القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

علاجها وهو باب «التعادل والترجيح» وخامسها أبحاث تدور حول «الاجتهاد والتقليد» وحجية قول المجتهد للعامي وحدودها وشرائطها فهي قسم من بحث الحجج الشرعية الا انها مخصوصة بالمقلدين ، كما ان ما قبلها اعنى أبحاث التعادل والترجيح ترجع إليها أيضا لأنها ترجع الى تعيين ما هي الحجة من الأدلة المتعارضة.

ثمَّ لا ريب ان علم الأصول لم يكن بادي الأمر مشتملا على عامة تلك الأبحاث كما يظهر بمراجعة كتب الأقدمين من الأصوليين ؛ بل زيدت عليه تدريجا حتى بلغ ما نشاهده اليوم ولا شك في انا نرى نحوا من الارتباط بين هذه المسائل إجمالا بحيث لا يستنفر الطبع من جعلها علما واحدا منفردا بالتدوين ، وهذا شيء يظهر للناظر في أول نظره ، كما انا نرى بينهما اشتراكا في الأثر وهو أنها تعطى الفقيه قدرة قريبة على كشف الأحكام الشرعية عن مداركها ، واشتراك جميع مسائلها في هذا الأثر أيضا مما لا ينكر ؛ أضف الى ذلك انا نرى فرقا واضحا بين هذه المسائل وسائر العلوم التي يحتاج إليها في الفقه كعلمي الرجال والحديث واللغة وغيرها بحيث إذا عرض علينا بعض تلك المسائل لم نشك انها من الأصول أو ليست منها ، كل ذلك معلوم بالوجدان.

وهذه الأمور ، اعنى الارتباط الذي يوجد بين تلك المسائل ، واتحادها في الأثر الخاص ؛ وتمايزها عن مسائل سائر العلوم ، المعلوم بالوجدان إجمالا ، كلها حاكية عن وجود نوع من الوحدة بين تلك المسائل يتجلى بأنحاء مختلفة ومن الواضح ان جمع هذه المسائل المختلفة بهذا النحو وجعلها علما واحدا كما تصدى له جمع من المحققين وقرره الآخرون لم يكن صدفة واتفاقا بل لم يحملهم على ذلك الا الربط الواقعي بينها.

فاذن لا يمكننا القول بخروج بعض هذه الأبحاث من المسائل الأصلية وعدها بحثا استطراديا كما ارتكبه كثير منهم ، حتى جعل المحقق القمي قدس‌سره جل تلك المباحث الا ما شذ منها خارجا عن مسائل الأصول داخلا في مباديها ، نظرا إلى انها ليست ابحاثا عن عوارض الأدلة الأربعة بل عن الأدلة بما هي أدلة. وليت شعري إذا كانت عامة مباحث الألفاظ وجميع أبحاث الأدلة الاجتهادية وكذا الأصول العملية خارجة عن علم الأصول فأين هذا العلم الذي فرع الاسماع وملأ الكتب وهل هو البحث عن أحوال تعارض

٢١

الدليلين فقط وما الداعي إلى إخراج هذه المسائل المهمة عن علم الأصول؟ ويتلوه في الضعف قول من يرى دخول مباحث الألفاظ طرأ في مبادي هذا العلم ، مع انها تقرب من نصف مسائل الأصول ولا يرى اى فرق بينها وبين غيرها من مسائلها فيما يرام من اهدافه فالحق ان تصحيح التعاريف التي ذكروها للأصول أهون من ارتكاب التفكيك بين تلك المسائل.

والتعريف الجامع بين عامة تلك المسائل وما أشبهها ، الحاكي عن الوحدة التي تتضمنها ، هو ان يقال : «ان مسائل الأصول هي القواعد العامة الممهدة لحاجة الفقيه إليها في تشخيص الوظائف الكلية للمكلفين» فالمسائل الأصولية تمتاز عن غيرها من المسائل الفقهية والقواعد الفقهية وسائر العلوم بأمور :

أولها ـ انها ممهدة لحاجة الفقيه إليها في تشخيص وظائف المكلفين ، ولهذا تمتاز عن العلوم الأدبية وأمثالها التي لا يستغنى عنها الفقيه ، حيث لم تمهد لذلك كما انه يعلم منه ان البحث عن صيغة الأمر ومادتها وكذا المشتق وأمثاله أبحاث أصولية وان كانت تشبه الأبحاث اللغوية والأدبية ، لأنها مهدت لحاجة الفقيه إليها.

ثانيها ـ ان نتائجها أحكام ووظائف كلية ، فالبحث عن حجية الاستصحاب في الشبهات الموضوعية وكذا البراءة والاحتياط الجاريتان فيها وما شاكلها ليست ابحاثا أصولية لان نتائجها أحكام ووظائف شخصية.

ثالثها ـ انها لا تختص بباب دون باب وبموضوع معين دون آخر ، بل تشمل جميع الموضوعات في جميع أبواب الفقه ، مهما وجدلها مصداق ، فان البحث عن هيئة الأمر ومادته وأبحاث العموم والخصوص وكذلك أبحاث الأدلة الاجتهادية والأصول العملية واحكام التعارض وغيرها لا يختص بموضوع دون آخر وبباب من أبواب الفقه دون باب وبهذا تمتاز عن القواعد الفقهية كما سيأتي شرحه إنشاء الله

ومما ذكرنا تعرف انه ليس من شرط المسألة الأصولية الوقوع في طريق استنباط الحكم ، كما يظهر من غير واحد من الاعلام ، وذلك لان البحث في كثير من مسائله بحث عن نفس الحكم الشرعي لا عما يقع في طريق استنباطه ، كالبحث عن

٢٢

البراءة الشرعية في الشبهات الحكمية المستفادة من قوله عليه‌السلام «كل شيء لك حلال» بناء أعلى شموله للشبهات الحكمية ، فإن هذا البحث بحث عن حكم شرعي عام ، وهو الإباحة ، غاية الأمر انه لا يختص بباب دون باب وبموضوع دون آخر ، بخلاف الاحكام المبحوث عنها في الفقه. وكذا الكلام في غير البراءة من الأصول العملية عقلية كانت أو شرعية ، فإن ما اشتمل منها على حكم ظاهري شرعي كان البحث منه بحثا عن نفس الحكم الشرعي واما في غيره فالبحث يدور مدار بيان وظيفة الشاك عند الحيرة والشك على نحو كلى عام من دون اختصاص بباب دون باب وبموضوع دون آخر ، كما هو شأن المسائل الفرعية.

* * *

واما المسائل الفقهية فهي «المسائل الباحثة عن الاحكام والوظائف العملية الشرعية وما يئول إليها وعن موضوعاتها الشرعية» فالمسائل الباحثة عن الأحكام الخمسة المشهورة ، وكذا ما يبحث عن الأحكام الوضعية ، وما يبحث عن ماهية العبادات ، وكذا البحث عن مثل الطهارة والنجاسة الثابتتين لموضوعات خاصة ، مما يئول إلى الأحكام تكليفية أو وضعية تتعلق بأفعال المكلفين ، كلها أبحاث فقهية داخلة فيما ذكرنا ، كما ان البحث عن عبادات الصبي وسائر الاحكام التي تشمله أيضا كذلك ، فموضوع المسألة الفقهية ليس خصوص الافعال ، ولا أفعال المكلفين ، لاستلزامه القول بالاستطراد في كثير من مسائله ، كالابحاث المتعلقة بعبادات الصبي وسائر أفعاله ، وكالمسائل الباحثة عن أحكام وضعية متعلقة بأعيان خارجية كأحكام المياه والمطهرات والنجاسات ، ولا داعي إلى إخراجها من الفقه مع كثرتها ، كما انه لا وجه لصرفها عن ظاهرها وإرجاعها إلى البحث عن أفعال المكلفين بالتعسف والتكلف

* * *

ومن هنا تعرف ان القواعد الفقهية «هي أحكام عامة فقهية تجري في أبواب مختلفة» وموضوعاتها وان كانت أخص من المسائل ، الأصولية الا انها أعم من المسائل الفقهية. فهي كالبرازخ بين الأصول والفقه ، حيث انها إما تختص بعدة

٢٣

من أبواب الفقه لا جميعها ، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة والنجاسة فقط ، وقاعدة لا تعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب ، وقاعدة ما يضمن وما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخص دون غيرها. واما مختصة بموضوعات معينة خارجية وان عمت أبواب الفقه كلها ، كقاعدتي لا ضرر ولا حرج فإنهما وان كانتا تجريان في جل أبواب الفقه أو كلها ؛ إلا أنهما تدوران حول موضوعات خاصة ، وهي الموضوعات الضررية والحرجيّة.

وهذا بخلاف المسائل الأصولية فإنها اما لا تشتمل على حكم شرعي أصلا بل يكون واقعا في طريق استنباطه ككثير من مسائله ؛ واما تتضمن حكما عاما كالبراءة الشرعية الجارية فيما لا نص فيه على ما عرفت من غير اختصاص بموضوع دون آخر بل تجري في جميع الموضوعات إذا فقد فيها النص.

لا يقال : انها تختص أيضا بموضوع خاص وهو ما لا نص فيه ، فانا نقول : ان هذه الخصوصية ليست خصوصية خارجية من قبل ذات الموضوع ، وانما هي خصوصية ناشئة من ملاحظة حكم الشرع كما لا يخفى على الخبير.

والغرض من جميع ما ذكرنا في تعريف المسألة الأصولية والفقهية والقاعدة الفقهية تشخيص حال بعض المسائل المتشابهة التي قد يقع البحث عنها ، وانها من الأصول أو من القواعد الفقهية أو من الفقه نفسه. ومن المعلوم ان تشخيص حال المسألة واندراجها في كل واحد من العلوم له دخل تام في طور البحث عنها وكيفية استفادتها عن مباديها الخاصة ، فإن كل واحد من هذه العلوم يمتاز بنوع من البحث لا يجري في غيره ، كما أشرنا إليه في المقدمة فكن على بصيرة منها.

* * *

فائدة ـ قد اشتهر في السنة جماعة من الأصوليين أن المسائل الأصولية تنفع المجتهد دون المقلد ، بخلاف المسائل الفقهية فإنها تنفع المجتهد والمقلد كليهما ، وقد يجعل هذا طريقا لتمييز المسألة الأصولية عن الفقهية.

ومن نتائج هذا البحث ـ كما صرحوا به ـ هو ان تطبيق كبريات المسائل

٢٤

الفقهية على مصاديقها الجزئية ليس من شأن الفقيه ، بل عليه بيان الأحكام الفرعية الكلية الدائرة على موضوعاتها العامة واما تشخيص مصاديقها وتطبيقها عليها عند الحاجة إليها فهو موكول الى المقلد ، ليس للفقيه فيه نصيب أصلا ـ اللهم إلا في عمل نفسه. وعلى هذا لو كان تشخيص المقلد في بعض الموضوعات مخالفا لمجتهده فليس قوله حجة في حقه ، بل (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ).

وفيه اشكال واضح ، فإنه مخالف لما استقر عليه ديدنهم في طيات كتب الفقه ، فنراهم يكثرون البحث عن تشخيص المصاديق الخارجية وصدق العناوين العرفية الواردة في أدلة الأحكام الشرعية على مصاديق مشكوكة وعدم صدقها ثمَّ الإفتاء بما يستقر عليه أنظارهم.

فنراهم مثلا يبحثون عن «التغيير» الموجب لنجاسة الماء وانه صادق على التقديري حتى يحكم بنجاسة إذا تغير تقديرا أم لا ؛ وعن الماء الذي نقص عن الكر بمقدار يسير ان إطلاق «الكر» عليه هل هو من باب المجاز والمسامحة أم حقيقة بنظر العرف حتى يجرى عليه احكام الكر؟ وكذا ما أشبهه من التحديدات الواردة في الشريعة ، وعن الأحجار المأخوذة من المعادن ، هل يصدق عليها عنوان «الأرض» الوارد في أبواب ما يصح السجود عليه حتى يصح السجود عليها أم لا؟ وانه هل يجوز السجود على قشور الفواكه مطلقا أو بعد انفصالها ، نظر الى صدق عنوان «ما أكل» الوارد في اخبار الباب عليها أم لا؟. الى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ، فإن جميع ذلك في الحقيقة راجعة إلى تشخيص الموضوعات العرفية الخارجية ؛ فلو لا ان هذه التطبيقات موكولة إلى نظر الفقيه لكان من الواجب الإفتاء بالكليات فقط بان يقال : الماء إذا تغير بالنجاسة نجس ؛ والكر طاهر مطهر ، ويجب السجود على الأرض وما خرج منها الا ما أكل وليس ، ويخلى بين المقلدين وبين مصاديق هذه الكبريات الكلية.

والسر في جريان سيرتهم في الفقه على ذلك ان ملاك التقليد ـ وهو لزوم رجوع الجاهل الى العالم ـ لا يختص بالأحكام الكلية ، بل قد يحتاج تطبيق كثير من الموضوعات العرفية على مصاديقها إلى دقة في النظر وتعمق في الفكر ، خارجة

٢٥

عن قدرة العوام كالأمثلة المذكورة ، فعليهم الرجوع فيها الى نظر المجتهد ورأيه ؛ والمجتهد يرجع في تشخيصها الى ارتكاز اتهم المغفولة الموجودة في أعماق أذهانهم وأذهان جميع أهل العرف ـ ومنهم مقلديه ـ فيستخرجها وبها يكشف صدق هذه العناوين على المصاديق المشكوكة وعدمه ، فيفتى بمقتضاه. نعم في المفاهيم الواضحة التي لا فرق فيها بين المجتهد والعامي ـ كمفهوم الماء والدم وأمثالهما ـ كل يرجع الى تشخيصه وليس تشخيص واحد منهما حجة في حق غيره.

ومنه يظهر وجه عدم جواز تفويض أمر الاستصحاب وغيره من الأصول العملية في الشبهات الموضوعية الى المقلدين مع انها ليست من المسائل الأصولية قطعا ، والوجه فيه ان تشخيص مجاريها ومعارضاتها والحاكم والمحكوم منها مما لا يقدر عليه العامي فهو جاهل بها ويجب عليه الرجوع الى العالم بها وقد عرفت ان رجوع الجاهل الى العالم لا يختص بالأحكام الكلية ؛ بل يعمها والموضوعات المشكلة وما شاكلها لاتحاد ملاك الرجوع في الجميع.

أقسام القواعد الفقهية

تنقسم القواعد الفقهية إلى أقسام :

الأول ـ ما لا يختص بباب من الفقه دون باب بل يجرى بحسب مدلوله في جل الأبواب أو كلها الا ان يمنع منه مانع ، مثل قاعدة لا ضرر وقاعدة لا حرج وقاعدتي القرعة والصحة على قول ، ولنسمها «القواعد العامة».

الثاني ـ ما يختص بأبواب المعاملات بالمعنى الأخص ولا يجري في غيرها ، كقاعدة التلف في زمن الخيار ؛ وقاعدة ما يضمن وما لا يضمن ، وقاعدة عدم ضمان الأمين وما شابهها.

الثالث ـ ما يختص بأبواب العبادات ، كقاعدة لا تعاد ، وقاعدة التجاوز والفراغ على المعروف ، وما يضاهيهما.

الرابع ـ ما يجري في أبواب المعاملات بالمعنى الأعم كقاعدة الطهارة وغيرها.

٢٦

الخامس ما يعمل لكشف الموضوعات الخارجية الواقعة تحت أدلة الاحكام مثل حجية البينة وحجية قول ذي اليد ، وكفاية العدل الواحد في الموضوعات وعدمها فهي كالامارات التي يستند إليها في باب الاحكام والفرق بينها وبين هذا القسم من القواعد الفقهية أنها تعمل لكشف الأحكام الكلية وهذه تعمل لكشف الموضوعات ، الى غير ذلك من الاقسام. والاولى ان نخص كل قسم من هذه الاقسام ببحث مستقل لما بين القواعد المندرجة تحت كل قسم من القرابة والمشاكلة الموجبة لتسهيل الأمر في إثباتها ودرك حقائقها وحل مشكلاتها.

«والحمد لله أولا وآخرا»

٢٧

القاعدة الأولى

قاعدة لا ضرر

هذه القاعدة من أشهر القواعد الفقهية ، يستدل بها في جل أبواب الفقه من العبادات والمعاملات ، بل هي المدرك الوحيد لكثير من المسائل ؛ ولهذا أفردوها بالبحث وصنف فيها غير واحد من أعاظم المتأخرين رسالات مستقلة بينوا فيها حال القاعدة من حيث مدركها ومعناها ، وفروعها ونتائجها. منهم العلامة الأكبر شيخنا الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري قده ؛ صنف فيها رسالة طبعت في ملحقات مكاسبه بعد ان تعرض لها استطرادا في فرائده ذيل قاعدة الاشتغال ، والعلامة المحقق شيخ الشريعة الأصفهاني قده ، والعلامة النحرير النائيني قده ، وجعلها العلامة النراقي قده ، العائدة الرابعة من «عوائده».

فبعضهم تقبّلها بقبول حسن وجعلها مدركا لكثير من الفروع الفقهية ، وبعضهم خرّب بنيانها من القواعد واعتقد بعدم إمكان الاعتماد عليها لإثبات شيء من الفروع التي لا يوجد لها مدرك سواها ، وبعضهم رآها حكما قضائيا يعتمد عليها في أبواب القضاء لا غير ؛ بما سنتلو عليك منها ذكرا فهذه القاعدة تليق بالبحث والتفتيح التام لكي يتضح حال تلك الفروع الكثيرة المتفرعة عليها في الأبواب المختلفة من الفقه. فنقول ـ ومن الله جل ثنائه التوفيق والهداية ـ ان الكلام فيها يقع في مقامات :

المقام الأول في مدركها

لا ريب في ان نفى الضرر والضرار في الجملة من الأمور التي يستقل بها العقل ، ويشهد له في مقامات خاصة آيات من الكتاب العزيز

٢٨

قال الله تعالى (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)(١) نهى سبحانه عن إضرار الام بولدها بترك إرضاعه غيظا على أبيه لبعض الجهات ، كما انه نهى عن إضرار الأب بولده بمنع رزقهن وكسوتهن بالمعروف مدة الرضاع ، فيمتنعن عن إرضاع الولد ، فيتضرر منه الولد ، وهذا أظهر الاحتمالات في معنى الآية الشريفة ، ويشهد له صدرها أيضا حيث قال سبحانه (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فإنه يشتمل على حكمين : حكم إرضاع الام حولين كاملين وحكم الإنفاق عليهن مدة الرضاع ، وذيل الاية متمم لهذين الحكمين فكأنه سبحانه قال : فان ابى أحدهما عن القيام بما هو وظيفة له ـ الأب من الإنفاق والام من الإرضاع ـ فعلى الأخر ان لا تعامله بترك وظيفته فيضر بالولد من هذه الناحية ، ويؤيده أيضا قوله تعالى (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) كما لا يخفى ، وعلى هذا يكون قوله (لا يُضَارَّ) مبنيا للفاعل والباء زائدة فإن المضارة تتعدى بنفسها.

وقد يذكر في معنى الآية احتمالات أخر مبتنية على كون (لا تُضَارَّ) مبنيا للمفعول والباء للسببية مثل ما ذكره الفاضل المقداد في «كنز العرفان في فقه القرآن» حيث قال : «قيل ان المراد ان لا يضار بالوالدة بأن يترك جماعها خوفا من الحمل ولا هي تمتنع من الجماع خوفا من الحمل فتضر بالأب روى عن الباقر والصادق عليهما‌السلام» وعلى هذا المعنى ، الآية تدل على نهى الأب عن الإضرار بالأم وبالعكس بسبب خوف الولد ، وعلى الأول تدل على نهيهما عن الإضرار بالولد ، فهي على كل حال دالة على نفى الضرر والنهى عن الإضرار في الجملة وهو المطلوب واما تمام الكلام في فقه الآية فهو في محله.

وقال أيضا في حق النساء المطلقات (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ)(٢) نهى سبحانه عن الإضرار والتضييق على المطلقات في السكنى والنفقة في أيام عدتهن ، كما اوصى بهن في موضع آخر بقوله (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا)(٣) نهى عن الرجوع الى المطلقات الرجعية لا لرغبة فيهن بل لطلب الإضرار بهن كالتقصير في النفقة أو

__________________

(١) البقرة ـ ٢٣٣

(٢) الطلاق ـ ٦

(٣) البقرة ـ ٢٣١.

٢٩

لتطويل المدة حتى تلجأ الى بذل مهرها ـ كما أشار إليه في كنز العرفان.

وقال سبحانه ناهيا عن الإضرار بالوارث وتضييع حقوقهم (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ)(١) نهى عن الإضرار بالوراث في الوصية بأن يوصي ببعض الوصايا إجحافا عليهم ودفعا لهم عن حقهم أو يقر بدين ليس عليه دفعا للميراث عنهم ويشير إليه أيضا قوله تعالى (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) والجنف هو الميل إلى إفراط أو تفريط والإضرار بالورثة.

وقال أيضا ولا يضار كاتب ولا شهيد (٢) نهى عن إضرار كاتب الدين والشاهد عليه أو على البيع ، بان يكتب ما لم يمل أو يشهد بما لم يستشهد عليه ، هذا إذا قدر الفعل اعنى لا يضار مبنيا للفاعل ، واما إذا قدر مبنيا للمفعول فالنهي انما هو عن الإضرار بالكتاب والشهداء إذا أدوا حق الكتابة والشهادة ، على اختلاف الأقوال في تفسير الآية الشريفة.

* * *

هذا ولكن العمدة في إثبات هذه القاعدة على وجه عام هي الروايات الكثيرة المدعى تواترها ، المروية من طرق الفريقين ، وان اختلفت من حيث العبارة بل المضمون حيث ان بعضها عام وبعضها خاص الا ان مجموعها كاف في إثبات هذه الكلية.

وبما ان في استقصاء هذه الروايات فوائد جمة لا تنال الا به فاللازم ذكر ما وقفنا عليه في كتب اعلام الفريقين مما ذكرها المحققون في رسالاتهم المعمولة في المسألة وما لم يذكروها ليتم الفائدة بذلك إنشاء الله ، وانى وان بذلت جهدي في جمعها واستقصائها وأوردت ما أوردها الأصحاب في هذا الباب وأضفت عليها ما ظفرت به مما لم يشيروا اليه ، لكن لعل باحثا يقف على ما لم أقف عليه فان العلم غير محصور على قوم وكم ترك الأول للآخر. وكيف كان نبدء بذكر أخبار أصحابنا الاعلام ، ثمَّ نتبعها بذكر ما أورده الجمهور في أصولهم.

فما يدل على هذه القاعدة بعمومها من طرق الأصحاب روايات :

١ ـ ما رواه الكليني رضوان الله عليه في الكافي عن ابن مسكان عن زرارة عن

__________________

(١) النساء ـ ١٦ و ١٧

(٢) البقرة ـ ٢٨٤

٣٠

أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، قال : ان سمرة بن جندب (١) كان له عذق ، وكان طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار ، فكان يجيء ويدخل الى عذقه بغير اذن من الأنصاري فقال الأنصاري : يا سمرة! لا تزال تفجأنا على حال لا نحب ان تفجأنا عليه ، فاذا دخلت فاستأذن. فقال : لا استأذن في طريق ، وهو طريقي إلى عذقي. قال : فشكاه الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتاه فقال : ان فلانا قد شكاك وزعم انك تمر عليه وعلى اهله بغير إذنه ، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل ، فقال يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استأذن في طريق إلى

__________________

(١) «سمرة» بفتح الأول وضم الثاني وفتح الثالث ؛ و «جندب» بضم الأول وسكون الثاني وفتح الثالث على وزن «لعبة» صحابي من بنى شمخ بن فزارة. والذي يظهر من تتبع كتب الرجال والسير ، لا سيما ما نقله العلامة المامقاني وابن ابى الحديد ؛ في ترجمة الرجل انه كان من أشد الناس قسوة وعداوة لأهل البيت (عليهم‌السلام) وشيعتهم ، وكان لا يبالي بقتل الابرياء وجعل الأكاذيب وتحريف الكلم عن مواضعه ، وإليك نبذ مما التقطناها من مخازيه :

١ ـ ان معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم على ان يروى عن النّبي (ص) ان هذه الاية نزلت في على عليه‌السلام («وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) ـ الى قوله تعالى ـ (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)» وان هذه نزلت في ابن ملجم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فلم يقبل فزاده حتى بلغ أربعمائة ألف فقبل! (نقله ابن ابى الحديد في شرحه على نهج البلاغة)

٢ ـ استخلف زياد سمرة بن جندب على البصرة فاتى الكوفة وقد قتل ثمانية آلاف من الناس (وفي رواية من الشيعة!) فقال له زياد هل تخاف ان تكون قتلت أحدا بريئا؟ قال لو قتلت مثلهم ما خشيت! (رواه أبو جعفر الطبري في أحداث سنة خمسين من تاريخه).

٣ ـ قال سمرة : والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية لما عذبني ابدا! (نقله الطبري وابن الأثير).

٤ ـ ان سمرة بن جندب عاش حتى حضر مقتل الحسين (ع) وكان من شرطة ابن زياد وكان في أيام مسير الحسين عليه‌السلام الى العراق يحرض الناس على الخروج الى قتاله (نقله ابن ابى الحديد في شرحه) ولكن الذي يوهن هذه الرواية ما نقله من جماعة منهم البخاري انه مات سنة ٥٨ وفي نقل آخر ٥٩ وفي نقل ثالث ٦٠ مع ان وقعة الطف كانت سنة ٦١ فتدبر

٣١

عذقي؟ فقال له رسول الله (ص) خل عنه ولك مكانه عذق في مكان كذا وكذا ، فقال : لا ، قال : فلك اثنان قال : لا أريد ، فلم يزل يزيده حتى بلغ عشرة أعذاق فقال : لا ، قال فلك عشرة في مكان كذا وكذا. فأبى ، فقال : خل عنه ولك مكانه عذق في الجنة قال : لا أريد ، فقال له رسول الله (ص) انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن قال ثمَّ أمر بها رسول الله (ص) فقلعت ورمى بها اليه وقال له رسول الله (ص) انطلق فاغرسها حيث شئت (نقله في الوسائل في الباب ١٢ من كتاب احياء الموات).

٢ ـ ما رواه في الكافي أيضا عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن ابى جعفر (ع) قال : ان سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، فكان يمر به الى نخلته ولا يستأذن ، فكلمه الأنصاري ان يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة ، فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول الله (ص) فشكا اليه وخبره الخبر فأرسل إليه رسول الله (ص) وخبره بقول الأنصاري وما شكاه ، قال : إذا أردت الدخول فاستأذن فأبى ، فلما ابى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبى ان يبيع ، فقال لك بها عذق يمد لك في الجنة فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله «ص» للأنصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار ، (رواه في الوسائل في الباب ١٢ من كتاب احياء الموات ثمَّ قال : ورواه الصدوق بإسناده عن ابن بكير نحوه ، ورواه الشيخ بإسناده عن احمد بن محمد بن خالد مثله).

ولا يخفى ان هذه الرواية وما قبلها رواية واحدة تحكي عن قضية واحدة نقلها

__________________

ولو لم يكن دليل على فسق الرجل ومعاداته للحق وأوليائه إلا هذه الرواية المنقولة في المتن عن الجوامع المعتبرة الحاكية عن اعتدائه على الأنصاري ، لكان كافيا ، فإنه صريح في طغيانه واجترائه على رسول الله (ص) والتبارز بعصيانه قبال امره المؤكد بأنواع التأكيد وقد قال الله تعالى (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء ـ ٦٩) بل قد يلوح منها أمارات كفره ، فان من البعيد ان يكون الإنسان مؤمنا بالمعاد ووعده تعالى بالثواب والجزاء ثمَّ لا يقبل ضمان رسوله (ص) نعم الجنة له ضمانا صريحا بثمن بخس.

٣٢

زرارة عن ابى جعفر الباقر عليه‌السلام وعمدة الفرق بين الطريقين هو ذكر قيد «على مؤمن» في قوله «لا ضرر ولا ضرار على مؤمن» في الأول منهما دون الأخير ، وسيأتي ان له دخلا في فهم مغزى الحديث ،

٣ ـ ما رواه الصدوق في «من لا يحضره الفقيه» بإسناده عن الحسن الصيقل عن «ابى عبيدة الحذاء» قال قال أبو جعفر (ع) كان لسمرة بن جندب نخلة في حائط بنى فلان فكان إذا جاء الرجل الى نخلته نظر الى شيئي من أهل الرجل فكرهه الرجل فذهب الرجل الى رسول الله (ص) فشكاه فقال يا رسول الله (ص) ان سمرة يدخل عليّ بغير اذنى فلو أرسلت إليه فأمرته أن يستأذن حتى تأخذ أهلي خدرها منه ، فأرسل إليه رسول الله (ص) فدعاه فقال : يا سمرة! ما شأن فلان يشكوك ويقول تدخل بغير اذنى فترى من اهله ما يكره ذلك؟ يا سمرة استأذن إذا أنت دخلت ، ثمَّ قال له رسول الله (ص) يسرك ان يكون لك عذق في الجنة بنخلتك؟ قال لا ، قال : لك ثلثة قال : لا ؛ قال : ما أراك يا سمرة إلا مضارا اذهب يا فلان فاقلعها واضرب بها وجهة (رواه فيمن لا يحضره الفقيه في باب حكم الحريم)

وهذه الرواية كما ترى خالية عن ذكر فقرة «لا ضرر ولا ضرار» ولكنها مشتملة على صغراها وهي قوله : ما أراك يا سمرة إلا مضارا» ، وكيف كان فلا ريب في ان هذه الروايات الثلاث حكاية عن قضية واحدة وان اختلفت عباراتها وبعض خصوصياتها ، نقلها «زرارة» تارة و «أبو عبيدة الحذاء» اخرى ، ويظهر منها انه كان لسمرة بن جندب حق العبور الى نخلته من باب البستان الذي كان عنده دار الأنصاري ؛ ولكن أراد استيفاء حقه مع الإضرار بالأنصاري ولم يرض بالجمع بين حقه وحق الأنصاري بأن يكون دخوله مع استيذان منه بل ولم يرض بالاستبدال عنها فدفع عنه رسول الله (ص) شره وأمر بقلع نخلته ، لانحصار طريق استخلاص الأنصاري الظالم المجحف فيه ، وفي فقه الرواية أبحاث تأتي في محله عن قريب إنشاء الله.

٤ ـ ما رواه في الكافي عن عقبة بن خالد عن ابى عبد الله (ع) : قضى رسول الله (ص) بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال : لا ضرر ولا ضرار وقال إذا أرفت الأرف وحدث الحدود فلا شفعة (رواه في الوسائل عن الكافي في الباب ٥ من أبواب

٣٣

الشفعة ، ثمَّ أشار الى رواية الشيخ والصدوق له بطرقهما الا ان في رواية الصدوق زيادة وهي : «ولا شفعة إلا لشريك غير مقاسم»).

ويظهر من هذا الحديث ان العلة أو الحكمة في جعل «حق الشفعة» للشريك هي لزوم الضرر والإضرار عند فقده فإن الإنسان لا يرضى بأي شريك ، ويدل أيضا على ان هذا الحق ثابت في المشاع وقبل القسمة ، واما بعدها فلا شفعة وهو المراد من قوله : إذا أرفت الأرف (اى أعلمت علامات القسمة) وحدّت الحدود فلا شفعة ، ويدل عليه أيضا الزيادة الواردة في طريق الصدوق وهو قوله (ع) ولا شفعة إلا لشريك غير مقاسم (١).

وفي هذا الحديث أيضا أبحاث تدور حول قوله (ع) لا ضرر ولا ضرار وانها رواية مستقلة ذكره الراوي مع حكم الشفعة من باب الجمع في الرواية والنقل ، أو انها من تتمة رواية الشفعة ، والكلام فيها يأتي عن قريب إنشاء الله.

ورواها في «مجمع البحرين» في مادة «ضرر» الى قوله لا ضرر ولا ضرار الا ان فيه التقييد بقوله «في الإسلام» بعد قوله ولا ضرار. وليكن هذا على ذكر منك.

٥ ـ ما رواه في الكافي عن عقبة بن خالد عن ابى عبد الله (ع) قال : قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أهل المدينة في مشارب النخل انه لا يمنع نفع الشيء (٢) وقضى بين أهل البادية انه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء ، فقال : لا ضرر ولا ضرار (رواه في الوسائل في الباب السابع من أبواب إحياء الموات).

قال العلامة المدقق شيخ الشريعة الأصفهاني قدس‌سره ان في النسخة المصححة من الكافي عنده : «وقال لا ضرر ولا ضرار» ـ لا ـ فقال إلخ بأن يكون هذه الفقرة معطوفة على ما قبلها بالواو لا بالفاء ، فليكن هذا أيضا على ذكر منك. أقول : وهنا شيء

__________________

(١) قال شيخ الطائفة قدس‌سره في الخلاف في كتاب الشفعة في المسألة الثالثة : ومعنى أرف عليه اعلم عليه قال أبو عبيدة : يقال ارفتها تأريفا اى أعلمت لها علامات وهي لغة أهل الحجاز. انتهى كلامه.

(٢) الأصح على ما في بعض النسخ «النقع» وهو فاضل الماء ، يقال ، نقع البئر» اى فاضل مائها

٣٤

يجب التنبيه عليه وهو انه قد وقع الخلاف بينهم في ان مالك البئر إذا قضى حاجته وحاجة مواشيه وزرعه من مائها وفضل بعد ذلك شيء فهل يجب عليه بذله بلا عوض لمن احتاج اليه لشربه أو شرب ماشيته أو سقى زرعه ، أو مع العوض ، أم لا؟ والمعروف بينهم انه لا يجب ، ولكن المحكى عن شيخ الطائفة في المبسوط وفي الخلاف وعن ابن الجنيد والسيد ابى المكارم بن زهرة انه يجب بذله لمن احتاج اليه لشربه وشرب ماشيته خاصة والمسألة معنونة في كتاب «احياء الموات» ولنا في تأييد مختار الشيخ قدس‌سره وتضعيف ما ذهب اليه المشهور كلام يأتي.

وفي معنى قوله : «لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء احتمالات أحدها ان صاحب البئر إذا منع فضل مائها عن أهل البادية ، حتى منعوا عن سقى مواشيهم عند العطش الحاصل عادة بعد الرعي ، لم يقدروا على رعى مواشيهم حول الآبار ومنعوا من الاستفادة عن كلائها ، فمنع فضل الماء يمنع عن فضل الكلاء ثانيها ان صاحب البئر إذا منع فضل مائها عن أهل البادية قابله صاحب الكلاء بمنع فضل كلائه منه ثالثها ان صاحب البئر إذا منع فضل مائها فلعل أهل البادية يحتاجون اليه لزرعهم وكلائهم وذلك يضر بهم ويمنعهم عن الزرع والكلاء فلهذا أمر صاحب البئر بان لا يمنع فضل مائها حتى لا يمنع فضل الكلاء. ولعل أوجه الاحتمالات هو الأول فتدبر.

٦ ـ ما أرسله الصدوق قدس‌سره : قال قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإسلام يزيد ولا ينقص ، قال وقال لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، فالإسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرا قال وقال : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه (أخرجه في الوسائل في الباب الأول من أبواب الإرث في المجلد الثالث).

والظاهر ان الصدوق قده جمع هنا بين روايات ثلث واردة بطرق مختلفة ليستدل بها على ان المسلم يرث عن غير المسلم :

أحدها ـ قوله : الإسلام يريد ولا ينقص ، ثانيها ـ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. ثالثها ـ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. اما قوله «فالإسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرا» فالظاهر انه تفريع على الرواية الاولى ، والذي يؤيد ذلك ما رواه في الوسائل في هذا الباب

٣٥

بعينه عن «معاذ» انه ورث المسلم عن أخيه اليهودي ـ وكان عندئذ باليمن ـ وقال : سمعت رسول الله (ص) يقول : الإسلام يزيد ولا ينقص فاستدل معاذ بهذه الرواية على ان المسلم يرث عن أخيه اليهودي فعلى هذا ليس مجموعها رواية واحدة واردة في باب الإرث مشتملة على نفى الضرر والضرار كي تعد رواية مغايرة لغيرها من الروايات. ويؤيده أيضا ما رواه «الحاكم» في المستدرك (١) عن النبي (ص) الإسلام يزيد ولا ينقص ، مجردا عن هذا الذيل اعنى قوله لا ضرر ولا ضرار.

٧ ـ ما رواه المحدث النوري في المستدرك (٢) عن دعائم الإسلام عن ابى عبد الله (ع) انه سئل عن جدار الرجل وهو سترة بينه وبين جاره ، سقط عنه ، فامتنع من بنائه قال : ليس بجبر على ذلك الا ان يكون وجب ذلك لصاحب الدار الأخرى بحق أو بشرط في أصل الملك ، ولكن يقال لصاحب المنزل اشتر على نفسك في حقك إن شئت ، قيل له : فان كان الجدار لم يسقط ولكنه هدمه أو أراد هدمه إضرارا بجاره لغير حاجة منه الى هدمه ، قال : لا يترك (٣) وذلك ان رسول الله (ص) قال : لا ضرر ولا ضرار ، وان هدمه كلف ان يبنيه.

ولكن لا يظهر من هذه الرواية ان هذه الفقرة كانت مذكورة في كلام النّبي (ص) مجردة عن غيرها فلعله (ع) أخذه من قول النّبي (ص) الوارد في قضية سمرة بن جندب بعنوان كبرى كلية يستدل بها على مورد السؤال ، وهذا أمر جائز للإمام (ع) كما يجوز لغيره فلا يجوز الاستشهاد بهذه الرواية على كون هذه الفقرة قضية مستقلة من قضايا النّبي (ص) كما قد يتوهم. فكن على بصيرة منه ، حتى أحدث لك منه ذكرا.

٨ ـ ما رواه في المستدرك أيضا عن دعائم الإسلام عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم‌السلام) ان رسول الله (ص) قال : لا ضرر ولا ضرار.

وهذه أيضا ـ كالتي قبلها ـ لا تدل على كون الفقرة المذكورة كلاما مستقلا من كلمات النّبي (ص) وقضاء أغير ما ورد في ذيل رواية سمرة.

__________________

(١) في المجلد الرابع ص ٣٤٥

(٢) في المجلد الثالث ص ١٥٠

(٣) اى لا يترك حتى يفعل ذلك.

٣٦

٩ ـ ما رواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله (ع) : في رجل شهد بعيرا مريضا وهو يباع ، فاشتراه رجل بعشرة دراهم وأشرك فيه رجلا بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضى ان البعير برئ فبلغ ثمنه دنانير قال فقال : لصاحب الدرهم خمس ما بلغ ، فان قال : أريد الرأس والجلد فليس له ذلك ، هذا الضرار وقد اعطى حقه إذا اعطى الخمس (رواه في الوسائل في الباب ٢٢ من أبواب بيع الحيوان من كتاب التجارة).

ويمكن عدّ هذه الرواية من الروايات العامة نظرا الى ظهور قوله «هذا الضرار» في كونه صغرى لكبرى كلية مفهومة من العبارة ، كما هو المعمول في حذف الكبريات في مقام التعليل والاكتفاء بذكر صغراها فكأنه قيل : هذا الضرار ولا ضرار ، أولا يجوز الضرار. واحتمال كون الكبرى المحذوفة مقيدة بقيود لم يكن المقام مقام ذكرها ، لكونه من مصاديقها على كل حال ، بعيد عن ظاهر العبارة كما لا يخفى على من لاحظ نظائرها ، مضافا الى ان ظاهره كون التعليل بأمر ارتكازي عقلي ولا قيد في هذا الحكم بنظر العقل فتدبر ، وكيف كان فهي دالة على نفى الضرار فقط فلو قلنا بالفرق بينه وبين عنوان الضرر كما هو الأقوى فلا تكون دالة على نفى الضرر.

* * *

هذه هي الروايات الدالة على هذا الحكم عموما. وإليك بعض ما ورد في الموارد الخاصة المؤيدة لما سبق من العمومات :

١٠ ـ ما رواه في الكافي عن محمد بن حفص عن رجل عن ابى عبد الله (ع) قال : سألته عن قوم كانت لهم عيون في أرض ، قريبة بعضها من بعض ، فأراد رجل ان يجعل عينه أسفل من موضعها الذي كانت عليه ، وبعض العيون إذا فعل بها ذلك أضر بالبقية من العيون ، وبعضها لا يضر من شدة الأرض قال فقال : ما كان في مكان شديد فلا يضر وما كان في أرض رخوة بطحاء فإنه يضر ، وان عرض رجل على جاره ان يضع عينه كما وضعها وهو على مقدار واحد؟ قال : ان تراضيا فلا يضر ، وقال يكون بين العينين ألف ذراع (رواه في الوسائل في الباب ١٢ من أبواب كتاب احياء الموات).

٣٧

ويظهر من هذه الرواية ان الإضرار بالغير غير جائز حتى إذا كان منشأه التصرف في أمواله التي يتسلط على التصرف فيها كيف يشاء بمقتضى قاعدة تسلط الناس على أموالهم ، فإن صاحب العين انما أراد التصرف في عينه المملوكة بأن يجعلها أسفل مما كانت فمنعه الامام (ع) من ذلك لما فيه من الإضرار بالعيون القريبة منها هذا ولكن لا عموم فيها يمكن التمسك به في غير موردها. نعم لا يبعد التعدي عنه الى غير البئر من التصرفات والى سائر الجيران والاملاك المتقاربة.

وقد عنون الفقهاء هذه المسألة في باب «حريم العين» من كتاب احياء الموات والمشهور بينهم ان حريم العين والقناة ألف ذراع في الأرض الرخوة وخمسمأة ذراع في الأرض الصلبة ، ولكن المحكى عن الإسكافي والمختلف والمسالك ان حده ان لا يضر الثاني بالأول.

وكيف كان هذا الخلاف لا دخل له فيما نحن بصدده فإنه لا شك في ان الحكمة أو العلة في التحديد بالألف وخمسمأة على القول به هو رفع الإضرار ، ولا يبعد القول بكفاية أحد الأمرين أعني البعد بالمقدار المذكور والعلم بعدم تضرر الجار ، وتمام الكلام في محله.

ثمَّ لا يخفى ان منصرف الرواية هو ما إذا كان ترك ذاك التصرف موجبا لفوات بعض المنافع الزائدة المترقبة لمالك العين لا ما إذا كان يتضرر بتركه حتى يئول الأمر إلى تعارض الضررين ، وليكن هذا على ذكر منك حتى نبحث عنه في بحث تعارض الضررين من التنبيهات الاتية إنشاء الله تعالى.

١١ ـ ما رواه الكليني بإسناده عن محمد بن الحسين قال : كتبت الى ابى محمد (ع) رجل كانت له قناة في قرية فأراد رجل ان يحفر قناة أخرى إلى قرية له كم يكون بينهما في البعد حتى لا يضر إحديهما بالأخرى في الأرض إذا كانت صلبة أو رخوة؟ فوقّع (ع) ، على حسب ان لا تضر إحديهما بالأخرى ان شاء الله (رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب إحياء الموات).

وهذه الرواية دالة على ان هذا الحكم ، اعنى عدم جواز الإضرار بالغير ـ حتى بان يتصرف

٣٨

الإنسان في ملكه أو ملك مباح فيلزم منه ضرر على غيره ـ كان مرتكزا في ذهن الراوي فلذا لم يسئل عن أصل الحكم وانما سئل عن صغراه بقوله : كم يكون بينهما في البعد حتى لا يضر إحديهما بالأخرى ، ومنشأ هذا الارتكاز اما التعارف الخارجي وما هو الدائر بين العقلاء في أمثال هذه الموارد ، واما عمومات لا ضرر ، واما ما روى عن الأئمة السابقين عليهم‌السلام من لزوم التباعد بين العينين بألف أو خمسمأة ذراع على اختلاف الأراضي ، مثل ما روى عن الصادق (ع) في الرواية السابقة. وكيف كان فطريق الاستدلال بهذه الرواية هو عين ما هو بيانه في الرواية السابقة ، الا ان مورد السؤال هناك هو خصوص التصرف في العيون المستحدثة من قبل ، والسؤال هنا عن احداث عين جديدة في أرض قريبة من عين اخرى.

١٢ ـ ما رواه بذلك الاسناد قال : كتبت الى ابى محمد (ع) رجل كانت له رحى على نهر قرية ، والقرية لرجل ، فأراد صاحب القرية ان يسوق الى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطل هذا الرحى ، إله ذلك أم لا؟ فوقع عليه‌السلام : يتقى الله ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضر أخاه المؤمن (رواه في الوسائل في الباب ٢٥ من أبواب إحياء الموات).

والظاهر ان صاحب الرحى كان له حق الانتفاع من ذاك النهر من قبل ، والا كان تصرفه فيه عدوانيا وجاز لصاحب القرية نهيه عن التصرف فيه بمثل هذا وتعطيل رحاه حتى إذا لم يرد سوق الماء في غير ذلك النهر ، فإن الناس مسلطون على أموالهم وعلى هذا سوق الماء في غير هذا النهر مزاحم لحقه ويكون تعديا عليه فالمنع منه استنادا الى هذه الجهة لا دخل له بما نحن بصدده ، ولكن الذي يستقرب دلالة الرواية على المطلوب ان الامام (ع) لم يسند الحكم اليه ، بل أسنده إلى عنوان آخر وهو عنوان الإضرار فقال : لا يضر أخاه المؤمن ، ويستفاد منه حكم عام بعدم جواز إضرار المؤمن باخاه في كل الموارد وهو وان كان حكما تكليفيا في بادي النظر الا انه يستفاد منه الحكم الوضعي أيضا عند التأمل فتأمل.

١٣ ـ ما رواه الكليني رضوان الله عليه عن عقبة بن خالد عن ابى عبد الله عليه‌السلام في

٣٩

رجل اتى جبلا فشق فيه قناة فذهبت الأخر بماء قناة الأول قال فقال : يتقايسان (١) بحقائب البئر ليلة ليلة ، فينظر أيتهما أضرت بصاحبتها ، فإن رأيت الأخيرة أضرت بالأولى فلتعور ورواه الصدوق بإسناده عن عقبة بن خالد ، وزاد : قضى رسول الله (ص) بذلك وقال : ان كانت الأولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الاولى سبيل (رواه في الوسائل في الباب ١٦ من أبواب إحياء الموات ، وبمضمونه رواية أخرى عن الشيخ بإسناده عن عقبة بن خالد عن ابى عبد الله عليه‌السلام)

وفي مجمع البحرين «حقائب البئر» أعجازها ، وهذه الرواية أيضا تدل على عدم جواز الإضرار بالغير وان كان بالاستفادة من أرض مباحة ، حتى انه أمر بالاختبار والمقايسة والنظر الى ماء القناتين ليلة ليلة ، فإن ثبت ان القناة الأخيرة تضر بالأولى فلتعور والا فلا ، واما عدم حكمه بعور الاولى لو أضرت بالثانية فوجهه واضح لعدم صدق الإضرار عليه بعد اقدامه بنفسه على حفر قناته قرب الاولى الذي يكون معرضا لذلك عادة ولا يخفى ان المستفاد من هذه الرواية الحكم الوضعي أيضا

١٤ ـ ما رواه في الكافي عن طلحة بن زيد عن ابى عبد الله (ع) قال ان الجار كالنفس غير مضار ولا اثم (رواه في الوسائل في الباب ١٢ من كتاب احياء الموات).

وهي تدل على عدم جواز الإضرار بالجار بما لا يضر الإنسان بنفسه ، وقوله : ولا اثم لعل معناه انه لا يجوز ارتكاب الإثم في حق الجار وان كل إضرار به اثم ، أو انه كفى في أداء حق المجاورة ان لا يضر به فاذا لم يضر به فلا اثم ، ورواه المحدث الكاشاني قدس‌سره في الوافي في باب «حسن المجاورة» ثمَّ قال : لعل المراد بالحديث ان الرجل كما لا يضار نفسه ولا يوقعها في الإثم أو لا يعد عليها الأمر اثما ، كذلك ينبغي ان لا يضار أخاه ولا يوقعه في الإثم أو لا يعد الأمر عليه اثما ، يقال إثمه : أوقعه في الإثم ، إثمه الله في كذا أعده عليه اثما انتهى كلامه.

١٥ ـ ما رواه الطبرسي في المجمع مرسلا في تفسير قوله تعالى (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ)(٢) من انه جاء في الحديث : ان الضرار في الوصية من

__________________

(١) وفي نسخة : «يتقاسمان» والأصح هو الأول وهو من المقايسة.

(٢) النساء ـ ١٢.

٤٠