القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

واما الوضوء لو قلنا بكونه شرطا بعينه (لا الطهارة الحاصلة منه) فالشرط في مورده حقيقة هو تأخر الصلاة عنه ، وهو صفة لا حقة للصلاة ، والا فالعمل المستقل المأتي به قبلا أو بعدا إذا لم ينتزع منه عنوان «التعقب» أو «اللحوق» أو مثلهما الذي يكون من الأوصاف المقارنة للمشروط لا معنى لكونه شرطا.

هذا ولكن الشرط من ناحية استقلال منشأ انتزاع في الوجود ، وعدم استقلاله ، على أقسام :

أحدهما ـ ما يستقل في الوجود ولا يمكن تحصيلها لمجموع المشروط الا قبله ، كالطهارة ، فان تحصيلها لمجموع الصلاة لا يكون إلا قبلها ثانيها ـ ما يستقل في وجوده ، ولكن يمكن تحصيله في الأثناء لكل جزء ، كالاستقبال والستر وغيرهما.

ثالثها ـ ما لا يستقل في وجوده ، كالموالاة ، فإنها أمر ينتزع من نسبة خاصة بين أجزاء الصلاة ، وليست كالطهارة أو الاستقبال حتى يمكن تحصيلها ولو بدون الصلاة.

ففي جميع هذه الأقسام إذا كان الشك بعد الفراغ عن المشروط بتمامه ، كما إذا شك بعد التسليم في شيء منها فلا إشكال في جريان ، القاعدة فيها والحكم بصحتها ، لشمول إطلاقات الأدلة لها على جميع المباني ، نعم يجب تحصيل الشرط المشكوك للأعمال الآتية لما أشرنا إليه في الأمر الرابع فراجع.

واما إذا كان الشك في أثنائها فقد يقال بأنه لا إشكال أيضا في جريان القاعدة في القسم الأول ، لأن المفروض عدم إمكان تحصيله الا قبل العمل ، فهو أمر قد تجاوز عنه ودخل في غيره.

وهذا انما يتم إذا قلنا بشرطية نفس الوضوء مثلا ، وقد عرفت ما فيه من الاشكال ، واما إذا قلنا بشرطية الطهارة الحاصلة منها فاجرائها فيه مشكل ، والوجه فيه ان مجرد عدم إمكان تحصيله إلا قبل العمل لا دخل له فيما نحن بصدده ، لأن المأمور به هو الحالة الحاصلة منه ، المقارنة للعمل ، وما يؤتى به قبله فهو من قبيل المقدمة له ، ومجرد ذلك لا يوجب

٢٦١

صدق المضي والتجاوز عنه الا بالمسامحة ، فإجراء القاعدة في هذا القسم مشكل جدا.

واما القسم الثاني فلا يبعد جريان القاعدة فيه بالنسبة الى الاجزاء السابقة ، مع وجوب تحصيله للاجزاء الآتية ، فلو شك في أثناء صلوته في استقبال القبلة في بعض الركعات السابقة ، وهو مستقبل القبلة لما فيه من الركعة ، أمكن الحكم بصحة صلوته ودخل في قوله : «كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» وقد عرفت عدم الفرق بين المركب واجزائه في ذلك.

هذا ولكن قد يستشكل عليه تارة : بأن شرطية الاستقبال وشبهه أمر «وحداني» بالنسبة إلى مجموع الصلاة ومحله هو المجموع ، فما دام المصلى مشتغلا بالصلاة محله باق ولم يتجاوز عنه.

وفيه ـ ان مثل هذا الشرط وان كان امرا واحدا في مجموع الصلاة ، الا انه ينحل بالنسبة الى كل جزء من اجزاء الصلاة ، وكان داخلا تحت عنوان «الشيء» الوارد في الاخبار

هذا مضافا الى ان الاشكال انما يتوجه لو أريد اجزاء القاعدة بالنسبة إلى نفس الشرط ، واما إذا لوحظت بالنسبة إلى نفس الاجزاء المشروطة به ، فلا وجه للإشكال فيها أصلا.

واخرى بأن الشرائط لا محل لها حتى يصدق التجاوز عنها ، فإنها من قبيل الكيفيات والحالات العارضة للاجزاء ، فالتجاوز عنها انما يكون عرضيا بتبع التجاوز عن الاجزاء لا حقيقيا ، فلا يمكن إجراء القاعدة فيها.

وفيه مضافا الى ان التجاوز عن الشرط ، بتبع التجاوز عن محله من الاجزاء ، كاف في صدق عنوان التجاوز عنه ، فان هذا مصداق التجاوز حقيقة لا مجازا ومسامحة ، فالتستر أو الاستقبال المقارن للقراءة أمر يتجاوز عنه حقيقة بعد الدخول في الركوع ، ان هذا الإشكال كالإشكال السابق انما يتوجه إذا جعل نفس الشرط موردا للقاعدة ، واما إذا كانت الاجزاء موردا لها من جهة الشك في صحتها وتماميتها بعد الفراغ عنها أو التجاوز عن محلها فلا يبقى مورد له ، وذلك لما مرّت الإشارة إليه من ان الشك في صحة الجزء كالشك

٢٦٢

في أصل وجوده مشمول لعمومات القاعدة.

واما القسم الثالث من الشرائط فإجراء قاعدة التجاوز فيه وان كان مشكلا ، فإن الموالاة (مثلا) أمر منتزع عن نسبة خاصة بين أجزاء الصلاة وليست شيئا يتجاوز عنه برأسه ، فانصراف الإطلاقات عنها قوى جدا ، فلا يقال ان الموالاة بين آيات الحمد أمر تجاوز عنه ودخل في غيره ، الا انه لا مانع من إجراء القاعدة بالنسبة إلى نفس الحمد والسورة أو غيرهما بعد التجاوز عنها والشك في صحتها من ناحية موالاتها.

بقي هنا شيء ـ وهو انه قد يستشهد للقول بالتفصيل بين الشك في الوضوء بعد الفراغ عن الصلاة ، والشك فيه في أثنائها ، بما رواه على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام «قال سألته عن رجل يكون على وضوء ، ويشك على وضوء هو أم لا؟ قال إذا ذكر وهو في صلوته انصرف فتوضأ وأعادها ، وان ذكر وقد فرغ من صلوته أجزأه ذلك» (١) بناء على ان مورد السؤال هو من يكون على وضوء باعتقاده ثمَّ يشك في ذلك.

ولكن فيه ان الأظهر في معنى الرواية هو ان يكون على وضوء في زمان ، ثمَّ يشك فيه في زمان بعده ، فيكون مجرى للاستصحاب لا موردا لقاعدة الفراغ (وح) اما يحمل هذا الحكم على الاستحباب ، كما فعله صاحب الوسائل واما ان يطرح لمعارضته لاخبار الاستصحاب.

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٤٤ من أبواب الوضوء

٢٦٣

١١ ـ لما ذا لا تجري القاعدة في أفعال الطهارات الثلث؟

الظاهر انه لا خلاف بينهم في عدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء ، إذا انتقل من جزء الى جزء آخر ، قبل الفراغ من تمامه. وقد ادعى غير واحد الإجماع عليه.

بل لعل نقل الإجماع فيه مستفيض ، هذا بالنسبة إلى الوضوء واما إلحاق الغسل بالوضوء فهو المشهور كما حكى من طهارة شيخنا العلامة الأنصاري ، وعن جماعة من ائمة الفقه كالعلامة والشهيدين والمحقق الثاني والعلامة الطباطبائي (قدس أسرارهم) التصريح به ، وعن بعضهم النص على إلحاق التيمم بهما.

هذا حال المسئلة من ناحية الفتاوى ، والظاهر ان الأصل فيها ما رواه زرارة عن ابى جعفر الباقر عليه‌السلام :

قال إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه انك لم تغسله أو تمسحه ، مما سمى الله ، ما دمت في حال الوضوء فاذا قمت من الوضوء وفرغت منه ، وصرت في حال أخرى في ـ الصلاة أو في غيرها ، فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوئه ، لا شيء عليك فيه (الحديث) (١).

وهذه الرواية صريحة في وجوب الاعتناء بالشك والإتيان بالمشكوك ما دام مشتغلا بالوضوء ، وان عدم الاعتناء به يختص بصورة الفراغ منه ، بل الدخول في حال آخر.

ولكن قد عرفت في الأمر الخامس ان هذا ليس في الحقيقة من قبيل القيد.

__________________

(١) رواه المفيد والشيخ والكليني بإسنادهم ورواه في الوسائل في الباب ٤٤ من أبواب الوضوء

٢٦٤

ويؤيده رواية بكير بن أعين قال قلت له الرجل يشك بعد ما يتوضأ قال هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك (١).

فإنها ظاهرة في انه حال الوضوء اذكر ، فبمقتضى اذكريته يجب عليه الاعتناء بشكه ما دام مشتغلا به ولكن في دلالتها تأمل

لأنها غير ناظرة إلى صورة الشك في بعض اجزاء الوضوء بعد انتقاله الى جزء آخر

واستدل له برواية ثالثة نقلناها سابقا وهي ما رواه ابن ابى يعفور عن ابى عبد الله (ع) قال : إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشيء ، إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه (٢) بناء على رجوع ضمير «غيره» الى «الوضوء» فيكون دالا بمقتضى مفهومه على وجوب الاعتناء بالشك ما دام مشتغلا بالوضوء.

ولكنك قد عرفت فيما سبق ان رجوع ضمير «غيره» الى الوضوء ، مع قطع النظر عن سائر أخبار الباب والإجماع المدعى عليه في المسألة ، غير معلوم ، بل الظاهر رجوعه إلى الشيء المشكوك فيه ، بقرينة الإطلاق الوارد في ذيلها ، فإنه دال على ان كل شيء (سواء فيه الكل والجزء) تجاوز عنه ودخل في غيره يمضى عليه ، ولا يعتنى بالشك فيه.

ويؤيد ما ذكرنا ورود هذا التعبير بعينه في باب إجزاء الصلاة في رواية «زرارة» و «إسماعيل بن جابر» وليس المراد منه هناك الا التجاوز عن الجزء المشكوك فيه والدخول في سائر الأجزاء ، فالاستدلال بهذا الحديث في حد نفسه مشكل بل لعله في بدء النظر على خلاف المقصود أدل.

ويمكن الاستدلال له أيضا برواية أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابه عن ابى ـ

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٤٤ من أبواب الوضوء

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٤٤ من أبواب الوضوء

٢٦٥

عبد الله عليه‌السلام : قال قلت جعلت فداك اغسل وجهي ثمَّ اغسل يدي ، ويشككني الشيطان انى لم اغسل ذراعي ويدي قال : إذا وجدت برد الماء على ذراعك فلا تعد (١)

فإنه لو كان مجرد التجاوز عن جزء من الوضوء كافيا في عدم الاعتناء بالشك فيه لم يحتج الى تحصيل أمارة قطعية أو ظنية على غسل الذراع (وهو وجدان برد الماء عليه) بل كان مجرد التجاوز عنه كافيا فيه.

ولكن الظاهر منه كون الشك في حال الاشتغال بغسل اليد ، وكأن منشأ شكه كان هو الوسوسة في أفعال وضوئه وتعبير الراوي بقوله : يشككني الشيطان أيضا شاهد عليه ، فهذه الرواية أجنبية عن المقصود.

فتحصل من جميع ما ذكرنا ان ما يدل على هذا الحكم من السنة ؛ دلالة ظاهرة ؛ منحصر في رواية زرارة ، والعجب من شيخنا العلامة الأنصاري (قدس‌سره) حيث صرح في الرسالة بورود أخبار كثيرة هنا مخصصة للقاعدة المتقدمة. فأين هذه الاخبار الكثيرة؟!.

ومع ذلك رواية زرارة المؤيدة بفتاوى الأصحاب كاف في إثبات هذا الحكم.

هذا كله بالنسبة إلى الوضوء ولا يبعد كون التيمم الذي هو بدل عن الوضوء بحكمه لاقتضاء البدلية ذلك ، ولكنه يختص بما إذا كان التيمم بدلا عن الوضوء.

واما الغسل ؛ والتيمم الذي هو بدل عنه ؛ فلم نظفر على دليل يدل على استثنائهما ، وخروجهما عن الاخبار العامة ، الدالة على القاعدة ، كإثبات الإجماع عليهما بنحو يكون حجة مشكل جدا.

نعم قد يقال بدخولهما في ذيل رواية ابن ابى يعفور التي مرت عليك آنفا ، اعنى قوله «انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» ولكن قد عرفت أنها أجنبية عما نحن بصدده.

فاذن لو أمكن إثبات الحكم فيهما ببعض الاعتبارات التي سنذكره فهو ، والا فشمول الإطلاقات لهما غير بعيد ، وطريق الاحتياط فيهما واسع (فتأمل).

__________________

(١) رواها في الوسائل في الباب ٤٤ من أبواب الوضوء.

٢٦٦

فتلخص مما ذكرنا ان الطهارات الثلاث كلها أو بعضها خارجة عن تحت القاعدة ولكن يبقى الكلام في وجه خروجها مع انه لا يرى اى تفاوت بينها وبين سائر المركبات الشرعية ، كالصلاة والحج وغيرهما في بدء النظر.

فهل هو تعبد محض؟ أو يوجد هناك فارق بينها وبين غيرها؟ اختار كل منهم مذهبا :

فقال المحقق النائيني (قده) ان خروجها انما هو بالتخصص لما مر غير مرة من ان العمومات على مختاره لا تدل الا على قاعدة الفراغ بالنسبة إلى مجموع العمل ، وانه لا دلالة لها بالنسبة الى الاجزاء ، وان الاخبار الواردة في حكم التجاوز عن أجزاء الصلاة حاكمة عليها وتدل على تنزيل اجزاء الصلاة منزلة الاعمال المستقلة التامة ، وحيث ان الدليل الحاكم مختص بباب اجزاء الصلاة يبقى غيرها خارجا بحكم الأصل. (انتهى).

وقد عرفت فساد هذا المبنى وان أدلة القاعدة عامة ، شاملة للاجزاء والكل ، وان سياق اخبار التجاوز الواردة في اجزاء الصلاة سياق غيرها من العمومات ، فلا دلالة فيها على التنزيل والحكومة ، بل الجميع يشير الى معنى واحد ، فلا يفهم العرف من بعضها شيئا وراء ما يفهم من غيره.

وقال شيخنا العلامة الأنصاري (قده) ان خروج أجزاء أفعال الوضوء وشبهها من حكم قاعدة التجاوز انما هو من باب التخصيص فان الوضوء في نظر الشارع فعل واحد ؛ باعتبار وحدة مسببه ، فإنه يطلب منه أمر واحد غير قابل للتبعيض ، وهو الطهارة ، فلا يلاحظ كل فعل منه شيئا برأسه ، قال وبذلك يرتفع التعارض بين رواية ابن ابى يعفور (وهي قوله : إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجز) الدالة على الاعتناء بالشك في أثناء الوضوء ، وبين الاخبار السابقة الدالة على عدم الاعتناء بمثل هذا الشك.

وكذلك يرتفع التنافي المترائى بين صدر هذا الحديث وذيله ، فاذا كان الوضوء

٢٦٧

في نظر الشارع فعلا واحدا ارتفع الإشكالان ولم يكن حكم الوضوء مخالفا للقاعدة ، وبه يوجه حكم المشهور بإلحاق الغسل والتيمم بالوضوء ، والا لا وجه له ظاهرا (انتهى كلامه).

هذا وأنت خبير بان مجرد وحدة المسبب (وهو الطهارة) لا توجب لحاظ السبب امرا واحدا ، والا جرى مثله في الصلاة وغيرها لإمكان القول بان المطلوب منها أيضا أمر واحد فتأمل ، وبالجملة الالتزام بلوازم هذا التوجيه أمر مشكل حدا لا يظن انه (قده) يلتزم بها ، مضافا الى ان إلحاق الغسل بالوضوء غير معلوم كما مر.

والاولى ان يقال بعد كون الحكم في الوضوء من باب التخصيص بدليل خاص وارد في المسئلة ان الوجه فيه لعله كون اجزاء الوضوء يؤتى بها في زمان قصير لا يغفل عن حالها غالبا ؛ ولا يكاد تخفى صورتها عادة بمضي هذا المقدار من الزمان ، فملاك القاعدة المصرح به في روايات الباب ، وهو الا ذكرية في حال الفعل بالنسبة الى حال الشك ، مفقود فيها بحسب الغالب. بخلاف ما إذا فرغ من الوضوء وانتقل الى حال آخر فان انمحاء صورتها عن الذهن ونسيان كيفية العمل فيه أمر قريب.

ولعل السيرة العقلائية الجارية على عدم الاعتناء بالشك بعد تمامه والتجاوز عنه (بما مر من البيان) أيضا غير جارية في أمثال المقام.

هذا غاية ما يمكن ان يقال في وجه خروج الوضوء وشبهه عن عموم القاعدة وان أبيت بعد ذلك كله الا عن بقاء الإشكال في تفسير هذا الاستثناء وتوجيهه لم يكن قادحا في أصل الحكم بل لا بد حمله على التعبد المحض وكم له من نظير في أحكام الشرع.

ومما ذكرنا يوجد طريق آخر لتعميم حكم الوضوء وإجرائه في التيمم والغسل ، فتأمل.

٢٦٨

١٢ ـ عدم جريان القاعدة مع الغفلة

ان الشك في العمل بعد الفراغ والتجاوز عنه يتصور على أقسام :

تارة يكون مع العلم بأنه كان ذاكرا له حين العمل ؛ عالما بصحته ، ولكن يحتمل انه كان مخطئا في اعتقاده ، آتيا به على خلاف ما كان مأمورا به.

واخرى مع الشك في كونه ذاكرا له أو غافلا عنه ، فكما يحتمل الغفلة يحتمل الذكر.

وثالثة مع العلم بكونه غافلا محضا ولكن يحتمل الإتيان بما كان مأمورا به من باب الصدفة والاتفاق ، كمن يعلم بأنه لم يحول خاتمه عن محله حين الوضوء ولكن يحتمل انغسال ما تحته اتفاقا.

لا إشكال في جريان القاعدة في الصورتين الأوليين ، وانما الكلام في شمول إطلاقات الأدلة للثالثة ، فقد يقال بعدم شمولها لها ، نظرا الى التعليل الوارد في قوله : «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» فان التعليل بذلك يدل على تخصيص الحكم بمورد احتمال الذكر ، وان كان عنوان السؤال عاما ، ويمكن ان يقال بشمولها لها وان التعليل من قبيل «الحكمة» للحكم لا «العلة» له ، حتى يكون مخصصا.

والتحقيق هو الأول لا لمجرد ظهور التعليل الوارد في الرواية ؛ وفي رواية أخرى لمحمد بن مسلم :

«وكان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك» في ذلك بل لأن الإطلاقات بأنفسها قاصرة عن شمولها له ، منصرفة عنه ، لا سيما مع القول بكون القاعدة من الامارات ، ومن باب غلبة الذكر ، فان هذا الملاك انما هو في غير صورة العلم بعدم الذكر.

هذا مضافا الى ما عرفت من ان الحكم الشارع بحجية القاعدة ليس تأسيسا ، بل هو

٢٦٩

إمضاء لما عند العقلاء من الحكم بالصحة بعد الفراغ والتجاوز عن العمل (بل لعل الأمر في جميع الأمارات الشرعية كذلك ؛ فليس فيها تأسيسا جديدا على خلاف ما استقر عليه بناء العقلاء) ومن الواضح عدم استقرار بناء العقلاء على الحكم بالصحة في صورة الغفلة المحضة.

فلا محيص عن الحكم ببطلان العمل في هذه الصورة واعادته بمقتضى قاعدة الاشتغال الا ان يقوم دليل اخرى على الصحة.

ويجب التنبيه هنا على أمور :

الأول ـ لا يخفى انه إذا كان هناك أمارة شرعية كالبينة أو حجة عقلية كالقطع فاعتمد عليها المكلف حين الفعل ثمَّ تبين خطاؤها بعده ، كمن صلى إلى جهة يعلم انها قبلة ، أو قامت أمارة شرعية عليها ، ولكن تبين له بطلان منشأ قطعه وفساد الامارة بعد ما صلى ولكنه يحتمل كون الجهة التي صلى إليها قبلة من باب الاتفاق ؛ فلا إشكال في انه محكوم بحكم الغفلة ، لأن الإحراز المذكور كان فاسدا ، مع كون صورة العمل محفوظة عنده ، لعلمه بالجهة التي صلى إليها ، ولكن لا يعلم انها كانت هي القبلة ، أو غيرها؟!

فلو صادفت القبلة لم يكن من ناحية «الذكر حين العمل» لان المفروض علمه بعدم كونه اذكر حينه ، بل انما هي من باب الصدفة والاتفاق.

وليس هذا من قبيل الشك في انطباق «المأمور به» على «المأتي به» كما ذكره المحقق النائيني (قدس‌سره) في الأمر الخامس الذي ذكره في المسئلة بل من قبيل انطباق «المأتي به» على «المأمور به» صدفة واتفاقا عند الغفلة.

والعجب منه (قدس‌سره) انه جعله من ذاك الباب ، وعقد له ولاشباهه بابا مستقلا ، وكلامه في هذا المقام لا يخلو عن تشويش واضطراب فراجع.

الثاني مما يجب التنبيه عليه هو ان المراد بالغفلة هنا هو الغفلة المحضة أعني الذهول عن العمل عند أدائه مطلقا إجمالا وتفصيلا ، نظير مسئلة الخاتم في الوضوء فان المفروض

٢٧٠

ذهوله عن غسل ما تحته مطلقا ، إجمالا وتفصيلا ، فاحتمال الصحة انما يكون من باب الصدفة والاتفاق فقط.

واما إذا ارتكز كيفية العمل في النفس إجمالا بسبب التكرار وحصول العادة له ، كما في أفعال الصلاة والوضوء وغيرهما من العبادات اليومية ، بحيث يؤتى بها أحيانا متواليا على وجهها الشرعي مع الغفلة عنها تفصيلا ، فان ذلك لا يعد من الغفلة بل فيه نوع من الذكر كما أشرنا إليه سابقا ، ولو لا ذلك كان الذكر التفصيلي غير حاصل لكثير من الناس في أقوالهم وأفعالهم وعباداتهم وغيرها فلا يصح التعليل بغلبة الذكر حين العمل بالنسبة إلى العموم.

الثالث ـ ان شيخنا العلامة الأنصاري (قده) ذكر في كلام له في المقام انه لا فرق بين ان يكون المحتمل ترك الجزء نسيانا أو تركه عمدا ، والتعليل المذكور (هو حين يتوضأ إلخ) بضميمة الكبرى المتقدمة (وهو ان القاصد لفعل لا يتركه عمدا) يدل على نفى الاحتمالين انتهى.

وهو منه (قدس‌سره) عجيب فان العاقل القاصد لفعل شيء مع العلم بشرائطه واجزائه لا يحتمل في حقه ترك الجزء عمدا أصلا ، وهذا هو المراد من الكبرى المتقدمة ، لا انه يحتمل ذلك في حقه وينفى احتماله بهذه الكبرى تعبدا أو من باب الغلبة ، كما في احتمال الترك نسيانا.

والحاصل انه لو فرض احتمال ترك الجزء تعمدا لم يجز فيه القاعدة بلا إشكال لأنه لا دافع لهذا الاحتمال ، ولا يوجد مصحح للعمل معه ، فقوله (قده) : لا فرق بين ان يكون المحتمل ترك الجزء نسيانا أو تركه تعمدا لا وجه له أصلا.

٢٧١

١٣ ـ في عدم جريان القاعدة في الشبهات الحكمية

لا إشكال في جريان القاعدة في الشبهات الموضوعية ، بل هي القدر المعلوم من موردها ، المصرح به في كثير من الروايات ، فان ما اشتمل منها على ذكر صغرى لهذه الكلية فذلك الصغرى من قبيل الشبهات الموضوعية كما هو واضح ، وما كان عاما فالقدر المتيقن منه ذلك.

انما الإشكال في جريانها في الشبهات الحكمية ، والحق عدم جريانها فيها ، فان الشك من ناحية الحكم هنا يتصور على وجهين ، لا تجري القاعدة في شيء منهما.

أحدهما ان يكون صورة العمل محفوظة عنده ولم يكن في عمله مستندا الى حجة شرعية من اجتهاد أو تقليد ـ كمن يعلم انه صلى بلا سورة وكان ذلك عن جهل بالحكم أو غفلة منه ثمَّ بعد الفراغ منها يشك في صحة صلوته من جهة الشك في حكمها الشرعي ، وان السورة جزء أم لا ، وليس له طريق لإحرازها من اجتهاد أو تقليد ، فان قيل بعدم جريان القاعدة فيها وجب الاحتياط بإعادتها لاشتغال ذمته والا كان محكوما بالصحة ولم يجب عليه الإعادة.

والحق عدم جواز التمسك بها لظهور اخبار الباب في كون الشك في كيفية الوجود الخارجي ، فقوله رجل شك في الركوع أو السجود أو الوضوء ظاهر في شكه في كيفية الإتيان بها بعد إحراز حكمها ، لا في حكمها بعد إحراز كيفية وقوعها ؛ لعدم ملاك الا ذكرية فيه وهو واضح ، هذا إذا كان صورة العمل محفوظة وكان عمله عن جهل بالحكم.

ومنه تعرف انه لو لم يكن صورة العمل محفوظا عنده كما إذا شك الجاهل بالحكم بعد مضى برهة من الزمان في مطابقة اعماله لما كان مأمورا به في الواقع ، من جهة عدم انحفاظ صورة عمله ، كان خارجا عن محل البحث داخلا في الشبهات الموضوعية ؛ وان كان جريان القاعدة فيها أيضا ممنوعة ، نظرا الى استناد عمله الى الجهل والغفلة ، خلافا

٢٧٢

لما يتراءى من المحقق النائيني من عده من أقسام الشبهة الحكمية.

ثانيهما ان يكون صورة العمل محفوظة عنده ـ كمن يعلم انه صلى بلا سورة ـ ولكن كان عمله مستندا الى حجة شرعية من اجتهاد أو تقليد ، ثمَّ شك بعد الفراغ عنه في صحته وفساده ، من جهة زوال رأيه أو رأى مجتهده وتردده في حكم المسئلة من دون العلم بفساده.

وجريان القاعدة في هذه الصورة وان كان أقرب من سابقها الا ان الحق عدم جريانها فيها أيضا لما ذكر في الصورة السابقة فراجع وتدبر جيدا.

٢٧٣

١٤ ـ مورد القاعدة خصوص الشك الحاصل بعد العمل

لا ينبغي الريب في ان مورد قاعدة التجاوز والفراغ هو الشك الحاصل بعد العمل.

فلو كان الشك موجودا من قبل ، لكنه غفل عنه ودخل في العمل ؛ ثمَّ بعد الفراغ منه تذكر وتجدد له حالة الشك في صحة عمله وفساده ، لم يجز له التمسك بها ، ولو قلنا بجريان القاعدة في موارد الغفلة.

وذلك كمن شك في الطهارة قبل الصلاة وكان حالته السابقة الحدث ، ثمَّ غفل وصلى ، مع علمه بعدم تحصيل الطهارة بعد شكه ، فاذا سلم توجه الى ما كان فيه وشك في انه كان على طهارة أم لا ، فعليه تحصيل الطهارة واعادة الصلاة.

والوجه فيه ظاهر ، اما بناء على المختار من عدم جريان القاعدة في موارد الغفلة فواضح ، لان المفروض غفلته عن تحصيل شرائطه قبل الصلاة مع وجوب الطهارة عليه بظاهر الشرع بمقتضى الاستصحاب ، فلم يكن داخلا تحت قوله «هو حين يتوضأ اذكر» أو قوله «وكان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك» بل لو كان ذاكرا لم يقدم على هذا العمل.

وان شئت قلت : مورد القاعدة هو ما كان احتمال الذكر منشأ لاحتمال صحة العمل وحصول شرائطه ، وفي المقام لو كان ذاكرا كان عمله محكوما بالفساد في ظاهر الشرع بحكم الاستصحاب الجاري فيه بلا كلام.

واما على القول بجريانها في موارد الغفلة ، فالأمر أيضا كذلك ، لا لمجرد ظهور اخبار الباب مثل قوله «الرجل يشك بعد ما يتوضأ» أو قوله «شك في الركوع بعد ما سجد» وأشباههما في ان الشك نشأ بعد الفراغ عن العمل أو التجاوز منه ، بل لان مجرى القاعدة هو ما إذا كان العمل مبنيا على الصحة ولو في ظاهر الشرع ، فلو كان من أول أمره مبنيا

٢٧٤

على الفساد ومحكوما بالبطلان في ظاهر الشرع لم يكن تصحيحها بالقاعدة بعد الحكم بفساده ، والمقام من هذا القبيل ، فإن الصلاة في مفروض الكلام كان محكوما بالفساد من أول آنات وجودها بحكم استصحاب الحدث ؛ وان كان المصلى غافلا عن هذا الحكم حين الشروع لغفلته ونسيانه ، فكيف يصح الحكم بصحتها بعد الفراغ عنها ؛ وهل يرضى بذلك لبيب؟.

هذا تمام الكلام في قاعدة التجاوز والفراغ.

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

٢٧٥
٢٧٦

٥ ـ قاعدة اليد

٢٧٧
٢٧٨

ومن القواعد المشهورة التي يتمسك بها في كثير من أبواب الفقه وتدور عليها احكام المعاملات كلها «قاعدة اليد» فبها تدور رحى المعاملات ، وبها تنحل عقدها.

ويزيد هذا وضوحا ما ستعرف ان شاء الله من ان مرادنا من «اليد» ليس خصوص «يد الملكية» بل نبحث عن «اليد والاستيلاء» بمفهومها العام الشامل ليد المالك ، والمستأجر ، ومتولي الأوقاف ، والمستعير ، والودعي ، وأشباههم ؛ فان كيفية السلطة والاستيلاء على الأموال والمنافع مختلفة ، تترتب عليها أحكامها كذلك ، فالبحث لا يدور على دلالة اليد على الملك فقط بل يعمها وغيرها ، فليكن هذا على ذكر منك.

وإذ قد عرفت ذلك فاعلم ان الكلام في هذه القاعدة أيضا يقع في مقامات :

المقام الأول ـ في مدرك القاعدة.

«الثاني ـ في انها من الامارات أو الأصول العملية؟

«الثالث ـ في انه بما ذا تتحقق اليد؟

«الرابع ـ هل هي حجة حتى إذا كان متعلقها مما لا يجوز بيعه الا بمسوغ خاص ، كالوقف؟.

«ـ الخامس ـ هل هي حجة ولو حدثت أولا لا بعنوان الملك؟

٢٧٩

«السادس ـ هل هي تستقر على المنافع والأعيان كليهما؟

«السابع ـ هل يجوز الشهادة بالملك بمجرد اليد؟

«الثامن ـ هل هي حجة لصاحبها أيضا؟

«التاسع ـ في عدم حجية يد السارق وشبهه.

«العاشر ـ في حجية اليد في الدعاوي إلا ما يستثني.

٢٨٠