القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

يرفع الوجوب فإنه ضرري واما أصل الجواز والمشروعية فلا ، لان الامتنان لا يقتضي أزيد مما ذكر ، وببيان آخر أدلة وجوب هذه الأمور دالة بالالتزام على وجود ملاكاتها حتى في موارد الضرر ، وأدلة نفى الضرر انما تعارضها في دلالتها المطابقية على الوجوب ، ولا تعارضها في دلالتها الالتزامية على وجود ملاكاتها الموجب لمشروعيتها في هذه الموارد واستحسن هذا البيان «بعض أعاظم العصر» في مستمسكه.

وأورد المحقق النائيني على البيان الأول بأمرين : أحدهما ان هذه الأحكام أمور بسيطة لا تركيب فيها حتى يرتفع بعض اجزائها ويبقى الأخر. ثانيهما انه يستلزم كون ما في طول الشيء في عرضه ، فان التيمم متأخر عن الوضوء وإذا كان المكلف في موارد الضرر مرخصا شرعا في الطهارة المائية مع جواز الاكتفاء بالطهارة الترابية يلزم اتحادهما في الرتبة ، وهو باطل ؛ لان المكلف إذا كان قادرا على الطهارة المائية لم يدخل تحت قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً).

أقول : يمكن الجواب عنهما اما عن الأول فبان طريقة غير منحصر في تجزية الحكم البسيط بل يمكن ان يكون من باب تقييد إطلاقات نفى الضرر بعدم اقدام المكلف على التكليف الضرري بأن يقال ان وجوب الوضوء الضرري منفي عند عدم الاقدام لا غير ، ولازم ذلك مشروعيته وان لم يكن واجبا ، والدليل عليه انصراف الإطلاقات إليه فتأمل فإن دعوى الانصراف فيها عن هذه الصورة مشكلة جدا

وعن الثاني بعدم قيام دليل على كون الطهارة الترابية في طول الطهارة المائية دائما حتى في أمثال المقام ولو سلمنا شمول الآية الشريفة لها فهو إطلاق كسائر إطلاقات أدلة الأحكام محكومة لقاعدة «لا ضرر» أو مخصصة بها ، فتأمل ، والاولى في دفع هذا الاشكال منع شمول الآية ودلالتها على المقام ولا أقل من إجمالها من هذه الجهة فتدبر.

والتحقيق ان هذه المسألة مبنية على مسألة حرمة الإضرار بالنفس على الإطلاق فإن قلنا بالحرمة فهذا الوضوء حرام لا يمكن التقرب به بلا إشكال لأن حركات الوضوء متحدة مع عنوان الإضرار بالنفس ، وعلى فرض كون الوضوء سببا له لا متحدا معه

٨١

لا يمكن أيضا التقرب به ؛ لما حققناه في محله من سراية الحسن والقبح من المسببات إلى الأسباب التوليدية. هذا ولكن الكلام في حرمة الإضرار بالنفس بهذا العموم ، وتمام الكلام في محله وان كان الأقوى في النظر عاجلا عدم مشروعية هذا الوضوء على القول بشمول لا ضرر لأمثال هذه التكاليف.

التنبيه الخامس

هل الأمر يدور مدار الضرر الواقعي أو لا؟

إذا جهل بالضرر مع وجوده واقعا فقد يقال بالصحة لما يظهر اختياره من السيد السند المحقق اليزدي في باب الوضوء عند ذكر الشرط السابع من شرائطه حيث قال : «ولو كان جاهلا بالضرر صح وان كان متحققا في الواقع والأحوط الإعادة أو التيمم» وكأنه عدل عنه في المسألة ٣٤ من هذا الباب حيث قال : «لو كان أصل الاستعمال مضرا وتوضأ جهلا أو نسيانا فإنه يمكن الحكم ببطلانه لأنه مأمور واقعا بالتيمم» وكيف كان فقد افتى بالصحة غير واحد من أعلام محشيها قدس الله أسرارهم.

وغاية ما يستدل به على الصحة أمران : أحدهما : أن القاعدة واردة مورد الامتنان ولا منة في نفى صحة مثل هذا الوضوء فإنه لا يزيد المكلف إلا عناء وشدة كما لا يخفى ثانيهما ان الضرر هنا مسبب عن جهل المكلف لا عن حكم الشارع فان غفلته عن الواقع هي التي أو أوقعته في الضرر ؛ ومن المعلوم ان المنفي بهذه القاعدة هو الضرر الناشي من قبل حكم الشارع لا غير.

ولكن يرد على الأول منهما ان المنة انما هي بلحاظ نوع الحكم لا بلحاظ اشخاصه وافراده وكل واحد واحد من الوقائع الشخصية ، فرفع وجوب الوضوء الضرري إذا كان بحسب نوعه منة على العباد كان داخلا تحت القاعدة على الإطلاق ، وما يتوهم كثيرا من دورانه مدار الأشخاص ولزوم المنة في كل واحد من الأحكام الشخصية المرفوعة ، وكثيرا ما يرتب عليه فروع مختلفة ، باطل جدا لان المتيقن انصراف أدلة لا ضرر عن الموارد التي لا تكون بحسب نوعها منة على العباد لا غير.

٨٢

ويشهد على ذلك ان حديث الرفع أيضا وارد مورد الامتنان ولا يزالون يستدلون به على عدم نفوذ المعاملات التي وقعت عن اكراه ـ بل استدل به الامام عليه‌السلام على ذلك أيضا ـ حتى فيما إذا كان في نفوذها مصلحة المكره (بالفتح) أحيانا وان لم يعلم هو به ، فلا يراعى فيه ملاك الامتنان في كل واحد من الموارد الشخصية ، ولو كان مراعاة ذلك لازما كان الحكم ببطلان عقد المكره على الإطلاق بمقتضى حديث الرفع في غير محله والقول بان نفوذ تلك المعاملة بغير رضى المالك مشتمل على الضرر دائما وان كان فيها منافع جمة له واقعا ، لما فيه من سلب اختيار المالك وقصر دائرة سلطنته ، شطط من الكلام ، وهكذا الكلام في نفى آثار غير الإكراه من التسعة كالجهل والنسيان فإنه لا يكون فيه ملاك المنة في جميع الحالات مع إطلاقهم القول برفعها وليس ذلك الا من جهة كفاية ملاك المنة بحسب نوع الحكم ونوع مصاديقه.

فالصواب في وجه الحكم بصحة العبادة في المقام هو الوجه الثاني ويمكن تقريبه بوجه آخر أتم وأقوى وهو : انه لا إشكال في ان الضرر في هذه الموارد من قبيل العناوين الثانوية التي تكون مانعة عن تأثير العنوان الاولى بملاكه ، الذي يكون على نحو الاقتضاء لا العلية التامة ، فالوضوء الضرري في حد ذاته واجد للملاك ولكن هذا العنوان الثانوي بملاكه يمنع عن تأثيره ؛ ومن المعلوم ان الضرر إذا كان متوجها نحو المكلف على كل حال ، لجهله بالواقع ؛ كان الحكم بنفيه بلا ملاك ، لعدم إمكان استيفاء الشارع غرضه منه ، فالحكم بنفيه (ح) حكم بلا ملاك ولغو محض ، وان هو الا نظير الحكم ببطلان وضوء «المكره على استعمال الماء» مع كونه مضرا له ، فهل يساعد وجدان احد على الحكم ببطلان وضوئه في هذا الحال إذا اتى به عن قصد؟

ومما ذكرناه يظهر ان المكلف غير مأمور بالتيمم في محل البحث ، بل هو مأمور بالوضوء واقعا ، فما ذكره في العروة من تعليل بطلان الوضوء بعدم الأمر به واقعا في غير محله ، اللهم الا ان يقال ان نظره في ذلك الى إطلاق الأخبار الخاصة الواردة في باب التيمم فيما إذا كان استعمال الماء مضرا ولكن الإنصاف أن شمولها لصورة موجود الضرر واقعا مع جهل المكلف به محل تأمل واشكال هذا كله إذا كان الضرر موجودا في الواقع

٨٣

مع جهله ، به اما عكس المسألة وهو :

***

إذا كان استعمال الماء مضرا باعتقاده ومع ذلك توضأ واغتسل ثمَّ بان عدم الضرر فيه ، فظاهر غير واحد منهم الحكم بالبطلان فيه ؛ كما يظهر من كلماتهم في أبواب مسوغات التيمم. والوجه فيه اما كونه مأمورا بالتيمم وعدم كونه مأمورا بالوضوء نظرا الى صدق عدم التمكن من استعمال الماء في حقه لان المراد من «عدم الوجدان» في قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) عدم التمكن من استعماله ، سواء كان لعدم وجوده أو لعدم القدرة على استعماله لمانع شرعي أو عقلي ويظهر اختيار هذا الوجه من المحقق النائيني.

أو لعدم تمشي قصد القربة منه مع كونه باطلا وحراما باعتقاده ، ولو فرض تمشيها منه فلا يكون الفعل مقربا ، لا لأنه حرام واقعا بل لان الفعل إذا وقع بعنوان التجري فهو كالمعصية الحقيقية في كونه مبعدا للعبد من ساحة المولى ومانعا من التقرب اليه واعتمد على هذا الوجه في «المستمسك».

والانصاف ان شيئا من الوجهين لا يكفي في إثبات البطلان ، اما الأول فلان مجرد تخيل الضرر لا يجعله غير واجد للماء وغير متمكن من استعماله ، بل هو متخيل لعدم التمكن لا انه غير متمكن واقعا وان هو إلا نظير من يكون مستطيعا في الواقع وهو لا يعلم باستطاعته ؛ أو يكون قادرا على الصلاة قائما وهو يزعم انه غير قادر ، فهو مأمور واقعا بالطهارة المائية وان كان معذورا ما دام جهله واما قياس ذلك على ما ذكروه في باب صحة صلاة من يكون الماء في راحلته وهو لا يعلم به قياس مع الفارق ، لان الجهل هناك مانع عقلي من استعمال الماء كما هو ظاهر بخلاف الجهل فيما نحن فيه فإنه ليس مانعا عقلا ولا شرعا ، كيف والمفروض ان المكلف أقدم على الوضوء فكيف يقاس به فتدبر.

واما عدم تمشي قصد القربة فهو ليس دائميا كما يظهر من ملاحظة حال عوام الناس في أمثال المقام وكون التجري مبعدا ومانعا من التقرب أيضا محل للكلام.

٨٤

فالعمدة في وجه البطلان هو استظهار الموضوعية من عنوان «الخوف» الوارد في أبواب التيمم ، الصادق في المقام ، لان المفروض كون المكلف خائفا من استعمال الماء بل عالما بالضرر ؛ وان لم يكن كذلك في الواقع ؛ ولكن في هذا الاستظهار أيضا كلام في محله من الفقه.

التنبيه السادس

هل القاعدة شاملة للعدميات أم لا؟

لا إشكال في شمول القاعدة للاحكام الوجودية وانما الكلام في شمولها للعدميات وحاصل القول فيه انه هل يجوز التمسك بالقاعدة لإثبات احكام وجودية في موارد يلزم من فقدها الضرر بأن يكون عدم الحكم مشتملا على الضرر فيتمسك بالقاعدة لنفيه ويستنتج منه حكم وجودي ، أم لا؟

ومثلوا له بضمان ما يفوت من عمل الحر بسبب حبسه ؛ وبما لو فتح إنسان قفص طائر فطار ، فان عدم الضمان في المقامين أمر ضرري وإثباته رافع لذلك الضرر. هذا ولكن في التمثيل الثاني إشكال ظاهر ، لأنه مشمول لقاعدة الإتلاف ، فإن فتح قفص الطائر سبب لإتلافه وداخل تحت أدلة الإتلاف بلا كلام. اللهم الا ان يقال : ان النظر هنا الى شمول قاعدة لا ضرر له وان كان حكمه معلوما من جهة قاعدة الإتلاف ، ولكنه كما ترى ؛ ولذلك اقتصروا في ذكر المثال الأول بعمل الحر مع انه لا فرق بين عمل العبد والحر من هذه الجهة ، وانما الفرق بينهما من جهة صدق الإتلاف في عمل العبد لأنه مال وعدم صدقه في عمل الحر لعدم صدق المال عليه.

وكيف كان فهذا النزاع كما يتصور بين القائلين بدلالة الحديث على نفى الأحكام الشرعية الضررية مطلقا كذلك يتصور على المختار من عدم دلالتها الا على نفى إمضاء إضرار الناس بعضهم ببعض في عالمى الوضع والتكليف ، فما نذكرها من الوجوه الاتية لتعميم القاعدة جارية على المذهبين.

وإذ قد عرفت ذلك فاعلم ان الحق عدم الفرق بين الأمور الوجودية والعدمية هنا

٨٥

ويدل عليه أمور : الأول ـ ان ما يطلق عليه الحكم العدمي في أمثال المقام يكون في الحقيقة حكما وجوديا فعدم الضمان في المثالين عبارة أخرى عن الحكم ببراءة الذمة وهي حكم شرعي تحتاج الى جعل الشارع كما يحتاج شغل الذمة اليه وان شئت قلت : براءة الذمة في باب الأحكام الوضعية نظير الإباحة في باب الأحكام التكليفية ؛ فكما ان الإباحة والترخيص في مواردها من الأمور الوجودية فكذلك حكم الشارع ببراءة ذمة الحابس للحر عن الغرامة حكم وضعي وجودي. وتوهم ان الإباحة التكليفية كالبراءة الوضعية من الأمور العدمية المطابقة للأصل غير محتاجة إلى التشريع والجعل ، فاسد لأن الأحكام الخمسة بأجمعها أمور وجودية غاية الأمر ان بعضها محتاج الى البيان وبعضها يستكشف من عدم البيان ؛ والحاجة الى البيان وعدمه غير الحاجة الى الجعل وعدمه كما هو ظاهر ، ولذا يتراءى من الشارع المقدس إنشاء الإباحة في موارد كثيرة كقوله كل شيء حلال إلخ فإن التحليل والترخيص والإباحة في هذه الموارد أمور وجودية أنشأها الشارع.

الثاني الظاهر من قوله «لا ضرر ولا ضرار» انه لا ضرر من ناحية الشارع على احد (على قولهم) أو من ناحية المكلفين بعضهم الى بعض (على المختار) فالمنفي الضرر المستند الى الشارع أو الى المكلفين ؛ فلو لزم من عدم الجعل في بعض الموارد استناد الضرر اليه كما في مثال الحر المحبوس وجب نفيه بالقاعدة ؛ فليس في عنوان الدليل «الحكم الضرري» حتى يتكلم في صدقه على العدميات بل المدار على صدق نسبة الإضرار إلى الشارع أو الى المكلفين ، ودعوى ان استناد الضرر لا يصح الا في مورد الافعال الوجودية ممنوعة جدا ، الا ترى انه لو صرح الشارع بان منافع الحر غير مضمونة لا يجب تداركها وان بلغ ضرره ما بلغ ، صح لنا ان تقول ان الحر المحبوس لم يقع في هذه الخسارة العظيمة إلا لقول الشارع كذا وكذا.

والسر في ذلك ان محيط التشريع بجميع شئونه محيط حكومة الشارع والأمر فيه في جميع حركات المكلفين وسكناتهم اليه ، فما ينشأ من إهمال جعل بعض الاحكام من الضرر مستند اليه مثل ما ينشأ من أحكامه المجعولة. ألا ترى ان الوالي إذا

٨٦

أهمل في وضع النظامات اللازمة ونصب الحرس والشرط وتجنيد الجنود لحفظ الرعية ونظام عيشهم فحدث في أمورهم احداث ، تنسب كلها الى سوء تدبير الوالي وإهماله في الأمور. والحاصل ان ترك الفعل في الموارد التي يترقب وجوده ، يصحح استناد لوازمه الى من يترقب منه ، ولا يشترط في صحة الانتساب كون الفعل وجوديا دائما. ومن المعلوم ان المترقب من الشارع المقدس في محيط التشريع جعل الأحكام الحافظة لمصالح العباد ومنافعهم فلو أخل بها فقد ألقاهم في الضرر وهو منفي بمقتضى الحديث ، هذا على مختار القائلين بأن المنفي الضرر من ناحية الشرع ؛ واما على المختار فالأمر أوضح لأن حبس الحر وإتلاف منافعه مثلا إضرار من ناحية بعض المكلفين ببعض ، فهو منفي في الشريعة بجميع آثاره التكليفية والوضعية ، ولا ينتفي إلا بثبوت الغرامة له عليه فتأمل.

ولعله اليه يرجع ما افاده شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري قدس‌سره في رسالته المعمولة في المسألة في مقام توجيه القول بشمولها للعدميات حيث قال : «ان المنفي ليس خصوص المجعولات بل مطلق ما يتدين به وبعامل عليه في شريعة الإسلام ، وجوديا كان أو عدميا ، فكما انه يجب في حكمة الشارع نفى الأحكام الضررية كذلك يجب جعل الاحكام التي يلزم من عدمها الضرر» ولقد أجاد فيما أفاد ، قدس الله سره الشريف.

الثالث ـ لو سلمنا عدم شمولها للعدميات بالدلالة اللفظية فلا أقل من دلالتها عليها بتنقيح المناط وإلغاء الخصوصية ومناسبة الحكم والموضوع ، وأي خصوصية للوجود والعدم في هذا الباب وفيما منّ الله به على عباده من نفى الضرر عنهم وغير خفي ان كلما يتصور في الحكم بنفي الضرر والضرار من المصالح والملاكات فهي موجودة في طرفي الوجود والعدم من دون اى تفاوت ومجرد كون شيء من الأمور الوجودية أو العدمية لا يكون مبدء للفرق في المقام وليت شعري ما ذا تصوره القائلون بالتفرقة بينهما.

***

وقد يذكر للتعميم وجوه أخر غير صافية عن الاشكال :

منها : ان الحكم العدمي يستلزم أحكاما وجودية دائما لا لما ذكرناه في

٨٧

الوجه الأول بل لان عدم ضمان ما أتلفه على الحر من المنافع مثلا يستلزم حرمة مطالبته بالغرامة ومقاصته والتعرض له وجواز دفعه. وفيه ان حرمة مزاحمة الناس في سلطنتهم على أموالهم وأنفسهم ؛ بغير حق ثابت عليهم ، ليس حكما ضرريا أصلا وانما الضرر في المقام ينشأ من عدم ثبوت حق للحر على من أتلف منافعه فلو أمكن إثبات حق له عليه بأدلة نفى الضرر فهو والا فلا يجوز الاستناد إليها لنفى حرمة المذكورات.

ومنها انه يمكن استفادة العموم من نفس قضية «سمرة» حيث انه سلّط الأنصاري على قلع النخلة وعلله بنفي الضرر فان الضرر هناك في عدم سلطنته على القلع فنفاه واثبت سلطانه عليه. وفيه ما عرفت في التنبيه الثاني من ان تسليطه عليه انما كان من باب دفع المنكر ومقدمة لحفظ الحق وحسما لمادة الفساد بعد إبائه الشديد عن القيام بما هو وظيفته قبال الأنصاري ، فالمرفوع أولا وبالذات هو تسلط سمرة على إتيان عذقه بغير اذن من الأنصاري فإن الضرر كان من ناحيته ، ومن الواضح انه أمر وجودي.

ومنها ـ ان استشهاده عليه‌السلام بها في حديث «الشفعة» لإثبات حق الشفعة للشريك مع ان الضرر انما هو في عدم هذا الحق ، دليل على شمولها للعدميات وكذلك استشهاده بها لإثبات حق الانتفاع من فضل الماء في حديث «منع فضل الماء» وفيه ان المرفوع في حديث الشفعة هو لزوم البيع. وفي حديث منع فضل الماء هو جواز المنع وكلاهما أمر ان وجوديان فتأمل.

***

واما ما استدل به على عدم العموم فهو أمور ذكرها المحقق النائيني قدس‌سره في رسالته نذكرها ثمَّ نذكر ما عندنا في دفعها أحدها : ان الأمور العدمية لا يصح استنادها الى الشارع. وقد عرفت الجواب عنه.

ثانيهما : لو عمت القاعدة للأمور العدمية لزم منه فقه جديد ، فيلزم مثلا كون أمر الطلاق بيد الزوجة لو كان بقائها على الزوجية مضرا بحالها كما إذا غاب عنها زوجها أو لم ينفق عليها لفقر أو عصيان بل يلزم الانفساخ بغير طلاق

٨٨

ويلزم أيضا انعتاق العبيد إذا كانوا في الشدة ويلزم أيضا وجوب تدارك كل ضرر يتوجه الى مسلم اما من بيت المال أو من مال غيره.

ويدفعه ان ما يلزم منه ليس فقها جديدا وما يكون فقها جديد الا يلزم منه ، اما كون الطلاق بيد الزوجة إذا غاب عنها زوجها فهو مخالف للنصوص الخاصة الواردة في كتاب الطلاق ؛ وللمسألة صور كثيرة مذكورة هناك ، لأنها اما تعلم بحياة زوجها أولا ، وعلى الأول يجب عليها ان تصبر كما ورد في النصوص ، وعلى الثاني اما ينفق عليها ولى الزوج أولا ، فإن أنفق فعليها ان تصبر أيضا ، وعلى الثاني ترفع أمرها إلى الحاكم يتفحص عن حالها اربع سنين ، الى غير ما ذكروه هناك مع مداركها ونصوصها ، وتحقيق الحق في محله ، وبالجملة عدم حكمهم بجواز طلاق الزوجة هناك انما هو لاتباع النصوص ولولاها لم نستبعد التمسك بقاعدة لا ضرر في هذا الباب كسائر الأبواب.

هذا ولكن لا يلزم من التمسك بالقاعدة هنا كون أمر الطلاق بيد الزوجة ـ كما توهمه المحقق المذكور ـ بل غاية ما يستفاد منها جواز حل عقدة النكاح ، اما كونه ببدها فلا ، فح اما نقول بكون امره بيد الحاكم أو بيد ولى الزوج فلو طلق فهو والا فيجبره الحاكم ، فان هذا هو الذي تقتضيه قواعد المذهب والجمع بين النصوص كما سيأتي ، وذهب جماعة الى عدم الحاجة الى الطلاق في بعض صور المسألة بل يأمره الحاكم بالاعتداد فتعتد وتبين من زوجها.

اما إذا كان الزوج حاضرا ولكن لا ينفق عليها لفقر أو عصيان ، أو كان غائبا ولم يمكن استفسار حاله ، لعدم بسط يد الحاكم أو لموانع أخر ، وليس من ينفق عليها ولا ترضى بالصبر ، فقد ذهب المحقق الطباطبائي اليزدي قدس‌سره فيما أفاده في ملحقات العروة إلى إمكان القول بجواز طلاقها للحاكم ، لقاعدتي نفى الحرج والضرر خصوصا إذا كانت شابة واستلزم صبرها طول عمرها وقوعها في مشقة شديدة ، ولما يستفاد من اخبار كثيرة واردة في باب «وجوب نفقة الزوجة» من انه «إذا لم يكسها ما يوارى عورتها ولم يطعمها ما يقيم صلبها كان حقا على الامام ان يفرق بينهما» أو على الزوج ان يطلقها وفيها روايات صحاح.

٨٩

ويؤيده ما أفاده انهم استدلوا بهذه الروايات في باب وجوب نفقة الزوجة ولم يستشكلوا عليها بمخالفتها للقاعدة من هذه الجهة ولو كان لوجب التنبيه عليه عادة فراجع الجواهر والرياض في باب وجوب النفقة تجد صدق ما ذكرنا ، وقد حكى في «المسالك» في باب «من غاب عنها زوجها» قولا بأن للمرأة الخروج من النكاح بالإعسار بالنفقة وان لم يسم قائله ، واستدل هو على جواز الطلاق في بعض صور المسئلة أعني مسألة من غاب عنها زوجها بقاعدتي نفى الحرج والضرر مضافا الى النصوص والحاصل ان مخالفة هذه الفتوى لفتاوي الأصحاب غير معلومة مع ذهاب هؤلاء الإعلام أو ميلهم اليه.

واما ما افاده المحقق النائيني فيما عرفت من كلامه من احتمال الحكم بانفساخه بلا حاجة الى الطلاق فهو أمر عجيب لأن الذي يقتضيه الجمع بين احكام الشرع وأغراضه وملاكات أحكامه أن يرفع الضرر بطريق يكون أقل محذورا ، ومن المعلوم ان توقف حل عقدة النكاح على الطلاق (الا فيما استثنى) حكم ثابت في الشرع كما ان كون الطلاق بيد من أخذ بالساق حكم آخر ، فإذا أمكن دفع الضرر بإلغاء الثاني الذي في الواقع شرط من شرائط الطلاق وإعطائه بيد ولى الأمر الحافظ لنفوس المسلمين وأموالهم وفروجهم ؛ فما الوجه في إهمال حكم الطلاق وتوقف انفساخ الزوجية عليه من رأس ؛ والحكم بانفساخها بنفس الضرر ، والحاصل انه يقتصر في تخصيص عمومات الاحكام الأولية بعموم لا ضرر على مورد الضرورة لا غير.

كما ان ما ذكره من مسألة تدارك الضرر الذي ليس من ناحية أحكام الشرع ولا من ناحية المكلفين بعضهم ببعض من بيت المال فهو أعجب من سابقة ، وليت شعري ما الوجه في لزوم تدارك هذا الضرر مع عدم استناده الى الشارع ولا الى مكلف ، وهل يمكن اسناد الضرر الى الشارع واحكامه لو لم يحكم بوجوب تدارك هذا الضرر من بيت المال حتى يستدل بحديث نفى الضرر لإثبات وجوب التدارك ، ولعمري انه أوضح من ان يخفى على مثل هذا المحقق النحرير.

٩٠

التنبيه السابع

هل المراد بالضرر هو الضرر الشخصي أو النوعي؟

لا ينبغي الإشكال في ظهور أدلة الباب في الضرر الشخصي اما على المختار فواضح ، لأن النهي عن الضرر كالنهي عن سائر الموضوعات تابع لوجود مصداقه الخارجي ، الذي هو عين التشخص ، وكون الضرر من العناوين الثانوية لا يصادم هذا الظهور في شيء كما لا يخفى واما على القول بان مفاده نفى الأحكام الضررية مطلقا فهو أيضا كذلك فإن الألفاظ بأجمعها في هذه المقامات ظاهرة في مصاديقها الخارجية الشخصية أينما تحققت ، فاذا كان الحكم بالنسبة الى بعض افراد المكلفين ضرريا دون بعض اختص جريان القاعدة بمن يصدق في حقه الضرر دون غيره ، ولا يتوقف هذا الظهور على القول بتقدم القاعدة على عمومات الاحكام الأولية من باب الحكومة ـ كما لعله يظهر من بعض كلمات المحقق النائيني في المقام ـ بل يجرى على جميع الوجوه التي ذكروها في وجه تقديمها عليها.

نعم قد يتوهم ظهور كلمات الأصحاب في الضرر النوعي لأنهم استدلوا بها على خيار الغبن مع ان المعاملة الغبنية لا تكون ضررية دائما بل قد تكون المصلحة في بيع المتاع ولو بأقل من ثمن المثل ، كما إذا كان في معرض الحرق والسرق أو كان المالك عاجزا عن حفظه وقدر غيره عليه ، فاذا باعه ، والحال هذا وهو لا يعلم ، بأقل من ثمن المثل لم يتضرر من هذه المعاملة وان كان مغبونا فيها ، فهذه المعاملة الغبنية لا تشتمل على الضرر بالنسبة الى هذا الشخص.

ولكن يدفعه ان المعاملة المذكورة المشتملة على الغبن من جهة بيع المتاع بأقل من ثمن مثله ، ضررية من حيث كونها معاملة بلا اشكال وان كانت نافعة لملاحظات أخر خارجية ، وان شئت قلت : ان هذه المعاملة كما أنها غبنية من حيث كونها معاملة فكذلك تكون ضررية من هذه الجهة ، وكون المتاع في معرض الحرق والسرق أمر خارج من دائرة المعاملة ، فلا يقال : انه انتفع بهذا البيع لان الانتفاع

٩١

بالبيع انما يكون فيما إذا باعه بأكثر من ثمن مثله ، بل يقال : انه وان تضرر في هذه المعاملة الا انه انتفع بأمر خارج منها ولذا يقال في أمثال المقام «ان الضرر اليسير منع من الضرر الكثير» وانه لو لم يبعه بالضرر تضرر بأصله أو بأزيد منه ؛ فاذا لوحظ جميع الحيثيات الداخلية والخارجية بعد الكسر والانكسار لم يكن هذه المبادلة ضرريا في حقه ، كما انه ليس مغبونا بهذه الملاحظة ، ولكن هذه ملاحظات خارجة عن حقيقة المعاملة بما انها معاملة ولا يصح جعلها مقياسا لكون المعاملة ضرريا أو غير ضرري فالمعاملة الغبنية ضررية دائما والحاصل ان عنوان الضرر صادق على هذه المعاملة بلا اشكال.

نعم الحكم بالفساد في خصوص هذه الواقعة لا يكون منة على المكلف ولكن قد عرفت آنفا ان الامتنان انما هو بلحاظ الحكم الكلي في هذه المقامات ، لا بحسب مصاديقة الشخصية ، ودوران «الضرر» مدار الأشخاص أمر ودوران «الامتنان» مدار النوع أمر آخر ولا منافاة بينهما أصلا.

التنبيه الثامن

هل يجوز الإضرار بالغير لدفع الضرر عن النفس؟

قال شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري في رسالته المعمولة في المسألة في ملحقات مكاسبه ، في «التنبيه الرابع» من التنبيهات التي أوردها هناك ما لفظه : «مقتضى القاعدة ان لا يجوز لأحد إضرار إنسان لدفع الضرر المتوجه اليه ، وانه لا يجب على احد دفع الضرر عن الغير بإضرار نفسه لان الجواز في الأول والوجوب في الثاني حكمان ضرريان» ثمَّ فرع على الأول ما ذكروه من عدم جواز إسناد الحائط المخوف وقوعه على جذع الجار ، وعلى الثاني جواز إضرار الغير عند الإكراه والتقية بمعنى انه إذا أمر الظالم بإضرار أحد وأوعد على تركه جاز للمأمور إضراره لدفع الضرر المتوعد عن نفسه ، ولا يجب عليه تحمل ذلك الضرر لدفع الضرر عن الغير.

وذكر في «الفرائد» في هذا المقام ما لفظه : «انه قد يتعارض الضرران بالنسبة

٩٢

إلى شخص واحد أو شخصين ، فمع فقد المرجح يرجع الى الأصول والقواعد الأخر كما انه إذا أكره على الولاية من قبل الجائر المستلزم للإضرار على الناس ، فإنه يرجع الى «قاعدة نفى الحرج» لأن إلزام الشخص بتحمل الضرر لدفع الضرر عن غيره حرج ، وقد ذكرنا توضيح ذلك في مسألة التولي من قبل الجائر من كتاب المكاسب» انتهى.

وذكر هناك ما حاصله : «ان الضرر إذا توجه الى شخص بمعنى حصول مقتضية فلا يجوز دفعه عن نفسه بإضرار غيره ، كما إذا أجبره الظالم على دفع مال من أمواله فإنه لا يجوز له نهب مال غيره لدفع الضرر عن نفسه ، اما إذا كان الضرر أولا وبالذات متوجها الى الغير كما إذا أجبره على نهب مال الغير وأوعده على ترك النهب بأخذ مال نفسه فيجوز له ذلك ولا يجب عليه بذل مال من أمواله وتحمل الضرر عن الغير ، لان الضرر بحسب قصد المكره (بالكسر) وإرادته الحتمية متوجه نحو الغير ؛ والمكره (بالفتح) وان كان مباشرا للإضرار الا انه ضعيف لا ينسب إليه الإضرار حتى يقال : انه أضر بالغير لئلا يتضرر نفسه ؛ نعم لو تحمل الضرر ولم يضر بالغير فقد صرف الضرر عنه الى نفسه عرفا ، ولكن الشارع لم يوجب عليه هذا المعنى والامتنان بهذا على الأمة لا قبح فيه ، هذا مع ان أدلة نفى الحرج كافية في الفرق بين المقامين ، فإنه لا حرج في عدم الرخصة في دفع الضرر عن النفس بإضرار الغير بخلاف إلزام تحمل الضرر عن الغير بإضرار النفس فإنه حرجي قطعا» انتهى ملخصا.

***

أقول ـ اعلم ان هنا مسائل ثلث احديها عدم جواز الإضرار بالغير لدفع الضرر عن النفس وهذا مستفاد من حديث لا ضرر بلا كلام ثانيتها ـ عدم وجوب تحمل الضرر عن الغير بإضرار النفس ، وهذا مستفاد من أدلة البراءة ولا يحتاج إلى قاعدة لا ضرر لأنه ليس لنا دليل يقتضي بعمومه أو إطلاقه وجوب تحمل الضرر عن الغير حتى يحتاج في نفيه إلى أدلة نفى الضرر ، بخلاف المسألة الأولى ، لأن إطلاقات البراءة هناك تدل على الجواز على عكس ما نحن فيه فيحتاج في نفيه إلى قاعدة لا ضرر.

٩٣

ثالثتها ـ مسألة تعارض الضررين في حق شخصين أو شخص واحد وسيأتي حكمه في التنبيه الآتي إنشاء الله ، ولا دخل له بالمسألتين السابقتين ، ومن العجب ان شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره قد جمع في الفرائد بين هذه المسائل الثلاث في عبارة واحدة كما عرفت ؛ ولكنه (قده) فرق بينها في رسالته المطبوعة في ملحقات المكاسب فعقد للمسألتين الأوليين التنبيه الرابع ولتعارض الضررين التنبيه السادس من التنبيهات التي ذكرها.

وأعجب منه ما افاده «المحقق النائيني» في المقام حيث أورد على كلام الشيخ في رسالته المذكورة بأنه لا وجه لعقد مسألة واحدة للجميع وان الصواب جعل عنوان مسألة تعارض الضررين عنوانا مستقلا ومسألة الإضرار بالغير كالولاية من قبل الجائر عنوانا آخر.

أقول ـ كأنه زاغ بصره الشريف عن الأمر الرابع الذي ذكره الشيخ (قده) في تلك الرسالة فإنه بعينه هو ما رامه. وعلى كل حال فلنرجع الى البحث عن المسألتين الأوليين التين عقد لهما هذا التنبيه. ثمَّ لنبحث عن الثالثة في التنبيه الاتى إنشاء الله فنقول ومنه سبحانه نستمد التوفيق والعناية.

أما الإضرار بالغير لدفع الضرر عن النفس فهو أمر غير جائز بلا اشكال فلا يجوز توجيه السيل الى دار الغير دفعا له عن داره ، ولا إلقاء الغير عند السبع لصرفه عن نفسه ، ويدل عليه أدلة نفى الضرر لا سيما على المختار في معناها.

لا يقال ـ ان ترك الإضرار بالغير في مفروض البحث أيضا يشتمل على الضرر فكما ان فعله مستلزم للضرر على الغير فكذلك تركه أيضا مستلزم للضرر على نفسه فهو داخل في مسألة تعارض الضررين ولعل هذا هو الوجه في جعل الجميع مسألة واحدة

لأنا نقول ـ ترك الإضرار بالغير في مفروض البحث ليس في حد ذاته ضرريا وانما هو ترك للمانع عن مقتضى الضرر ، توضيحه : ان مقتضى الضرر في مفروض الكلام وهو توجه السيل أو السبع مثلا ـ موجود بحسب أسبابه الطبيعية لا بسبب فعل المكلف ولكن يمكن خارجا دفع أثره بتوجيهه نحو الغير وصرفه عن نفسه ، فترك هذا انما هو

٩٤

ترك للمانع لا إيجاد للمقتضي كما لا يخفى.

ومن هنا تعرف ان أدلة لا ضرر لا تشمل هذا الترك رأسا لعدم موضوع له هنا فلا يحتاج الى القول بانصرافها بقرينة ورودها مورد الامتنان كما يظهر من بعض كلماتهم ، لان ذلك فرع وجود الموضوع والمقتضى لها وقد عرفت عدمه في المقام. هذا بالنسبة إلى المسألة الاولى.

واما المسألة الثانية وهو تحمل الضرر بنفسه لدفعه عن غيره ، كما إذا توجه السيل بحسب أسبابه الطبيعية نحو الغير فدفعه الى داره حفظا لدار الغير عن الضرر ، فقد عرفت انه لا دليل يقتضي وجوبه ولو بالإطلاق كي يحتاج الى نفيه بقاعدة نفى الضرر أو قاعدة نفى الحرج ، فالقاعدة أجنبية عنه ، والمرجع فيه هو البراءة ، نعم لو كان هناك عموم أو إطلاق يقتضي وجوبه أمكن التمسك بالقاعدة على نفيه.

***

بقي في المقام «مسألة الإضرار بالغير عند الإكراه» ، كالتولي من قبل الجائر مكرها إذا استلزم إضرارا وظلما على بعض العباد ، الذي صرح الشيخ (قده) بجوازه في مقامات مختلفة ؛ مدعيا ان الضرر بحسب طبعه الاولى وارادة المكره (بالكسر) متوجه نحو الغير فلا يجب ترك الإضرار به وتحمله عنه فهو عنده من صغريات المسألة السابقة ، وقد تبعه على هذا المعنى كثير من متأخريه.

ولكن ما ذكره ممنوع جدا لأنا نمنع من اندراجه تحت تلك المسألة ، بيان ذلك : ان الضرر في هذه الموارد انما يتوجه نحو الغير من ناحية فعل المكره (بالفتح) فمع قطع النظر عن فعله لا يتوجه إليه شيء ؛ وان شئت قلت : مسألة عدم وجوب تحمل الضرر عن الغير انما هو في المواطن التي يكون مقتضى الضرر بحسب أسبابه الطبيعية والخارجية مع قطع النظر عن فعل هذا المكلف موجودا ومتوجها نحو الغير ، ولكن مكلفا آخر يقدر على إيجاد المانع عن تأثيره بتوجيه الضرر الى نفسه ، وفي باب الإكراه ليس الأمر كذلك ، فان الضرر بحسب أسبابه الطبيعية والخارجية لم يتوجه نحو الغير ، وانما يتوجه اليه بسبب ارادة المكره (بالفتح).

٩٥

واما ما أفاده العلامة المذكور قدس‌سره في بعض كلماته من ان توجه الضرر نحو الغير في موارد الإكراه انما هو بسبب ارادة المكره (بالكسر) فهو ممنوع جدا ، لان مجرد ارادة المكره (بالكسر) لا يوجب توجيه الضرر نحو الغير ما لم يكن المكره (بالفتح) كالالة ، نعم لو كان المكره (بالفتح) مقهورا للمكره بحيث يعد مضطرا على العمل على وفق ارادته أمكن القول بذلك ، لان الضرر بحسب أسبابه الخارجية ، ومنها ارادة المكره (بالكسر) توجه نحو الغير ولم يتوسط هناك ارادة المكره (بالفتح) واختياره ، ولكن الأمر في موارد الإلجاء والاضطرار سهل لأنه لا يبقى هناك مجال للبحث عن جواز الإضرار وعدمه لارتفاع التكليف فيها رأسا.

اما إذا لم يكن المكلف ملجئا بل كان مكرها مع بقاء ارادته واختياره المقابل للاضطرار والإلجاء فتوجه الضرر نحو الغير لا يكون الا بتوسيط ارادته ؛ فإرادته واختياره متوسط في البين وبدونه لا يكون الضرر متوجها نحو الغير. وما يظهر من كلماته قدس‌سره من ان الفعل لا يسند الى المكره (بالفتح) وان كان مباشرا ؛ لضعفه وقوة السبب وهو المكره (بالكسر) ، أيضا ضعيف فإن إسناد الفعل في المقام انما هو الى المباشر قطعا بحسب أنظار أهل العرف لمقام ارادته واختياره ، وانما لا ينسب إليه إذا كان مضطرا وملجئا وكان كالالة لفعل المكره (بالكسر) أو ما يجرى مجراه.

ومن أشنع ما يلزم هذا القول ان مقتضاه جواز الإضرار بالغير في موارد الإكراه بما دون النفس مطلقا ؛ ولو كان بالمضار المؤلمة المشجية في الأموال والأنفس ، وان بلغت ما بلغت ، لدفع ضرر يسير عن نفس المكره (بالفتح) وماله وعرضه ، فان الحكم في باب تحمل الضرر عن الغير ذلك ، لعدم وجوب تحمل ضرر يسير على نفسه دفعا لضرر كثير عن غيره (الا في موارد مستثناة كالنفوس وشبهها) وقد عرفت ان باب الإكراه عند العلامة الأنصاري قدس‌سره ومن تبعه من مصاديق مسألة تحمل الضرر المتوجه الى الغير فتدبر تعرف.

فتلخص من جميع ما ذكرنا ان مسألة الإكراه على الضرر كما في التولي من قبل الجائر وأشباهه لا تكون من باب تحمل الضرر عن الغير بتضرر النفس ، وانما تكون

٩٦

من باب «تعارض الضررين» فيجري عليها الاحكام الاتية في التنبيه الاتى إنشاء الله فكن على بصيرة منه.

التنبيه التاسع

حكم تعارض الضررين

إذا تعارض ضرران فان كان بالنسبة إلى شخص واحد كما إذا تضرر إنسان من شرب دواء من بعض الجهات وانتقع به من جهات أخر ، فالحكم فيه واضح فان الواجب عليه ترك الضرر الأقوى والأخذ بالأضعف ، لو قلنا بأن الإضرار بالنفس محرم مطلقا ، وان كانا متساويين فالحكم فيه التخيير.

الا ان الكلام بعد في حرمة الإضرار بالنفس مطلقا حتى في الموارد التي يكون هناك غرض عقلائي مع صدق عنوان الضرر ولم يكن هناك خوف هلاك النفس ، والحكم بالتحريم مطلقا وان كان مشهورا الا انه قد وقع التأمل فيه من بعض المعاصرين من جهة عدم قيام دليل عليه. والمسألة تحتاج إلى مزيد تتبع وتأمل ، ولكن لا إشكال في عدم شمول إطلاقات أدلة نفى الضرر لها فإنها ناظرة إلى الإضرار بالغير على ما هو التحقيق ، فمسألة الإضرار بالنفس خارجة عن محل البحث وله موقف آخر.

واما إذا دار الأمر بين ضررين بالنسبة إلى شخصين ، وهو المقصود بالبحث هنا فقد وقع الكلام في حكمه بين الاعلام ؛ وقد مثلوا له بما إذا أدخلت الدابة رأسها في قدر مالك آخر بغير تفريط من المالكين ولم يمكن إخراج رأسه إلا بكسر أحدهما أو وقع دينار من شخص في محبرة غيره كذلك ومثلوا له أيضا بما إذا كان تصرف المالك في ملكه موجبا لتضرر جاره وتركه موجبا لتضرر نفسه ، كما إذا احتاج الى حفر بئر في داره بما يتضرر منه جاره.

أقول ـ مسألة تعارض ضرر المالك وغيره بالتصرف في مال نفسه ، لها أحكام خاصة لا تجري في مطلق تعارض الضررين فلذا عقدنا لها بحثا آخر سيوافيك فاذن

٩٧

لا بد لنا من البحث في مقامين مختلفين ؛ وقد عرفت آنفا ان مسألة التولي من قبل الجائر وسائر موارد الإكراه على إضرار الغير داخلة في باب تعارض الضررين وليست من باب تحمل الضرر المتوجه الى الغير ، فما نذكره من الاحكام هنا شاملة لها أيضا فنقول :

المقام الأول فيما إذا تعارض ضرران ودار الأمر بين الإضرار بأحد الشخصين أو أحد المالين لا على التعيين ولم يكن منشأه تصرف المالك في خصوص ملكه وحاصل القول فيه ان التأمل التام في أدلة نفى الضرر يرشدنا إلى انها لا تشمل صورة تعارض الضررين ، إما لأنها واردة مورد الامتنان فلا تشمل الا الموارد التي تكون قابلة له لا مثل المقام الذي لا يكون قابلا له على كل حال فتأمل. والا لانصرف اخبار الباب الى ما لا يلزم منه الضرر إلا في أحد طرفيه دون ما يلزم منه ذلك في كلا طرفيه ، والوجه فيه ان ظاهر الأدلة ولو بملاحظة مناسبة الحكم والموضوع ان الشارع المقدس أراد بنفي الضرر في عالم التشريع إعدامه من صفحة الوجود بالنسبة إلى مناسبات المكلفين بعضهم ببعض ، وهذه الغاية إنما تنال إذا كان الضرر في أحد طرفي الفعل والترك لا في كليهما فكما أن إخراج رأس الدابة عن القدر بكسر القدر مستلزم للضرر على صاحب القدر فكذلك ذبح الدابة وحفظ القدر يوجب الإضرار على صاحبها فلا يحصل غرض تشريع هذا الحكم من واحد منهما والحاصل ان مناسبة الحكم والموضوع هنا مع قطع النظر عن ورود القاعدة مورد الامتنان تقتضي انصرافها عن مورد التعارض.

فاللازم التماس دليل آخر للحكم هنا ، والذي يظهر لنا بعد الرجوع الى «سيرة العقلاء» في أمثال هذه المقامات وما يقتضيه «قاعدة الجمع بين الحقوق مهما أمكن» هو لزوم تقديم جانب الضرر الأقوى بان يكسر القدر أو المحبرة في المثالين السابقين إذا كانت قيمتهما أقل من قيمة الدابة ـ كما هو الغالب ـ ثمَّ يجعل الخسارة على المالكين جميعا لا على واحد منهما فقط ، والوجه في تضمين صاحب الدابة شقصا من الخسارة ان كسر القدر انما كان لحفظ ماله ، وفي تضمين صاحب القدر شقصا آخر ان توجه هذا الضرر الى المالين لم يكن بتفريط من صاحب الدابة حتى يكون ضامنا لجميع القيمة بل انما

٩٨

وقع ما وقع لأسباب خارجية متساوية النسبة إلى كليهما فكلاهما متساويان في لزوم تحمل هذا الضرر بالنسبة

والحاصل : ان الضرر الحاصل من إدخال الدابة رأسها في القدر قد نشأ من ناحية أمور خارجية من غير دخل لأحد المالكين فيها (كما هو مفروض البحث) وهذا الضرر كما انه متوجه الى صاحب الدابة من جهة متوجه الى صاحب القدر من جهة أخرى ، فعلى كل منها قبول شقص من الخسارة الحاصلة من توجه أسباب الضرر ، لئلا يلزم ترجيح بلا مرجح في تحمل الخسارة المتساوية النسبة إليهما ، وأهمية أحد المالين بالنسبة إلى الأخر لا تؤثر في تضمين احد المالكين دون الآخر ؛ بل يمكن ان يقال ان الخسارة عليهما تكون بنسبة ما لهما فصاحب الدابة يضمن من الخسارة الحاصلة بنسبتها وصاحب القدر بنسبته ، غاية الأمر انه يراعى جانب الأهم في حفظ تشخص احد المالين ، بافناء الأخر والانتقال الى بدله فيكسر القدر ويخلص الدابة ، ولو كانا متساويين من جهة المالية فلا يبعد الحكم بالقرعة كما لا يخفى.

هذا كله إذا لم يكن توجه الضرر من تفريط من ناحية أحد المالكين والا كانت الخسارة عليه فقط دون الأخر كما هو ظاهر.

ومن هنا يظهر النظر فيما ذكروه في «كتاب الغصب» من انه : «إذا حصلت دابة في دار لا تخرج الا بهدمها ولم يكن تفريط من احد المالكين يهدم وتخرج الدابة ويضمن صاحب الدار لمصلحته» قلت مجرد كون الهدم لمصلحة صاحب الدابة لا يوجب استقرار تمام الخسارة عليه بعد ما كانت الخسارة بسبب أمور خارجية متوجهة إليهما ولم يكن تفريط من صاحب الدابة فاللازم هو الحكم باستقرارها عليهما ، جمعا بين الحقين.

المقام الثاني في تعارض ضرر المالك وغيره

. إذا لزم من ترك تصرف المالك في ملكه ببعض أنحاء التصرفات ضرر عليه ولزم من تصرفه ضرر على غيره ، فهل هو من قبيل تعارض الضررين حتى يحكم عليه بما قدمناه في التنبيه السابق ، أو يجب ترجيح جانب المالك دائما ؛ فله التصرف في ملكه بما يشاء ،

٩٩

كيف يشاء أو فيه تفصيل؟

التحقيق ان هاهنا مسائل أربع : أحدها ما إذا لزم من ترك تصرف المالك في ملكه ضرر عليه ثانيها ما إذا لزم منه فوت بعض منافعه من دون توجه ضرر عليه ثالثها ما إذا لم يلزم شيء منهما ولكن بدا له ذاك التصرف عبثا وتشهيا رابعها ما إذا كان قصده من ذلك التصرف الإضرار بالغير من دون ان ينتفع به أصلا ، لا إشكال في عدم جواز الأخير بل الظاهر ان مورد رواية سمرة هو بعينه هذه الصورة.

واما باقي الصور فظاهر المحكى عن المشهور الحكم بالجواز فيها مطلقا بل ادعى الإجماع على الجواز في الصورة الاولى ، ولكن صريح بعضهم كالمحقق قدس‌سره ؛ وظاهر آخرين كالعلامة في التذكرة ، والشهيد في الدروس رحمة الله عليهما ، استثناء الصورة الأخيرة حيث قيد الأول منهما الجواز بصورة «دعاء الحاجة اليه» والأخير ان بما «جرت به العادة» ومن المعلوم ان مفروض الكلام في الصورة الثالثة ما لم تدع الحاجة اليه ولا جرت به السيرة. بل الظاهر انصراف كلمات غير هؤلاء الاعلام أيضا عن هذه الصورة وعدم شمولها لغير الصورتين الأولتين.

وإذ قد عرفت ذلك فاعلم ان الذي اختاره شيخنا العلامة (قده) في فرائد هو الحكم بتقديم جانب المالك في هاتين الصورتين ، بالرجوع الى عموم قاعدة تسلط الناس على أموالهم وقاعدة لا حرج ، بعد سقوط أدلة نفى الضرر بالنسبة إليهما للتعارض.

وأورد عليه المحقق النائيني (قده) بفساد الصغرى والكبرى ، اما الصغرى يعنى عدم كون المقام من مصاديق الحرج بل ولا من مصاديق تعارض الضررين فملخص ما أفاده في بيانه هو ان الحرج ليس مطلق المشقة بل هو المشقة الجوارحية ، فالمشقة الطارية على الجوانح من منع المالك عن التصرف في ملكه غير منفي بأدلة نفى الحرج ؛ فليس المقام من مصاديق «الحرج» بل ولا من تعارض الضررين لان الضرر الحاصل للمالك من ترك تصرفه ليس في عرض الضرر الحاصل للجار عند التصرف حتى يتعارضان ، بل أحدهما في طول الأخر ، وذلك لان المجعول في هذه الواقعة ليس الا حكما واحدا ؛ اما جواز تصرف المالك أو حرمته ، فالأول ضرري للجار فقط. والثاني للمالك فقط ؛ فليس هناك حكمان ينشأ

١٠٠