القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

كل ذنب ويطهره منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين : ترك التقية وتضييع حقوق الاخوان (١)

١٤ ـ وعنه عليه‌السلام أيضا : قيل : لمحمد بن على عليه‌السلام ان فلانا أخذ بتهمة فضربوه مائة سوط ، فقال : محمد بن على عليه‌السلام : انه ضيع حق أخ مؤمن وترك التقية ، فوجه اليه فتاب (٢).

وهذه الرواية تدل على ان تركها في موارد وجوابها لا يورث عقاب الآخرة فحسب بل قد يورث عذابا دنيويا أيضا

١٥ ـ ما رواه على بن محمد الخزار في كتاب «كفاية الأثر» عن ـ الحسين بن خالد عن الرضا عليه‌السلام قال لا دين لمن لا ورع له ، ولا ايمان لمن لا تقية له ، وان أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية. قيل يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى متى؟ قال : الى قيام القائم فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا (الحديث) (٣)

الطائفة الرابعة ـ روايات عديدة تحكي عن وقوع التقية في أفعال أنبياء السلف وانهم عملوا بالتقية في غير مورد وهي روايات :

١٦ ـ ما رواه الصدوق في العلل عن ابى بصير قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : لا خير فيمن لا تقية له ولقد قال يوسف (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ)

__________________

(١) الحديث ٦ من الباب ٢٨ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(٢) الحديث ١١ من الباب ٢٨ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(٣) الحديث ٢٥ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

٤٠١

وما سرقوا (١)

ولا يخفى ان نسبة التقية هنا الى يوسف عليه‌السلام انما هو من جهة أمره أو رضاه بقول المؤذن الذي أذن بين اخوة يوسف فقال (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) وهم ما سرقوا شيئا ولو سرقوا انما سرقوا يوسف من قبل ، فهو نوع من التورية وقد صدرت تقية وإخفاء للحق لبعض المصالح التي أوجبت أخذ أخيه «بنيامين».

وغير خفي ان هذه التقية ليست من قسم ما يؤتى به خوفا على النفس ، بل قسم آخر يؤتى به لمصالح أخر ، وسيأتي الإشارة إلى انها لا تنحصر بما يؤتى به خوفا.

ثمَّ لا يخفى ان هذه التقية وأشباهها ليست في باب الاحكام وتبليغ الرسالة حتى يتوهم عدم جوازها في حق الأنبياء والمرسلين ، بل هو في غير باب التبليغ حفظا لبعض المصالح.

١٧ ـ ما رواه في العلل أيضا عن ابى بصير قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام التقية دين الله عزوجل ، قلت من دين الله؟ قال : فقال اى والله من دين الله لقد قال يوسف (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) والله ما كانوا سرقوا شيئا (٢)

والكلام فيه كما في سابقة

١٨ ـ ما رواه الكليني في الكافي عن ابى بصير أيضا قال : قال أبو ـ عبد الله عليه‌السلام : التقية من دين الله. ثمَّ روى نحو الرواية السابقة ، ثمَّ زاد قوله :

__________________

(١) الحديث ١٧ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(٢) الحديث ١٨ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

٤٠٢

ولقد قال إبراهيم عليه‌السلام (إِنِّي سَقِيمٌ) والله ما كان سقيما (١)

وإطلاق التقية على قول إبراهيم عليه‌السلام هنا انما هو بملاحظة أنه أخفى حاله وأظهر غيره لما لا يخفى من المصالح الدينية ، كما أشرنا إليه في الروايات السابقة ، كما انه ليس من باب التقية في الاحكام وانما هو في الموضوعات فلا ينافي دعوته ورسالته ، بل كان ذلك لأداء رسالته وحطم الأصنام وكسرها.

١٩ ـ ما رواه في «معاني الاخبار» عن سفيان بن سعيد قال سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام يقول : عليك بالتقية فإنها سنة إبراهيم الخليل عليه‌السلام ـ الى ان قال ـ وان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا أراد سفرا دارى بعيره وقال : أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بإقامة ـ الفرائض ولقد أدبه الله عزوجل بالتقية فقال (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) (الاية). يا سفيان من استعمل التقية في دين الله فقد تسنم الذروة ـ العليا من القرآن وان عز المؤمن في حفظ لسانه ومن لم يملك لسانه ندم (الحديث) (٢)

وفي هذه الرواية دلالة على ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا كان يتقى في بعض الموضوعات ـ لا الاحكام ولا في إرشاده وتبليغ رسالته ـ مداراة للناس ، ودفعا للبغضاء والعداوة عن قلوب المؤمنين بالتورية وشبهها وفيها أيضا إشارة إلى تقية إبراهيم عليه‌السلام في أمر الأصنام في قوله

__________________

(١) الحديث ٤ من الباب ٢٥ من أبواب الأمر بالمعروف.

(٢) الحديث ١٦ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

٤٠٣

(إِنِّي سَقِيمٌ) أو قوله (هذا رَبِّي) أو قوله «(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) إلخ» وانها كانت من سنته ، ومن المعلوم انها داخلة في مفهوم التقية بالمعنى الوسيع والأعم وهو إخفاء أمر لبعض ما هو أهم.

٢٠ ـ ما رواه الكليني عن هشام بن سالم عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال ان مثل ابى طالب مثل أصحاب الكهف أسروا الايمان وأظهر والشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين (١)

وهذه الرواية وان لم تكن من قسم تقية الأنبياء الا انه ذكرناها إلحاقا بها

وقد أشير إلى قصة أصحاب الكهف في الكتاب العزيز ولكن لم يصرح فيها بلفظ التقية ، ولكن يظهر من قرائن مختلفة مذكورة فيها انهم كانوا يتقون من أصحابهم ، وانهم اختاروا الاعتزال عن قومهم وآووا الى الكهف خوفا من ظهور أمرهم وتعذيبهم بيد الملك واتباعه ، فلو أظهروا الايمان أخذوا وقتلوا ، فأسروا وأظهروا بعض ما أرادوا الى ان وفقهم الله الى الهجرة ، فهاجروا من قومهم ليجدوا فراغا يمكن فيه إظهار الإيمان من غير حاجة الى إظهار الشرك والموافقة لهم في أعمالهم.

وقد ورد في الروايات والتواريخ ما يؤيد تقيتهم من قومهم ، فعدم ذكر لفظ التقية فيها لا يضر بالاستدلال بعد وضوح المطلب.

وفيها أيضا دلالة على تقية ابى طالب عليه‌السلام عم النبي الإكرام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحاميه وناصره بقلبه وبيده وبلسانه ، ولا ينافي هذا إظهاره الايمان في غير مورد ، طول حياته ، كما ورد في الاخبار والسير ، فان تقيته كانت غالبية لا ـ

__________________

(١) الحديث ١ من الباب ٢٩ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

٤٠٤

دائمية ، وكانت من الأعداء ، لأمن المسلمين وأصحاب سيرهم ، وفيها أيضا جواب عن مقالة بعض أهل الخلاف وتهمة الشرك ـ معاذ الله ـ الى ابى طالب عليه‌السلام

وهذه الطائفة من الاخبار تدل على رجحان التقية أو وجوبها إجمالا في موارد يكون إخفاء الحق فيها واجبا أو راجحا لمصالح مختلفة.

وهناك اخبار أخر كثيرة تدل على وجوبها أو رجحانها في هذه ـ الموارد سيأتي الإشارة إلى شيء كثير منها في الأبحاث الاتية ان شاء الله ، وهي بالغة حد التواتر ، ومعها لا يبقى شك في أصل الحكم في المسئلة إجمالا.

٤٠٥

بقي هنا أمور هامة يجب ذكرها

الأول ـ علة هذا التأكيد البليغ في أمر التقية

لا شك ان الناظر في هذه الاخبار يجد في أول نظره إليها تأكيدا بليغا في التقية قلما يوجد في أشباهها وقد يستوحش منها أو يوجب سوء الظن بها أو ببعضها ، كل ذلك جهلا بأسرارها ومواردها ومغزاها

ولكن التدبر فيها وفي الظروف التي صدرت لها ، وفي القرائن الموجودة في كثير منها يرشدنا الى سر هذه التأكيدات ويرفع النقاب عن وجهها ويفسرها تفسيرا تاما.

والظاهر ان هذا الاهتمام كان لأمرين مهمين.

أحدهما ـ ان كثيرا من عوام الشيعة ، أو بعض خواصها ، كانوا يقومون في وجه الحكومات والنظامات الفاسدة الأموية والعباسية بلا عدة وعدة ولا تخطيط صحيح ولا محجة واضحة ، فيلقون بأنفسهم إلى التهلكة كأنهم يرون إعلان عقيدة الحق ولو لم يكن نافعا واجبا ، وإخفائها ولو لم يجلب الا الوهن والضرر على المذهب ومقدساته حراما ، وان كان حافظا

٤٠٦

للنفوس والاعراض ومفيدا لحفظ المذهب وكيانه.

أو كانوا يرون التقية كذبا ومجرد ذكر كلمة الشرك شركا وكفرا وان كان القلب مطمئنا بالايمان ولذا بكى عمار بعد إظهار كلمة الكفر تقية حتى ظن انه خرج عن الإسلام وهلك.

فنهاهم ائمة أهل البيت (عليهم‌السلام) عن هذه الاعمال الكاسدة الضئيلة غير المفيدة وعن هذه الآراء الباطلة ، ويشهد لذلك ما ورد من أنها الجنة وترس المؤمن وأمثالها.

أضف الى ذلك قول الصادق عليه‌السلام فيما رواه حذيفة عنه في تفسير قوله تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، قال هذا في التقية (١)

ولعل الروايات الحاكية عن تقية الأنبياء وجمع من الأولياء ناظرة إلى انها ليست كذبا ممنوعا ولا موجبا للكفر والخروج عن الدين ، إذا كانت في مواردها كما تشهد به الرواية التالية.

وهي ما رواه الكليني عن درست الواسطي قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف ، ان كانوا ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير فأعطاهم الله أجرهم مرتين (٢)

ثانيهما ـ ان كثيرا من عوام الشيعة وبعض خواصهم كانوا يتركون العشرة مع غيرهم من المسلمين من أهل السنة لأنهم إن أظهروا عقيدتهم الحق ربما وقعوا في الخطر والضرر وجلب البغضاء والعداوة ، وان اخفوه

__________________

(١) الحديث ٣٥ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(٢) الحديث ١ من الباب ٢٦ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

٤٠٧

كانوا مقصرين في أداء ما عليهم من إظهار الحق ، مرتكبين للاكاذيب ، فيرون الأرجح ترك العشرة معهم وعدم إلقاء أنفسهم في أحد المحذورين ، غفلة عن المضار المترتبة على مثل هذا العمل من شق العصا وإسنادهم إلى الخشونة وقلة الأدب والعواطف الإنسانية ، وتركهم لجماعة المسلمين وآدابهم.

فندبهم الأئمة عليهم‌السلام بالعشرة معهم بالمعروف وحسن المصاحبة والجوار ، كيلا يعيروا بتركها ولا يكونوا شينا على أئمتهم ، وان اضطروا في ذلك الى التقية أحيانا.

ويشهد لذلك روايات عديدة :

منها ـ ما رواه في الكافي عن هشام الكندي قال سمعت أبا ـ عبد الله عليه‌السلام يقول : إياكم ان تعملوا عملا نعير به فان ولد السوء يعير والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم اليه زينا ولا تكونوا عليه شينا ، صلوا في عشائرهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير ، فأنتم أولى به منهم ، والله ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخبإ ، قلت : وما الخبإ؟ قال : التقية (١)

وهذه الرواية تنادي بأعلى صوتها بعدم الاعتزال عن القوم ولزوم العشرة معهم بالمعروف والصلاة معهم ، وعيادة مرضاهم ، وشهادة جنائزهم وغير ذلك من أشباهه كيلا يعيروا بتركه الأئمة عليهم‌السلام ولا يجدوا طريقا للإزراء بهم وباتباعهم ، ويجوز حينئذ التقية معهم وهذا نوع من التقية التحبيبى.

ومنها وما رواه في الكافي أيضا عن مدرك بن الهزهاز عن أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الحديث ٢ من الباب ٢٦ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

٤٠٨

قال : رحم الله عبدا اجتر مودة الناس الى نفسه ، فحدثهم بما يعرفون وترك ما ينكرون (١)

فان الحديث معهم بما يعرفون وترك ما ينكرون من مصاديق التقية وانما يؤتى بذلك تحبيبا.

ومنها ما في تفسير الامام الحسن العسكري عليه‌السلام قال : وقال الحسن بن على عليه‌السلام (بن ابى طالب) ان التقية يصلح الله بها امة لصاحبها مثل ثواب أعمالهم ، فإن تركها أهلك أمة ، تاركها شريك من أهلكهم. الحديث (٢)

ولعل ارداف التقية بحقوق الاخوان هنا وفي روايات أخر إشارة إلى اشتراكهما في حفظ الأمة ووحدتها وحقوقها وكيانها ، وان كان التأكيد في الأول لإخوانهم ، الخاصة والثاني للعامة.

وقد ورد في غير واحد من الروايات (مثل الرواية ٣٢ من الباب ٢٤ والرواية ٣٣ من ذاك الباب بعينه) تفسير قوله تعالى في قصة ذي القرنين حاكيا عن القوم الذين وجدهم عند السدين (تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) وقوله (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) «ان هذا هو التقية فإنها الحصن الحصين بينك وبين أعداء الله وإذا عملت بها لم يقدروا على حيلة».

وهذا وان كان ناظرا إلى تأويل الآية وبطنها والعدول عن ظاهرها ببعض المناسبات لكشف ما فيها من المعاني الأخر غير معناها الظاهر ، الا

__________________

(١) الحديث ٤ من الباب ٢٦ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

(٢) الحديث ٤ من الباب ٢٨ من أبواب الأمر بالمعروف.

٤٠٩

انه على كل حال دليل على ان التقية يسد الأبواب على العدو ، لا باب المضرة فقط بل باب التعيير واللوم وغيرهما ، فهو الحصن الحصين الذي لا يقدرون ظهورها ولا يستطيعون له نقبا.

ويكون فيها أيضا نجاة وصيانة للأئمة عليهم‌السلام عن سفلة الرعية التي قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر ، فمعها لا يجدون عذرا الى نيل الاعراض وهتك الحرمة كما ورد في رواية «المجالس» عن الامام على بن محمد عن آبائه (عليهم‌السلام) قال : قال الصادق عليه‌السلام «ليس منا من لم يلزم التقية ويصوننا عن سفلة الرعية» (١)

٢ ـ أقسام التقية وغاياتها

وقد يتبين مما ذكر ان غاية التقية لا تنحصر في حفظ الأنفس ودفع الخطر عنها أو عن ما يتعلق بها من الاعراض والأموال ، بل قد يكون ذلك لحفظ وحدة المسلمين وجلب المحبة ودفع الضغائن فيما ليس هناك دواع مهمة إلى إظهار العقيدة والدفاع عنها.

كما انه قد يكون لمصالح آخر ، من تبليغ الرسالة بنحو أحسن كما في قصة إبراهيم واحتجاجه على عبدة الأصنام ، أو مصلحة أخرى كما في قصة يوسف مع إخوته.

فهي ـ بمعناها الوسيع ـ تكون على أقسام : التقية الخوفى ، والتقية التحبيبى ، والتقية لمصالح أخر مختلفة.

__________________

(١) الحديث ٢٧ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف.

٤١٠

وغير خفي أنها بأجمعها تشترك في معنى واحد وملاك عام وهو إخفاء العقيدة أو إظهار خلافها لمصلحة أهم من الإظهار فالأمر في جميعها دائر بين ترك الأهم والمهم ، والعقل والنقل يحكمان بفعل الأول وترك ـ الثاني ، من غير فرق بين ان تكون المصلحة التي هي أهم حفظ النفوس أو الاعراض والأموال ، أو جلب المحبة ودفع عوامل الشقاق والبغضاء أو غير ذلك مما لا يحصى.

٣ ـ موارد وجوبها

قد ظهر مما ذكرنا أيضا انها تجب في مواضع كثيرة ، بينما هي جائزة بالمعنى الأخص في موارد اخرى ، وضابط الجميع ما عرفت وهي :

ان المصلحة التي تنحفظ بفعل التقية ان كانت مما يجب حفظها ويحرم تضييعها ، ووجبت التقية ، وان كانت مساوية لمصلحة ترك التقية جازت (الجواز بالمعنى الأخص) وان كان احد الطرفين راجحا فحكمها تابع له.

ثمَّ ان كشف موارد الوجوب عن غيرها يعلم بمراجعة مذاق الشرع وأهمية بعض المصالح ورجحانها على بعض في نظره ، كما يمكن كشف بعضها بمراجعة العقل أيضا كما في موارد حفظ النفوس إذا كانت التقية بمثل ترك المسح على الرجلين والاكتفاء بالمسح على الخفين مثلا ، وأشباهه.

٤١١

فالروايات الدالة على ان التقية من الدين ، وان تاركها يعاقب عليه ، وان تركها مثل ترك الصلاة ، وأمثال هذه التعبيرات ناظرة إلى موارد ـ الوجوب ، والمصالح المهمة التي لا يمكن تركها والإغماض عنها.

وما يدل على انها داخلة في قوله تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) (مثل الرواية ٢ من الباب ٢٤ في أبواب الأمر بالمعروف و ٩ من ذاك الباب بعينه) وانه إذا عمل بالتقية (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) وأمثال هذه التعبيرات يدل على موارد رجحانها واستحبابها.

الى غير ذلك مما يظهر للمتأمل في الأبواب المشتملة على اخبار التقية فإن ألسنتها مختلفة غاية الاختلاف كل يشير الى مورد ، فلا يجوز ـ الحكم على جميعها بشيء واحد كما هو أظهر من ان يخفى

فمثل المداراة التي أمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الواردة في الرواية ١٦ من الباب ٢٤) وما ورد فيها من أنه أدبه الله بالتقية بقوله عزوجل (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) داخل في قسم المستحب.

وكذا ما ورد في ذيل هذا الحديث بعينه من قوله :

«من استعمل التقية في دين الله فقد تسنم الذروة العليا من القرآن وان عز المؤمن في حفظ لسانه» لعله أيضا إشارة الى هذه الموارد ولا أقل من انه أعم من موارد الوجوب والاستحباب.

وسيأتي موارد رجحان ترك التقية وجواز الإظهار أيضا.

تنبيه

ولعلك بالنظر الدقيق فيما عرفت لا تشك في ان وجوب التقية أو ـ

٤١٢

جوازها فيما مر من مواردها ليس امرا تعبديا ورد في الاخبار المروية من طرق الخاصة وروايات ائمة أهل البيت (عليهم‌السلام) ، بل يدل عليه الأدلة الأربعة : كتاب الله عزوجل ، وقد أوعزنا الى موارد الدلالة من الكتاب العزيز ، والإجماع القاطع ، والأحاديث المتواترة ، التي نقلنا شطرا منها واستغنينا بها عن غيرها اختصارا للكلام ، وحكم العقل القاطع مع صريح الوجدان.

بل لا يختص ذلك بقوم دون قوم ، وملة دون اخرى ، وان اختص هذا الاسم والعنوان ببعضهم ، كما انها لا تختص بالمليين وأرباب الديانات بل تعم غيرهم أيضا.

فهل ترى أحدا من العقلاء يوجب إظهار العقيدة في موارد لا فائدة في إظهارها ، أو يجد فيها نفعا قليلا مع المضرة القاطعة الكثيرة الموجودة في إظهارها ضررا في النفوس أو الاعراض أو الاهداف المهمة التي يعيش بها ، ولها.

والانصاف ان ما يلهج به لسان قوم من مخالفينا في المذهب من حرمة التقية بنحو مطلق من دون استثناء ، لا يتجاوز عن آذانهم حتى انه لا يوجد في أعمالهم أثرا منه ، وانما هو لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت به معايشهم وأغراضهم ، واما عند العمل ، هم وغيرهم سواء في الأخذ بحكم ـ العقل وصريح الوجدان بإخفاء العقيدة في ما لا نفع في إظهارها بل تكون فيها مضرة بالغة الخطورة ، سموه تقية أو لم يسموه.

ولكن سيأتي ان هناك موارد يحرم التقية فيها بل يجب فيها التضحية والتفدية وبذل الأموال والأنفس والثمرات.

٤١٣

كما انه قد يرجح ذلك على الإخفاء وتكون التقية مرجوحة ، وتركها راجحا وفضلا.

كل ذلك منوط بالظروف الخاصة وما فيها من الشرائط والجهات ، ومن هنا قد يجد الفقيه البارع المجاهد ، العارف بزمانه ، الخبير بمواضع احكام الله ، ظرفا خاصا منطبقا لمورد الحرمة أو الكراهة فيحكم علانية بحرمة التقية والجهاد بالأموال والأنفس ورفض المدارة فيها ، ولا يريد رفضها مطلقا وانما يريد في تلك الظروف المعينة بما فيها من المصالح.

فلا شك انه حكم خاص بذاك الظرف والزمان ، وما أشبهه من الظروف والأزمنة وليس حكما دائميا وفي جميع الشرائط والظروف كما هو أوضح من ان يخفى وان ينكر.

٤١٤

في أي موقف تحرم التقية؟

قد مر في أول البحث عن هذه القاعدة ان التقية ـ كما أشار إليه غير واحد من أعاظم المحققين ـ تنقسم بالأحكام الخمسة ، وقد أشرنا أخيرا إلى موارد وجوبها ورجحانها وجوازها إجمالا.

كما أنه أشرنا إلى الضابطة التي تكون مقياسا لكشف موارد حرمتها وهي كل مورد تكون المصلحة المرتبة على ترك التقية أعظم من فعلها ، مما لا يرضى الشارع المقدس بتركها أو يستقل العقل في الحكم بحفظها.

وقد أشير الى غير واحد من هذه الموارد في روايات الباب وهي أمور :

١ ـ لا يجوز التقية في فساد الدين

إذا استلزم التقية فسادا في الدين وتزلزلا في أركان الإسلام ، ومحوا للشعائر ، وتقوية للكفر ، وكل ما يكون حفظه أهم في نظر الشارع من حفظ النفوس أو الأموال والاعراض ، مما يشرع لها الجهاد أيضا ، والدفاع عنها ولو بلغ ما بلغ.

٤١٥

ففي كل ذلك لا شك في حرمتها ولزوم رفضها ولكن تشخيص ذلك مما لا يمكن للمقلد غالبا بل يكون بأيدي الفقهاء والمجتهدين لاحتياجه الى مزيد تتبع في أدلة الشرع والاطلاع على مذاق الشارع ومغزى احكامه.

ويشهد لهذا ـ مضافا الى انه من الأمور التي دليلها معه ـ ومبنى على قاعدة عقلية واضحة وهو ترجيح جانب الأهم إذا دار الأمر بينه وبين ـ المهم ، غير واحد من الاخبار :

منها ما رواه في «الكافي» عن مسعدة بن صدقة عن ابى عبد الله عليه‌السلام في حديث : ان المؤمن إذا أظهر الايمان ثمَّ ظهر منه ما يدل على نقضه خرج مما وصف وأظهر ، وكان له ناقضا ، الا ان يدعى انه انما عمل ذلك تقية ، ومع ذلك ينظر فيه ، فان كان ليس مما يمكن ان تكون التقية في مثله لم يقبل منه ذلك ، لان للتقية مواضع من أزالها عن مواضعها لم تستقم له ، وتفسير ما يتقى مثل ان يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير الحكم الحق وفعله ، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان ـ التقية مما لا يؤدى الى الفساد في الدين فإنه جائز (١)

فإن قوله عليه‌السلام في ذيل تفسير موارد التقية ، وما يجوز مما لا يجوز ، «مما لا يؤدى الى الفساد في الدين» يدل بمفهومه على عدم جواز التقية إذا أدت الى ذلك.

ومنها ـ ما رواه «الكشي» في رجاله عن درست بن ابى منصور قال كنت عند ابى الحسن موسى عليه‌السلام وعنده «الكميت بن زيد» فقال

__________________

(١) الحديث ٦ من الباب ٢٥ من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.

٤١٦

للكميت أنت الذي تقول :

فالآن صرت إلى أمية ـ والأمور لها الى مصائر؟!

قال : قلت ذلك وما رجعت عن إيماني ، وانى لكم لموال ولعدوكم لقال ، ولكني قلته على التقية ، قال اما لئن قلت ذلك ان التقية تجوز في شرب الخمر!

وهذا يدل على اعتراض الامام عليه‌السلام على «كميت» في شعره الذي معناه «الان رجعت الى أمية وامورها الا الى ترجع» فإنه مدح بالغ لهم ودليل على رجوعه إليهم بعد ان كان معروفا بالموالاة لأئمة أهل ـ البيت عليهم‌السلام.

ولكن الكميت الناصر لأهل البيت عليه‌السلام بقلبه وبلسانه اعتذر بأنه انما قالها بلسانه تقية وحفظا لظواهر الأمور ، واما الامام عليه‌السلام لم يقنع بعذرة فأجابه بأن باب التقية لو كان واسعا بهذه الواسعة لجاز في كل شيء تقية حتى في شرب الخمر ، مع انه لا يجوز.

فهو دليل على عدم جواز التقية بمثل هذا المدح البالغ لبني أمية الجائرة أو إظهار المحبة لهم ، وهذا من مثل الكميت الشاعر البارع المشهور بحبه للأئمة عليه‌السلام قد يوجب تقوية لدعائم الكفر والضلال وتأييد لبقية احزاب الجاهلية وأشياعهم ، فلا يجوز له ، ولو جاز انما جاز في شرائط وو ظروف بالغة الخطورة لا في مثل ما قال الكميت فيه ، فلذا واجهه عليه‌السلام بالعتاب.

وإذا لم تجز التقية بمثل هذا البيت من الشعر لم تجز في أشباهه مما تقوى به كلمة الكفر واعلام الضلال ويخفى به الهدى ويشتبه به الحق بالباطل

٤١٧

على كثير من الناس ، لا سيما من الذين يكون كلامهم وفعلهم مما يستند اليه الناس في أعمالهم ، فالتقية في هذه الموارد حرام ، ولكن تشخيص هذه الظروف من غيرها ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ موكول الى نظر الفقيه غالبا.

ومنها ـ ما رواه الطبرسي في «الاحتجاج» عن ابى محمد الحسن بن على العسكري عليه‌السلام في حديث ان الرضا عليه‌السلام جفا جماعة من الشيعة وحجبهم فقالوا يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما هذا الجفاء العظيم والاستخفاف بعد الحجاب الصعب؟ قال :

لدعواكم أنكم شيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام وأنتم في أكثر أعمالكم مخالفون ومقصرون في كثير من الفرائض ، وتتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في الله وتتقون حيث لا تجب التقية ، وتتركون التقية حيث لا بد من التقية (١)

وهذه الرواية وان لم يصرح فيها باستثناء ما يلزم منه فساد الدين الا ان القدر المتيقن منه هو ذلك ، إذ لا يوجد هناك أمر أهم منه يجوز لأجله ترك التقية ، اللهم الا ان يقال ان المراد منه التزامهم التقية فيما ليس هناك خوف وتركهم لها فيما يكون هناك خوف فهي ناظرة إلى تخطئتهم في المصاديق لا في المستثنيات الحكمية فتأمل.

منها ـ ما رواه الشيخ في التهذيب عن أبي حمزة الثمالي قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام ـ الى ان قال : وايم الله لو دعيتم لتنصرونا لقلتم لا نفعل إنما نتقي! ولكانت التقية أحب إليكم من آبائكم وأمهاتكم ولو قد قام القائم ما احتاج الى مسائلتكم عن ذلك ولا قام في كثير منكم حد النفاق! (٢)

__________________

(١) الحديث ٩ من الباب ٢٥ من أبواب الأمر بالمعروف.

(٢) الحديث ٢ من الباب ٣١ من أبواب الأمر بالمعروف.

٤١٨

ودلالته على لزوم ترك التقية فيما وقع الدين في الخطر واستنصر الامام عليه‌السلام عن الناس غير خفية على احد وان من لزوم التقية في هذه الموارد إذا قام ـ القائم عليه‌السلام اقام فيه حد المنافق فاذن كانت التقية في هذه الموارد من أشد المحرمات وآكدها.

وعلى كل حال لا ينبغي الريب في وجوب رفض التقية والتمسك بها إذا خيف على أساس الدين واحكامه ومحو آثاره التي جاهد في تحكيم دعائمها المهاجرون الأولون والذين اتبعوهم بإحسان (رضى الله عنهم ورضوا عنه) وافتدوا بأموالهم وأنفسهم في طريقها طلبا لمرضاة الله ، فكيف يجوز التقية المستتبعة لهدمها والقضاء عليها ، فهل يكون هذا الا تضادا ظاهرا وتحكما باتا؟!

٢ ـ لا تجوز التقية في الدماء ـ إذا بلغت التقية الدم فالواجب رفضها وعدم الخوض فيها كما إذا أمر الكافر أو الفاسق بقتل مؤمن ويعلم أو يظن انه لو تركه قتل نفسه فلا يجوز القتل تقية وحفظا للنفس ، لأن المؤمنين تتكافى دمائهم ، وانما جعلت التقية لحق الدماء وحفظ النفوس فاذا بلغت الدم فلا معنى لتشريعها ، وكانت ناقضة للغرض ، لان حفظ دم واحد لا يوجب جعل دم الأخر هدرا ؛ ولا يجوز في حكمة الحكيم هذا.

وقد صرح به في غير واحد من احاديث الباب :

منها ـ ما رواه محمد بن يعقوب الكليني في «الكافي» عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر الباقر عليه‌السلام قال انما جعل التقية ليحقن بها الدم فاذا بلغ الدم فليس تقية (١).

__________________

(١) الحديث ١ من الباب ٣١ من أبواب الأمر بالمعروف.

٤١٩

ومنها ـ ما رواه الشيخ في «التهذيب» عن أبي حمزة الثمالي قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام لم تبق الأرض الا وفيها عالم يعرف الحق من الباطل وقال : انما جعلت التقية ليحقن بها الدم فاذا بلغت التقية الدم فلا تقية (١)

٣ ـ يحرم التقية في شرب الخمر ، وشبهها ـ قد ورد في روايات مختلفة تحريم التقية في أمور هامة منها شرب الخمر ، والنبيذ ، والمسح على الخفين ومتعة الحج فلنذكر ما ورد فيها ثمَّ نبين وجهها.

منها ـ ما رواه في «الكافي» عن ابى عمر الأعجمي عن ابى عبد الله ـ عليه‌السلام في حديث قال : والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين. (٢)

ومنها ـ ما رواه فيه أيضا عن زرارة قال : قلت له في مسح الخفين تقية؟ فقال : ثلاثة لا اتقى فيهن أحدا : شرب المسكر والمسح على الخفين ومتعة الحج ، قال زرارة : ولم يقل الواجب عليكم ان لا تتقوا فيهن أحدا. (٣)

ولعل الوجه في حرمة التقية في هذه الأمور ان موضوعها منتف فيها فإنها شرعت لحفظ النفوس إذا كان هناك مظنة للخطر والضرر ، ومن المعلوم انه لا يكون إلا في الأعمال الخاصة التي لم يصرح به في كتاب الله أو السنة القطعية ، فإذا كان هناك تصريح بها فهو عذر واضح لفاعلها وان خالف سيرة القوم وطريقتهم فيها.

__________________

(١) الحديث ٢ من الباب ٣١ من أبواب الأمر بالمعروف.

(٢) الحديث ٣ من الباب ٢٥ من أبواب الأمر بالمعروف.

(٣) الحديث ٥ من الباب ٢٥ من أبواب الأمر بالمعروف.

٤٢٠