القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

٧ ـ قاعدة التقية

وموارد حرمتها ووجوبها

٣٨١
٣٨٢

التقية وموارد حرمتها وجوازها

معناها وموارد حرمتها ووجوبها وجوازها وما يترتب

عليها من الاثار الوضعية والتكليفية وما يلحق بها

من الاحكام والفروع

التقية من أقدم ما يعرف أصحابنا بها ، كما انها من أكثر ما يشنع عليهم ، جهلا بمعناها وموارد حرمتها وجوازها ، وغفلة عما يحكم به العقل والنقل.

ويبتني عليها فروع كثيرة في مختلف أبواب الفقه من العبادات وغيرها فلها صلتان بالمذهب :

صلة من ناحية الفقه وقواعدها والفروع الكثيرة المبنية عليها.

وصلة من ناحية العقائد والكلام ، حيث ان القول بها صار عند الغافلين عن «مغزاها» و «مواردها» دليلا على ضعف المذهب القائل بها ومبانيه.

٣٨٣

ونحن وان كنا نبحث عنها هنا كقاعدة فقهية ، ولكن نواصل الجهد في طيات هذه الأبحاث لتوضيحها من الناحية الأخرى ، لتبين قيم الإيرادات التي تشبث بها المخالفون هنا ، وان هذه المزعومة ـ كغالب المزعومات الأخر ـ ناشئة من قلة اتصالهم بنا ، وعدم أخذ عقائدنا منا ، بل من الكتب المشوهة المملوئة بأنواع التهم المنبعثة عن التعصبات القومية أو المذهبية ، أو عن تدخل أعداء الدين في شؤون المسلمين لتفريق كلمتهم وإشاعة البغضاء بينهم ليتنازعوا فيفشلوا وتذهب ريحهم ـ كما قال الله تعالى.

وعلى كل حال لا بد لنا ان نتكلم هنا في مقامات :

الأول ـ في معناها اللغوي والاصطلاحي.

الثاني ـ في حكمها التكليفي من الحرمة والجواز ، ومواردهما ، وما يدل على كل واحد ، من الأدلة العقلية والنقلية ، مضافا الى أقسام التقية من «الخوفى» و «التحبيبى».

وان التاركين للتقية في الصدر الأول وفي أعصار «الأمويين» و «العباسيين» ، الذين استشهدوا في هذا السبيل كرشيد الهجري وميثم التمار وأشباههما لما ذا تركوا التقية وتجرعوا جرع الحمام؟

وهل كان هذا واجبا عليهم أو راجحا لهم ، وهل يمكن لنا سلوك طريقتهم في أمثال هذه الظروف أم لا؟

الثالث ـ في حكمها الوضعي من حيث ان العمل المأتي به تقية هل يوجب الاجزاء عن الإعادة والقضاء ، في داخل الوقت وخارجه أم لا؟.

الرابع ـ في أمور هامة مختلفة لها صلة بالبحث مثل انه هل يعتبر

٣٨٤

في التقية ان تكون من المخالف ، أو يشمل الكافر ، أو الموافق في المذهب أحيانا.

وانها هل تختص بالأحكام أو تشمل الموضوعات.

وان المدار فيها على الخوف الشخصي أو النوعي

وانه إذا خالف التقية فهل يفسد عمله؟

وان ترك تسمية القائم باسمه هل هو من باب التقية أو غيرها وهل هو واجب في هذه الأعصار أو لا يجب أصلا؟

وغير ذلك مما يرتبط بهذه المسئلة ، نذكرها في طي عشر تنبيهات ونسئل الله التوفيق والهداية نحو الحق في جميع الأمور ، انه قريب مجيب.

٣٨٥

١ ـ معنى التقية لغة واصطلاحا

الظاهر ان التقية لغة مصدر من اتقى يتقى ، لا انها اسم مصدر كما ذكره شيخنا العلامة الأنصاري قدس الله سره الشريف.

قال المحقق الفيروزآبادي في «القاموس» : «اتقيت الشيء وتقيته اتقيه واتقيه ، تقى وتقية وتقاء ككساء ، حذرته ، والاسم التقوى قلبوه للفرق بين الاسم والصفة»

وظاهره ان اتقى وتقى بمعنى واحد ـ كما ذكره غيره أيضا ـ والمصدر منه هو التقية والتقى والتقاء ، واسم المصدر هو التقوى ـ والأمر فيه سهل.

ومن الواضح ان معناه المصطلح في الفقه والأصول والكلام أخص من معناها اللغوي ، كما في غيرها من الألفاظ المستعملة في معانيها المصطلحة غالبا.

وقد ورثنا عن الأصحاب في معناها المصطلح عبائر تتقارب مضامينها

٣٨٦

ولا يدل اختلافها اليسير عن اختلاف منهم في حقيقتها ومفادها ، وإليك نص بعض هذه التعاريف :

١ ـ قال المحقق البارع الشيخ الجليل «المفيد» في كتابه «تصحيح الاعتقاد»

«التقية كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين والدنيا» (١)

٢ ـ وقال شيخنا الشهيد رحمة الله عليه في قواعده :

«التقية مجاملة الناس بما يعرفون وترك ما ينكرون حذرا من غوائلهم».

٣ ـ وقال شيخنا العلامة الأنصاري في رسالته المعمولة في المسألة :

«المراد (منها) هنا التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق».

٤ ـ وقال العلامة الشهرستاني قدس‌سره فيما علقه على كتاب أوائل المقالات للشيخ المفيد أعلى الله مقامه :

«التقية إخفاء أمر ديني لخوف الضرر من إظهاره» (٢)

ولا يخفى ان هذه التعريفات بعضها أوسع من بعض ، ولكن ـ الظاهر انهم لم يكونوا بصدد تعريف جامع لشتات افرادها مانع عن اغيارها ، اعتمادا على وضوح معناها ولذا لم يعترض واحد منهم على ـ الأخر بنقص التعريف من ناحية جمعه أو طرده.

والذي يهمنا ذكره في المقام ان التقية ديدن كل اقلية يسيطر عليهم

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد ص ٦٦.

(٢) أوائل المقالات ص ٩٦.

٣٨٧

الأكثرون ولا يسمحون لهم بإظهار عقائدهم أو العمل على وفقها فيخافون على أنفسهم أو النفيس مما يتعلق بهم ، من مخالفيهم المتعصبين ، فهؤلاء بنداء الفطرة يلجئون إلى التقية فيما كان حفظ النفس أو ما يتعلق بها أهم عندهم من إظهار الحق ، والى ترك التقية وخوض غمرات الموت وتحمل المضار إذا كان إظهاره أهم ، حسب اختلاف المقامات وما يتحمل من ـ الضرر لأجل الاعمال المخالفة للتقية.

كل ذلك مقتبس من حكم العقل بتقديم الأهم على المهم إذا دار الأمر بينهما.

فعندئذ لا تختص التقية بالشيعة الإمامية ولا يختصون بها وان اشتهروا به ، وتعم جميع الطوائف في العالم إذا ابتلوا ببعض ما ابتلى به الشيعة في بعض الظروف والأحيان.

فليس ذلك إلا لأنهم كانوا في كثير من الأعصار والأقطار تحت سيطرة المخالفين المجحفين عليهم ، وكل جماعة كانت كذلك ظهر في تاريخها التقية أحيانا.

وسيوافيك ان شاء الله الايات والاخبار الحاكية عن أمر مؤمن آل فرعون وانه كان في تقية من قومه ، وكذلك ما يحكى عن أمر أصحاب الكهف وتقيتهم.

بل ومن بعض الوجوه يعزى التقية إلى شيخ الأنبياء إبراهيم عليه‌السلام في احتجاجاته مع عبدة الأصنام ، وإلى يوسف عليه‌السلام في كلامه لإخوته ، كما سيأتي بيان كل منها ان شاء الله.

٣٨٨

٢ ـ المقام الاول حكمها التكليفي

المعروف بين الأصحاب ان التقية تنقسم بحسب حكمها التكليفي إلى أقسام خمسة : منها ما هو واجب ، ومنها ما هو حرام ، ومنها ما هو راجح ومنها ما هو مرجوح ، ومنها ما يتساوى طرفاه جوازا. وهو موافق للتحقيق.

فلنبدأ بالقسم الجائز منه بالمعنى الأعم ثمَّ نتبعه بما هو حرام ، ثمَّ نبين ما هو راجح ومرجوح.

اما الأول فلا ينبغي الشك في جوازها إجمالا في بعض الموارد ويدل عليه مضافا الى الإجماع آيات من الذكر الحكيم ، واخبار متواترة جدا ، ودليل العقل وقضاء الوجدان السليم.

اما الايات :

فمنها قوله تعالى في سورة آل عمران (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(١)

__________________

(١) آل عمران ـ ٢٨.

٣٨٩

نهى سبحانه وتعالى عن اتخاذ الكافرين أولياء ، والاستعانة بهم في الأمور وبث المودة والإخاء بينهم ، ثمَّ أكده بان من فعل ذلك من ـ المؤمنين فليس من الله في شيء ، فهو برئ منهم وليسوا في ولاية الله ورعايته

ونظيره في ذلك قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ)(١)

حيث نهى عن اتخاذ الاعداء أولياء ، ثمَّ عقبه بإلقاء المودة إليهم الذي هو كالتفسير له.

ومثله قوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ)(٢)

ثمَّ استثنى منه مقام التقية بقوله (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) ففي هذا المقام إلقاء المودة إليهم واتخاذهم أولياء جائز بعد ان كان منهيا عنه بحسب حكمه الأول ، ولا شك ان المراد من «تقاة» هنا التقية وهما بمعنى واحد بل قرء بعضهم كالحسن والمجاهد «تقية».

وقال أمين الإسلام الطبرسي في المجمع عند ذكر الآية : «والمعنى الا ان يكون الكفار غالبين والمؤمنين مغلوبين ، فيخافهم المؤمن ان لم يظهر موافقتهم ولم يحسن العشرة معهم ، فعندئذ يجوز له إظهار مودتهم بلسانه ومداراتهم تقية منه ودفعا عن نفسه من غير ان يعتقد ، وفي هذه الآية دلالة

__________________

(١) سورة الممتحنة ـ ١

(٢) سورة المجادلة ـ ٢٢.

٣٩٠

على ان التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس ، وقال أصحابنا انها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة ، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح ، وليس تجوز من الافعال في قتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن انه استفساد في الدين (٣)

وقال شيخ الطائفة قدس‌سره في «التبيان» عند ذكر الآية :

«والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس وقد روى رخصة في جواز الإفصاح بالحق عندها. روى الحسن ان مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لأحدهما أتشهد ان محمدا رسول الله؟

قال : نعم

قال : أفتشهد انى رسول الله؟!

قال نعم!

ثمَّ دعا بالآخر فقال : أتشهد ان محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

قال نعم؟

فقال له أتشهد انى رسول الله

قال : انى أصم!

قالها ثلثا كل ذلك يجيبه بمثل الأول فضرب عنقه

فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : اما ذلك المقتول فمضى على صدقه ويقينه ، وأخذ بفضله ، فهنيئا له ، واما الأخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه»

فعلى هذا تكون التقية رخصة والإفصاح بالحق فضيلة ، وظاهر

__________________

(٣) مجمع البيان ج ٢ ص ٤٣٠.

٣٩١

أخبارنا يدل على انها واجبة وخلافها خطأ» (١)

هذا ولكن سيمر عليك ان شاء الله ان موارد وجوبها غير موارد جوازها ، وموارد رجحان تركها والإفصاح بالحق ، وليس جميع الروايات واردة على مورد واحد ولا تعارض بينها كما يظهر من عبارة شيخ الطائفة (قدس‌سره الشريف).

وبالجملة لا إشكال في دلالة الآية على جواز التقية إجمالا ، بل في الاية تصريح بنفس عنوان التقية فإن «التقية» و «التقاة» بمعنى ، بل قد عرفت قراءة التقية في نفس الآية من غير واحد من القراء.

ومنها قوله تعالى في سورة النحل : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٢)

وقد ذكر المفسرون في شأن نزول الآية أمورا تتقارب معناها وان اختلف أشخاصها وأمكنتها.

وفي بعضها انها نزلت في «عمار» و «ياسر أبوه» و «امه سمية» و «صهيب» و «بلال» و «ضباب ، حيث أخذهم الكفار وعذبوهم واكرهوهم على كلمة الكفر والبراءة من الإسلام ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلم يعطهم أبو عمار وامه فقتلا وكانا أول شهيدين في الإسلام وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه ، فأخبر سبحانه بذلك رسول الله فقال قوم كفر عمار ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان عمارا مليء ايمانا من قرنه الى قدمه واختلط ـ

__________________

(١) التبيان ـ المجلد ٢ ص ٤٣٥.

(٢) النمل ـ ١٠٦.

٣٩٢

الايمان بلحمه ودمه. ثمَّ جاء عمار الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبكي.

فقال : ما ورائك؟

فقال : شر ، يا رسول الله ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير!.

فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول ان عادوا لك فعد لهم بما قلت. فنزلت الآية.

وفي آخر انها نزلت في «عياش ابن أبي ربيعة» أخي أبي جهل من الرضاعة ، و «ابى جندل» وغيرهما من أهل مكة حيث أكرههم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ثمَّ انهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا فنزلت الآية

وفي ثالث انها نزلت في أناس من أهل مكة آمنوا ثمَّ خرجوا نحو المدينة فأدركهم قريش واكرهوهم فتكلموا بكلمة الكفر كارهين ، فنزلت الآية.

والأشهر هو الأول.

والآية دالة على جواز التقية بإظهار كلمة الكفر من دون قصده ، عند الضرورة ، فإن موردها وان كان عنوان الإكراه ، ومورد التقية لا يعتبر فيها اكراه وتعذيب بل يكفى فيها خوف الضرر على النفس أو ما يتعلق به وان لم يكن هناك مكره ، الا ان الحق عدم الفرق بين العنوانين (الإكراه والتقية) من حيث الملاك والمغزى ، فان ملاك الكل دفع الضرر الأهم بارتكاب ترك المهم.

هذا من ناحية العنوان المأخوذ فيها.

٣٩٣

ومن ناحية أخرى الآية وان اختصت مفادها بمسألة الكفر والايمان الا ان حكمها جار في غيرها بطريق اولى كما لا يخفى ، فاذا جازت التقية في هذه المسألة المهمة جاز في غيرها قطعا مع تحقق شرائطها.

قال المحقق البيضاوي في تفسيره عند ذكر الآية :

«وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه وان كان الأفضل ان يتجنب عنه إعزازا للدين كما فعله أبواه (عمار) ثمَّ نقل رواية الحسن السابقة في رجلين أخذهما مسيلمة ـ الى ان قال ـ اما الأول فقد أخذ رخصة ـ الله واما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له»

ومنها قوله تعالى في سورة الغافر حاكيا عن مؤمن آل فرعون : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ). (١)

هذه الآية وما بعدها تحكي عن قصة مؤمن آل فرعون واحتجاجه على قومه نقلها القرآن بلسان القبول والرضا ، حتى ان قوله (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) أيضا بهذا اللسان ، لسان القبول والرضا ، فهي دالة على جواز كتمان الايمان عند الخوف على النفس ومثله.

ولا شك ان كتمان الايمان لا يمكن عادة بمجرد عدم الإظهار عن مكنون القلب بل لا يخلو عن إظهار خلافه ، لا سيما إذا كان ذلك مدة طويلة كما هو ظاهر حال مؤمن آل فرعون.

فكتمان إيمانه لا يتيسر الا بالاشتراك معهم في بعض أعمالهم وترك بعض وظائف المؤمن الخاصة به ، وبالجملة حمل كتمان إيمانه على مجرد

__________________

(١) الغافر ـ ٢٨.

٣٩٤

عدم إظهار الحق ، من دون إظهار خلافه قولا وفعلا شطط من الكلام ، لا سيما مع ما حكى عن ابن عباس انه لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى عليه‌السلام.

فاذن ينطبق على عمله عنوان التقية بلا اشكال وتكون الآية دليلا على جوازه إجمالا.

وروى الطبرسي عن ابى عبد الله عليه‌السلام انه قال : التقية ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقية له والتقية ترس الله في الأرض ، لأن مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل. (١)

فتحصل من جميع ما ذكرنا ان ظاهر الايات الثلاثة المذكورة أو صريحها جواز التقية عند الخوف إجمالا ، ويظهر من غير واحد من الروايات التي سنوردها عليك ان شاء الله تفصيلا ان موارد التقية المشار إليها في القرآن لا تنحصر بذلك ، بل تشمل فعل أصحاب الكهف ، وما فعله شيخ الأنبياء إبراهيم عليه‌السلام تجاه قومه عند كسر الأصنام ، وما قاله يوسف لإخوته عند أخذ أخيه الصغير عنده وعدم إرساله مع سائر اخوته ، انه أيضا كان من باب التقية.

ولكنه مبنى على ما سنشير اليه من عدم حصر التقية في كتمان الحق وإظهار خلافه خوفا على النفس وشبهه بل يشمل ما إذا كان هذا الكتمان لمصالح آخر ، فليكن هذا على ذكر منك.

هذا حكم كتاب الله وما يستفاد من آيات الذكر الحكيم في المسألة وهي بحمد الله جلية من هذه الناحية.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٨ ص ٥٢١.

٣٩٥

٣ ـ التقية في السنة

لا شك في تواتر الأخبار الدالة على جواز التقية إجمالا في مظان ـ الخطر ، وهي على طوائف مختلفة كل تشير الى بعض خصوصيات البحث وفيها فوائد جمة ، وحقائق لطيفة ، تكشف عن علل التقية ونتائجها وكيفيتها وحدودها ، وأقسامها ومستثنياتها ، وموارد حرمتها ووجوب الحذر عنها.

وهي مبثوثة في أبواب كثيرة من أبواب كتاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، أوردها في الوسائل في المجلد الحادي عشر وغيره

ونحن نذكرها في خمس طوائف نجمع ما يشترك منها في معنى واحد في طائفة مستقلة

الطائفة الأولى ـ ما يدل على ان التقية ترس المؤمن وحرزه وجنته وقد ورد روايات عديدة في هذا المعنى :

منها ـ ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن حمد بن مروان

٣٩٦

عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال كان ابى يقول : واى شيء أقر لعيني من التقية ، ان التقية جنة المؤمن (١).

٢ ـ ما رواه أيضا في الكافي عن عبد الله بن ابى عبد الله بن ابى يعفور قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : التقية ترس المؤمن والتقية حرز ـ المؤمن ، الحديث (٢)

٣ ـ ما رواه أيضا في الكافي عن حريز عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : التقية ترس الله بينه وبين خلقه (٣)

٤ ـ ما رواه سعد بن عبد الله في بصائر الدرجات عن جميل بن صالح عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال ان ابى كان يقول : أي شيء أقر للعين من التقية ان التقية جنة المؤمن (٤)

هذه الروايات بأجمعها دالة على جواز التقية في موارد الخوف لحفظ النفس والاتقاء بها كما يتقي في الحرب عن ضربات العدو بالجنة والترس وأشباههما.

بل قد يستفاد منها الوجوب واللزوم بنحو من العناية فإن الاستتار بالجنة وما أشبههما في موارده واجب فكذلك الاستتار بالتقية في مظانها فتأمل.

ولو أشكل على دلالتها من هذه الناحية لم يكن هناك اشكال من

__________________

(١) الحديث ٤ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل.

(٢) الحديث ٦ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل.

(٣) الحديث ١٢ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل.

(٤) الحديث ٢٤ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل.

٣٩٧

ناحية الدلالة على الجواز بمعناه الأعم.

الطائفة الثانية ـ ما دل على انه لا دين لمن لا تقية له ، ولا ايمان لمن لا تقية له وان تسعة أعشار الدين هي التقية الى غير ذلك مما يدل على انها من الدين نفسه وبدونها يكون ناقصا وهي روايات :

٥ ـ ما رواه الكليني في الكافي بإسناده عن ابى عمر الأعجمي قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أبا عمر! ان تسعة أعشار الدين في التقية ولا دين لمن لا تقية له (الحديث) (١)

٦ ـ ما رواه الصدوق في علل الشرائع عن ابى بصير قال : قال أبو ـ عبد الله عليه‌السلام التقية دين الله عزوجل قلت من دين الله؟! قال فقال : اى والله من دين الله (الحديث) (٢)

٧ ـ ما رواه الصدوق أيضا في صفات الشيعة عن ابان بن عثمان عن الصادق عليه‌السلام انه قال : لا دين لمن لا تقية له ولا ايمان لمن لا ورع له (٣)

٨ ـ ما رواه الكليني عن ابن ابى يعفور عن الصادق عليه‌السلام في حديث : لا ايمان لمن لا تقية له (٤).

الى غير ذلك من الروايات.

وهذه الطائفة دليل على وجوبها إجمالا في مواردها وانه من أهم

__________________

(١) الحديث ٢ من الباب ٢٤ من كتاب الأمر بالمعروف من الوسائل

(٢) الحديث ١٨ من الباب ٢٤ من كتاب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(٣) الحديث ٢٢ من الباب ٢٤ من كتاب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(٤) الحديث ٦ من الباب ٢٤ من كتاب الأمر بالمعروف من الوسائل.

٣٩٨

مسائل الدين وعمدتها في هذه المقامات وسيأتي ان شاء الله علة هذا التأكيد الشديد وسره ، وانه إذا أخذ بحده وشرائطه كان مما يحكم به صريح الوجدان.

الطائفة الثالثة ـ ما دل على انها من أعظم الفرائض وان أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية ، وان الايمان بدونها كجسد لا رأس معه وانه ما شيء أحب الى الله وأوليائه من التقية في مواردها ، وهي روايات :

٩ ـ ما رواه في الكافي عن حبيب بن بشار قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام سمعت ابى يقول : لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب من التقية ، يا حبيب! انه من كان له تقية رفعه الله ، يا حبيب! من لم تكن له تقية وضعه الله ، يا حبيب! ان الناس انما هم في هدنة فلو قد كان ذلك كان هذا (١).

ولعل قوله «فلو قد كان ذلك كان هذا» إشارة إلى انه لو كان هناك تقية كانت الهدنة مستمرة باقية ، أو انه لو رفعت الهدنة وظهر القائم جاز ترك التقية وفي غيره وجبت التقية ، ولو فرض إبهامه لم يضر بدلالة الحديث.

١٠ ـ ما روى في تفسير الامام الحسن بن على العسكري في قوله تعالى (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال قضوا الفرائض كلها بعد التوحيد واعتقاد النبوة والإمامة قال وأعظمهما فرضان : قضاء حقوق الإخوان في الله واستعمال التقية من أعداء الله (٢).

__________________

(١) الحديث ٨ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل.

(٢) الحديث ١ من الباب ٢٨ من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل.

٣٩٩

ومما ينبغي ان يذكر انه روى في هذا الباب (الباب ٢٨ من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من كتاب الوسائل) روايتان عن النبي ورواية عن كل واحد من الأئمة عليهم‌السلام الى الامام الحسن العسكري عليه‌السلام يكون المجموع ثلثة عشر رواية كلها عن تفسير الامام وبوساطته عليه‌السلام رتبه حسب ترتيب الأئمة عليهم‌السلام وكلها تشير الى مطلب واحد وان كان بعبارات مختلفة وتعبيرات شتى ، وهو ما مر في الحديث الأخير : ان من أعظم القربات وأشرف أخلاق الأئمة ، التقية وقضاء حقوق الاخوة وان تركهما من ـ الذنوب التي لا تغفر ، فراجعها وتأملها ، وسنشير الى كل واحد منها في محله المناسب له ، والى سر هذا التأكيد البليغ في الأمرين.

١١ ـ ما في تفسير الامام الحسن العسكري عليه‌السلام أيضا : قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل مؤمن لا تقية له كمثل جسد لا رأس له (١)

١٢ ـ وعنه عليه‌السلام أيضا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام التقية من أفضل أعمال المؤمنين يصون بها نفسه واخوانه عن الفاجرين (٢)

وفي هذا الحديث دليل على انه لا تشرع لحفظ نفسه فقط بل تشرع لحفظ نفوس الاخوان أيضا ، وهل هو فيما إذا كان هناك خوف على نفوس وأشخاص معلومة أو يكفي الخوف على نوع المؤمنين في بعض الأمكنة أو بعض الأحيان وان لم تعرف أشخاصهم ، سيأتي الكلام فيه عند ذكر تنبيهات المسئلة ان شاء الله فليكن على ذكر منك.

١٣ ـ وعنه عليه‌السلام أيضا عن جده على بن الحسين عليه‌السلام يغفر الله للمؤمن

__________________

(١) الحديث ٢ من الباب ٢٨ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(٢) الحديث ٣ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

٤٠٠