القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

٥ ـ إذا خالف التقية في

موارد وجوبها

إذا خالف التقية في موارد وجوبها فهل يكون العمل المخالف له صحيحا وان كان عاصيا ، كما إذا صلى منفردا فيما إذا اقتضت التقية الجماعة مع من لا يراه صالحا لها ، أو يفسد مطلقا ، أو يفصل بين مواردها.

اختار شيخنا العلامة الأنصاري التفصيل بين ما إذا كان العمل المخالف له امرا متحدا مع العبادة كالسجدة على التربة الحسينية مع اقتضائها تركه (ومثله الوقوف بعرفات وصوم يوم الشك إذا خالف اعتقاده لاعتقاد مخالفه في تعيين يوم عرفة ويوم العيد). وبين ما إذا كان خارجا عنه كترك القبض على اليد في الصلاة إذا اقتضت التقية فعلها.

فاختار الفساد في الأول والصحة في الثاني.

والظاهر ان الوجه فيه دخول المسألة في مسألة اجتماع الأمر والنهى ففي الأول يكون السجدة أو نفس الوقوف والصيام محرما منهيا عنه لا يصلح للتقرب المعتبر في صحة العبادة ، بخلاف الثاني فإن الحرام

٤٨١

أمر خارج عن عبادته مثل النظر إلى الأجنبية حال الصلاة.

هذا والمسألة مبنية على ان أوامر التقية هل هي كاوامر الابدال الاضطرارية تدل على جزئية ما يؤتى تقية وشرطيته وبدليته عن المأمور به الواقعي ، أو انها ليست كذلك بل تدل على أمر واجب في نفسه.

فعلى الأول كان العمل المخالف لها فاسدا مطلقا لعدم الإتيان بالمأمور به في ذاك الحال والرجوع الى غير ما هو مأمور به ، وعلى الثاني لم يكن فاسدا ، إلا إذا دخل في مسألة اجتماع الأمر والنهى وقلنا ببطلان العبادة مع الاتحاد بالحرام.

وحيث ان شيخنا العلامة قدس الله سره اختار الثاني ذهب الى التفصيل هنا.

ويرد عليه أولا : انه إذا قلنا بأن إيجاب الشيء للتقية لا يجعله معتبرا في العبادة فلو تركه لم يكن عمله فاسدا فعلى هذا لو ترك المسح على الخفين في حال التقية (ولم يكن في تركه محذور آخر) لم يكن وضوئه باطلا.

وقد أجاب هو نفسه عن هذا الاشكال بما حاصله : ان المسح على البشرة ينحل إلى أمرين أحدهما نفس المسح والأخر مباشرته للبشرة ، فإذا تعذر الثاني لم يسقط الأول ففي الحقيقة هذا ميسوره بعد ترك المباشرة ، للتقية ، ثمَّ أيد ذلك بما ورد في رواية عبد الأعلى مولى آل سام الواردة في حكم الجبيرة قال قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع بالوضوء؟ قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزوجل قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ

٤٨٢

حَرَجٍ) ، امسح عليه. (١)

فان المستفاد منها ان سقوط المباشرة لليد لا يوجب سقوط المسح على المرارة ، وانه يستفاد من ضم قاعدة نفى الحرج بحكم وجوب الوضوء ، حكم الجبيرة.

وفيه : ان ما افاده قدس‌سره لا يكفي في حل الإشكال فإن المسح على الخف ليس ميسورا للمسح على الرجل قطعا بل هو أمر مباين له عرفا كالمسح على شيء آخر خارجي ويشهد لذلك ما ورد في ذم الماسحين على الخف عن الصادق عليه‌السلام إذا كان يوم القيامة ورد الله كل شيء إلى شيئه ورد الجلد الى الغنم فترى أصحاب المسح اين يذهب وضوئهم؟! (٢)

فإنها تنادي بأعلى صوته ان المسح على الخف كالمسح على ظهر الغنم في الحقيقة ولا يرتبط بالإنسان أبدا.

واما رواية عبد الأعلى فلا بد من توجيهه بما لا ينافي ما ذكر من عدم فهم الميسور عرفا في باب المسح وانه ليس المسح على الجبيرة الا كالمسح على أمر خارجي فتدبر.

وأوضح إشكالا منه مسألة الحج والوقوفين في أيام يراه المخالف أيامهما وليس بذلك في الواقع أو في ظاهر الشرع ، فإنه لا يمكن ان يقال فيه : ان أصل الوقوف مطلوب ووقوعه في يوم عرفة أو ليلة العاشر مطلوب آخر ، فاذا تعذر واحد وجب الأخر أخذا بالميسور ، ولازم ذلك صحة عمل

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٩ من أبواب الوضوء الحديث ٥.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٨ من أبواب الوضوء الحديث ٤.

٤٨٣

من ترك الوقوف حينئذ واتى بسائر الواجبات اللهم الا ان يقال بعدم صدق ميسور الحج عليه حتى عند التقية مضافا الى ركنيتهما فتأمل.

وثانيا : انه لا وجه للتفصيل الذي ذكره بين موارده ، مثل السجدة على التربة الحسينية وترك القبض على اليد إذا اقتضت التقية خلافهما ، وذلك لان نفس التقية واجبة واما تركها الخاص والاشتغال بضدها ليس محرما فان ضد الواجب ليس بحرام ، هذا محصل ما أورده بعضهم عليه.

ولكن يمكن الذب عنه بان ترك التقية بنفسه حرام كما يظهر من الرواية ٢٦ من الباب ٢٤ والرواية ٩ من الباب ٢٥ من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر :

ففي الأولى منهما عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه‌السلام لا ايمان لمن لا تقية له. فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا ؛ وفي الثاني عن الرضا عليه‌السلام أيضا انه جفى جماعة من الشيعة وحجبهم فقالوا يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما هذا الجفاء العظيم والاستخفاف بعد الحجاب الصعب؟ قال ـ الى ان قال : وتتركون التقية حيث لا بد من التقية ـ اللهم الا ان يقال ان المذمة فيهما لترك الواجب لا الفعل الحرام ، وهذا مضافا الى ان الفعل الذي يؤتى به على وجه مخالف للتقية بنفسه مصداق لإلقاء النفس في التهلكة وهو حرام وقد مر في غير واحد من روايات التقية ان النهى عن تركها بملاك انه مصداق لقوله تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

إذا عرفت ذلك فلنعد إلى أصل المسألة ونرى ان الحق فيها ما ذا؟

فنقول : ظاهر إطلاقات الباب صحة العمل إذا اتى به على وجه التقية والأدلة الخاصة أعني الاخبار الواردة في موارد خاصة منها أيضا

٤٨٤

كالصريح في صحة الأعمال المؤداة على وجهها ولكن القدر المتقين بل ظاهرها ان ذلك انما يكون إذا عمل على وفقها لا ما إذا ترك العملين فترك المسح على البشرة والخف معا.

ومن الواضح انه لا دليل لنا على صحة الأعمال المذكورة غير هذه فاذا قصرت عن إثبات صحتها بدونه فلا بد من الحكم بالفساد ، فكان نتيجة ذلك امرا يشبه البدلية.

وان شئت قلت : انه وان لم يكن في اخبار الباب ما يدل على بدلية العمل تقية عن العمل الواقعي كالابدال الاضطرارية وليس فيها دلالة على ان المسح على الخف بدل عن المسح على البشرة ، بدلية التيمم عن الوضوء ، ولكن إذا لم يكن هناك دليل على اجزاء العمل الا في هذه الصورة كان أثره اثر البدلية ونتيجتها.

ومن المعلوم ان ذلك انما يتصور إذا كانت التقية بترك شيء من اجزاء الواجبات أو شرائطها واما إذا كانت بإضافة شيء عليها كالقبض على اليد ، وتركه ، فالأدلة الدالة على المأمور به الواقعي بإطلاقها تشمله ويصح العمل اللهم الا ان يكون نفس العمل على هذا الوجه مصداقا لإلقاء النفس في التهلكة فكان حراما لا يصلح للتقرب به فيبطل من هذه الجهة.

٤٨٥

٦ ـ في حكم الأعمال التي لها

بقاء من حيث الأثر بعد

ما زالت التقية

إذا توضأ (مثلا) تقية فلا شك في جواز الصلاة معه ما دامت أسبابها باقية ، واما إذا زالت وانقضى مورد التقية فهل تجوز الأعمال المشروطة بالوضوء؟ وان شئت قلت : ان الوضوء تقية هل هو مبيح ما دامت عواملها ، أو رافع للحديث بحيث لا يحتاج إلى إعادة الوضوء إلا إذا تجدد شيء من الاحداث ولا فرق في ذلك بين العمل الذي توضأ له وغيره بعد فرض الكلام في ارتفاع أسباب التقية بقاء.

وكذلك الكلام فيما إذا اتى ببعض العقود أو الإيقاعات على وجه التقية فهل يجوز ترتيب الأثر عليها بعد زوالها أم لا؟

والفرق بين ما نحن فيه وبين العبادات التي يؤتى بها تقية التي

٤٨٦

قد عرفت اجزائها عن المأمور به الواقعي مما لا يخفى ، فان هذه أسباب شرعية لها دوام بحسب الاثار التي تترتب عليها ، بخلاف مثل الصوم والصلاة وسائر العبادات.

وإذ قد عرفت ذلك فاعلم ان مقتضى القاعدة الأولية هو الفساد وعدم ترتب الأثر في جميع موارد التقية إلا ما خرج بالدليل وقد مرت الإشارة إليها في المباحث السابقة.

فهل هناك دليل على الصحة أم لا؟

قد يقال : نعم ، ويستدل له تارة بالأوامر الخاصة واخرى بالأوامر العامة.

توضيح ذلك :

اما الأوامر الخاصة الواردة في موارد التقية كالأمر بالوضوء ربما يستفاد منها الصحة وعدم وجوب اعادته مطلقا وذلك لان رفع الحدث من آثار امتثال الأمر بالوضوء من غير مزيد وهو هنا موجود ، ولذا كل مورد ورد فيه الأمر به كان رافعا له فهل تجد موردا وحدا أمر فيه بالوضوء ولا يكون رافعا؟

وما يتراءى من كون الوضوء مبيحا في دائم الحدث لا رافعا ، مع ورود الأمر به ، فإنما هو من جهة دوام الحدث وتجددها لا من حيث قصور الوضوء في رفعه.

فتحصل من ذلك ان كل مورد ورد فيه أمر خاص ببعض الأسباب الشرعية عند التقية ، سواء كان من العبادات كالوضوء والغسل ، أو من العقود كالنكاح ، أو من الإيقاعات كالطلاق فامتثال هذا الأمر دليل على

٤٨٧

وجود المؤثر واقعا فيترتب عليه جميع آثارها ولو بعد زوال أسباب التقية.

واما الاخبار العامة الدالة على ان التقية جائزة في كل ضرورة وان التقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين ، وقد مرت في محلها فهي تدل على جوازها مطلقا ، وجواز كل شيء بحسبه ؛ فجواز الوضوء رفعه للحدث وجواز البيع صحته وترتب الملك عليه وجواز الطلاق تأثيره في البينونة وكذا غيرها.

هذا ولكن يمكن الخدشة في الجميع اما الأخير فلان ظاهر الأدلة العامة هو الجواز التكليفي ونفى الحرمة ، لا الجواز الوضعي فالاستدلال بها على آثارها الوضعي مشكل جدا.

واما الأوامر الخاصة فالقول بانصرافها عن ما نحن فيه قوى جدا وان هي إلا كالأوامر الاضطرارية إذا زالت الاعذار كالمتيمم بعد ما وجد الماء.

هذا مضافا الى ما قد عرفت من ان التقية أمر عقلائي قبل ان تكون شرعية ، ولا شك ان العقلاء لا يعاملون معاملة الصحة مع هذه الأسباب إلا عند بقاء عوامل التقية واما بعد ارتفاعها فيرجعون إلى أسبابها الواقعية الاختيارية.

والحاصل ان الحكم ببقاء الاثار بعد زوال التقية مشكل جدا.

٤٨٨

٧ ـ هل هي واجب نفسي أو غيري

هل التقية في موارد وجوبها واجب نفسي يترتب على تركه العقاب وغيره من آثاره أو واجب غيري مقدمي بماله من الاثار المختلفة.

الذي يستفاد بادي الأمر من أدلتها هو الثاني فإنها شرعت لحقن الدماء وحفظا عن الضرر الديني أو الدنيوي من غير علة ، والدليل العقلي الدال عليه أيضا لا يقتضي أزيد من المقدمية ، وكذا ما دل على ان تركها داخل في إلقاء النفس في التهلكة فتجب مقدمة لحفظ النفس عنها.

هذا ولكن الإنصاف أنها واجب نفسي بماله من الأثر وذلك لأمرين :

أولا ان الظاهر من إطلاقات الأدلة وجوبها النفسي عند خوف الضرر سواء ترتب على تركها ضرر أم لا ، وما ذكر فيها من حقن الدماء وغير ذلك فإنما هو من قبيل الحكمة لا العلة ولذا ورد فيها الوعيد بالعذاب لمن تركها ، مثل ما ورد في تفسير الامام الحسن العسكري عليه‌السلام في حديث : «.. فأعظم فرائض الله عليكم بعد فرض موالاتنا ومعاداة أعدائكم استعمال التقية على أنفسكم وأموالكم ومعارفكم وقضاء حقوق اعوانكم وان الله يغفر كل ذنب بعد ذلك ولا يستقصي ، واما هذان فقل من ينجو منهما الا

٤٨٩

بعد مس عذاب شديد» (١).

وكذا ما دل على انه مثل تضييع حقوق الاخوان مثل ما ورد في ذلك المصدر بعينه من قول على بن الحسين عليه‌السلام يغفر الله للمؤمن كل ذنب ويطهره منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين : ترك التقية وتضييع حقوق الاخوان.

وما رواه ابن إدريس في آخر السرائر عن مولانا على بن محمد عليه‌السلام قال : لداود الصرمي : لو قلت ان تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقا (٢) الى غير ذلك مما يطلع عليه المتتبع.

فان ذلك كله ظاهر في وجوبها النفسي.

وثانيا : ان ترك التقية ـ وهو ضد فعلها ـ بنفسه إلقاء النفس في التهلكة ، لا انه مقدمة لها ومن المعلوم ان ذلك بنفسه حرام فترك التقية بنفسها حرام يترتب عليها العقاب ويوجب الفسق ، وان شئت قلت : فعلها عين مصداق حفظ النفس وتركها عين مصداق إضاعتها وإلقائها في الهلاكة وليس هنا من المقدمية عين ولا اثر فتدبر.

__________________

(١) الحديث ١٢ من الباب ٢٨ من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من الجلد ١١ من الوسائل.

(٢) الحديث ٢٦ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف.

٤٩٠

٨ ـ هل هناك قسم ثالث للتقية؟

قد عرفت في المباحث السابقة ان التقية على ضربين : خوفي وتحبيبى ، والأول ما يكون الغرض منها حفظ النفوس والاعراض والدين بخلاف الثاني فإن الغاية فيه هو جلب المودة وجمع الكلمة وائتلاف الفرقة وتوحيد صف المسلمين على اختلاف مذاهبهم في مقابل أعداء الإسلام ، أعداء الحق ، وقد عرفت ان لكل مقاما يختص به.

وقد يقال ان هنا قسما ثالثا لها وهو ما يقابل الإشاعة واذاعة السر وانه حكم سياسى شرع لحفظ المذهب ولو لم يكن هناك خوف على احد ، أو مجال لجلب المودة وتوحيد الكلمة.

وقد عقد له في الوسائل بابا يخصه وأورد فيه اخبار تدل على المقصود :

منها ما رواه محمد الخزار عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال من أذاع علينا حديثنا فهو بمنزلة من جحدنا حقنا (١).

__________________

(١) الحديث ١١ من الباب ٣٤ من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

٤٩١

ومنها ما رواه ابن ابى يعفور قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام من أذاع علينا حديثنا سلبه الله الايمان. (١)

الى غير ذلك مما ورد في هذا الموضوع ، ومفادها وجوب كتمان عقيدة الحق أو إظهار غيره في الموارد التي تكون من الأسرار التي يجب كتمانها عن غير أهلها لما في اذاعتها عند غير اهله من الضرر فهذا نوع من التقية وينطبق عليه تعريفها ومع ذلك ليس داخلا في القسمين السابقين.

ولكن الإنصاف انه مما لا يمكن المساعدة عليه بل هو في الحقيقة راجع الى القسم الأول وهو التقية في موارد الخوف ؛ فإن إطلاق السر ليس إلا في الموارد التي يكون في إظهار الحق أو بعض العقائد الدينية ضررا وخوفا على النفس أو العرض أو الدين نفسه والا ما لا يكون فيه ضررا لا يكون سرا ولا يدخل تحت عنوان كتمان السر واذاعته ، وعلى هذا يؤول هذا القسم الى القسم الخوفى.

ويشهد لما ذكر غير واحد من روايات ذاك الباب بعينه وإليك جملة منها :

١ ـ ما رواه يونس بن يعقوب عن بعض أصحابه عن ابى عبد الله عليه‌السلام ما قتلنا من أذاع حديثنا قتل خطأ ولكن قتل قتل عمد (٢)

وفيه دلالة على ان اذاعة الحديث في موارد كتمانه يترتب عليه الإضرار العظيمة ربما بلغ القتل ، وحيث ان فاعله عالم بهذا الأثر فهو في الواقع قاتل عمد ، وهل هو إلا مصداق لترك التقية الخوفى وقد عرفت ان

__________________

(١) الحديث ١٢ من الباب ٣٤ من أبواب الأمر بالمعروف.

(٢) الحديث ١٣ من الباب ٣٤ من أبواب الأمر بالمعروف.

٤٩٢

الخوف كما انه قد يكون على النفس يمكن ان يكون على الغير.

٢ ـ ما رواه محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : يحشر العبد يوم القيامة وما ندا دما (١) فيدفع اليه شبه المحجمة أو فوق ذلك فيقال له : هذا سهمك من دم فلان فيقول يا رب انك تعلم انك قبضتني وما سفكت دما ، فيقول : بلى ولكنك سمعت من فلان رواية كذا وكذا فرديتها عليه حتى صارت الى فلان الجبار فقتله عليها وهذا سهمك من دمه (٢).

فهل هذا إلا ترك التقية الموجب لإلقاء الغير في التهلكة؟

٣ ـ ما رواه إسحاق بن عمار عن ابى عبد الله عليه‌السلام وتلي هذه الآية : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) قال والله ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم ولكنهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فصار قتلا واعتداء ومعصية (٣).

الى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى ، وجميعها تدل على ان اذاعة السر انما هو في العقائد التي لو أظهرت أورثت ضررا على صاحبها ، فنقل ما يشتمل عليها على صاحبها مناف للتقية التي أمر بها عند الخوف على النفس أو على الغير ، فليس هذا قسما ثالثا غير القسمين السابقين والأمر واضح.

__________________

(١) ما ندا دما الظاهر انه بمعنى ما أصاب دما.

(٢) الحديث ١٤ من الباب ٣٤.

(٣) الحديث ١٥ من الباب ٣٤.

٤٩٣

٩ ـ هل يحرم تسمية

المهدي عليه‌السلام باسمه الشريف؟

المشهور بين جمع من المحدثين حرمة تسميته أرواحنا له الفداء باسمه الخاص ، دون ألقابه المعروفة ، فهل هذا حكم يختص بزمان غيبته الصغرى دون الكبرى كما نقله العلامة المجلسي في المجلد ١٣ من بحار ـ الأنوار عن بعض؟

أو انه عام لكل زمان ومكان الى ان يظهر ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا؟

أو ان حرمتها دائرة مدار التقية والخوف ، فعند عدم الخوف جائز وعند وجوده حرام ؛ بل لا يختص ذلك به أرواحنا فداه ويجري في غيره من الأئمة (عليهم‌السلام) اختار ذلك شيخنا الشيخ الحر العاملي في الوسائل في مفتتح هذا الباب وصرح به أيضا في ختامه.

ولنذكر أولا الأخبار الواردة في هذا الباب ثمَّ نتبعها بذكر المختار

٤٩٤

وهي على طوائف :

الطائفة الأولى :

ما دل على حرمة التسمية باسمه الشريف مطلقا من دون اى تقية من ناحية الزمان والمكان ولم يعلل بتعليل خاص وإليك جملة منها :

١ ـ ما رواه الكليني عن على بن رئاب عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : صاحب هذا الأمر لا يسميه باسمه إلا كافر (١).

٢ ـ ما رواه أيضا عن الريان بن الصلت قال سئلت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام وسئل عن القائم قال : لا يرى جسمه ولا يسمى اسمه. (٢)

٣ ـ ما رواه الصدوق (قدس‌سره) في كتاب إكمال الدين عن صفوان بن مهران عن الصادق عليه‌السلام انه قيل له من المهدى من ولدك؟ قال : الخامس من ولد السابع يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته (٣).

٤ ـ وما رواه أيضا في ذاك المصدر عن محمد بن عثمان العمرى قال خرج توقيع بخط أعرفه : من سماني في مجمع من الناس فعليه لعنة الله. (٤)

بناء على عدم اختصاصه بذاك الزمان كما هو ظاهر الإطلاق.

٥ ـ ما رواه الصدوق أيضا في إكمال الدين عن عبد العظيم الحسنى عن محمد بن على بن موسى عليه‌السلام في ذكر القائم عليه‌السلام قال يخفى

__________________

(١) الحديث ٤ من الباب ٣٣ من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

(٢) الحديث ٥ من الباب ٣٣ من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

(٣) الحديث ١١ من الباب ٣٣ من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

(٤) الحديث ١٣ من الباب ٣٣ من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

٤٩٥

على الناس ولادته ويغيب عنهم شخصه وتحرم عليهم تسميته وهو سمى رسول الله وكنيه الحديث. (١) الى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى.

الطائفة الثانية :

ما ورد في التصريح بترك تسميته الى ان يقوم ويملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا ، وإليك بعض ما ورد في هذا المعنى :

١ ـ ما رواه العلامة المجلسي في بحار الأنوار عن محمد بن زياد الأزدي عن موسى بن جعفر عليه‌السلام انه قال : عند ذكر القائم يخفى على الناس ولادته ولا يحل لهم تسميته حتى يظهره عزوجل فيملأ به الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا. (٢)

٢ ـ ما رواه أيضا عن عبد العظيم الحسنى عن ابى الحسن الثالث عليه‌السلام انه قال عليه‌السلام في القائم لا يحل ذكره باسم حتى يخرج فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا الحديث (٣).

٣ ـ ما رواه الكليني بسنده عن ابى هاشم داود بن القاسم الجعفري عن ابى جعفر عليه‌السلام في حديث انه قال : واشهد على رجل من ولد الحسن لا يسمى ولا يكنى حتى يظهر أمره فيملأها عدلا كما ملئت جورا ، إنه القائم

__________________

(١) الحديث ١٤ من الباب ٣٣ من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

(٢) المجلد ١٣ من البحار صفحة ٨ من طبع أمين الضرب.

(٣) المجلد ١٣ من البحار صفحة ٨ من طبع أمين الضرب.

٤٩٦

بأمر الحسن بن على عليه‌السلام (١).

٤ ـ ما رواه الصدوق أيضا في كتاب إكمال الدين بسنده عن عبد العظيم الحسنى عن سيدنا على بن محمد عليه‌السلام انه عرض عليه اعتقاده وإقراره بالأئمة ـ الى ان قال ـ ثمَّ أنت يا مولاي ، فقال له (عليه‌السلام) ومن بعدي ابني الحسن ، فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قلت فكيف ذلك؟ قال : لأنه لا يرى شخصه ، ولا يحل ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطا وعدلا ـ الى ان قال ـ هذا ديني ودين آبائي (٢).

الى غير ذلك مما يدل عليه.

الطائفة الثالثة

ما دل على عدم جواز تسميته عليه‌السلام معللا بالخوف ، واليه بعض ما ورد في هذا المعنى.

١ ـ ما رواه الكليني بسنده عن على بن محمد عن ابى عبد الله الصالحي قال : سألني أصحابنا بعد مضى أبى محمد عليه‌السلام ان أسأل عن الاسم والمكان فخرج الجواب : ان دللتم على الاسم أذاعوه وان عرفوا

__________________

(١) الحديث ٣ من الباب ٣٣ من أبواب الأمر بالمعروف من المجلد ١١ من الوسائل.

(٢) الحديث ٩ من الباب ٣٣ من أبواب الأمر بالمعروف من المجلد ١١ من الوسائل.

٤٩٧

المكان دلوا عليه (١).

قال المحدث الشيخ الحر العاملي قدس‌سره بعد نقل هذا الحديث : هذا دال على اختصاص النهى بالخوف وترتب المفسدة.

٢ ـ ما رواه أيضا عن عبد الله بن جعفر الحميري عن محمد بن عثمان العمرى (في حديث) انه قال له : أنت رأيت الخلف؟ قال : اى والله ـ الى ان قال ـ فالاسم؟ قال محرم عليكم ان تسألوا عن ذلك ولا أقول ذلك من عندي فليس لي ان أحلل ولا أحرم ، ولكن عنه عليه‌السلام فإن الأمر عند السلطان ان أبا محمد مضى ولم يخلف ولدا ـ الى ان قال ـ وإذا وقع الاسم وقع الطلب فاتقوه الله وأمسكوا عن ذلك (٢) :

وهذا كالصريح في ان النهى لمكان الخوف عليه عليه‌السلام وانه إذا وقع الاسم طلبوه ، فنهى عن التسمية بل أبهمت التسمية كي لا يطلع عليه من لا يعلمه وحرم على من يعلمه.

٣ ـ ما رواه الصدوق في إكمال الدين عن على بن عاصم الكوفي يقول : خرج في توقيعات صاحب الزمان ملعون ملعون من سماني في محفل من الناس (٣).

والتقييد بقوله «في محفل من الناس» دليل على جوازه في غير محافلهم بناء على دلالة القيد على المفهوم في هذه المقامات ـ وان النهى

__________________

(١) الحديث ٧ من الباب ٣٣ من أبواب الأمر بالمعروف من المجلد ١١ من الوسائل.

(٢) الحديث ٨ من الباب ٣٣ من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

(٣) الحديث ١٢ من الباب ٣٣ من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

٤٩٨

انما هو من جهة التقية عنهم.

٤ ـ ما رواه أيضا عن محمد بن همام عن محمد بن عثمان العمرى قال خرج توقيع بخط أعرفه : من سماني في مجمع من الناس فعليه لعنة الله (١).

ودلالته كسابقه.

٥ ـ ما رواه في البحار عن ابى خالد الكابلي قال : لما مضى على بن الحسين عليه‌السلام دخلت على محمد بن على الباقر عليه‌السلام فقلت جعلت فداك قد عرفت انفطاعى إلى أبيك وانسى به ووحشتي من الناس.

قال : صدقت يا أبا خالد تريد ما ذا؟

قلت : جعلت فداك قد وصف لي أبوك صاحب هذا الأمر بصفة لو رأيته في بعض الطرق لأخذت بيده :

قال : فتريد ما ذا يا أبا خالد؟

قال : أريد أن تسمية لي حتى أعرفه باسمه.

فقال : سألتني والله يا أبا خالد عن سؤال مجهد ولقد سألتني بأمر ما كنت محدثا به أحدا لحدثتك ولقد سألتني عن أمر لو ان بنى فاطمة عرفوه حرصوا على ان يقطعوه بضعة (٢)

بناء على ان قوله «لو ان بنى فاطمة إلى أخر» تدل على قصد بعضهم الإضرار به فضلا عن غيرهم فلذلك لم يسمه عليه‌السلام باسمه حتى يكون مكتوما فلا يعرف ولا تصل أيدي المخالفين اليه خوفا من الإضرار به.

والمستفاد من جميع ذلك ان إخفاء اسمه ليس لأمر تعبدي خاص

__________________

(١) الحديث ٧ من الباب ٣٣ من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

(٢) بحار الأنوار المجلد ١٣ صفحة ٨.

٤٩٩

بل بملاك التقية بما لها من الشروط لا غير.

الطائفة الرابعة

ما يدل على وقوع التسمية منهم (عليهم‌السلام) أو من أصحابهم في موارد عديدة بلا نهى منهم ، وإليك بعض ما ورد في هذا المعنى :

١ ـ ما رواه الصدوق في إكمال الدين بسنده عن محمد بن إبراهيم الكوفي ان أبا محمد الحسن بن على العسكري عليه‌السلام بعث الى بعض من سماه شاة مذبوحة وقال : هذه من عقيقة بنى محمد (١).

وهذا تصريح بالاسم منهم صريحا ، واجازه بالتصريح من غيرهم تلويحا.

٢ ـ ما رواه أيضا عن ابى غانم الخادم قال : ولد لأبي محمد عليه‌السلام مولود فسماه محمدا وعرضه على أصحابه يوم الثالث وقال هذا صاحبكم من بعدي وخليفتي عليكم وهو القائم (٢).

وهذا الحديث وان لم يكن دالا على التسمية منهم ، الا ان ذلك لو كان ممنوعا لم يتسرع إليه أبو غانم الخادم ، بل هو دليل على ان الامام العسكري عليه‌السلام صرح باسمه له ولأمثاله.

٣ ـ وما رواه أيضا عن الكليني عن علان الرازي عن بعض أصحابنا انه لما حملت جارية أبي محمد عليه‌السلام قال : ستحملين ولدا واسمه محمد

__________________

(١) الحديث ١٥ من الباب ٣٣ من أبواب الأمر بالمعروف.

(٢) الحديث ١٦ من الباب ٣٣ من أبواب الأمر بالمعروف.

٥٠٠