آية الله ناصر مكارم الشيرازي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
فحرمة شرب المسكر ، الخمر والنبيذ وشبههما مما صرح به كتاب الله ، فلو خالفه احد واعتقد جواز شربها جهلا ، أو تعنتا لا تجوز التقية منه فيها ، لظهور الدليل ووضوح العذر وقيام الحجة فليس هناك مساغ للتقية ولا مجوز لها.
وكذلك متعة الحج ، فقد قال الله تبارك وتعالى («فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)» (١)
وهو دليل على جواز التمتع أو وجوبها ، وقد ورد في السنة النبوية أيضا الأمر بها ، وقد رواه الفريقان في كتبهم ، بل ما نقل عن «عمر» في قوله متعتان كانتا محللتان على زمن النبي انا احرمهما ، أيضا دليل على تشريع متعة الحج على لسان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وفي عهده صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وهذا كاف في ترك التقية فيها لعدم الخوف بعد إمكان الاستناد الى القرآن والسنة الثابتة.
وهكذا ترك المسح على الخفين والاقتصار على المسح على البشرة فإنه أيضا موافق لظاهر كتاب الله أو صريحه فقد قال تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(٢)
ومن الواضح ان المسح بالرأس والرجل لا يكون الا بالمسح عليهما نفسها لا على القلنسوة أو الخف مثلا ، ومن عمل به انما عمل بكتاب الله ولا خوف له في ذلك في اجواء الإسلام وبين المسلمين ، ولو خالف فيه من خالف
__________________
(١) البقرة ـ ١٩٦.
(٢) المائدة ـ ٦.
وقد تحصل مما ذكرنا ان نفى التقية فيها انما هو من باب التخصص والخروج الموضوعي ، لا من باب التخصيص والخروج الحكمي.
واما احتمال كونها من باب التخصيص بان يكون المراد نفى جوازها ، لو فرض هناك خوف وقوع النفس في الخطر وكان المقام بالغ الخطورة ، نظرا إلى أهمية هذه الأحكام أعني حكم تحريم الخمر ؛ ومشروعية متعة الحج ، وعدم جواز المسح على الخفين ، فهو ممنوع جدا.
لان مثل المسح على البشرة أو متعة الحج ليس أهم من جميع الأحكام الإسلامية حتى ينفرد بهذا الاستثناء كما لا يخفى.
بل الإنصاف ان الروايات ناظرة الى ما ذكرنا من عدم الحاجة والضرورة غالبا إلى التقية في هذه الأمور بعد وضوح مأخذها من كتاب الله والسنة القاطعة.
فعلى هذا لو أغمضنا النظر عن هذه الغلبة وكان هناك ظروف خاصة لا يمكن فيها إظهار هذه الأحكام ، لغلبة الجهل والعصبية على أهلها وكان المقام بالغ الخطورة ، الخطر على النفوس أو الأموال والاعراض ذات الأهمية فلا ينبغي الشك في جواز التقية في هذه الأمور أيضا.
أرأيت لو كان هناك حاكم مخالف جائر يرى المسح على الخفين لازما أو يحرم متعة الحج ويقتل من لا يعتقد بذلك بلا تأمل ، فهل يجوز ترك التقية فيها واستقبال الموت؟ كلا لا أظن أن يلتزم به احد ، وكذلك المضار التي دون القتل مما يكون في مذاق الشارع أهم من رعاية هذه الاحكام في زمن محدود ، لا يجب تحملها ورفض التقية فيها.
ومما ذكرنا يظهر ان ما استنبطه «زرارة» في الرواية السابقة
من انه عليهالسلام لم يقل الواجب عليكم ان لا تتقوا فيهن أحدا بل قال لا اتقى فيهن أحدا ، وكأنه حسب ذلك من مختصات الامام عليهالسلام ممنوع أيضا.
فإن الحكم عام لكل احد بعد وضوح مأخذ هذه الاحكام في الكتاب والسنة ، وعدم الاضطرار إلى التقية فيها ، فاستنباطه هذا في غير محله وان كان هو من فقهاء أهل البيت وامنائهم عليهالسلام فان الجواد قد يكبو ، والعصمة تخص بأفراد معلومين عليهم آلاف الثناء والتحية.
ويدل على ما ذكرنا ما رواه الصدوق في «الخصال» بإسناده عن على عليهالسلام في حديث الأربعمائة قال ليس في شرب المسكر والمسح على الخفين تقية. (١) فإن ظاهره عدم جواز التقية فيها على احد ، وكذلك ما مر سابقا من رواية أبي عمر الأعجمي عن الصادق عليهالسلام والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين ، فان ظاهره أيضا عموم الحكم لكل احد.
ومما يؤيد ما ذكرنا من جواز التقية في هذه الأمور أيضا إذا اضطر إليها ولو نادرا ما رواه الشيخ في «التهذيب» عن ابى الورد قال قلت لأبي ـ جعفر عليهالسلام ان أبا ظبيان حدثني انه رأى عليا عليهالسلام أراق الماء ثمَّ مسح على الخفين فقال كذب أبو ظبيان اما بلغك قول على عليهالسلام فيكم : سبق الكتاب الخفين فقلت هل فيهما رخصة؟ فقال لا الأمن عدو تتقيه أو ثلج تخاف على رجليك. (٢)
__________________
(١) الحديث ١٨ من الباب ٣٨ من أبواب الوضوء من الجلد الأول من الوسائل.
(٢) الحديث ٥ من الباب ٣٨ من أبواب الوضوء من المجلد الأول من الوسائل.
وفيها أيضا إشارة الى ما ذكرنا من انه بعد ورود المسح على الرجلين في آية المائدة في الكتاب العزيز لم يجز لأحد المسح على الخفين.
٤ ـ لا تجوز التقية في غير الضرورة ـ قد صرح في غير واحد من الروايات الواردة عن المعصومين عليهمالسلام بأنه لا تجوز التقية في غير الضرورة ، ومعلوم ان ذلك أيضا ليس من قبيل الاستثناء من الحكم والتخصيص. بل من قبيل الخروج الموضوعي والاستثناء المنقطع ، المسمى بالتخصص ، فإنه إذا لم يكن هناك ضرورة لم يكن هناك تقية. لأخذ الخوف في موضوعها كما عرفت في أول البحث عن هذه القاعدة.
وإليك بعض ما ورد في هذا الباب أيضا :
منها ـ ما رواه الكليني عن زرارة عن ابى جعفر عليهالسلام قال : التقية في كل ضرورة وصاحبها اعلم بها حين نزل به. (١)
منها ـ ما رواه الكليني أيضا في الكافي عن إسماعيل الجعفي ومعمر بن يحيى ومحمد بن مسلم وزرارة جميعا قالوا سمعنا أبا جعفر عليهالسلام يقول : التقية في كل شيء يضطر اليه ابن آدم فقد أحله الله له. (٢)
منها ـ ما رواه في «المحاسن» عن عمر بن يحيى عن ابى جعفر عليهالسلام قال : التقية في كل ضرورة (٣) والذي تجب الإشارة إليه هنا ان هذه الروايات الثلث المروية
__________________
(١) الحديث ١ من الباب ٢٥ من أبواب الأمر بمعروف.
(٢) الحديث ٢ من الباب ٢٥ من أبواب الأمر بمعروف.
(٣) الحديث ٨ من الباب ٢٥ من أبواب الأمر بمعروف.
بطرق متعددة معتبرة كلها أو جلها ، تدل على عموم التقية لجميع الضرورات ولكل ما يضطر إليه الإنسان ويمكن الاعتماد عليها كما سيأتي الاستناد إليها في بعض الفروع الهامة المترتبة عليها ، وان كنا في غنى عنها من بعض الجهات بالدليل العقلي وصريح الوجدان الدال على وجوب ترجيح الأهم على المهم عند الدوران ، وبالعمومات الدالة على رفع ما اضطروا اليه ، أو انه ما من شيء حرمة الله الا وقد أحله لمن اضطر اليه.
هذا ولكن سيأتي ان شاء الله انا لسنا في غنى منها من جميع الجهات لحل بعض المعضلات بها مما لا يمكن بغيرها (فتدبر).
حكم التقية في إظهار كلمة الكفر والبراءة
اتفق النص والفتوى على جواز التكلم بكلمة الكفر والبراءة باللسان مع حفظ الايمان بالقلب والجنان ، عند الخطر على النفس والخوف ، ولكن اختلفوا في ان الراجح ترك التقية هنا وتحمل الضرر ولو بلغ ما بلغ ، أو ان الراجح فعل ما يندفع به الضرر والخطر.
يظهر في ذلك اضطرابا في اخبار الباب والفتاوى في بدء النظر ، ولكن سيأتي بعد ذكر الجميع والتكلم فيها ان الحق فيه التفصيل بحسب الازمان والأشخاص والظروف ، ولعله الطريق الوحيد للجمع بينها.
ولنتكلم أولا في جواز ذلك (بالمعنى الأعم) ثمَّ لنتكلم في الراجح منهما وفيما تمسك به أصحاب الأئمة عليهالسلام الأولون ، المطيعون الصادرون بأمرهم ، الناصرون لهم بالأيدي والألسن والقلوب الذين افتدوا بأنفسهم في هذه السبيل ولم يظهروا كلمة البراءة والكفر ابدا.
فنقول ومنه سبحانه نستمد التوفيق :
يدل على الجواز إجمالا أحاديث كثيرة
١ ـ ما مر عند سرد الايات الدالة على جواز التقية في مظانها في تفسير قوله تعالى (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) من فعل عمار ، وما روته العامة والخاصة في هذا المجال ، من ان أبويه لم يظهرا كلمة الكفر فقتلا وان عمارا أظهر ونجى ، ثمَّ اتى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم باكيا فقال جمع من الصحابة : كفر عمار ، ولكن جعل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يمسح عينيه ويقول له ، ان عادوا لك فعد لهم بما قلت ، فنزلت الآية (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ).
٢ ـ ما روته العامة والخاصة في كتبهم ـ وقد مر ذكره أيضا عند ذكر الايات أيضا ـ من حديث رجلين من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أحدهما مسيلمة الكذاب فقال لأحدهما : أشهد انى رسول الله فشهد ونجا واما الأخر فقد ابى وقتل ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حقهما : اما الأول فقد أخذ رخصة الله واما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له.
وفي هذه الرواية وان لم يكن ذكر عن البراءة عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ولكن الشهادة برسالة مسيلمة كانت من كلمة الكفر نفسه فيدل على الجواز في غيره بطريق اولى فتدبر.
٣ ـ وفي معناهما ما رواه الكليني في «أصول الكافي» عن عبد الله بن عطا قال : قلت : لأبي جعفر عليهالسلام رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما ابرئا عن أمير المؤمنين عليهالسلام فبرئ واحد منهما وابى الآخر فخلى سبيل الأول الذي برى وقتل الأخر فقال : اما الذي برئ فرجل فقيه في دينه واما الذي لم يبرئ فرجل تعجل إلى الجنة (١).
__________________
(١) الحديث ٤ من الباب ٢٩ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.
وسنتكلم ان شاء الله في دلالتها على رجحان ترك التقية أو فعلها.
٤ ـ ما رواه الكليني عن مسعدة بن صدقة قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام ان الناس يروون ان عليا عليهالسلام قال على منبر الكوفة أيها الناس انكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثمَّ تدعون الى البراءة منى فلا تبروا منى.
فقال ما أكثر ما يكذب الناس على على عليهالسلام ثمَّ قال : انما قال : انكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثمَّ تدعون الى البراءة منى وانى لعلى دين محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يقل : ولا تبرأوا منى ، فقال له السائل أرأيت ان اختار القتل دون البراءة ، فقال : والله ما ذلك اليه ؛ وما له الا ما مضى عليه عمار بن ياسر ، حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان منزل الله عزوجل (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فقال له النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا عمار ان عادوا فعد ، فقد انزل الله عذرك ، وأمرك ان تعود ان عادوا (١).
وظاهر هذه الرواية في بدء النظر وجوب التقية هنا أيضا ، ولكن بعد التأمل يظهر أنها ناظرة إلى نفى الحرمة فقط ـ لا سيما بالنسبة إلى البراءة عن على عليهالسلام والأئمة من ولده عليهمالسلام التي رووا حرمتها وان جاز السب ، وسيأتي الكلام فيها عن قريب ان شاء الله.
هذا مضافا الى ان قوله عليهالسلام «والله ما ذلك عليه» ونقله حديث عمار دليل على انه بصدد نفى الحرمة لا إثبات وجوب التقية هناك ، ولذا كان فعل أبوي عمار أيضا جائزا كما يظهر من قصتهم.
٥ ـ ما رواه محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن ابى بكر الحضرمي عن ابى عبد الله عليهالسلام في حديث انه قيل له : مد الرقاب أحب إليك أم البراءة
__________________
(١) الحديث ٢ من الباب ٢٩ من أبواب الأمر بالمعروف.
من على عليهالسلام فقال الرخصة أحب الى ، أما سمعت قول الله عزوجل في عمار (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(١)
وسيأتي ان دلالته على رجحان الرخصة معارض بغيره وطريق الجمع بينهما.
٦ ـ ما رواه العياشي أيضا عن عبد الله بن عجلان عن ابى عبد الله عليهالسلام قال سئلته وقلت له : ان الضحاك قد ظهر بالكوفة ويوشك ان ندعى إلى البراءة فكيف نصنع قال فابرء منه ، قلت أيهما أحب إليك؟ قال : ان تمضوا على ما مضى عليه عمار بن ياسر أخذ بمكة فقالوا له : ابرء من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فبرء منه فانزل الله عزوجل عذره (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(٢)
وظاهره أيضا وان كان الوجوب بادي الأمر ، الا ان الأمر هنا في مورد توهم الخطر للروايات الدالة بظاهرها على المنع عن البراءة ، فلا يدل على الوجوب ، ويؤيده استشهاده بقضية عمار الذي قتل أبواه ولم يظهرا كلمة الكفر ولم يقدح في أمرهما رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فهو على كل حال دليل على مجرد الرخصة والجواز لا غير.
٧ ـ ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليهالسلام في احتجاجه على بعض اليونان (٣) قال :
«وآمرك ان تستعمل التقية في دينك فان الله عزوجل يقول (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ
__________________
(١) الحديث ١٢ من الباب ٢٩ من أبواب الأمر بالمعروف.
(٢) الحديث ٣١ من الباب ٢٩ من أبواب الأمر بالمعروف.
(٣) سيأتي معناه.
فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) وقد أذنت لكم في تفضيل أعدائنا إن ألجأك الخوف اليه. وفي إظهار البراءة ان حملك الوجل عليه وفي ترك الصلوات المكتوبات ان خشيت على حشاشة نفسك الآفات والعاهات ، فان تفضيلك أعدائنا عند خوفك لا ينفعهم ولا يضرنا ، وان إظهارك براءتك منا عند تقيتك لا يقدح فينا ولا ينقصنا ، ولئن تبرء منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقى على نفسك روحها التي بها قوامها ومالها الذي به قيامها ، وجاهها الذي به تمسكها ، وتصون من عرف بذلك أوليائنا وإخواننا فإن ذلك أفضل من ان تتعرض للهلاك ، وتنقطع به عن عمل في الدين ، وصلاح إخوانك المؤمنين ، وإياك ثمَّ إياك ان تترك التقية التي أمرتك بها ، فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك ، معرض لنعمتك ونعمتهم للزوال ، مذل لهم في أيدي أعداء دين الله ، وقد أمرك الله بإعزازهم ، فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك على إخوانك ونفسك أشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا (١)
قال الفيروزآبادي في القاموس «ويونان بالضم قرية ببعلبك ، واخرى بين برذعة وييلقان».
ولعل هذا الحديث انما صدر منه عليهالسلام ولم يخلص الشامات وضواحيها عن الشرك وسيطرة الروم بعد ، فإن التقية بترك الصلاة (المراد به ترك صلاة المختار ، لا المضطر الذي يمكن أداها بمجرد الإيماء والإشارة) لا يكون بين المسلمين بل يكون بين الكفار قطعا.
ثمَّ ان ظاهر قوله «فان ذلك أفضل من ان تتعرض للهلاك إلخ» وان كان ظاهرا في أفضلية التقية من تركها في أمثال المقام بادي الأمر ،
__________________
(١) الحديث ١١ من الباب ٢٩ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.
الا ان قوله بعد ذلك في ذيل الحديث «إياك ثمَّ إياك إلخ» وقوله «كان ضررك على إخوانك ونفسك أشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا» دليل واضح على وجوب التقية هنا وان «أفعل التفضيل» هنا للتعين مثل واولى الأرحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله ، ومثل قوله في روايات يوم الشك «أحب من ان يضرب عنقي».
فعلى هذا تتم دلالة الرواية على الوجوب ، في موارد البراءة وإظهار كلمة الكفر وغيرهما ، ولكن إرسالها يسقطها عن الحجية فان الطبرسي (رحمهالله) نقلها عن أمير المؤمنين عليهالسلام بدون ذكر السند ، ونقلها في تفسير العسكري لا يجعلها حجة بعد الكلام المعروف حول التفسير المزبور (فتأمل).
ولو تمت حجيتها سندا مع وضوحها دلالة أشكل العمل بها ، بعد معارضتها بالروايات الكثيرة المستفيضة أو البالغة حد التواتر على جواز ترك التقية هنا ، فلا بد من حملها على التفصيل الاتى أو على بعض الظروف الخاصة.
هذا وقد يظهر من غير واحد من احاديث الباب التفصيل بين «السب» والبراءة بالجواز في الأول والمنع عن الثاني وإليك بعض ما ورد في الباب.
١ ـ ما رواه الشيخ في «مجالسه» عن محمد بن ميمون عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليهمالسلام قال قال : أمير المؤمنين عليهالسلام ستدعون إلى سبي فسبوني وتدعون الى البراءة منى فمدوا الرقاب فإني على
الفطرة (١).
وهذا صريح في التفصيل بين السب والبراءة بجواز التقية في الأول والمنع عن الثاني.
٢ ـ ما رواه الشيخ عن على بن على أخي دعبل الخزاعي عن على بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن على بن ابى طالب عليهمالسلام انه قال : انكم ستعرضون على سبي فإن خفتم على أنفسكم فسبوني ، الا وانكم ستعرضون على البراءة منى فلا تفعلوا فإني على الفطرة (٢).
والحديث مثل سابقة في الدلالة على التفصيل وظاهره حرمة البراءة.
٣ ـ ما رواه الرضى قدسسره في «نهج البلاغة» عن أمير المؤمنين ـ عليهالسلام انه قال : اما انه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ولن تقتلوه ، الا وانه سيأمركم بسبي والبراءة مني فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة ، واما البراءة فلا تبرأوا مني فإني ولدت على الفطرة ، وسبقت بالايمان والهجرة (٣).
ويعارض هذه الروايات ما مر في رواية مسعدة بن صدقه (٢ / ٢٩) ، ولكن الإنصاف انه يمكن حمل هذه الروايات على ذاك الزمان العنود وفي تلك الافاق الكاسفة نورها الظاهرة غرورها ، التي كان من الواجب كفاية ـ على الأقل ـ إظهار كلمة الحق والافتداء بالأنفس لئلا تنمحي آثار
__________________
(١) الحديث ٨ من الباب ٢٩ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.
(٢) الحديث ٩ من الباب ٢٩ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.
(٣) الحديث ١٠ من الباب ٢٩ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.
النبوة ، لاجتماع أعداء أهل البيت على محو آثار الوصي عليهالسلام بل النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا قدروا عليه ، فأجيز لهم بارتكاب الدرجات الخفيفة من المنكر تقية ـ وهي السب ـ ونهوا عن الشديدة وهي البراءة ، ولو ابتلينا ـ لا سمح الله ـ بأزمنة في مستقبل الأيام وظروف تشبه زمن أمير المؤمنين عليهالسلام وما أرادوا من محو آثاره عليهالسلام بعد شهادته كان القول بوجوب مد الأعناق (بعد ضرب أعناق الأعداء ونشر كلمة الحق وابطال الباطل) قويا فتدبر.
فهذا طريق الجمع بين روايات الباب التي تدل أكثرها على الجواز وبعضها على الحرمة في خصوص البراءة ، ولا يمكن تخصيصها في خصوص مورد البراءة ، لصراحة بعضها في جوازها بالخصوص ، أو جواز ما لا يتفاوت من البراءة فراجع.
واما الكلام في المقام الثاني أعني ترجيح احد الجانبين ، ترك التقية في إظهار كلمة الكفر ، وفعلها ، فالذي ينبغي ان يقال فيه ان :
الذي يظهر من رواية الحسن التي مرت سابقا الحاكية لفعل رجلين في عصر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي أخذهما مسيلمة الكذاب ان الراجح ترك التقية وان التارك لها صدع بالحق فهيئنا له ، وان الأخذ بالتقية أخذ برخصة الله فحسب.
وكذلك الروايات الثلث الناهية عن البراءة ، الإمرة بافتداء النفوس واستقبال المنية في هذا السبيل ، فإنها أيضا تدل على تقديم ترك التقية إذا جاوز الأمر عن السب وانتهى الى البراءة ، وفي حكمها كلمات الكفر فتدبر.
هذا مضافا الى عمل جمع من بطانة أهل البيت وخواص أصحاب على عليهالسلام وغيره من الأئمة الطاهرين (عليهم صلوات الله وسلامه) ، مثل «حجر بن عدى» وستة أو عشرة أشخاص أخر من أصحاب على عليهالسلام الذين قتلوا في «مرج عذراء» (١) ولم يتبرأ وأو مثل «ميثم التمار» و «رشيد البحري» و «عبد الله بن عفيف الأزدي ، وعبد الله بن يقطر» ، و «سعيد بن جبير» ، وجمع ممن قتلوا دون الحسين عليهالسلام.
وترجمة كثير من هؤلاء نقلها الموافق والمخالف.
فقد قال «الذهبي» في ترجمة «حجر» انه كان يكذب زياد بن أبيه على المنبر وحصبه (٢) مرة فكتب فيه الى معاوية. فسيره زياد إلى معاوية وجاء الشهود شهدوا عند معاوية عليه وكان معه عشرون رجلا فهم معاوية بقتلهم واخرجوا الى «عذراء» وقيل ان رسول معاوية جاء إليهم لما وصلوا الى عذراء يعرض عليهم التوبة والبراءة من على عليهالسلام فأبى عن ذلك عشرة وتبرء عشرة. فقتلوا» (٣)
وفي محكي «إعلام الورى» قال : دخل معاوية على عائشة فقالت ما حملك على قتل أهل عذراء ، حجر وأصحابه ، فقال يا أم المؤمنين انى رأيت قتلهم صلاحا للأمة ، وبقائهم فسادا للأمة ، فقالت سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
(١) «عذراء» موضع قريب من الشام و «مرج» هو الأرض الواسعة فيها نبت كثير ترعى فيها الدواب.
(٢) حصبه : رماه بالحصى
(٣) رواه العلامة المامقاني في المجلد الأول من رجاله في ترجمة حجر بن عدى.
قال سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء!
وقد ارخ قتلهم بسنة (٥١) أو (٥٣) وقد تضمن «تاريخ ابن الأثير» ، وكتاب «ابى الفرج الكبير» ما لا مزيد عليه من ترجمته وكيفية قتله. (١) وعلى كل حال ، هؤلاء أو كثير منهم كانوا من حملة علوم الأئمة أو رسلا منهم الى قومهم ، فهم على كل حال من بطانة أهل البيت عليهالسلام فهل كانوا جاهلين بمواقف احكام الشرع ووظائفهم تجاه الحوادث الواقعة فلو كان ترك التقية مرجوحا أو مساويا لفعلها كيف آثروها على غيرها.
ويظهر من غير واحد من الأحاديث الواردة في ترجمة «ميثم التمار» و «عمرو بن الحمق الخزاعي» وأمثالهما ان أمير المؤمنين عليا عليهالسلام أخبرهم بقتلهم في سبيله واثنى عليهم وبكى على بعضهم ، وفي كل ذلك تحريض وتشويق لغيرهم على فعلهم ، وهي ترك التقية ولو لم يكن راجحا لما صح ذلك.
بل يظهر من غير واحد من الروايات ثناء سائر الأئمة عليهالسلام عليهم بما يظهر منه إمضاء عملهم إمضاء باتا.
وقد ذكر في ترجمة عمرو بن الحمق الخزاعي ما قاله الحسين عليهالسلام في كتابه إلى معاوية يجيبه عن كتابه إليه جوابا يظهر فيه سيئ أفعاله وشرور اعماله بأوضح البيان وأشد الحجة ، فقال في حق عمرو بن الحمق وحجر بن عدى وأصحابه :
__________________
(١) رواه العلامة المامقاني في المجلد الأول من رجاله في ترجمة حجر ـ بن عدى.
«. الست القاتل حجر بن عدى أخا كندة والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ولا يخافون في الله لومة لائم ثمَّ قتلتهم ظلما وعدوانا من بعد ما كنت أعطيتهم الايمان المغلظة والمواثيق المؤكدة لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم.
أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلىاللهعليهوآله العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفر لونه بعد ما آمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل ثمَّ قتلته جرئة على ربك واستخفافا بذلك العهد. (١)
بل يظهر مما روته عائشة في حق حجر وأصحابه ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضا أسف عليهم وغضب لهم وعظمهم.
كل ذلك دليل على رجحان فعلهم ورضا الرسول صلى الله عليه ـ وآله وسلم وأهل بيته عليهمالسلام بعملهم ، وكيف يصح ذلك مع كونه مرجوحا؟!
ولكن قد عرفت ان الظاهر من غير واحد من روايات الباب رجحان الأخذ بالرخصة ، والتقية في هذه الموارد ، مثل الرواية ٤ من الباب ٢٩ (٢) الحاكية عن فعل الرجلين أخذا بالكوفة ، ان الذي برئ رجل فقيه في دينه ، والرواية ٢ من الباب ٢٩ ورواية العياشي (١٢ من ٢٩) ورواية أخرى عنه (١٣ من ٢٩) ورواية الطبرسي في الاحتجاج (١١ من ٢٩) الى غير ذلك مما قد يعثر عليه المتتبع.
__________________
(١) ذاك المصدر بعينه.
(٢) نقلناها في صفحة ٤٢٥.
طريق الجمع بين احاديث هذا الباب
والانصاف ان أقرب طريق للجمع بينهما هو ما أشرنا إليه من التفصيل بحسب الازمان والأشخاص ، فالذي هو علم للأمة ، ومقياس للدين ، وبه يقتدى الناس ويعرف قربه من أهل البيت عليهمالسلام يرجح له استقبال الحتوف وتحمل المضار البالغة حد الشهادة في سبيل الله ، بل قد يجب له إذا كان ترك ذلك ضررا على الدين ومفسدة للحق وتزلزلا في أركان الإسلام.
ففي مثل عصر بنى أمية ، ولا سيما البرهة المظلمة التي كانت في زمن معاوية بعد شهادة أمير المؤمنين عليهالسلام وما شاكله ، الذي أراد المشركون وبقية الأحزاب الجاهلية ، وأغصان الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن ، ليطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله الا ان يتم نوره ، وجهدوا في إخفاء فضل أوصياء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لينقلب الناس على أعقابهم خاسرين.
ففي مثل هذه الأعصار لم يكن بدا من رجال يقومون بالحق ويتركون التقية ويظهرون آيات الله وبيناته ، ويصكون على جباه الباطل والظلم والطغيان.
ولو لا مجاهدة هؤلاء بأموالهم وأنفسهم أو شك ان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن وصاحبه الذي لا يفارقه إلا رسمه وذكره ، فكانوا هم الحلقة الواسطة بين الجيل الماضي والجيل الاتى من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
ولو لا جهاد أمثال حجر ، وميثم ، وعمرو بن الحمق ، وعبد الله بن غفيف
وعبد الله بن يقطر ، وسعيد بن جبير ، لاندرست آثار النبوة وآثار الأئمة الطاهرين من أهل بيته (عليهم الاف السلام والتحية) ، لغلبته الباطل على اجواء الحكومة الإسلامية وركوب رقاب الناس بالظلم والعدوان ، وسيطرته على مراكز الدعوة ـ والناس على دين ملوكهم ـ
قال المحقق شيخنا العلامة الأنصاري ما لفظه : «والمكروه منها (من التقية) ما كان تركها وتحمل الضرر اولى من فعله كما ذكر ذلك بعضهم في إظهار كلمة الكفر وان الاولى تركها ممن يقتدى به الناس إعلاء لكلمة الإسلام» (انتهى).
ولا يختص بتلك الأعصار بل كل زمان كان الأمر فيه مثل عصر ، الأمويين وأشباههم كان الحكم فيه هو الحكم فيه من دون اى تفاوت.
واما في الأعصار المتأخرة كعصر الصادقين والرضا عليهمالسلام وما ضاهاه الذي لم يكن الأمر بتلك المثابة كان الاولى فيه ارتكاب التقية كما يظهر من كثير من احاديث الباب (إلا في موارد تستثنى).
فاذن لا يبقى تعارض بين الأحاديث المروية عن أمير المؤمنين عليهالسلام الإمرة بترك التقية في العصر المتصل بزمانه الذي ظهر على الناس رجل رحب البلعوم ، الى أخر ما ذكره من علائمه وآثاره كان الراجح أو الواجب ترك التقية ، واليه يشير ما روى عنه عليهالسلام.
اما في مثل أعصار الصادقين والأعصار المتأخرة عنها كانت الرخصة أحب إليهم لعدم وجود خطر من هذه الناحية على الإسلام والمسلمين.
ولكن لا ينافي ذلك عدم جواز ذلك في تلك الأعصار أيضا على بعض الأشخاص لخصوصيات فيهم.
واما في زماننا هذا يتفاوت الحال بالنسبة إلى الأشخاص والظروف والحالات وتجاه ما يحدث من الحوادث والهنات ، فقد يجب أو يرجح ان يستن بسنة أصحاب أمير المؤمنين وخواص بطانته عليهالسلام.
واخرى يجب أو يرجح الاقتداء بأصحاب الصادقين عليهماالسلام
ومن المأسوف عليه انى لم أجد أكابر المحققين من أصحابنا تعرضوا لهذه المسئلة تعرضا واسعا ، ولم يبينوها تبينا يؤدى حقها ، بل مروا عليها عاجلا ، راعيا جانب الاختصار ، مع انها من الأهمية بمكان لا ينكر!.
نسأل المولى سبحانه التوفيق لأداء ما هو الواجب علينا في زماننا هذا ، وان يكشف لنا النقاب عن وجه معضلاتها : ويهدينا سبل الحق ، وينتصف لنا من الاعداء ويظهرنا عليهم ويشفي صدور قوم مؤمنين (آمين يا رب العالمين).
بعض ما تستحب فيها التقية وضابطتها
بقي هنا شيء وهو انك قد عرفت انه من المظان التي يستحب فيها التقية ، موارد العشرة مع العامة بالمعروف وقد عرفت دليله ، وان كثيرا من الروايات الواردة في الباب ٢٦ ، من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من الجلد ١١ من الوسائل لا سيما الرواية والرواية ٢ و ٤ من هذا الباب ، والرواية ١٦ من ٢٤ ، والروايات الكثيرة الواردة في أبواب الجماعة والدخول في جماعتهم تدل على ذلك.
ولكن ذكر شيخنا العلامة الأنصاري في كلام له : «واما المستحب من التقية فالظاهر وجوب الاقتصار فيه على مورد النص وقد ورد النص
بالحث على المعاشرة مع العامة وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم والصلاة في مساجدهم والأذان لهم فلا يجوز التعدي عن ذلك الى ما لم يرد النص من الأفعال المخالفة للحق كذم بعض رؤساء الشيعة للتحبب إليهم» انتهى كلامه.
ويرد عليه انه لا خصوصية في هذه الأمور بعد التعليلات الواردة فيها لو ما يشبه التعليل ، وبعد كونها داخلة في قاعدة «الأهم والمهم ، والأخذ بالأهم من المصالح والمفاسد» كما لا يخفى.
الى هنا ينتهى كلامنا في حكم التقية بحسب التكليف فلنشرع في بيان حكمها الوضعي وصحة الأعمال المأتي بها تقية أو فسادها ،