القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

أصلا من الأصول العملية إلا بمراجعة أدلة حجيتها وتنقيح مفادها ، وحيث كان العمدة من بينها السيرة المستمرة بين العقلاء فلا بد من تحقيق حال هذه السيرة ومبدئها ، فنقول ومنه عز شأنه التوفيق ـ ان كان منشئها الغلبة الخارجية فتكون القاعدة من الظنون المعتبرة والأمارات العقلائية لا محالة ، وان كان الوجه فيها اقتضاء طبع العمل لذلك وان الفاسد على خلاف طبعه ، حيث ان الفاعل بحسب دواعيه الخارجية لا يتوجه إلا نحو العمل الصحيح عادة فإنه منبع الاثار واليه يرغب الراغبون كما عرفت بيانه وافيا عند ذكر الأدلة ، فهذا أيضا يقتضي كونها من الامارات ؛ اللهم الا ان يقال ان مقتضاها هي الصحة الفاعلية لا الصحة الواقعية فإن الذي يقتضيه طبع العمل بحسب دواعي العاملين هو الصحة عندهم لا الصحة الواقعية التي بنينا عليها الأمر في هذه القاعدة ، ومن هنا يسرى الإشكال إلى أساس هذا الوجه ويسقط بناء هذه السيرة على هذا الأساس.

ولكن يمكن دفع الإشكال بأن مخالفة اعتقاد الفاعل للحامل وان لم يكن نادرا الا ان الأغلب اتفاقهما في موارد الابتلاء كما هو ظاهر لمن تتبعها ، فالوجه في استناد سيرة العقلاء الى اقتضاء طبع العمل هو ملاحظة الغلبة بهذا النحو.

ونظيره من بعض الجهات ما ورد في باب قاعدة الفراغ من التعليل بقوله «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» فان الفاعل إذا كان بحسب الغالب حال اشتغاله بالعمل اذكر فظاهر حاله انه يجرى على وفق دواعيه الى الفعل الصحيح لأنه الذي يوصله إلى أغراضه ، ومن البعيد اقدامه على فعل فاسد ؛ فهو بحسب طبعه الأولي يتوجه نحو العمل الصحيح فالتعليل المذكور هناك يشبه ما أشرنا إليه هنا من اقتضاء طبع العمل للصحة ؛ وان كان الوجه في استقرار السيرة عليه لزوم الحرج واختلال النظام على تقدير عدم حمل فعل الغير على الصحة ، فالظاهر كونها من الأصول العملية التعبدية لأن المفروض عدم ملاك الأمارية فيها على هذا التقدير ، بل لا يبنى عليها الا لبعض مصالح المجتمع.

وحيث قد عرفت ان الأقوى من هذه الوجوه هو الوجه الثاني فالأقوى كونها من الامارات ؛ كما انه ظهر بما ذكرنا اندفاع ما افاده «المحقق النائيني» في

١٤١

توجيه عدم كونها من الامارات من ان ظاهر حال الفاعل جريه على العمل الصحيح باعتقاده لا الصحيح الواقعي الذي هو المقصود في المقام ، وذلك لما أشرنا إليه من تطابق المعنيين في أغلب موارد الابتلاء وان كان اختلافهما أيضا غير نادر في نفسه فملاك الأمارية وهو الكشف الظني عن الواقع موجود فيه.

كما يظهر وجه اندفاع ما اختاره «المحقق الأصفهاني» من القول بالتفصيل بين ما كان منشأ الشك فيه احتمال التعمد أو عروض الغفلة والسهو مع العلم بالحكم فهو من الامارات ؛ وبين ما إذا كان منشأه احتمال الجهل بالحكم ، فهو من الأصول العملية. وذلك لكفاية إيراثه الظن النوعي وكونه كاشفا ظنيا بحسب أغلب موارده في كونه من الامارات وان لم يورث الظن الشخصي في بعض موارده لأمور عرضية. وما ذكره قدس‌سره من دعوى غلبة جهل الفاعلين بصحيح الافعال وفاسدها ممنوعة.

ثمرة هذا النزاع

قد يقال بظهور ثمرة النزاع بين كون هذا الأصل من الامارات أو الأصول العملية في إثبات اللوازم العقلية والعادية ـ كما هو الشأن في غيره من موارد اختلاف الامارات والأصول ـ وقد مثل له بما لو شك في ان الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك ، كالخمر والخنزير ؛ أو بعين من أعيان ماله ، فعلى القول بكونه من الأصول التعبدية يحكم بصحة الشراء وعدم انتقال شيء من تركة المشترى الى البائع وعدم خروج تلك العين من تركته ، لأصالة عدمه ؛ واما على القول بكونه من الامارات فيحكم بمقتضى قاعدة الصحة بانتقال شيء من تركته إلى البائع (هكذا افاده الشيخ الأعظم قدس‌سره).

وحكى «عن العلامة» قدس‌سره في «القواعد» : فيما لو اختلف الموجر والمستأجر ، فقال الموجر : «آجرتك كل شهر بدرهم» وقال المستأجر : بل سنة بدينار ، ففي تقديم قول المستأجر نظر ؛ فان قدمنا قول المالك فالأقوى صحة العقد في الشهر الأول ؛ وكذا الإشكال في تقديم قول المستأجر لو ادعى اجرة مدة

١٤٢

معلومة أو عوضا معينا وأنكر المالك التعيين فيهما ، والأقوى التقديم فيما لم يتضمن دعوى» انتهى.

ولا يخفى ان ما قواه أخيرا من تقديم قول المستأجر المدعى لصحة الإجارة في المقامين إذا لم يتضمن دعوى وعدم قبوله فيما يتضمن ذلك ، ظاهر في عدم إثبات القاعدة لما يترتب على الصحة من اللوازم العقلية ، فإن الحكم بصحة الإجارة في الفرض الأول لا يقتضي شرعا كونها سنة بدينار بل هو من اللوازم العقلية لمفروض البحث. كما ان الصحة في الفرض الثاني لا تقتضي وقوعها على مدة معينة أو عوض معين وانما يلزمها لما علمناه من الخارج من كيفية مورد تنازعهما.

والتحقيق ـ كما ذكرناه في محله ان ما هو المعروف من ان مجرد كون شيء من الامارات المعتبرة يوجب ترتب جميع الاثار الشرعية الثابتة لمورده عليه ولو كانت بوسائط عقلية أو عادية ـ أياما كان ـ مما لا أصل له ، وان اشتهر بين الأصوليين في العصور الأخيرة. بل الحق انه تابع لدليل حجيتها بحسب اختلاف الغايات المقامات ـ والمقامات في ذلك مختلفة جدا ـ حتى ان «البينة» التي لا اشكال عندهم في كونها من الامارات الشرعية لا يمكن الحكم بترتب جميع لوازمها العقلية عليها وان صرح به غير واحد.

أترى انه لو علمنا من الخارج بان هذا المائع المعلوم لو كان نجسا لكان خمرا ثمَّ قامت البينة على نجاسته ؛ فهل يحكم بكونه خمرا ويجرى عليه جميع ما للخمر من الاثار لا نظن أحدا يلتزم به في عمله وان لهج به لسانه أحيانا عند البحث ، وليس ذلك إلا لأن اعتبار هذه اللوازم مقصورة على ما يفهم من إطلاق أدلة حجيتها

فمفاد قاعدة «اليد» مثلا لو قلنا بحجيتها من باب الامارات ليس إلا إثبات الملكية وأحكامها ولوازمها واما الاحكام التي تثبت لموردها لا من جهة الملكية فلا يمكن الحكم بثبوتها ، فلو علمنا إجمالا ان المائع الفلاني إما خمر أو ماء مطلق ثمَّ دلت اليد على انه «ملك» فلا يمكن الحكم بكونه ماء مطلقا بحيث

١٤٣

يجرى عليه احكامه من الطهارة الحدثية والخبثية. والحاصل ان مفاد قاعدة اليد ثبوت الملكية لصاحبها ويترتب على موردها ما للملك من الأثر ؛ ولا يبعد إثبات بعض لوازمها من «الشهادة» التي نطق به بعض الاخبار ، الدالة على جواز الشهادة على الملك بمجرد اليد ؛ ولكن لا يترتب عليه جميع ماله من اللوازم والاثار العقلية والعادية وان كانت غير مرتبطة بعنوان الملكية.

وكذلك قاعدة «الفراغ» ان قلنا بأنها من الامارات ؛ فإن غاية ما يستفاد منها صحة العمل المفروغ عنه وترتب آثاره عليه من فراغ الذمة وما يترتب عليه من الاحكام لا كل ما يلازمه عقلا وعادة ولو من جهات أخر ، مثل كون المصلى على وضوء فعلا لو كان منشأ الشك في صحة الصلاة الصادرة منه كونه على وضوء حالها ؛ فلذا حكموا بوجوب تحصيل الطهارة عليه للأعمال المستقبلة.

ومن هذا القبيل أصالة الصحة في فعل الغير فان مفادها ، ولو على القول باماريتها ، كون الفعل صحيحا ويترتب عليه جميع أحكام الصحة ولو كانت بوسائط عقلية أو عادية واما ما يترتب على لوازمها وملزوماتها من الاحكام التي لم تؤخذ في موضوعها الصحة والفساد فلا يمكن إثباتها بهذه القاعدة.

ففي الفرع الأول من الفرعين اللذين سبق ذكرهما صحة الشراء وان كان واقعا مستلزما لانتقال شيء من تركة المشترى الى البائع الا ان ذلك ليس من أحكام صحة الشراء بما هي هي فإن أثرها هو انتقال الثمن إلى البائع أياما كان ، واما ان هذا الثمن الشخصي كان عينا من الأعيان المملوكة وانها كانت في أمواله التي تركها للورثة فهو شيء آخر علمناه من الخارج ، لا انه من آثار الصحة ولو بالواسطة.

هذا بالنسبة إلى جريان أصالة الصحة في هذا الفرع واما ما قد يقال من انا نعلم هنا إجمالا بأن المشترى اما لم يملك المثمن واما انتقل شيء من تركته إلى البائع ، فالحكم بملكيته للمثمن وانتقال جميع تركته الى الوراث أمر مقطوع البطلان ، فهو حق ولكن لا دخل له بقاعدة الصحة وأحكامها وان كان دخيلا في

١٤٤

استنباط حكم هذه المسألة.

ومن هنا يظهر الحال في «الفرع الثاني» المحكى عن «القواعد» وهو ما إذا اختلف المالك والمستأجر في المدة أو العوض : فادعى المستأجر مدة معلومة أو عوضا معينا وأنكره المالك ، فإن أصالة الصحة تقتضي تقديم قول المستأجر وعدم قبول قول المالك المدعى للفساد إلا ببينة ويترتب على صحة الإجارة مالها من الاحكام ولو بوسائط عقلية أو عادية ، واما ان مدة الإجارة وعوضها ما ذا؟ فهذا أمر لا يمكن إثباته بمجرد الحكم بالصحة ؛ حتى إذا علمنا من الخارج بأنها لو كانت صحيحة لكانت على هذا العوض المعلوم أو بهذه المدة المعلومة ، فإن صحة الإجارة من حيث هي لا تتوقف على مدة خاصة أو عوض كذلك بل هي أعم منه. ولقد أجاد العلامة قدس‌سره فيما أفاده أخيرا «من تقديم قول المستأجر فيما لم يتضمن دعوى». واما حكم هذه المسألة من حيث صحة الإجارة في الشهر الأول ـ إذا اختلفا وقال الموجر آجرتك كل شهر بدرهم وقال المستأجر بل سنة بدينار ـ أو عدم صحتها فله مقام آخر لا دخل له بما نحن بصدده من فروع أصالة الصحة وموعدنا فيه كتاب الإجارة.

التنبيه السابع

في تقديم قاعدة الصحة على أصالة الفساد والأصول الموضوعية

لا إشكال في تقدم القاعدة على «أصالة الفساد» في المعاملات ؛ و «أصالة الاشتغال» في العبادات ، اما على المختار من حجيتها على نحو سائر الأمارات المعتبرة فواضح ، واما على القول بكونها أصلا عمليا فللزوم لغويتها رأسا على تقدير عدم تقدمها عليهما ، فإنه ما من مورد يجرى فيه قاعدة الصحة الا وهناك أصالة الفساد (ان كان معاملة) أو أصالة بقاء شغل الذمة (ان كان عبادة) كما هو ظاهر لا يخفى.

١٤٥

مضافا الى ما قد يقال من : ان أصالة الصحة بالنسبة إليهما من قبيل الأصول السببية فإن الشك في بقاء شغل الذمة في العبادات ، أو حصول آثار المعاملات من النقل والانتقال وغيرها ، مسبب عن صحة العمل العبادي أو العقد الصادر من عاقده ، هذا حالها بالنسبة إلى «أصالة الفساد».

واما بالنسبة إلى «الأصول الموضوعية» الجارية في موارد قاعدة الصحة فلا إشكال في تقدم القاعدة عليها أيضا ، اما بناء على كونها من الامارات المعتبرة فظاهر ؛ واما بناء على عدها من الأصول العملية فلما عرفت في أصالة الفساد من لزوم اللغوية ، فإنه قلما يوجد مورد يجرى فيه أصالة الصحة الا ويوجد هناك أصول موضوعية على خلافها ؛ مثلا إذا شك في صحة العبادة من جهة الشك في الطهارة أو الاستقبال أو غيرهما فأصالة عدم هذه الأمور تدل على فسادها كما انه إذا شك في صحة عقد من العقود ، من جهة الشك في معلومية العوضين أو الإنشاء الصحيح أو القدرة على التسليم أو غير ذلك ؛ فأصالة عدم هذه الأمور تقتضي فساده ؛ لان علم المتعاقدين وقدرتهما وصدور الإنشاء الصحيح منهما كلها أمور حادثة ، مسبوقة بالعدم ؛ فاذن لا يبقى لأصالة الصحة إلا موارد طفيفة.

لا يقال : ان شرائط المتعاقدين أو العوضين ليست دائما من الأمور الوجودية المسبوقة بالعدم ؛ فإن منشأ الشك قد يكون من ناحية زوال قدرة المتعاقدين أو علمهما بعد القطع بوجوده ، ومثل هذا كثير جدا ؛ فاذن لا يبقى مجال للقول بلزوم اللغوية على فرض تقديم الأصول الموضوعية عليها.

لأنا نقول : ان ما لا يكون مسبوقا بالعدم فالغالب معلومية سبق وجودها ، كما إذا شك في بقاء المتعاقدين أو العوضين على ما كانا عليه من شرائط الصحة ومن الواضح ان اعتبار أصالة الصحة في هذه المقامات أيضا لغو للاستغناء عنها بالأصول الوجودية الجارية في مجراها فتدبر. واما الموارد التي لا يعلم حالها من الوجود والعدم فقليلة جدا ، لا يمكن تنزيل القاعدة عليها.

١٤٦

التنبيه الثامن

في مستثنيات هذه القاعدة

يستثنى من عموم قاعدة الصحة صورتان :

الاولى : ما إذا كان العمل بحسب طبيعته مبنيا على الفساد ، بحيث يكون الصحة فيه امرا استثنائيا على خلاف طبعه ؛ كبيع الوقف فإنه بمقتضى طبعه فاسد ، لأنه لا يباع ولا يورث وانما يجوز بيعه لأمور خاصة عارضة أحيانا تقتضي الجري على خلاف مقتضى طبيعته ، كالخلف بين أربابه ، وأدائه إلى الخراب ، على ما فصلوه في كتاب الوقف. وكذلك بيع العين المرهونة فإن طبعه الأولي يقتضي الفساد وصحته انما يكون بإذن من المرتهن ، وأمثلته في أبواب العبادات أيضا كثيرة كالصلاة في النجس المعلوم ، فإنها فاسدة إلا في موارد الضرورة لبرد أو نحوه.

ففي هذه المقامات وأمثالها لو شك في صحة العقد أو العبادات الصادرة من الغير لا يجوز الحكم بصحتها بمقتضى هذه القاعدة بل لا بد من اقامة دليل آخر عليها ؛ وذلك لما عرفت غير مرة من ان عمدة أدلتها هي السيرة المستمرة بين العقلاء ، وهي غير جارية في هذه المقامات كما لا يخفى على من تتبع مواردها.

وللمحقق اليزدي (قده) في المجلد الأول من ملحقات العروة كلام لا يخلو إيراده عن الفائدة في المقام ، وإليك نص عبارته قال في المسألة (٦٣) من كتاب الوقف : «إذا باع الموقوف عليه أو الناظر ، العين الموقوفة ولم يعلم ان بيعه كان مع وجود المسوغ أو لا ؛ فالظاهر عدم جريان «قاعدة الحمل على الصحة» فلو لم يثبت المسوغ يجوز للبطون اللاحقة الانتزاع من يدي المشتري ؛ فهو كما

١٤٧

لو باع شخص مال غيره مع عدم كونه في يده ولم يعلم كونه وكيلا عن ذلك الغير ، فإنه لا يصح ترتيب اثر البيع عليه ، ودعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوغ لا تكفي في الحكم بصحة الشراء ولا يجوز مع عدم العلم به الشراء منهما.

ودعوى الكفاية من حيث كونهما من «ذي اليد» الذي قوله مسموع بالنسبة الى ما في يده ، ولذا إذا رأينا شيئا في يد الدلال المدعى للوكالة عن صاحبه في بيعه جاز لنا الشراء منه مدفوعة ، بأن يد مدعى الوكالة يد مستقلة وامارة على السلطنة على التصرف فيه ، بخلاف يد الموقوف عليه مع اعترافه بان ما في يده وقف ، فإنها ليست يدا مستقلة لأنها في الحقيقة يد الوقف ، المفروض عدم جواز بيعه ؛ فيد الموقوف عليه والناظر انما تنفع في كيفية التصرفات التي هي مقتضى الوقف لا في مثل البيع الذي هو مناف ومبطل له ؛ فهي نظير يد الودعي التي لا تنفع إلا في الحفظ لا في البيع ، فاذا ادعى الوكالة بعد هذا في البيع احتاج الى الإثبات ؛ وان يد الامانة صارت يد وكالة والا فالأصل بقائها على ما كانت عليه» انتهى.

أقول : اما ما افاده قدس الله سره من عدم جريان قاعدة الصحة هنا فهو صحيح متين ووجهه ما ذكرناه.

واما عدم جواز الاعتماد على دعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوغ ؛ من باب قبول دعوى صاحب اليد ، ففيه أن المتصدي لبيع الوقف ـ على ما صرح به في كتاب البيع ـ هو البطن الموجود من الموقوف عليهم بضميمة الحاكم ولاية عن سائر البطون ، أو خصوص الناظر عليه. قال شيخنا الأعظم في «المكاسب» : «أن المتولي للبيع هو البطن الموجود بضميمة الحاكم القيم من قبل سائر البطون ، ويحتمل ان يكون هذا الى الناظر ان كان ، لأنه المنصوب لمعظم الأمور الراجعة إلى الوقف ، الا ان يقال بعدم انصراف وظيفته المجعولة من قبل الواقف الى التصرف في نفس العين» انتهى.

وكيف كان ، المتولي لبيع الوقف اما هو الموقوف عليه مع الحاكم أو

١٤٨

الناظر ؛ فيد هما قبل عروض المسوغات يد التصرف في منافع الوقف بصرفها في مصارفها ، وفي عينه بالإصلاح والتدبير ، واما بعد عروض المسوغ فيدهما يد البيع وابدال العين الموقوفة أو صرف قيمتها في مصارف خاصة ؛ على تفصيل ذكروه في أبواب بيع الوقف.

والحاصل ان الموقوف عليه والناظر تختلف يدهما باختلاف الظروف ، ففي ظرف عدم وجود المسوغ يدهما ليست يدا مستقلة ، واما في ظرف وجود المسوغ يد مستقلة يجوز لها البيع ؛ وان شئت قلت : ان يدهما يد مستقلة في كل حال ولكن تصرفاتهما في العين الموقوفة ببيعها مشروطة بشرائط معينة ؛ ونظيره في ذلك يد الولي فإنها يد مستقلة في أموال المولى عليه ولكن تصرفاته فيها منوطة بوجود المصلحة فيها أو عدم المفسدة ، على خلاف فيها.

وحينئذ لا يبعد جواز الركون الى دعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوغ في بيعها كما يجوز الاعتماد على دعوى الولي وجوده في بيع مال المولى عليه بلا اشكال.

اللهم الا ان يقال ان وجود المسوغ في بيع الوقف أمر نادر اتفاقي ، بخلاف وجود المصلحة في بيع مال المولى عليه فإنه شائع ذائع ، وهذا هو الفارق بين المقامين ، فالمتولي لبيع الوقف المدعى لوجود المسوغ متهم في دعواه وان كان ذا اليد بالنسبة إلى العين الموقوفة فلا يسمع دعواه بخلاف الولي ، وهو قريب جدا. فهذا هو السر في عدم سماع دعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوغ في بيع العين الموقوفة لا ما ذكره «قده».

اما ما افاده من عدم سماع قول الودعي إذا ادعى الوكالة في بيع الوديعة وانه محتاج إلى إثبات انقلاب يد الأمانة إلى يد الوكالة ، فهو عجيب ، فإنه لا ينبغي الشك في سماع دعواه ضرورة انه إذا رأينا مالا في يد زيد ثمَّ رأيناها بعد ذلك في يد عمرو يدعي الوكالة عن زيد في بيعها فلا شك في قبول دعواه فيه ؛ فهل يد الودعي هنا اسوء حالا من عدم اليد على المال بالمرة. وبالجملة انقلاب اليد أمر شائع يقبل قول مدعيه إذا لم يكن متهما. مثلا إذا ادعى أحد الوكالة عن غيره في بيع

١٤٩

ماله ثمَّ ادعى بعد يوم انه اشتراه بنفسه عن مالكه أو وهبه إياه فلا شك في قبول قوله ؛ وانقلاب يد الوكالة يد الملك ، وكذا إذا رأينا أحدا يسكن دارا يدعى انه استأجره ، ثمَّ رأيناه يدعى انه اشتراه من مالكه ولم يكن متهما ، فلا ريب في قبول قوله وانقلاب يد الاستيجار يد الملك وأمثلته كثيرة جدا.

الثانية : إذا كان الفاعل متهما في فعله ، فإنه يشكل حمل فعله على الصحيح ، والمراد من الاتهام وجود قرائن ظنية خارجية توجب الظن بالفساد عادة لمن اطلع عليها لا كل ظن شخصي ؛ من اى واد حصل.

وذلك كما إذا ادعى من كان وكيلا في شراء أموال كثيرة تحتاج الى الكيل أو الوزن انه اشتراها مراعيا لجميع شروط الصحة فيها من الكيل والوزن اللازمين وغيرهما ، في وقت لا يسعه عادة ، فإنه وان كانت مراعاة تلك الشروط ممكنة في حد ذاتها على خلاف العادة الا ان العادة تقضى بخلافها ، وهذه قرينة ظنية توجب سوء الظن بدعواه واتهامه فيما يقول لغالب الناس. وكذا إذا ادعى الأجير في الصلاة وغيرها انه اتى بصلوات كثيرة مراعيا لجميع اجزائها وشرائطها من الطهارة والموالاة وغيرهما في وقت لا يسعها عادة ، الى غير ذلك من الأمثلة. والركون الى القاعدة في تصحيح هذه الافعال عند الشك في صحتها مشكل جدا.

والوجه فيه ما عرفت نظيره في الصورة السابقة من قصور أدلة حجيتها ـ وعمدتها السيرة المستمرة بين العقلاء ـ عن شمول هذه الموارد كما هو ظاهر لمن تتبعها. ولا أقل من الشك وهو كاف في الحكم بعدمها في أمثال المقام.

هذا ويمكن القول برجوع الصورة الأولى إليها أيضا ، فإن بيع الوقف بدعوى وجود المسوغ وأمثاله من مظان التهمة غالبا ويكون مدعيه متهما فيما يدعيه فتدبر.

١٥٠

التنبيه التاسع

هل القاعدة تجري في أفعال المكلف نفسه؟

ظاهر كثير من عناوين كلمات القوم اختصاص قاعدة الصحة بأفعال الغير ، بل ظاهر بعضها اختصاصها بأفعال المسلمين فحسب. لكن قد عرفت في صدر البحث انه لا فرق في هذا بين المسلم وغيره أصلا ، بعد ما كان مدركه بناء العقلاء عليه وسيرتهم المستمرة في أمورهم ، لا يفرقون في ذلك بين اتباع المذاهب المختلفة والمليين وغيرهم وقد أمضاها ـ على هذا الوجه الشارع المقدس ولم يردع عنها ، ولا يزال المسلمون يعملون مع المعاملات الصادرة عن أهل الذمة معاملة الصحيح ، مع ما فيها من احتمال الفساد ولو على مذهبهم ، وليس هذا الا لعمومية القاعدة وعدم اختصاصها بالمسلمين.

نعم في الموارد التي لا يتمشى الفعل الصحيح من غير المسلم أو يعلم علما تفصيليا باختلاف عقيدتهم مع ما عليه المسلمون من الاحكام ولا يكون بينهما جامع ، لا يمكن حمل فعلهم على الصحيح ، ولكنك عرفت في التنبيه الأول جريان هذا المعنى في حق المسلمين أيضا إذا اختلفوا في الآراء الفقهية ولم يجمعهم جامع ، على ما فصلناه هناك فراجع ، فليس هذا أيضا مقصورا على غير المسلمين.

واما تخصيص القاعدة بأفعال الغير فهو وان كان ظاهر عناوينهم وكلماتهم في مقامات مختلفة ؛ بل وظاهر غير واحد من أدلتهم (كالآيات والاخبار التي استدلوا بها هنا) بل وقع التصريح به في كلمات بعضهم كالمحقق النائيني «قده» حيث انه صرح في صدر كلامه في المسألة بأنه : «لا ريب في اختصاصها بفعل الغير واما بالنسبة إلى فعل نفس الشخص فالمتبع فيه هو «قاعدة الفراغ» فليس هناك أصل آخر يسمى بأصالة الصحة غير تلك القاعدة» انتهى.

والحق انه لو قلنا بعموم «قاعدة الفراغ» وشمولها لجميع الافعال من العبادات

١٥١

وغيرها من غير فرق بين الصلاة والصيام والبيع والشراء والنكاح والعتق وتطهير الثياب ودفن الموتى الى غيرها من الأفعال التي يتصور فيها الصحة والفساد ؛ فلا يبقى مجال للنزاع في شمول هذه القاعدة لأفعال نفس المكلف للاستغناء عنها بقاعدة الفراغ ؛ واما إذا قلنا باختصاصها بالعبادات وما يرتبط بها ، فالظاهر جواز الاستناد إلى قاعدة الصحة في موارد الشك في صحة أفعال النفس من ناحية الإخلال ببعض اجزائها وشرائطها أو وجود بعض موانعها.

والدليل على جريانها في المقام هو الدليل على جريانها في غير المقام ـ من أفعال الغير ـ وقد عرفت ان عمدة الدليل عليها هناك هي السيرة المستمرة بين العقلاء ، فانا إذا تتبعنا حالهم نجدهم عاملين بها في أفعال أنفسهم ، فهل ترى احد من العقلاء يتوقف عن الحكم بآثار ما صدرت منه من العقود والإيقاعات في الأزمنة السالفة إذا شك في صحتها من بعض الجهات ولم يجد عليها دليلا؟ كلا. بل لا يزالون يعاملون مع ما صدر منهم في الأزمنة البعيدة والقريبة معاملة الصحة ويرتبون آثارها عليها ولا يمسكون عن ذلك بمجرد الشك ولا يمنعهم عن ذلك شيء إلا إذا وجدوا على الفساد دليلا.

والسر فيه ان العلة التي دعتهم الى هذه السيرة هناك موجودة بعينها هنا ، وكل ما كان ملاكا لها في أفعال الغير موجود في أفعال النفس ، وذلك لما عرفت من ان العلة الباعثة الى هذا البناء لا يخلو عن أمور ثلاث : الغلبة الخارجية المورثة للظن واقتضاء طبع العمل للصحة من جهة جرى الفاعل بحسب دواعيه الخارجية نحو الفعل الصحيح ، والعسر والحرج أو اختلال النظام الحاصلان من ترك مراعاة هذه القاعدة. ومن الواضح انها جارية بالنسبة إلى أفعال النفس كجريها في ناحية أفعال الغير ؛ بل لعل جريانها هنا أسهل منه في أفعال الغير فإن الإشكال الحاصل من جهة اختلاف «الصحة عند الفاعل» مع «الصحة عند العامل» هناك ، غير موجود هنا ، لان الحامل هنا هو الفاعل بعينه.

١٥٢

التنبيه العاشر

أصالة الصحة في الأقوال والاعتقادات

هل القاعدة مختصة بالأفعال الصادرة من الغير أو تشمل أقواله واعتقاداته أيضا؟

والحق انه ان كان المراد من الصحة في باب الأقوال مطابقة مداليلها للواقع فحملها على الصحة بهذا المعنى عبارة أخرى عن حجيتها ، والمتكفل له مبحث حجية خبر الواحد ، ومن المعلوم عدم حجية خبر كل مخبر بل هو مشروط بشرائط مذكورة في محلها ، على اختلاف المذاهب في ذلك.

وان كان المراد صحتها بما انها أفعال صادرة عن المتكلمين بها وكان لها آثار شرعية بهذا الاعتبار كما إذا شك في صحة القراءة والأذكار الصلوتية الصادرة من الامام أو الأجير ؛ فإنها وان كانت من سنخ الأقوال ولها معان معلومة ؛ الا انها باعتبار ألفاظها الصادرة عن المكلف جزء للصلاة ، فهي من هذه الجهة فعل من أفعاله يترتب على صحيحها آثار خاصة ؛ ولا شك في أنها بهذا الاعتبار تشملها أدلة حجية القاعدة فتجري فيها ويترتب عليها آثارها. هذا ملخص الكلام في «الأقوال».

واما «الاعتقادات» فتارة يكون البحث فيها عن الاعتقادات المتعلقة بالموضوعات الخارجية ، واخرى فيما يتعلق بالأحكام الفرعية ، وثالثة فيما يتعلق بأصول الدين.

اما الأول فكما إذا اعتقد إنسان ان هذا الماء الخاص بلغ قدر كر ، وشككنا في صحة اعتقاده ذلك ، لاحتمال خطائه عند تقديره بالأشبار أو الوزن ، فان كان لاعتقاده ذلك آثار عملية خارجية كما إذا غسل ثوبا بذاك الماء المشكوك كريته عندنا ، فلا ينبغي الإشكال في لزوم حمل اعتقاده على الصحة وترتيب آثار الطهارة على الثوب المغسول به ، بل هو في الحقيقة من مصاديق حمل فعل الغير على الصحة وان كان منشأ الشك في صحته هو احتمال خطائه في اعتقاده ، ففي المثال

١٥٣

المذكور فعل الغير وهو الغسل محمول على الغسل الصحيح وان كان منشأ الشك فيه الشك في صحة اعتقاده كون الماء المغسول به كرا.

ومن المعلوم ان أدلة حمل أفعال الغير على الصحيح مطلقة من جهة منشأ الشك ، ولا فرق بين كونه من جهة احتمال غفلة الفاعل وسهوه أو تعمده في الجري على خلاف معتقده ؛ أو اعتقاد فاسد بنى عليه في عمله وهذا أمر ظاهر لا سترة عليه.

واما الثاني وهو الاعتقاد المتعلق بالأحكام الفرعية ، فإن كان المراد من حمله على الصحة الحكم بمطابقته للواقع ؛ فيجوز اتباعه والجري على وفقه ، فهو راجع الى حجية رأى الغير وجواز تقليده في الأحكام الفرعية ، والمتبع فيه أدلة حجية قول المجتهد للعامي بماله من الشرائط والقيود ، وان كان المراد منه ترتيب آثاره العملية عليه إذا عمل بما اعتقده من الاحكام كما إذا كان اماما وشك في صحة صلوته وكان منشأ الشك فيها احتمال خطائه في بعض أحكامها ومخالفتها لما حصله اجتهادا أو تقليدا ، فلا شك ان اللازم هنا أيضا هو حمل اعتقاده على الصحيح وتترتب عليه هذه الاثار ، فيجوز الايتمام به كما يجوز استيجاره ، ويكتفى بإعماله في أداء الواجبات الكفائية. بل هو في الواقع من باب حمل فعل الغير على الصحة وان كان منشأ الشك فيها خطائه في اعتقاده.

والوجه فيه ما عرفت من عدم الفرق في حجية هذه القاعدة بين كون منشأ الشك في صحة فعل الغير خطائه في تشخيص المصاديق الخارجية ؛ أو خطائه في استنباط الاحكام من أدلتها الشرعية ، أو غير ذلك مما لا يرجع الى خطائه في الاعتقاد.

واما الثالث اعنى الاعتقاد المتعلق بأصول الدين فان كان هناك أثر عملي يترتب على الاعتقاد الصحيح كما إذا كان هناك ذبيحة نشك في تذكيتها من جهة الشك في صحة عقائد ذابحها ؛ فان كان مدعيا للإسلام إجمالا فاللازم حمل اعتقاده على الصحة ،

١٥٤

وترتيب جميع آثار الإسلام عليه وان شك في صحة عقائده ، ولا يجب الفحص عن تفاصيل معتقده في ناحية المبدء والمعاد وغيرهما ، والدليل عليه هو ما مر في القسم السابق بعينه من إطلاق أدلة حجية هذه القاعدة وشمولها لجميع موارد الشك في صحة فعل الغير من اى واد حصل ومن أي منشأ نشأ ؛ فاذا شك في صحة فعله من جهة الشك في صحة اعتقاد فاعله في الموارد التي يكون الاعتقاد الصحيح دخيلا في صحة العمل فاللازم حمله على الصحة بعد ان كان صاحبها متظاهرا بالايمان ومدعيا للإسلام إجمالا ولم يعلم خطائه.

بل لا يبعد جواز الحكم بإسلام كل من شك في إسلامه وان لم يدع الإسلام إذا كان في دار الايمان ، والوجه فيه استقرار سيرة المسلمين على إجراء أحكام الإسلام ، في المناكح والذبائح والطهارة وغيرها ، على كل من كان في بلاد الإسلام من دون فحص عن مذهبه ؛ حتى يقوم دليل على فساده.

هذا آخر ما أردنا تحريره من تنبيهات هذه القاعدة الشريفة ، النافعة في جل أبواب الفقه أو كلها حينما أجملها كثير منهم ، وبه نختم البحث عنها حامد الله ومسلما ومصليا على نبيه وآله الخيرة الكرام. اللهم ما بنا من نعمة فمنك ، فلا تسلبنا صالح ما أنعمت به عليها وزدنا من فضلك ومواهبك.

وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة الأربعاء لست خلون من رجب المرجب من سنة ١٣٨٢.

١٥٥
١٥٦

٣ ـ قاعدة لا حرج

١٥٧
١٥٨

قد اشتهر بين الأصحاب ـ لا سيما المتأخرين منهم ـ الاستدلال بهذه القاعدة في كثير من الموارد ؛ لنفى كثير من التكاليف التي تستلزم العسر والحرج ، يتراءى هذا منهم في غير واحد من أبواب العبادات ، مثل أبواب الوضوء والغسل والتيمم والصلاة والصيام وغيرها ، ولم أر من تعرض لها مستقلا وأفرد لها بحثا يختص بها ، غير «العلامة النراقي» في عوائده حيث أفرد لها «عائدة» وبحث عنها بحثا بين الاجمال والتفصيل.

ولكن موقف القاعدة من الفقه وشدة ابتلاء الفقيه بها في كثير من أبوابه توجب البحث عنها وعن مداركها وفروعها في جميع جوانبها ونواحيها ؛ بما يعطى الفقيه بصيرة ومعرفة بحال الفروع الكثيرة المبنية عليها ، وقد بلغ عدم الاعتناء بشأن هذه القاعدة المهمة وما يليق بها من البحث حدا أوجب الترديد في أصلها فضلا عن الفروع المتفرعة عليها ؛ وقد رأيت من ينكر وجود مدرك صحيح للقاعدة فيما بأيدينا من الأدلة ، مع ما ستعرف من وفور مداركها وكثرة أدلتها.

ولهذا ولغيره من المزايا التي تشتمل عليها هذه القاعدة ـ ولا سيما سعة دائرتها وشمولها لجل أبواب الفقه كما ستعرف ـ كان اللازم تقديم البحث عنها على غيرها من القواعد التي نبحث عنها فيما يلي إنشاء الله ، فنقول ـ ومنه سبحانه نستمد التوفيق والهداية ـ ان البحث عنها يقع في مقامات ثلثة :

الأول ـ في مداركها التي ظفر نابها.

الثاني ـ في مفادها ومغزاها ونسبتها مع غيرها من الأدلة.

١٥٩

الثالث ـ فيما يتعلق بها من التنبيهات.

وقبل الشروع في هذه لا بد لنا من إيضاح محل البحث وما نروم إثباته.

الحرج على أنواع

ان العسر والحرج في الأفعال يكون على أقسام ، فتارة يبلغ حدا لا يطيق المكلف تحمله.

واخرى ، يكون ما دون ذلك ولكن تحمله يوجب اختلال النظام.

وثالثة ؛ لا يبلغ ذا ولا ذاك ؛ ولكن يستلزم الضرر في الأموال أو الأنفس أو الاعراض

ورابعة ، لا يوجب شيئا من ذلك بل يكون فيه مجرد المشقة والضيق.

اما الأول أعني التكاليف الحرجية البالغة حد ما لا يطاق فلا إشكال في خروجه عن محل البحث وقد عقدوا له بحثا آخر في الكتب الكلامية وبعض الكتب الأصولية ، واختلفوا في جوازه واستحالته ، بعد اتفاقهم على عدم وقوعه في الشريعة الغراء ، ولكن الظاهر ان القول بجوازه وإمكانه من الفروع الفاسدة المنشعبة عن شجرة خبيثة ، وهي إنكار الحسن والقبح العقليين المعروف بين قدماء الأشاعرة ، وعلى كل حال فهو خارج عن نطاق البحث هنا.

ومن هنا تعرف النظر في كثير من كلمات العلامة النراقي (قده) في عوائده حيث ذكر كثيرا من الأدلة النقلية والعقلية الدالة على بطلان التكليف بما لا يطاق في عداد أدلة القاعدة ، وان اعترف بأنها تختص بقسم خاص من الحرجيات وانها أخص من المدعى ولا تقوم بإثبات جميعها. ولكن الإنصاف انها خارجة رأسا عن حيطة القاعدة المعروفة المتداولة بين القوم. بل لا يعبرون بالحرج الا عن التكاليف الممكنة المشتملة على الضيق والشدة واما التكاليف غير المقدورة فيعبرون عنها بما لا يطاق ولا كلام لأحد من أصحابنا في بطلانها.

واما الثاني فهو أيضا كسابقة خارج عن محل الكلام في هذه القاعدة المشهورة ، لانصراف كلماتهم وعبائرهم عنه ، لان قبح التكاليف الموجبة لاختلال النظام مما

١٦٠