القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

اعتبار القرعة عموما.

وفي نفس الباب بعض الروايات الخاصة يدل على الحكم في خصوص المورد مثل :

١١ ـ ما رواه في الكافي ؛ والفقيه ، والمحاسن ، عن فضيل بن يسار قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن مولود ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء؟ قال يقرع الامام عليه‌السلام أو المقرع ، يكتب على سهم عبد الله ، وعلى سهم امة الله ، ثمَّ يقول الإمام أو المقرع : اللهم أنت الله لا إله إلا أنت عالم الغيب والشهادة تحكم بين عبادك يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ، بين لنا أمر هذا المولود كيف يورث ما فرضت له في الكتاب ثمَّ تطرح السهام (السهمان) في سهام مبهمة ثمَّ تجال السهام ، على ما خرج ورث عليه (١)

هذا ولكن في العمل بهذه الروايات خلاف بين الأصحاب مذكور في كتاب الميراث فقد ذهب الشيخ في الخلاف ، وبعض آخر إلى انه إذا لم يكن هناك امارة على احد الأمرين يعمل بالقرعة بل ادعى الشيخ (قدس‌سره) الإجماع عليه ؛ ولكنه كما ترى.

وذهب كثير من الأصحاب منهم المفيد والصدوقان والشيخ في النهاية وابن حمزة وابن زهرة والمحقق الطوسي والشهيدان والعلامة وولده وغيرهم على ما حكى عنهم ، بل هو المشهور ، إلى انه يعطى نصف ميراث الرجل ونصف ميراث المرأة وقد حكى الإجماع عليه أيضا ويدل عليه غير واحد من الروايات.

وذهب بعض آخر كالمفيد والمرتضى فيما حكى عنهما (قدس‌سرهما) الى وجوب عد أضلاعه فإن استوى جنباه فهي امرأة وان اختلفا فهو ذكر ولكن مستندهم في ذلك ضعيف.

وكيف كان فالمسئلة خلافية والمشهور عدم العمل بروايات القرعة هنا.

الطائفة السادسة

ما ورد في اشتباه حال الولد وانه من اى واحد ممن واقعوا امه بالشبهة مثل :

__________________

(١) رواه في الوسائل في كتاب الميراث في الباب ٤.

٣٤١

١٢ ـ ما رواه في التهذيب والفقيه عن معاوية بن عمار عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال إذا وطأ رجلان أو ثلثة جارية في طهر واحد فولدت فادعوا جميعا أقرع الوالي بينهم فمن قرع كان الولد ولده ويرد قيمة الولد على صاحب الجارية الحديث (١)

١٣ ـ ما رواه الشيخ في التهذيب أيضا عن الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال إذا وقع الحر والعبد والمشرك (والمشترك) على امرأة في طهر واحد وادعوا الولد أقرع بينهم وكان الولد للذي يقرع (٢)

١٤ ـ ما رواه الشيخ أيضا عن سليمان بن خالد عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال قضى على عليه‌السلام في ثلثة وقعوا على امرأة في طهر واحد وذلك في الجاهلية قبل ان يظهر الإسلام فأقرع بينهم فجعل الولد للذي قرع وجعل عليه ثلثي الدية للآخرين ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بدت نواجده قال : وما اعلم فيها شيئا إلا ما قضى به على عليه‌السلام (٣)

١٥ ـ ما أرسله المفيد في «الإرشاد» قال بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا الى اليمن فيرفع اليه رجلان بينهما جارية يملكان رقها على السواء ، قد جهلا خطر (حظر) وطيها معا ، فوطئاها معا في طهر واحد ، فحملت ووضعت غلاما ، فقرع على الغلام باسميهما فخرجت القرعة لأحدهما فالحق به الغلام وألزمه نصف قيمته ان لو كان عبدا لشريكه ، فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القضية فأمضاها وأقر الحكم بها في الإسلام (٤)

الى غير ذلك من الروايات الدالة على هذا الحكم وقد مر في الروايات العامة أيضا بعض ما يدل عليه.

ولا يخفى ان ما ورد فيه من إطلاق الحكم فيما إذا وقع رجال متعددون على امرأة في طهر واحد اما محمول على ما إذا كان ذلك لشبهة حصلت لهم ، أو لعدم الاطلاع على الحكم كما كانت في الجاهلية أو لغير ذلك وفي نفس الروايات مضافا الى القرائن الخارجية ، ما يشهد

__________________

(١) رواه في الوسائل في كتاب القضاء في باب القرعة وفي الباب الآتي.

(٢ و ٣ و ٤) رواها في الوسائل في كتاب النكاح في أبواب نكاح العبيد والإماء في باب «ان كان الشركاء في الجارية إذا وقعوا عليها في طهر واحد حكم بالقرعة في إلحاق الولد».

٣٤٢

لهذا المعنى.

أو محمول على ما ذكروه في كتاب «النكاح» من ان الأمة المشتركة إذا اوطأها احد الشركاء اثم ووجب تعزيره ؛ لكن لا يعد زانيا فلا ينفى عنه الولد ؛ بل يكون عاصيا ويلحق به الولد وتكون الجارية أم ولد ويغرم حصة الشريك من الام والولد ـ ولعل الأقرب هو هذا المعنى فان لسان بعض هذه الروايات يأبى عن الحمل على الوطي بالشبهة.

وعلى كل حال فالرجوع إلى القرعة في المقام مشهور بين الأصحاب بل لم نجد فيه مخالفا ؛ الا ان هنا إشكالا في إلزام من يلحق به الولد بالقرعة ، بالغرامة للباقين ، وهو انه كيف يلزم بذلك مع انهم مدعين للولد ولازم هذه الدعوى عدم استحقاقهم للقيمة أخذا بمقتضى إقرارهم فهم غير مستحقين للقيمة لقاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم.

والظاهر ان هذا الإشكال ألجأ بعضهم على حمل الغرامة في الروايات على غرامة الأم لأنها تصير أم ولد لمن لحق به الولد فعليه الغرامة للباقين.

وهذا الحمل عجيب فإنه مضافا الى كونه منافيا لصريح بعض روايات الباب مثل رواية معاوية بن عمار (١) المصرح فيها ب «قيمة الولد» لا يدفع الاشكال لجريان نفس الإشكال في الأم أيضا لأن كل واحد منهم يدعى انه لم ولد له فكيف يحل له أخذ سهمه من قيمتها؟!

هذا ولكن قد يجاب عن الاشكال بوجهين آخرين :

أحدهما ـ ان هذه الإقرارات مسموعة إذا لم يكن هناك امارة تدل على بطلانها فاذا دلت القرعة على إلحاق الولد بواحد منهم ونفيه عن آخرين كان كما إذا علم بكون الولد ولدا له وامه أم ولد له (فح) يجب العمل بمقتضى الامارة وسقطت الإقرارات.

ثانيهما ـ ان المراد من ادعاء الولد هنا ليس ادعاء العلم بأنه من نطفته لعدم إمكان حصوله عادة لأحد بعد مواقعة الجميع لها في طهر واحد ، بل المراد ارادة كل واحد أخذ

__________________

(١) وقد نقلناها تحت الرقم ١٢ فيما مر.

٣٤٣

الولد والحاقه بنفسه ، لأنه يحتمل انعقاده من نطفته ، فان وقوع مثل هذه الدعوى ـ لا سيما بين عوام الناس ـ أمر شائع في أمثال المقام الذي يدور أمر شيء بين عدة منهم مع تساوى الاحتمال بالنسبة إلى الجميع ، فاذن لا يكون هناك إقرار من احد منهم بكون الولد ولدا له واقعا وامه أم ولد كذلك وهذا الوجه أقوى من سابقة وأوفق بمورد الروايات ، وعلى كل حال العدول عما ذكره الأصحاب في المسئلة لمثل هذا الاشكال مما لا وجه له.

الطائفة السابعة

ما ورد في اشتباه الشاة الموطوئة وانها إذا اشتبهت استخرجت بالقرعة مثل ما يلي :

١٦ ـ ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن عيسى عن «الرجل» انه سئل عن رجل نظر الى راع نزاعلى شاة؟ قال ان عرفها ذبحها وأحرقها وان لم يعرفها قسمها نصفين ابدا حتى يقع السهم بها فتذبح وتحرق وقد نجت سائرها (١)

١٧ ـ ما رواه حسن بن على بن شعبة في «تحف العقول» عن ابى الحسن الثالث عليه‌السلام في جواب مسائل يحيى بن أكثم قال : واما الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاة فإن عرفها ذبحها وأحرقها وان لم يعرفها قسم الغنم نصفين وساهم بينهما فاذا وقع على احد النصفين فقد نجا النصف الآخر ثمَّ يفرق النصف الأخر فلا يزال كذلك حتى يبقى شاتان فتقرع بينهما فأيهما وقع السهم بها ذبحت وأحرقت ونجا سائر الغنم. (٢)

ولا يبعد ان يكون المراد بالرجل المروي عنه في الرواية الأولى أبا الحسن الثالث عليه‌السلام كما في الرواية الأخيرة ومضمون الحديثين كالفاظهما قريب جدا فمن هنا يظن قويا اتحاد الروايتين لاتحادهما في الراوي والمروي عنه والمضمون فتدبر.

وعلى كل حال الحكم بالقرعة في هذه المسئلة معروف بين الأصحاب رضوان الله عليه

__________________

(١ و ٢) رواهما في الوسائل في كتاب الأطعمة والأشربة من المجلد الثالث في أبواب الأطعمة المحرمة في باب «تحريم البهيمة التي ينكحها الآدمي».

٣٤٤

بل قال في الجواهر : «بلا خلاف فيه ؛ للخبرين المنجبرين بذلك».

وعلة الحاجة الى الانجبار في حديث تحف العقول واضح من جهة إرساله. واما في رواية الشيخ في التهذيب فلكون محمد بن عيسى ـ الظاهر كونه هو محمد بن عيسى بن عبيد المعروف بالعبيدي ـ محلا للكلام بينهم ؛ فقد وثقه بعضهم واثنى عليه كمال الثناء ، وضعفه بعض آخر وقال لا أثق بما يتفرد به ـ مضافا الى عدم التصريح باسم المروي عنه فيه.

وقد عثرت بعد ما ذكرت على كلام جامع حول سند الحديث للعلامة المجلسي (قدس‌سره) أحببنا إيراده لما فيه من التأييد لما نحن بصدده قال : في أواخر المجلد الرابع عشر من بحار الأنوار في باب الأسباب العارضة المقتضية لتحريم الحيوان بعد ذكر حديث محمد ابن عيسى ما هذا نصه :

«الظاهر ان الرجل أبو الحسن عليه‌السلام وهذا مختصر من الحديث الذي رويناه أولا (أشار بذلك إلى مرسلة تحف العقول) ثمَّ قال : في المسالك : بمضمون الرواية عمل الأصحاب مع انها لا تخلو عن ضعف وإرسال ؛ لأن راويها محمد بن عيسى عن الرجل ، ومحمد بن عيسى مشترك بين الأشعري الثقة واليقطيني وهو ضعيف ، فان كان المراد بالرجل الكاظم عليه‌السلام كما هو الغالب فهي مع ضعفها بالاشتراك مرسلة لان كلا الرجلين لم يدرك الكاظم عليه‌السلام وان أريد به غيره كان مبهما كما هو مقتضى لفظه فهي مع ذلك مقطوعة (انتهى كلام المسالك).

ثمَّ قال المجلسي : وأقول : يرد عليه ان الظاهر انه اليقطيني كما يظهر من الامارات والشواهد الرجالية لكن الظاهر ثقته (ووثاقته) والقدح فيه غير ثابت ؛ وجل الأصحاب يعدون حديثه صحيحا ، وكون المراد بالرجل الكاظم عليه‌السلام غير معروف بل الغالب التعبير بالرجل والغريم وأمثالهما عند شدة التقية بعد زمان الرضا عليه‌السلام وهنا بقرينة الراوي يحتمل الجواد والهادي والعسكري (عليهم‌السلام) لكن الظاهر هو الهادي

٣٤٥

بقرينة الرواية الأولى فظهر ان الخبر صحيح مع انه لم يرده احد من الأصحاب» انتهى (١)

وعلى كل حال قد عرفت ان أصل الحكم هنا مما لا غبار عليه لعدم نقل الخلاف عن احد منهم وانجبار الروايتين لو كانا ضعيفتين بعملهم.

ثمَّ انه لا يبعد ان يكون وجه إجراء القرعة فيها وجعل المورد من الأمور المشكلة مع ان قاعدة الاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة تقتضي الاجتناب عن الجميع ، هو ان ذبح الجميع وإحراقها اما ضرر أو حرج ، فاذا انتفى الاحتياط لذلك ولم يمكن الرجوع الى البراءة كما هو ظاهر فلم يبق هنا طريق الى المجهول إلا القرعة.

ثمَّ لا يخفى عليك ان مورد هذه المسئلة المتفق فيها ليس من حقوق الناس ولا من الأمور المتنازع فيها ولا يحتاج إلى إقامة الدعوى والقضاء الشرعي ـ فما قد يقال من ان روايات القرعة مخصوصة بباب القضاء والتنازع مما لا وجه له.

الطائفة الثامنة

ما ورد في طريق إجراء القرعة وكيفيتها وشرائطها مما يدل على مشروعية القرعة في الجملة وهي روايات :

١٨ ـ ما رواه الشيخ في التهذيب عن حماد عمن ذكره عن أحدهما عليه‌السلام قال : القرعة لا تكون إلا للإمام عليه‌السلام (٢)

وسيأتي إنشاء الله ان هذا الشرط ليس على نحو الوجوب.

١٩ ـ ما رواه ابن طاوس في كتاب «أمان الاخطار» وفي الاستخارات نقلا عن كتاب عمرو بن ابى المقدام عن أحدهما عليه‌السلام في المساهمة يكتب :

«بسم الله الرحمن الرحيم ـ اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة

__________________

(١) بحار الأنوار المجلد ١٤ ص ٧٩٤.

(٢) رواه في الوسائل في كتاب القضاء في باب «القرعة» من المجلد الثالث.

٣٤٦

الرحمن الرحيم أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اسئلك بحق محمد وآل محمد ان تصلى على محمد وآل محمد ؛ وان تخرج لي خير السهمين في ديني ودنياي وآخرتي وعاقبة امرى في عاجل امرى وآجله انك على كل شيء قدير ، ما شاء الله لا قوة إلا بالله صلى الله على محمد وآله» ـ ثمَّ تكتب ما تريد في الرقعتين وتكون الثالثة عقلا ، ثمَّ تجيل السهام ، فأيما خرجت عملت عليه ؛ ولا تخالف ؛ فمن خالف لم يصنع له ، وان خرج العقل رميت به (١)

وسيأتي الكلام ان شاء الله في استحباب هذا الدعاء ـ الى غير ذلك.

الطائفة التاسعة

ما يدل على وقوع القرعة أو مشروعيتها في الأمم السالفة مما يستشم منها رائحة الرضا بها وإمضائها مثل ما يلي :

٢٠ ـ ما رواه الصدوق في «الفقيه» و «الخصال» عن حريز عن ابى جعفر عليه‌السلام قال أول من سوهم عليه مريم بنت عمران وهو قول الله عزوجل (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ، والسهام ستة ـ ثمَّ استهموا في يونس لما ركب مع القوم فوقفت السفينة في اللجة فاستهموا فوقع على يونس ثلث مرات قال فمضى يونس الى صدر السفينة فإذا الحوت فاتح فاه فرمى نفسه ـ ثمَّ كان عند عبد المطلب تسعة بنين فنذر في العاشر إن رزقه الله غلاما ان يذبحه فلما ولد عبد الله لم يكن يقدران يذبحه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلبه ، فجاء بعشر من الإبل فساهم عليها وعلى عبد الله فخرجت السهام على عبد الله ، فزاد عشرا فلم تزل السهام تخرج على عبد الله ويزيد عشرا ، فلما ان خرجت مائة خرجت السهام على الإبل فقال عبد المطلب ما أنصفت (ظ) ربي فأعاد السهام ثلثا ، فخرجت على الإبل ، فقال الان علمت ان ربي قد رضى فنحرها (٢)

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في كتاب القضاء في باب «القرعة» من المجلد الثالث.

٣٤٧

وفي الرواية جهات من البحث :

الاولى ـ يظهر من سياق عبارة الإمام عليه‌السلام إجمالا ارتضائه بما نذر جده عبد المطلب عليه‌السلام من ذبح ولده عبد الله فإنه لو كان ذلك امرا منكرا كان من البعيد ذكره مع السكوت عليه ، مع انا نعلم بان هذا النذر غير ماض قطعا ، لا في هذه الشريعة ولا في الشرائع السابقة ، لإنكار العقل له ، مضافا الى ورود التصريح به عنهم عليهم‌السلام فقد روى الشيخ (قده) عن عبد الرحمن بن ابى عبد الله قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل حلف ان ينحر ولده؟ قال ذلك من خطوات الشيطان (١) ومن المعلوم انه لا فرق في ذلك بين الحلف والنذر بل الأمر في الحلف أوسع.

ويمكن ان يقال بان نذر عبد المطلب ذبح ولده كان بمعناه الأعم من ذبحه أو أداء ديته في سبيل الله ، ومن المعلوم ان المنذور إذا كان كليا له مصاديق محللة ومحرمة جاز النذر فتدبر.

أو يقال بان هذا النذر وان لم يكن منعقدا من أصل ولكن مقتضى تعظيم اسم الله هو ان يفدى عنه بشيء أما ثمن ديته أو بشيء آخر ويشهد له ما رواه الشيخ أيضا عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن على (عليهم‌السلام) : انه أتاه رجل فقال انى نذرت ان انحر ولدي عند مقام إبراهيم عليه‌السلام ان فعلت كذا وكذا ففعلته فقال عليه‌السلام : اذبح كبشا سمينا تتصدق بلحمه على المساكين (٢)

الثانية ـ ان ظاهر الرواية كون مريم أول من سوهم عليه واقترع في حقه ، وكون مساهمة يونس بعده ؛ مع ان يونس بن متى عليه‌السلام ـ كما تشهد به التواريخ ـ كان قبل مريم بمئات من السنتين ، ففي بعض التواريخ انه كان قبل ميلاد عيسى عليه‌السلام به ٨٢٥ سنة وفي بعضها الأخر انه كان قبله بأكثر من ذلك ، كيف وهو من أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا

__________________

(١ و ٢) ـ رواه في الوسائل في أواخر كتاب النذر والعهد في باب «من نذر ان ينحر ولده لم ينعقد» من المجلد الثالث.

٣٤٨

قبل عيسى عليه‌السلام.

وغاية ما يمكن ان يقال في حل هذا الاشكال ان المراد بالأولية ، تقدم ذكرها في القرآن الكريم فإن قضية مساهمة مريم واردة في سورة «آل عمران» ومساهمة يونس في سورة «الصافات» فتأمل.

الثالثة ـ الظاهر من قضية نذر عبد المطلب شيخ الحجاز ان القرعة التي جعلها طريقا لحل مشكلة ومجهوله كانت في الشبهات الحكمية ، فإنه لم يكن هناك موضوع خارجي مشتبه أراد كشفه بها ، بل المجهول كان هو رضا الرب جل وعلى ؛ ولا شك انه من سنخ الشبهات الحكمية ، مع انه لا إشكال في عدم جواز الاتكال على القرعة في الأحكام الشرعية ولم يقل احد بها ، بل الكلام في حدود جريانها في الموضوعات فقط.

ويمكن الجواب عنه بان ذلك منه انما كان من جهة عدم إمكان كشف مرضات ربه في تلك القضية الخاصة بغير هذا الطريق وهذا بخلاف ما بأيدينا من الاحكام فان أمرها من ناحية الأدلة الخاصة أو العامة أو الأصول العملية الجارية فيها ظاهر واضح.

والانصاف ان قضية نذر عبد المطلب كانت قضية خاصة واردة في واقعة خاصة مبهمة من جهات شتى ولكن لا يضرنا إبهامها ، لا سيما مع عدم ظهور إمضائها بتمامها في الإسلام ، بل لعله إشارة إلى نقل تاريخى يدل على ان القرعة كانت قبل الإسلام في الأمم السالفة ، أو في العرب والأمر في ذلك سهل.

٢١ ـ ما رواه المجلسي في البحار عن الأمالي عن ابن عباس في قصة يوسف بعد مجيء اخوته إليه وهم له منكرون فقال لهم يوسف :

«انى احبس منكم واحدا يكون عندي وارجعوا الى أبيكم واقرأوه منى السلام وقولوا له يرسل الى بابنه الذي زعمتم انه حسبه عنده ليخبرني عن حزنه ما الذي أحزنه؟ وعن سرعة الشيب اليه قبل أوان مشيبه ، وعن بكائه وذهاب بصره» ، فلما قال هذا اقترعوا بينهم فخرجت

٣٤٩

القرعة على شمعون فأمر به فحبس الحديث (١)

وهذا الحديث وان لم يكن مرويا الا عن ابن عباس ولا يتصل سنده بالمعصوم الا ان الظاهر ان ابن عباس وهو حبر الأمة أخذه من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الوصي عليه‌السلام وهو تلميذه أو من منبع آخر يعبابه من الكتب ، وهو دليل على ان الاقتراع كان معمولا في ذاك العصر ، لترجيح ما لا ترجيح فيه واقعا دفعا للفساد والنزاع ، وكان ذلك بمرأى ومسمع من يوسف بعد ما أتاه الله علما وحكما.

٢٢ ـ ما رواه هو (قدس‌سره) في استعلام موسى بن عمران عليه‌السلام النمام الذي كان في أصحابه بالقرعة بتعليم الله إياه ، عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «ان الله اوحى الى موسى عليه‌السلام ان بعض أصحابك ينم عليك فأحضره ؛ فقال : يا رب لا أعرفه» فأخبرني به حتى أعرفه ، فقال يا موسى عبت عليك النميمة وتكلفني ان أكون نماما؟ قال : يا رب فكيف اصنع قال الله تعالى فرق أصحابك عشرة عشرة. ثمَّ تقرع بينهم فان السهم يقع على العشرة التي هو فيهم ، ثمَّ تفرقهم وتقرع بينهم فان السهم يقع عليه قال فلما رأى الرجل ان السهام تقرع قام فقال يا رسول الله انا صاحبك ، لا والله لا أعود أبدا» (٢) لا شك ان هذه الرواية تشير إلى قضية وردت في واقعة خاصة كانت لها مساس ببعض نواحي حياة موسى عليه‌السلام ولم يكن موضوعا لحكم شرعي خاص ، ولو كانت لم يكن الرجوع الى القرعة من هذه الجهة ، وهو دليل على كون القرعة طريقا قطعيا لكشف الواقع المجهول ومن الواضح انه لا يتعدى منها الى غيرها.

الطائفة العاشرة

ما ورد في عمل النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرعة في غير مورد من القضايا التي حدثت في حياته

__________________

(١) رواه في المجلد الخامس من بحار الأنوار ص ١٨٠.

(٢) رواه في المجلد الخامس من البحار ص ٣٠٨.

٣٥٠

مما كانت مظنة للتنازع ومثارا للبغضاء والفساد مثل ما يلي :

٢٣ ـ ما رواه في البحار في قصة افك عائشة عن الزهري عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وغيرهما عن عائشة انها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها الحديث (١)

ودلالتها ، مع قطع النظر عن سندها ، واضحة على استمرار سيرته في غزواته وأسفاره باختيار بعض نسائه بالقرعة.

٢٤ ـ ما رواه في البحار أيضا عن إرشاد المفيد (قدس‌سره) في باب غزوة ذات السلاسل من انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقرع بين أصحاب الصفة (بعد ما قام جماعة منهم وقالوا نحن نخرج إلى أعداء الله) فخرجت القرعة على ثمانين رجلا منهم ومن غيرهم الحديث (٢)

٢٥ ـ ما رواه هو أيضا في باب غزوة حنين من انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كلمته أخته الرضا عي «شيماء» بنت حليمة السعدية في الغنائم التي أخذها المسلمون قال : «اما نصيبي ونصيب بنى عبد المطلب فهو لك واما ما كان للمسلمين فاستشفعي بي عليهم ، فلما صلوا الظهر قامت فتكلمت وتكلموا فوهب لها الناس أجمعون إلا الأقرع بن حابس وعيينة بن حصين ، فإنهما ابيان ان يهبا وقالوا يا رسول الله ان هؤلاء قد أصابوا من نسائنا فنحن نصيب من نسائهم مثل ما أصابوا ـ فأقرع رسول الله بينهم الى ان قال : فأصاب أحدهما خادما لبني عقيل وأصاب الأخر خادما لبني نمير فلما رأيا ذلك وهبا ما منعا» إلخ (٣)

وفي هذا الحديث دلالة على جواز الرجوع الى القرعة عند قسمة الغنائم وشبهها.

هذا تمام الكلام في «الأحاديث العامة» الدالة على حكم القرعة بعمومها أو إطلاقها ،

__________________

(١) رواه في المجلد السادس منه ص ٥٥١

(٢) رواه في المجلد السادس ص ٥٩٠

(٣) رواه في المجلد السادس من البحار ص ٦١٥.

٣٥١

و «الخاصة» الواردة في قضايا معينة معلومة ، يستأنس منها لإثباتها إجمالا ، وقد ذكرنا منها عشر طوائف وقد بلغ عدد الأحاديث التي ذكرناها سبعة وثلاثين حديثا بعد حذف المكررات منها ؛ ولعل المتتبع يعثر على احاديث آخر في طي أبواب أخرى.

وقد تحصل من جميعها ان أصل الحكم والعمل به في هذه الشريعة بل الشرائع السابقة مما لا شك فيه على إجماله وسنبحث في تفاصيله ان شاء الله تعالى.

٣٥٢

الثالث ـ بناء العقلاء

على القرعة في أمورهم المشكلة

قد جرت عادة العقلاء من جميع الأقوام من أرباب المذاهب وغيرهم على الرجوع الى القرعة عند التشاح والتنازع أو ما يكون مظنة له في الحقوق الدائرة بين افراد مختلفة ؛ أو من الأمور التي لا بد لهم من فعلها ولها طرق متعددة يرغب كل شخص في نوع منها ، ولا مرجح هناك ، ويكون إبقاء الأمر بحاله مثار للتنازع والبغضاء.

ففي ذلك كله يتوسلون إلى القرعة ويرونها طريقا وحيدا لحل هذه المشكلات لا محيص عنها.

ونشير هنا الى بعض ما تداول فيه القرعة بينهم توضيحا لهذا الكلام :

منها ـ قسمة الأموال المشتركة بين شخصين أو أشخاص ؛ سواء حصلت من ناحية التجارة أو الإرث أو غير ذلك إذا لم يتراضوا بنحو خاص من القسمة وكان هناك أموال متشاكلة في القيمة مختلفة من حيث الرغبات ، فإنه لا شك في رجوعهم إلى القرعة في مثلها.

وهكذا في تقسيم البيوت أو الدور أو قطعات من الأرض المتشابهة بين أشخاص متعددة التي يكون إيكال الأمر إلى اختيار هم فيها مظنة للتشاح ووقوع الخلف والنزاع.

وكذلك تقسيم مياه الأنهار المشتركة بين الفلاحين إذا لم يكن هناك مقياسا يرجح به بعضهم على بعض ، ففي كل ذلك يرجع الى القرعة.

٣٥٣

ومنها ـ ما إذا كان وظيفة خاصة يكفي في القيام بها عدد محصورون وكان هناك جمع كثيرون صالحون له وكان تخصيص بعضهم بها دون بعض ، تحميلا بغير دليل ومثارا للفتنة ، (فح) يرجع الى القرعة ؛ وكذلك حال الموظفين من العسكريين وغيرهم بالنسبة إلى بعثهم الى امكنة مختلفة وغيرها إذا لم يكن هناك معين أو مرجح.

ومنها ـ إذا كان هناك أمر يجب قيام كل واحد به ؛ ولكن تدريجا وكان تقديم بعض وتأخير آخر بلا دليل ظلما وإجحافا وجلبا للضغائن ، ولم يكن هناك طريق آخر يرجع اليه فلا شك (ح) في رجوعهم إلى القرعة. الى غير ذلك من أشباهه.

وبالجملة لا شك في اعتبار القرعة بين العقلاء إجمالا ورجوعهم إليها وفصل النزاع أو ما يمكن ان يقع النزاع فيه بها.

والظاهر ان هذا ليس امرا مستحدثا في عرفنا ، بل كان متداولا بينهم من قديم الأيام ، والظاهر ان رجوع أهل السفينة إليها في تعيين من يلقى في البحر ـ في قضية يونس ـ وكذلك رجوع عباد بني إسرائيل إليها ، في أمر مريم لم يكن استنادا الى حكم شرعي ، وضع في شرائعهم بل استنادا الى حكم عقلائي كان متداولا بينهم من قديم الأزمنة ، وهكذا الكلام في رجوع شيخ البطحاء عبد المطلب إليها في تعيين فداء ولده عبد الله والظاهر انه أيضا من هذا الباب.

كما انه لا شك في ان رجوعهم إليها ليس لكشفها عن الواقع ، وارائتها شيئا مجهولا لهم ، فإنه لا كاشفية فيها عندهم أصلا ، وانما يعتبرونها للفرار عن الترجيح بالميول والأهواء وما يكون مثارا للفتنة والبغضاء ، لكونه ترجيحا بلا مرجح.

٣٥٤

الرابع ـ «الإجماع»

ويمكن التمسك لإثبات حجية القرعة بالإجماع واتفاق العلماء عليها في أبواب كثيرة من الفقه يظهر لمن راجعها ؛ وقد أشرنا إلى بعضها عند نقل احاديث الباب وعملهم بها.

وناهيك في ذلك ما ذكره المحقق النراقي في المقام حيث قال : «اما الإجماع فثبوته في مشروعية القرعة وكونها مرجعا للتميز والمعرفة في الجملة مما لا شك فيه ؛ ولا شبهة تعتريه ، كما يظهر لكل من تتبع كلمات المتقدمين والمتأخرين في كثير من أبواب الفقه فإنه يراهم مجتمعين على العمل بها وبناء الأمر عليها طرا». (١)

وقال المحقق الآشتيانى في كلام له في المقام : «اما أصل مشروعية القرعة فهو مما لا خلاف فيه بين المسلمين ؛ بل إجماعهم عليه ، بحيث لا يرتاب فيه ذو مسكة. ويكفي في القطع بتحقق الإجماع ملاحظة الإجماعات المتواترة المنقولة في ذلك من زمان الشيخين الى زماننا هذا ، كما هو واضح لمن راجع كلماتهم بل يمكن دعوى الضرورة الفقهائية عليه» (٢)

هذا ولكن يمكن الإيراد على جعل الإجماع دليلا مستقلا في المسئلة ، بناء على ما هو المعروف بين المتأخرين من اعتبار الإجماع من جهة الكشف عن قول المعصوم عليه‌السلام فان الظاهر ان مستندا لمجمعين كلهم أو جلهم هو الأدلة الثلاثة السابقة ولا سيما الأخبار التي هي عمدة أدلة المسئلة ؛ ولا أقل من احتمال ذلك ، ومعه لا يستفاد من الإجماع أزيد مما استفيد منها.

__________________

(١) العوائد ص ٢٢٦.

(٢) بحر الفوائد ص ٢١٨ من الاستصحاب.

٣٥٥

هذا تمام الكلام في الأدلة التي أقاموها أو يمكن إقامتها لا ثبات هذه القاعدة وقد عرفت ان مجموعها كافية في إثباتها وتحكيم أساسها ، فلنرجع الى بيان مفادها وما يستفاد منها عموما أو خصوصا ، وحدودها وشرائطها.

٣٥٦

الثاني ـ في مفاد القاعدة وحدودها

لقد تحصل من جميع ما ذكرنا من الأدلة ان مشروعية القرعة على إجمالها مما لا شك فيها ، وانما الكلام في أمور :

١ ـ هل هي عامة لكل أمر مشكل ـ وما المراد من المشكل؟ ـ أو يختص ببعض الأبواب؟ وانها هل تختص بأبواب المنازعات وتزاحم الحقوق أو تجري في غيرها أيضا.

٢ ـ انه هل يشترط في العمل بها في كل مورد عمل الأصحاب بها فيه كما قيل أولا؟

٣ ـ انها من الامارات ، أو من الأصول العملية ، أو فيها تفصيل؟

٤ ـ نسبتها مع غيرها من الامارات والأصول.

فنقول ـ ومن الله سبحانه نستمد التوفيق والهداية ـ اما الأول فالحق انه ليس في عناوين الأدلة من عنوان «المشكل» عين ولا اثر ، وانما المذكور فيها عنوان «كل مجهول» كما في رواية محمد بن حكيم عن ابى الحسن موسى عليه‌السلام وكما في مرسلة الشيخ في «النهاية» عنه عليه‌السلام وعن غيره من آبائه وأبنائه (عليهم‌السلام) ـ قال المحقق النراقي (قده) ان الرواية الأولى حكى الإجماع على ثبوتها وعلى روايتها.

وقد ورد في مرسلة فقه الرضا ـ بناء على كونها رواية عن المعصوم ـ «وكل مالا يتهيأ فيه الاشهاد عليه».

والظاهر ان المراد بالمجهول هو المجهول المطلق ، اعنى ما لا طريق إلى معرفة حاله لا من الأدلة القطعية ولا الظنية ، ولا من الأصول العملية بان لا يكون مجراها أو كان ولكن كان في العمل بها فيه محذور ، كما في مورد الغنم الموطوئة المشتبهة في قطيع غنم ، فإن الأصل العملي فيها وان كان هو الاحتياط بالاجتناب عن الجميع الا انه مستلزم

٣٥٧

للعسر والحرج والضرر الكثير فالغاه الشارع ؛ فصار مجهولا مطلقا ، فأمر بالرجوع فيها إلى القرعة.

وعلى هذا كل ما كان حاله معلوما بأحد الطرق والموازين الموازين الشرعية ، قطعية كانت أو ظنية ، أمارة كانت أو أصلا ، لم يكن داخلا تحت عنوان «المجهول» الوارد في اخبار الباب.

ويؤيد ذلك جدا ان مجرى القرعة عند العقلاء أيضا ما لا يمكن حله بشيء من ـ الطرق والأصول الدائرة بينهم ، بحيث كان ترجيح بعض الاحتمالات على بعض من قبيل ـ الترجيح بلا مرجح ، وقد عرفت ان الشارع المقدس امضى طريقتهم وان أضاف إليها بعض ما سيأتي الإشارة اليه ان شاء الله.

ثمَّ انه لا اشكال ولا كلام في اختصاص القاعدة بالشبهات الموضوعية وعدم جريانها عند الشك في الأحكام الكلية الشرعية ، لاختصاصها عند العقلاء والعرف بها ، كما انه ليس في شيء من الموارد الخاصة التي ورد في الشرع إجراء القرعة فيها غير الشبهات ـ الموضوعية كما عرفت ، نعم الظاهر من قضية عبد المطلب واستكشاف مقدار فداء ولده بالقرعة جريانها في الشبهات الحكمية أحيانا ولكن لا بد من توجيهها ، بما ذكرناه عند نقل روايات الباب عند ذكر هذا الحديث ، أو بغيره.

ثمَّ ان الظاهر انها لا تختص بأبواب المنازعات وتنازع الحقوق وان كان أكثر مواردها من هذا القبيل ؛ حتى ظن بعضهم انها من مدارك «القضاء الشرعي» لا غير ، وانه لا يعتمد على القرعة في غيره ، وذلك لما رآه من ورود جل رواياتها في هذا الباب.

ولكن الإنصاف ان هذا القول ضعيف جدا (ومثله في الضعف ما حكاه في القواعد عن بعض العامة ان مورد القرعة هو خصوص ما يجوز التراضي عليه) لأنه يرد عليه :

أولا ـ ان فيها ما لا ربط له بباب التنازع والقضاء ، وذلك مثل ما نقلناها

٣٥٨

في الطائفة السابعة من الاخبار الخاصة الواردة في اشتباه «الشاة الموطوئة» وانها إذا اشتبهت استخرجت بالقرعة. (١)

وقد عرفت ان الأصحاب عملوا بها حتى قال في الجواهر : «انه لا خلاف في هذا الحكم ؛ للخبرين المنجبرين».

ومن الواضح ان مسئلة اشتباه الشاة الموطوئة بغيرها ليست من أبواب المنازعات المحتاجة إلى القضاء الشرعي بل هي من الأمور المجهولة المطلقة ، وقد عرفت ان اجراء القرعة فيها وجعلها من الأمور المشكلة ، (بتعبير القوم) مع ان الحكم في أمثالها من الشبهات المحصورة هو الاحتياط ولا فرق ظاهرا بين المقام وبين غيرها من الشبهات المحصورة التي نحكم فيها بالاحتياط بمقتضى العقل والنقل ، لعله من جهة ان الاحتياط بذبح جميع الشياة الواقعة في أطراف الشبهة ضرر أو حرج عظيم على صاحبها ، وارتكاب الجميع وعدم الاحتياط في شيء منها مخالف للعلم الإجمالي.

فإذا انتفى طريق «الاحتياط» و «البراءة» وكذا «الاستصحاب» (كما هو ظاهر) انحصر الطريق في التخيير ، ولكن الشارع المقدس ألغى التخيير هنا ، لأن القرعة وان لم تكن امارة على نحو سائر الأمارات الشرعية والعقلائية ، الا ان فيها نوعا من الكاشفية (كما يظهر من اخبارها وسيأتي شرحه ان شاء الله) وهي توجب ترجيح احد الطرفين على الأخر فتكون مانعا عن التخيير ، مضافا الى ما فيها من رفع الحيرة وسكون النفس مما ليس في الحكم بالتخيير كما لا يخفى.

اما القول بجريانها في المقام تعبدا ، واختصاصها بمسئلة الشاة الموطوئة وعدم جريانها في غيرها من أشباهها من الأمور المشكلة كما ترى ، لعدم خصوصية فيه.

__________________

(١) راجع الصفحة ٣٤٤.

٣٥٩

ثانيا ـ ان الروايات الخاصة الواردة في غير واحد من الأبواب ، وان كانت واردة في موارد تزاحم الحقوق ؛ الا انه ليس فيها من التنازع عين ولا اثر ، مثل ما ورد فيمن قال أول مملكوك أملكه فهو حر ، فورث سبعة ، قال : يقرع بينهم ويعتق الذي قرع. (١) فإن إطلاقها يشمل ما إذا لم يطلع العبيد على نذره ولم يقع التشاح بينهم ابدا بل لعلها ظاهرة في خصوص هذا الفرض ، فأراد السائل استكشاف حكمه فيما بينه وبين الله. ومثلها غيرها.

وكذا ما ورد في باب الوصية بعتق بعض المماليك وانه يستخرج بالقرعة (٢)

فإن إطلاقها أيضا يشمل ما إذا لم يقع التنازع بينهم أصلا لو لم نقل بظهورها في ذلك فيكون السؤال لاستكشاف الحكم الشرعي للمسئلة لا حكمه في مقام القضاء.

فهذه الروايات وشبهها وان كانت واردة في أبواب تزاحم الحقوق المحتملة الا ان مجرد وقوع التزاحم في شيء لا يلازم التنازع والتشاح فيه ، حتى يحتاج الى القضاء ، وليس دائما مظنة له ، فهي أيضا دليل على عدم اختصاص القرعة بأبواب القضاء.

لا سيما ومورد هذه الطائفة من الروايات يكون مما لا واقع له مجهول ، بل هناك حق متساوي النسبة إلى الجميع ، ولا يمكن إعطائه إلا واحدا منهم ولكن لما كان إيكال الأمر إلى التخيير مظنة للاجحاف وترجيح بلا مرجح أو ترجيح بالميول والأهواء أو كل الأمر فيها إلى القرعة التي لا يكون فيها شيء من ذلك.

ثالثا ـ إطلاق بعض الاخبار العامة غير الواردة في أبواب التنازع أيضا دليل على

__________________

(١) راجع الصفحة ٣٣٨.

(٢) راجع الصفحة ٣٣٩.

٣٦٠