملية ـ كما اختاره المحقق النائيني وبعض من تأخر عنه وقد يستظهر من عبارة الشيخ الأعظم أيضا ، وان كان هذا الاستظهار محل تأمل وإشكال.

أو يفصل بين مواردها : فان كان منشأ الشك في الصحة احتمال تعمد الإخلال بما يعتبر في العمل من الاجزاء والشرائط أو احتمال عروض الغفلة والسهو مع علم الفاعل بالحكم فهي من الامارات نظرا الى ان احتمال التعمد خلاف ظاهر حال الفاعل ، كما ان احتمال عروض الغفلة والسهو مناف لما ورد في باب قاعدة الفراغ من التعليل بالاذكرية حين الفعل حيث ان وروده في ذاك الباب لا يوجب اختصاصه به بعد كونه امرا عاما يعم العامل والحامل (الأول في قاعدة الفراغ والثاني فيما نحن بصدده). واما ان كان منشأ الشك احتمال جهل الفاعل بالحكم ؛ بناء على شمول القاعدة له ؛ فلا محالة يكون أصلا تعبديا ، لعدم وجود ملاك الأمارية فيه أصلا ، وقد اختار هذا المذهب المحقق الأصفهاني (قده) في تعليقاته على الكفاية وانتصر له بما ذكر.

وأورد عليه المحقق النائيني في بعض كلماته في المقام بما حاصله : ان غاية ما يستفاد من التعليل بالأذكرية (وكذلك ظهور حال المسلم) هو حمل فعله على الصحة عند فاعله ، لا الصحة الواقعية التي نحن بصددها ؛ فاذن لا مجال لعد هذا الأصل من الامارات المعتبرة بل لا يكون الا من سنخ الأصول العملية.

أقول : لا طريق لنا الى تحقيق حال هذه القاعدة من حيث كونها امارة أو

١٤٠