القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

١ ـ في مدرك القاعدة وملاك حجيتها

لا اشكال ولا كلام في حجية اليد ودلالتها على الملك في الجملة ، وعليه إجماع علماء الفريقين بل المسلمين جميعا ، بل كافة العقلاء من أرباب المذاهب وغيرهم.

وهذا الحكم على إجماله من ضروريات الدين ؛ ولكن مع ذلك لا بد لنا من استقصاء الأدلة الدالة عليه لكي نرجع إليها في إزالة الشكوك الواقعة في حدودها ، ونستريح إليها فيما وقع الكلام فيه من فروع القاعدة وجزئياتها.

فنقول ومن الله نستمد التوفيق والهداية ، يدل على هذا الحكم اعنى كون اليد حجة على الملك أمور :

أولها : إجماع علماء الفريقين عليه بل ضرورة الدين كما عرفت.

هذا ولكن في الاستناد إلى الإجماع في هذه المسئلة التي يكون فيها مدارك كثيرة أخرى ، الإشكال المعروف ؛ من عدم كشفها عن قول المعصوم ، بناء على ما اختار المتأخرون من أصحابنا رضوان الله عليهم من حجية الإجماع من طريق الحدس والكشف عن قوله عليه‌السلام.

ثانيها ـ السيرة المستمرة من المسلمين في جميع الأعصار والأمصار على معاملة المالكية مع من بيده عين من الأعيان ، فلا يتصرف فيها إلا بإذنه ، كما انه يكتفى بإذنه في جواز

٢٨١

التصرف فيها ، والاشتراء والاستيجار ؛ وكذلك يمضى جميع تصرفاته فيها من الوصية والهبة وغيرها وتورث بمجرد ذلك ، وهذا أمر ظاهر لا سترة عليه.

ولكن الظاهر ان هذه السيرة مأخوذة من بناء العقلاء ، فتئول الى ما سنذكره في الدليل الثالث.

ومن هنا يعلم انه لا بد في الاعتماد عليها من ضم عدم ردع الشارع منه ؛ فيعتمد عليها في موارد لا يوجد فيها ردع عموما أو خصوصا ؛ ولو كانت سيرة المسلمين بما هم مسلمون لم يحتج اليه وهو واضح.

ثالثها ـ بناء العقلاء جميعا ، من أرباب الأديان والملل وغيرهم ، على ترتيب آثار الملك على اليد ، وقد صار هذا الحكم مرتكزا في الأذهان ، وراسخا في النفوس ، بحيث يكون كالأمور الغريزية ؛ بل لعله يوجد شيء من آثار هذه الغريزة عند غير الإنسان من الحيوانات كما لا يخفى على من سبر أحوالها.

وهذا الحكم إنما ينشأ من المبادي الأولية في حصول الملك ، فإنه نشأ حينما نشأ من ناحية الحيازة والاستيلاء على الأشياء التي توجد في عالم الطبيعة ، وتكون فيها منافع الإنسان ، ولا يمكن الحصول عليها في أي زمان ومكان بحيث يكون كثرتها رادعة له عن حيازتها.

فأول ما نشأ الملك في العالم نشأ من ناحية الحيازة والاستيلاء على شيء ، وهما يعتمدان على الجارحة المخصوصة اعنى «اليد» فكانت اليد هي الواسطة الأصلية في الملك ، والوسيلة الابتدائية له ، ثمَّ انه إذا ظفر الحائز عليه وجعلها تحت يده قد ينقلها من يده الى غيره ويجعلها تحت يده باختيار منه ، أو بإرث أو نحو ذلك.

ومن هنا كل من شاهد عينا بيد غيره ؛ ورآه مستوليا عليها ، رآه اولى بها.

فلم يكن الملكية في أول أمرها إلا هذه الأولوية الطبيعية التكوينية والاختصاص

٢٨٢

الخارجي الناشي من الاستيلاء ، فالمالك هو المستولي على شيء خارجا.

ثمَّ بعد ذلك جعلت الأولوية الاعتبارية التشريعية التي هي من الأمور الاختيارية مكانها.

وقد أطلق في آيات الكتاب العزيز عنوان «الكاسب» على «اليد» فقال تبارك وتعالى (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)(١) وفي موضع آخر (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)(٢)

ومن هنا تعرف نكتة التعبير عن هذه القاعدة بقاعدة «اليد» دون سائر الجوارح ، فان الحيازة والاستيلاء ، لا سيما بصورتها الابتدائية البسيطة ، تكون باليد ، فهي ممتازة عن سائر الجوارح في هذا الباب ، فيحكم على «اليد» بالملك والضمان ، والغصب ؛ فيقال يد الملك ، يد الضمان ، ويد الغصب والاعتداء.

ثمَّ انه من الواضح ان ما يكون بيد الإنسان حقيقة لا يكون دائما بهذه الحالة ، بل قد يدعه جانبا من يده ، ولكنه يكون في مكان يقدر على أخذه كلما اراده ؛ فيطلق «اليد» على هذا المعنى الذي في الحقيقة هو السلطة والاستيلاء فقط ؛ فيقال انه تحت يده وهذا المعنى من «اليد» معنى أوسع من معناه الحقيقي أعني الجارحة المخصوصة.

ولا يهمنا البحث عن ان هذا المعنى صار من كثرة الاستعمال معنى حقيقيا لها ؛ بحيث يراد من هذه اللفظة بلا قرينة أو معنى كنائي أو مجازي لها بعد ، فإنه لو لم يكن من معانيها الحقيقية فلا أقل من كونه كناية واضحة أو مجازا مشهورا مقترنا بقرينة الشهرة وغيرها من القرائن الحالية ، فلا ثمرة مهمة في هذا البحث ، وقد صرح المحقق النحرير الشيخ محمد حسين الأصفهاني (قدس‌سره) في رسالته المعمولة في المسئلة انها حقيقة في الأول وكناية في الثاني وذكر في وجه ما اختاره ما لا يخلو عن الاشكال فراجع.

فتحصل من جميع ذلك ان كاشفية اليد عن الملكية أمر يقتضيها طبعها الاولى ، ولذا لا يرى في هذا الحكم خلاف بين العقلاء جميعا مع اختلاف آرائهم وتشتت مذاهبهم

__________________

(١) شورى ـ ٣٠.

(٢) روم ـ ٤١.

٢٨٣

في غيره ؛ واما الغصب والاستيلاء العدواني على شيء فهو في الحقيقة انحراف عن هذه الطبيعة ، وخروج عن مقتضى وضعها الاولى.

وسيأتي ان شاء الله ان الغصب والسلطة العدوانية مهما كثرت وشاعت لا يقدح في كاشفية اليد عن الملك حتى إذا كانت الأيدي العادية أكثر من الأيدي الامينة ، وان الكاشفية في الأمارات ـ برغم ما ذكره غير واحد من المحققين ـ لا تدور مدار الغلبة دائما فتدبر.

رابعها ـ ان اليد لو لم تكن دليلا على الملك لزم العسر الأكيد ، والحرج الشديد ، واختل النظام في أمور الدنيا والدين ، وبلغ الأمر الى ما لا يكاد يتحمله احد ، ولم يستقر حجر على حجر ، ولا يحتاج لزوم هذه الأمور إلى مضى برهة طويلة من الدهر أو زمن كثير ؛ بل يلزم ذلك من إلغاء حجية اليد ولو ساعة واحدة!.

والى هذا أشار الإمام عليه‌السلام في رواية حفص بن غياث الواردة في جواز الشهادة بالملكية بمجرد اليد : «ولو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» (١)

ومن المعلوم انه إذا لم يقم لهم سوق لم يقم لهم بلد ولا دار ، ولا شيء من أمور دينهم ودنياهم ، من معاشهم ومعادهم.

هذا ولكن في الاستدلال بالعسر والحرج واختلال النظام الاشكال المعروف ، وهو ان لازمه الاكتفاء بما يندفع معه العسر ويرتفع اختلال النظام ، لا حجيتها مطلقا ، فلا يكفى مجرد ذلك في إثبات دلالة اليد على الملكية في جميع مواردها.

ولا بد (ح) من حمل استشهاد الامام عليه‌السلام بهذه القضية على بيان «حكمة» الحكم لا «العلة» له ، فاختلال النظام حكمة للحكم بحجية اليد على الإطلاق لا علة لها ، و

__________________

(١) رواه في الوسائل في باب وجوب الحكم بملكية صاحب اليد ، من أبواب كيفية الحكم ، من كتاب القضاء.

٢٨٤

إلا دارت مداره.

اللهم الا ان يقال ان «التبعيض» في ذلك بنفسه موجب للعسر واختلال النظام ، لأنه لا تفاوت بين الأيدي المختلفة حتى تتبعض في الحجية ، ولو كان هناك فرق وتفاوت فإنما هو بأمور لا يمكن جعلها فارقا في المقام ؛ كما ان «التخيير» أيضا لا يرفع الغائلة ، فلو قيل بان هذا اليد حجة دون اخرى كان أول النزاع والخلاف ، وأول المخاصمة واللجاج ، وكان فيه من الهرج والمرج ما لا يخفى. فلا مناص من القول بحجيتها مطلقا ، فاستدلال الامام عليه‌السلام يكون من قبيل «العلة» للحكم كما هو ظاهره أيضا.

خامسها : السنة ـ وهي روايات كثيرة وردت في مختلف أبواب الفقه ، بعضهم يدل عليها بالعموم وبعضها بالخصوص.

منها ـ رواية «حفص بن غياث» : المعروف بين الفقهاء ، عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال قال له رجل إذا رأيت شيئا في يدي رجل أيجوز لي ان اشهد انه له قال عليه‌السلام نعم ، قال الرجل أشهد انه في يده ولا أشهد انه له ، فلعله لغيره ، فقال أبو عبد الله ا فيحل الشراء منه؟ قال نعم ، قال أبو عبد الله فلعله لغيره ، فمن اين جاز لك ان تشتريه؟ ويصير ملكا لك ثمَّ تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ؛ ولا يجوز ان تنسبه الى من صار ملكه من قبله إليك ثمَّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق ـ والرواية وان كانت غير خالية عن ضعف في سندها ، الا انها منجبرة بعمل الأصحاب واستنادهم إليها ؛ واستفاضا مضمونها (فتأمل).

وهي مشتملة على حجية اليد بأبلغ بيان ؛ بل جواز الشهادة بالملكية بمقتضاها وانه كما يجوز ان يحلف الإنسان على كونه مالكا لما في يده ، مع انه غالبا مسبوق بيان؟؟ غيره المحتملة للغصب ونحوه ، فكذلك يجوز له الشهادة على ملك غيره بمجرد استقرار يده عليه ، وهذا هو منتهى المقصود في المسئلة.

٢٨٥

الا ان «الشهادة» و «الحلف» هنا ليستا على الملكية الواقعية ؛ بل على الملكية الظاهرية كما هو ظاهر ، وبهذا يندفع ما قد يقال بأنه يعتبر في الشهادة العلم اليقيني المستند إلى أسباب حسية وليس في المقام كذلك.

ومنها ـ ما رواه يونس بن يعقوب عن ابى عبد الله عليه‌السلام في حديث : «من استولى على شيء منه فهو أولى» (١) الواردة في باب حكم اختلاف الزوج والزوجة أو ورثتهما فيما بأيديهم من أثاث البيت ، دلت على ان كلا من الرجل والمرأة أحق واولى بمتاع البيت فيما استولى عليه.

والعجب من المحقق النائيني (قدس‌سره) حيث أسقط كلمة «منه» من الرواية ورواها هكذا «من استولى على شيء فهو اولى» فصارت رواية عامة واعتمد عليها لإثبات هذه الكلية أعني حجية اليد مطلقا ، مع انها مختصة بباب معين كما عرفت وقد نقلها المحقق الأصفهاني في رسالته مع لفظة «منه» ومع ذلك جعلها أحسن ما في الباب وهو أيضا عجيب.

اللهم الا ان يقال ان الحديث وان كان واردا في بعض مصاديق القاعدة الا أن إلغاء خصوصية المورد منه قريب جدا ؛ ولا سيما بملاحظة ارتكاز الحكم في الذهن ومناسبة التعبير بقوله «من استولى» لعمومية الحكم بملاك الاستيلاء ، فإنه من قبيل الوصف الذي علق عليه الحكم وهو دال أو مشعر بالعلية.

ومنها ـ ما رواه عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان جميعا عن ابى عبد الله عليه‌السلام في حديث فدك ان أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لأبي بكر : ا تحكم فينا بخلاف حكم الله؟! قال : لا. قال : فان كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت انا فيه من تسأل البينة؟.

قال : إياك كنت اسئل البينة على ما تدعيه على المسلمين.

__________________

(١) رواه في الوسائل في باب اختلاف الزوجين أو ورثتهما في متاع البيت ، من أبواب ميراث الأزواج.

٢٨٦

قال عليه‌السلام : فاذا كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون تسئلنى البينة على ما في يدي؟!. الحديث. (١)

وهي ظاهرة بل صريحة في ان الوجه في عدم مطالبة البينة من ذي اليد هو كون اليد دليلا على ملكيته لا غير ، وقوله عليه‌السلام في الفقرة الأولى : كان في يد المسلمين شيء يملكونه ، ظاهره انهم يملكونه بمقتضى ظاهر اليد فليس قوله «يملكونه» زائدا على قوله «في يد المسلمين» بل هو نتيجة له ، فهو شاهد آخر على دلالة اليد على الملكية.

ومنه يظهر ان حجية اليد ودلالتها على الملكية كان امرا ظاهرا مرتكزا في أذهان المسلمين وأهل العرف لا يقدر احد على إنكاره ، فاحتج الأمير عليه‌السلام به على ابى بكر ، وإطلاق حكم الله عليه في صدر الرواية انما هو من ناحية إمضاء الشارع لهذا الارتكاز ؛ وعدم ردعه عنه ؛ لا انه حكم أسسه الشارع المقدس.

هذا ولكن الرواية دالة على حجية يد المسلم فقط ، ساكتة عن غيرها ؛ فلا بد من تكميل دلالتها على المدعى بإلغاء خصوصية المورد ونحوه.

ومنها ـ ما ورد في جواز اشتراء المملوك عن صاحب اليد ، وان ادعى انه حر ، مثل رواية حمزة بن حمران ادخل السوق فأريد ان اشترى جارية تقول إني حرة فقال اشترها الا ان تكون لها بينة ؛ ومثله غيره. (٢) فان الحكم بجواز اشترائها مع ان الأصل يقتضي حريتها ليس الا بمقتضى اليد لعدم فرض أمارة أخرى على ملكية بائعها. هذا ولكن التعدي عن موردها إلى سائر الموارد يحتاج إلى إلغاء الخصوصية ، والا فهي رواية خاصة وردت في مورد خاص.

ومنها ـ ما رواه مسعدة بن صدقة عن. عليه‌السلام : كل شيء هو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعله سرقة ، أو العبد

__________________

(١) رواه في الوسائل في باب وجوب الحكم بملكية صاحب اليد من أبواب كتاب القضاء

(٢) رواه في الوسائل في باب جواز شراء الرقيق من الأسواق من أبواب بيع الحيوان.

٢٨٧

يكون عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر فبيع ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلها على هذا حتى تستبين لك غير هذا ، أو تقوم به البينة (١).

والوجه في دلالتها ان الحكم بالحلية في ما ذكره عليه‌السلام من المثالين الأولين لا يصح الا بظاهر اليد السابق على يده ، والا يكون أصالة عدم الملك في مثال الثوب وأصالة الحرية في مثال العبد قاضية بالحرمة بلا اشكال ؛ فالحلية مستندة الى يد البائع في المثالين.

وفي دلالة الرواية على قاعدة الحلية المعروفة وتطبيقها على المثالين كلام مشهور في محله ذكره العلامة الأنصاري في ذيل أصالة البراءة وتبعه فيه غيره من المحققين في تعليقاتهم عليه فراجع ؛ وعلى كل حال فذاك الكلام والاشكال أجنبي عما نحن فيه.

وكيف كان دلالتها على المقصود من ناحية المثالين ، بالقرينة التي ذكرناها ، ظاهر للمنصف ، هذا وقد يقال في توجيه دلالتها على المدعى ان قوله : «لك» في قوله «كل شيء هو لك حلال» قيد للمبتدإ ، لا جزء للخبر ، فالمعنى كل شيء يكون لك ويدك ثابتة عليه فهو حلال إلخ ، وعليه تكون الرواية دليلا على حجية يده لنفسه عند الشك في ملكيته لما تحت يده.

وفيه من التكلف والتعسف ما لا يكاد يخفى.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا ان العمدة في دليل حجية قاعدة اليد أولا هو ارتكاز أهل العرف وجميع العقلاء من أرباب الديانات وغيرهم ، في جميع الأعصار والأمصار عليها ، مع إمضاء الشارع لها ، لا بمجرد عدم الردع عنها ؛ بل بالتصريح بإمضاء هذه السيرة والارتكاز العرفي في غير مورد وترتيب آثارها عليها ، وفي التالي لزوم العسر والحرج بل اختلال نظام المعاش والمعاد أيضا ، واما غير هذين الدليلين فهو في الحقيقة تأييد وإمضاء لهما.

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب الرابع من أبواب ما يكتسب به.

٢٨٨

٢ ـ في انها من الامارات أو الأصول العملية؟

قد وقع الكلام بينهم في ان «اليد» حجة كسائر «الأمارات الشرعية والعقلائية» أو انها معتبرة كأصل عملي؟ ثمَّ وقع الكلام في وجه تقديمها على الاستصحاب وسائر «الأصول العملية» على القول بكونها من الأصول.

فذهب كثير من المحققين إلى أنها أمارة عقلائية أمضاها الشارع المقدس ، ولكن يظهر من صدر كلام شيخنا العلامة الأنصاري الميل الى كونها أصلا تعبديا معتبرا لحفظ النظام واقامة الأمت والعوج ، بينما يظهر من ذيله الميل الى كونها من الامارات ، نظرا الى ان اعتبارها عند العقلاء انما هو لكشفها عن الملك غالبا والغلبة انما توجب إلحاق المشكوك بالغالب ، فالشارع اعتبرها بهذا الملاك أيضا.

وقال المحقق النائيني بعد ما اختار كونها أمارة : «انه لا ثمرة مهمة في هذا النزاع ، لتقدمها على الاستصحاب مطلقا ، امارة كانت أو أصلا عمليا».

هذا والحق ان الذي يظهر مما ذكرنا آنفا عند بيان أدلة حجيتها ان العمدة في ملاك حجيتها انها كاشفة عن الملك لا لغلبة الا يدي المالكية على العادية كما ذكر غير واحد منهم ، لما سيمر عليك من الإشكال في أمر هذه الغلبة ؛ بل لان الملك مقتضى طبعها الأولى ؛ فإن الملكية أول ما نشأت كانت كالأمور العينية الخارجية ، لا الأمور الاعتبارية والتشريعية التي وعائها الذهن وعالم الاعتبار.

فحقيقة الملكية كانت هي الغلبة والسيطرة الخارجية على شيء ، والاختصاص الحاصل منه في عالم الخارج ؛ ومنشأ هذه السيطرة والاستيلاء كانت الحيازة التي تكون

٢٨٩

باليد غالبا ، فكل من اكتسب شيئا من المباحات بيده كان مسلطا عليه ، مانعا لغيره من التصرف فيه بأنواع التصرفات ، فأخذه بيده دليل على كسبه ، وسبب للوصول الى جميع أنحاء التصرف فيه ؛ هذه هي المرحلة الاولى من مالكية الإنسان للأشياء الخارجية.

ثمَّ انتقل الأمر من أخذ الإنسان العين الخارجي بيده الى جعله في محل تصل يده اليه كلما شاء ؛ ويمنع غيره عنه كلما قصده ، وهذه هي المرحلة الثانية لها.

وحيث ان ذلك اعنى جعلها تحت يده وفي حيطة تصرفه الخارجي دائما كان امرا صعبا ، لأن الملكية ما زالت تكثر وتزداد وتتنوع ، وكان المالك كثيرا ما يغيب عما يملكه ولا يمكنه نقل جميعها معه أينما ذهب ، التجأوا إلى أمر أسهل وأوسع منه ، وهو جعلها في شكل آخر اعتباري ، لا خارجي تكويني ، فجعلوا لها صورة قانونية تشريعية لا واقعية تكوينية ، ومن هنا نشأت الملكية والسلطة الاعتبارية ، والمعبر عنها باليد ، وكانت هذه هي المرحلة الأخيرة للملكية.

فكانت اليد في شكلها الاعتباري القانوني دليلا على الملك كما كانت في شكلها التكويني الخارجي دليلا عليه بمقتضى طبيعتها الأولية.

ومن هنا تعرف انه لا يتفاوت الحال في أمر هذه الكاشفية بغلبة الا يدي المالكة على غيرها ؛ مع ما في هذه الغلبة من الاشكال ، لا لما ذكره المحقق الأصفهاني فقط من ان المسلم انما هو غلبة «اليد غير العادية» (أعم من يد المالكية والوكالة والوصاية وغيرها) لا اليد المالكة.

بل لان غلبة الأيدي غير العادية على العادية أيضا أمر غير معلوم ، لا سيما في زماننا هذا ، وكثير من الأزمنة السابقة عليه ، فمن سبر التاريخ وعلم أحوال كثير من الملوك والخلفاء والأمراء وفوضاهم؟؟ في أموال الله وأموال الناس وخضمهم إياها خضم الإبل نبتة الربيع ، واقتفاء تابعيهم ـ وهم الأكثرون ذلك اليوم ـ لا ثارهم ، ثمَّ انتقال هذه الأموال ، لا سيما الضياع والعقار ، منهم الى من بعدهم ؛ جيلا بعد جيل ، يعلم ان دعوى هذه الغلبة أمر مشكل جدا.

٢٩٠

وقد كان بعض سادة اساتذتنا يقول في بحثه في غير هذه المسئلة ببعض المناسبات : «ان كل ما يكون تحت أيدينا من الأرض والدار وشبههما قد جرت عليها من أول يوم إحيائها أيدي أناس كثير لا يعلمهم الا الله ؛ وهل يظن كون جميع الا يدي الجارية على كل عين منها مالكة امينة غير عادية»؟ ومن الواضح ان واحدة منها في سلسلتها الطولية إذا كانت عادية لم تكن تلك العين مملوكة لمالكها الفعلي واقعا الآن ، وان كانت ملكا له ظاهرا.

وأوضح من هذا كله حال أموال الناس وأملاكهم في زماننا هذا ، الذي غلب عليه وعلى اهله الجور والاعتداء ، يتقلب كل على غيره ويتملك أمواله له يوما بعنوان القهر والظلم ، ويوما بعنوان بسط العدل والمساواة ، ويوما تحت عنوان اجراء أصول الاشتراكية ، ويوما بالربا ، ويوما بالغش في المعاملة ويوما بالرشاء وبإشكال كثيرة أخر.

وان أبيت عن جميع ذلك وقلت بغلبة الا يدي الامينة على العادية في جميع ما ذكرنا ، فافرض نفسك في صقع من الأصقاع وبلد من البلاد تكون الأيدي المالكة متساوية مع الأيدي الخائنة ، فهل ترى من نفسك إسقاط اليد عن دلالتها على الملكية مطلقا وتعامل مع جميع الأموال التي بأيدي الناس هناك معاملة مجهول المالك ، وهل يساعدك العقلاء وأهل العرف على ذلك ، لو قلت به؟!

هذا ولا غر وان يكون هناك امارة لا تدور مدار الغلبة ، وان تعجب فعجب قولهم بحجية أصالة الحقيقة وتقديمها على احتمال المجاز ، ولو كان الاستعمال المجازي بالنسبة الى بعض الألفاظ أغلب من استعماله الحقيقي ، فهل ترى فرقا بينه وبين ما نحن فيه ؛ والسر فيه أيضا هو ان دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي انما هي بمقتضى طبعها الاولى ، وشرحه في محله.

وهكذا الحال في أصالة السلامة ، الدائرة بين العقلاء ؛ فإنها ليست من استصحاب الثابت حجيته بمقتضى اخبار لا تنقض ، بل هي حجة من باب الظن الحاصل من مقتضى طبع الإنسان ، فإنه يقتضي الصحة والسلامة ، ولا ينافي ذلك مساواة المرضى والسالمين أحيانا.

٢٩١

بقي هنا أمور : أحدها ـ ان التعليل الوارد في رواية حفص بن غياث وهو لزوم اختلال السوق وانحلاله على فرض عدم حجية اليد لا ينافي ما ذكرنا من كونها امارة وطريقا إلى الملكية ، وذلك لما عرفت من انه لا منافاة بين الملاكين وان تكون حجيتها مستندة في المرتبة الاولى الى اقتضاء طبع اليد ، وفي الثانية إلى لزوم حفظ النظام ، والمنع عن الهرج والمرج ، واى مانع من ان يكون في شيء واحد ملاكان للحجية؟.

ثانيهما ـ ان تقديم البينة على اليد ، في موارد قيامها ، أيضا لا ينافي أماريتها ، كما ان تقديم قرينة المجاز على أصالة الحقيقة ؛ ودليل التخصيص على أصالة العموم ، وأشباههما ، لا ينافي كون هذه الأمور حجة من باب الأمارية والطريقية إلى الواقع ، لأن الامارات ليست متساوية الإقدام في كشف الواقع ؛ فرب امارة تكون أقوى من اخرى ، فتقدم عليها ؛ ولا شك ان البينة العادلة أقوى دلالة على الملكية من اليد ، فاليد بطبعها الاولى وان كانت تقتضي الملكية إلا انه إذا كان هناك دليل أقوى يدل على انحرافها عن طبعها واستعمالها في غير محلها ، فلا بد من الركون اليه ، وهذا نظير تقديم الأظهر على الظاهر في باب الألفاظ.

فإذن لا نحتاج الى ما ذكره شيخنا العلامة الأنصاري (قدس‌سره) من ان تقديم البينة عليها انما هو من جهة ان اليد تكون امارة على الملك عند الجهل بسببها ، والبينة مبينة لسبب اليد ؛ وبعبارة أخرى : مستند الكشف في اليد هي الغلبة ، والغلبة انما توجب إلحاق المشكوك بالأعم الأغلب ، اما إذا كان في مورد الشك أمارة معتبرة تزيل الشك تعبدا فلا يبقى مورد للإلحاق (انتهى).

وهذا البيان كما ترى راجع الى توجيه حكومة البينة على اليد ، بتصرفها في موضوعها بإزالة الشك تعبدا ، وفيه من الاشكال ما لا يخفى ، لإمكان معارضته بمثله ، والقول بأن حجية البينة انما هي عند الجهل بالملك ، واليد تزيل هذا الشك (فتأمل).

٢٩٢

ثالثها ـ ان اليد تقدم على الاستصحاب ولو قلنا بأنها من الأصول العلمية ، وان الاستصحاب حجة من باب الامارة ، والوجه فيه ما ذكره غير واحد من المحققين من انها اعتبرت في موارد الاستصحاب ، وانها أخص أو كالأخص بالنسبة إليه ، لأن ما لا يجرى فيه استصحاب عدم الملكية قليل جدا. فلو لم تكن معتبرة في موارد استصحاب عدم الملكية لزم الوقوع فيما فر منه ، وهو عدم بقاء السوق وبطلان الحقوق ، واختلال أمر الدنيا والدين.

٢٩٣

٣ ـ بما ذا تتحقق اليد

قد عرفت ان حقيقة اليد هي الاستيلاء والسيطرة على الشيء بحيث يمكن لصاحبها التصرف فيه كيفما شاء ، والتغلب فيه كيفما أراد ، فهي لا تتكيف بكيفية خاصة ، بل تختلف باختلاف الحالات والمقامات ؛ فربما يكون نحو من الاستيلاء محققا لليد في مقام ولا يكون كذلك في مقام آخر ، أو بالنسبة إلى شيء دون آخر ؛ أو حالة دون اخرى ؛ والمعيار في جميع ذلك هو العرف.

فقد تتحقق اليد بكون الشيء في يد الإنسان حقيقة ، كالفلوس إذا كانت في كفه.

واخرى تكون بالتعلق ببدن الإنسان ، كالقميص الذي لبسه ، والحذاء في رجله والمنظرة على عينه ، والفلوس في كيسه ؛ والشيء على عاتقه.

وثالثة تكون بركوبه ، كركوب الدابة أو ركوبه في محل خاص كالسائق للسيارة ؛ فان استقراره في محله سبب لاستقرار يده عليها ، دون غيره من الركاب.

ورابعة بأخذ زمامه كما يأخذ المكاري زمام الناقة وأمثالها ، أو المشي في جانبه كما يمشى هو أيضا على جانب القافلة على الوضع الخاص لو كان.

وخامسة بالسكون فيه كسكون الإنسان في الدار وفي الدكان وشبهه.

وسادسة بكون مفتاحه بيده ؛ وان لم يكن ساكنا فيه كما في الدور والخانات والدكاكين وغيرها إذا كانت غير مسكونة.

وسابعة بالعمل فيها بالمباشرة أو التسبيب كما في عمل الفلاحين في الأراضي الزراعية بالزرع وانحصاد وغيرهما ، إذا لم يكن سبب آخر هناك تحقق سيطرتهم واستيلائهم عليها ؛ الى غير ذلك من الأنحاء والاشكال التي يطلع عليها من سيبر موارد الملك بين العقلاء والعرف.

٢٩٤

وغير خفي ان التصرف بنحو خاص في بعض الموارد كما في الدار محقق للسلطة والاستيلاء لا انه شرط زائد عليها ، فما قد يتوهم من انه يعتبر في تحقق اليد التصرف بنوع خاص في جميع مواردها أو في بعضها مضافا الى السلطة والاستيلاء ، توهم فاسد لا دليل عليه أصلا.

بل جميع ما ذكرنا من الأدلة السابقة ولا سيما سيرة العقلاء وأهل العرف دليل على نفى هذا الشرط ، وكفاية حصول الاستيلاء على الشيء بنحو يمكنه التصرف فيه كيفما شاء ، وان لم يتصرف فيه أصلا ، واما كون التصرف في بعض مواردها ومصاديقها محققا لهذا المعنى في الخارج فهو أمر آخر وراء اعتبار «التصرف» كأمر زائد على «الاستيلاء»

ثمَّ انه قد يتعارض أنحاء اليد بالنسبة إلى أشخاص مسيطرين على شيء واحد بأنحاء مختلفة ، كما إذا تعارض دعوى راكب الدابة والأخذ بزمامها ، وكل يدعى كونه مالكا ، أو تعارض دعوى المشترى وصاحب الدكان في متاع يكون بيد المشترى في في دكان غيره فالمشتري يدعى انها ملكه اشتراها من غيره ، وصاحب الدكان يدعى انها من أمتعته وهما في الدكان فلا يبعد ان يقال يكون كل منها ذات اليد عليه أحدهما من جهة كونه بيده حقيقة والأخر من جهة كونه في حيطة سلطانه واستيلائه ؛ وهذا ناش من تنوع اليد باختلاف المقامات وقد يكون بعض هذه إلا يدي أقوى من بعض وقد تكون متساويين فتتعارض ولحل هذه الدعاوي مقام آخر.

٢٩٥

٤ ـ هل اليد حجة فيما لا يملك الا بمسوغ خاص

العين التي تستقر عليها اليد لا تخلو من أنحاء ثلثة.

أحدها ـ ما يعلم بأنها قابلة للنقل والانتقال ، ولكن يشك في تحقق سببه بالنسبة الى من في يده.

ثانيها ـ ما يشك في كونها طلقا أو غير طلق.

ثالثها ـ ما يعلم بأنها لم تكن طلقا وقابلة للنقل والانتقال الا بمجوز خاص ؛ كالعين الموقوفة التي لا يجوز بيعها ولا شرائها إلا إذا طرء عليها الخراب أو خلف شديد بين أربابها (على المشهور).

لا إشكال في حجية اليد في القسم الأول ، المعلوم قابليتها لذلك ، لأنه القدر المتيقن منها ، وكذا القسم الثاني لشمول إطلاقات الأدلة وبناء العقلاء والإجماعات له ، بل الغالب في موارد اليد هو هذا القسم ظاهرا وإخراجه عن تحت القاعدة يوجب الهرج والمرج واختلال النظام ، ولا يبقى معه للمسلمين سوق ؛ مع انه لا خلاف في شيء من ذلك

واما القسم الثالث فهو الذي وقع الخلاف فيه بين المحققين ممن قارب عصرنا ، فاختار بعض عموم الحجية لها ، واختار عدمه آخرون.

فممن ذهب الى الأول المحقق الأصفهاني في رسالته المعمولة في المسئلة ؛ وممن ذهب الى الثاني المحقق النائيني في رسالته. وهو الأقوى.

وعليه لو شوهد العين الموقوفة في يد واحد بعنوان الملك واحتمل في حقه اشترائه لطرو الخراب عليها أو خلف شديد بين أربابه ، لم يجز الاعتماد على مجرد يده في إثبات ذلك ، بل كانت أصالة الفساد هنا محكمة.

وذلك لقصور أدلة حجيتها عن شمول مثله ، فان عمدتها كما عرفت هي بناء العقلاء والسيرة المستمرة الدائرة بينهم ، والاخبار والإجماعات الدالة على إمضاء هذه السيرة من ناحية

٢٩٦

الشارع المقدس ، ولا يشمله شيء منها فان العقلاء من أهل العرف يقفون عن معاملة الملك مع عين موقوفة استولى عليها شخص أو أشخاص بعنوان المالكية ، بمجرد احتمال وجود مسوغ في بيعها ؛ بل يلزمون أنفسهم على البحث والتحقيق عن ذاك المسوغ ، ويظهر ذلك بأدنى مراجعتهم.

واما الإطلاقات الواردة في الشرع ، مضافا الى أنها ناظرة إلى إمضاء هذا البناء ، بنفسها منصرفة عن مثله ، لا أقل من الشك وهو كاف في اجزاء أصالة الفساد.

والسر في جميع ذلك ما عرفت من ان دلالة اليد على الملكية شيء يقتضيها طبعها الاولى وظاهر حال اليد ؛ والمفروض ان هذا الطبع قد انقلب في موارد الأعيان الموقوفة وشبهها ، لان طبيعة الوقف تقتضي أن تكون محبوسة تترك في أيدي أهلها ، لا تباع ولا تورث ، فجواز النقل والانتقال انما هو أمر عارضي لها ، مخصوص بصور معينة محدودة ، وبعبارة أخرى جواز بيع الوقف انما هو في صورة الضرورة والاضطرار لا غير.

ومن المعلوم ان إثبات ذلك الأمر العارضي يحتاج الى دليل خاص ومجرد اليد لا تكفي لإثباته كما عرفت.

وما قد يقال من ان اليد من الامارات ، وهي تثبت أسبابها ولوازمها ، فهي تثبت ان محلها كانت قابلة للملكية ، ممنوع جدا فان ذلك ، لو قلنا به ، انما هو في موارد يشملها دليل حجيتها ، وقد عرفت قصورها ، وإثبات توسعة دليلها بذلك يوجب الدور الواضح.

هذا كله فيما يعلم كونه وقفا ، واما في موارد الشك فالحق ـ كما عرفت ـ حجية اليد فيها فإن الأعيان الخارجية بطبعها الاولى قابلة للنقل والانتقال ، واما حبسها وإيقافها فهو أمر عارضي لها يحتاج إثباته إلى دليل ، ولكن هذا الأمر العارضي إذا عرض في محل فصار من الأعيان الموقوفة كان عدم الانتقال كالطبيعة الثانية له ، فلا يتعدى عنه الا بدليل. وإذ عرفت ذلك فلنرجع الى دليل المخالف والجواب عنه :

قال المحقق الأصفهاني في رسالة المعمولة في قاعدة اليد بعد اختيار عموم دليل الحجية للمقام ما حاصله :

٢٩٧

«ان ملاك الحجية وهي غلبة الأيدي المالكية في مقابل غيرها (على مختاره) محفوظ في المقام ، وغلبة بقاء الأعيان الموقوفة على حالها ، لندرة تحقق المسوغ ؛ وان كانت ثابتة لا تنكر ؛ ولكنها انما هي في اليد التي ثبتت على الوقف حدوثا إذا شك في بقائها على حالها أو انقلابها يد الملك ، واما في مورد البحث المفروض انقطاع اليد السابقة على الوقف فيها وحدوث يد اخرى يشك في انها على الملك أو الوقف ، فلا مجال لتوهم بقاء اليد على حالها ، فان غلبة كون الأيدي مالكية شاملة له ولا وجه للعدول عنها ؛ وإذ قد ثبت ملاك طريقة اليد هنا فلا وجه لمنع شمول الإطلاقات له ، وليست الخدشة فيه الا كالخدشة في سائر المقامات».

ثمَّ قال : «بل يمكن ان يقال بناء على كون اليد أصلا ان اليد تتكفل لإثبات أصل الملكية ، وحيث انها عن سبب مشكوك الحال من حيث استجماعه لشرط التأثير وهو المسوغ لبيع الوقف فأصالة الصحة في السبب الواقع بين مستولى الوقف وذي اليد تقضى بصحة السبب كما بنينا عليه في أصالة الصحة ، فإنها مقدمة على الأصول الموضوعية الجارية في موردها ، ومنها أصالة عدم المسوغ» انتهى ملخصا.

أقول ـ فيه أولا ما عرفت سابقا من ان ملاك حجية اليد ليس غلبة الأيدي المالكية ، بل الملاك فيها ظهور حال اليد وهو مقتضى طبعها الاولى ، ونظيره في ذلك حجية أصالة الحقيقة ، فإنها ليست من باب غلبة الحقيقة على المجاز بل هي حجة ـ ولو كانت المجازات أكثر ـ وقد مر توضيحه بما لا مزيد عليه.

وثانيا ـ ان هذه الغلبة قد انقلبت في الأعيان الموقوفة فإن الغالب في الأيدي الجارية عليها حدوثا أو بقاءا بأي نحو كانت هو عدم المالكية ، والفرق بين اليد السابقة والحادثة لا وجه له ؛ فان جميعها تجرى على العين الموقوفة ، ولحاظ الغلبة انما هو في المجموع من حيث المجموع فإنها تشترك في جريانها على العين الموقوفة.

وثالثا ـ ما ذكره من تتميم الاستدلال بها ، بناء على كونها من الأصول العملية ، بأصالة الصحة في البيع الواقع من متولي الوقف وذي اليد ، ممنوع ؛ لما أشرنا إليه في ـ المجلد الأول من هذا الكتاب في باب قاعدة الصحة من عدم جريانها في أمثال المقام فراجع.

٢٩٨

٥ ـ هل اليد حجة ولو حدثت لا بعنوان الملك؟

لا إشكال في حجية اليد ودلالتها على الملك إذا كانت من أول أمرها مشكوكة.

كما انه لا إشكال في حجيتها إذا كانت مسبوقة بالملك ولكن شك في خروجها عنه بقاءا.

اما إذا كانت اليد حادثة لا بعنوان الملك ، كما إذا كانت يد إجارة أو عارية أو عدوان ثمَّ شك في انقلابها ملكا ؛ ففيه كلام بين الاعلام ، والذي اختاره غير واحد من المحققين هو عدم الحجية ، وغاية ما يقال في وجهه أمران :

الأول ـ ان ملاك حجيتها وهو الغلبة والكاشفية النوعية منتف هنا ، فإنها تختص بما إذا لم يعلم حدوثها على غير الملك ؛ واما إذا حدثت على غير الملك فلا تكون لها هذه الكاشفية ، بل الغالب في هذه الموارد بقائها على عنوانها الذي كانت عليه ، من الإجارة وغيرها ، فمع هذه الغلبة الطارية يزول الحكم السابق ؛ ومنه يعلم انصراف الإطلاقات عنه أيضا. والشاهد على هذا جريان سيرة العقلاء على أخذ السجلات من المستأجرين وغيرهم بقبول الإجارة وغيرها ، وليس ذلك إلا لأجل إسقاط أمارية اليد عن الدلالة على الملكية حتى يكون المستأجر محتاجا إلى إقامة الدليل ان ادعى ذلك.

الثاني ـ انها انما تكون امارة بما أنها مشكوكة الحال ؛ ولكن استصحاب الحالة السابقة في المقام يخرجها عن كونها مشكوكة بحكم الشارع المقدس ، ويدل على عدم كونها يد ملك ؛ فلا تكون امارة.

وبعبارة أخرى : اليد انما تكون امارة مع انحفاظ موضوعها ، وهو كونه مشكوك الحال ، ومع جريان الاستصحاب ينتفي موضوعها ، و (ح) لا يبقى مجال للإشكال بأنه كيف يقدم الاستصحاب وهو من الأصول العملية ، على اليد وهي من الامارات؟ ، فإن تقدم

٢٩٩

الامارة على الأصل انما هو فيما إذا كانا جاريين في مورد واحد ، اما إذا كان الأصل جاريا في موضوع الامارة ومنقحا له فلا إشكال في تقديمه عليها.

أقول ـ هذا غاية ما يمكن ان يقال في وجه عدم حجية اليد هنا ولكن فيه :

أولا ـ ان ما ذكر من بناء العقلاء مسلم إذا كان العين موردا للتشاح والتنازع ، بان ادعى المالك الأصلي أنه مالكها فعلا ، وادعى المستأجر أو المستعير انتقاله اليه ببيع أو نحوه وان يده فعلا يد ملك ، فان الاعتماد على يده في قبال المالك الاولى هنا غير معلوم ، بل يطالبونه بالدليل على كون يده فعلا يد ملك بعد ما كانت غيره ، وما ذكر من جريان سيرة العقلاء ، على أخذ السجلات من المستأجرين وغيرهم أيضا ناظر الى هذه الصورة.

واما لو لم يكن هناك منازعة وتشاح ؛ بان رأينا المستأجر السابق مستوليا على العين استيلاء المالك على ملكه ، يتصرف فيها كيفما شاء ؛ يبيعه أو يهبه ، فعدم الاعتماد على يده غير معلوم ، كيف وليس حاله اسوء مما إذا شاهد ناعينا في يد واحد ثمَّ شاهدناها في يد آخر يعمل فيها عمل المالك في ملكه ، فإنه لا ينبغي الشك في الاعتماد ، على يده ، كيف والغالب في الأيدي سبقها بيد الغير قطعا ؛ اما تفصيلا أو إجمالا ، فهل يمكن القول بان سبق يد الاستيجار مثلا اسوء حالا من سبق يد الغير؟!

نعم لو كان المدعى للملكية متهما في دعواه أمكن الإشكال في الاعتماد على مجرد يده ، ولكنه لا يختص بهذا المقام بل يجري في جميع موارد التهمة كما مر نظيره في باب أصالة الصحة وسيجيء في مورد قاعدة اليد أيضا ان حجيتها في الأيدي المتهمة ، بما سيذكر لها من المعنى ، غير معلومة.

ولا يتوهم ان ركون العقلاء على اليد فيما ذكرنا انما هو من باب أصالة الصحة في الأفعال الصادرة عن الغير ، فان ما ذكرنا ثابت ولو لم يكن هناك فعل يحمل على الصحة فتدبر.

وثانيا ـ ان ما ذكر من جواز التمسك باستصحاب الحالة السابقة وانه رافع لموضوع اليد ؛ ممنوع أشد المنع ، لان الاستصحاب لا يرفع الشك عن حال اليد ؛ والمفروض ان

٣٠٠