القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

وقد مر جميع هذه الروايات والايات في أوائل البحث في القاعدة فراجع.

بل لفظ التقية ، أو التقاة المذكورة في كتاب الله في مورد واحد فقط انما هي في قبال المشركين فاذن لا يبقى شك في عموم الحكم ولا نحتاج الى خصوص رواية مسعدة بن صدقة أو إطلاقات الباب وعموماتها.

فاذن لا يبقى شك في عمومية الحكم للكفار وظلمة الشيعة بل قد مر انه قد يتقى منهم في عصرنا هذا بما لا يتقى من أهل السنة.

ومنه يظهر أيضا انه لا فرق في ذلك بين ان يكون ذلك مذهبا منهم أولا ، مثلا ترك حج التمتع ليس مذهبا لجميع فرق العامة وكذا التكتف في الصلاة وقد يجوز علمائهم تركهما ، ولكن قد يكون هناك بعض العوام لا يرخصون ذلك ويرون فيه «رفضا»! في عقيدتهم ، بل قد يكون هناك عادة خاصة دينية عندهم يراها العوام لازمة أو دليلا على العقيدة بمذهبهم ، مما لا يمكن مراعاتها الا بترك بعض الواجبات أو تغيير فيها أو فعل بعض المحرمات فلا شك ان كل ذلك جائز عند الاضطرار إليها من باب التقية وطبقا لادلتها.

٤٦١

٢ ـ هل التقية تجري في الاحكام

والموضوعات معا؟

لا إشكال في جريان أحكام التقية في الأحكام ، كالمسح على الخفين أو التكتف (القبض على إليه) في الصلاة أو غير ذلك مما لا يحصى.

انما الكلام في جريانها في الموضوعات كالحكم بهلال شوال أو ذي الحجة بالنسبة إلى الصيام والحج ، وكثيرا ، ما يتفق ذلك من ان حاكمهم يحكم بهلال شوال أو ذي الحجة فيفطرون الصيام ويحجون البيت ، وهناك أناس من أصحابنا لو لم يتبعوهم في هذا الحكم يتحملون منهم أشد المشاق ، فهل يجوز متابعتهم في تشخيص هذه الموضوعات والعمل معهم وان لم يثبت هذه الموضوعات عندنا بطرق صحيحة أو ثبت خلافها أحيانا ، وهل تجرى هنا أدلة التقية أم لا؟.

لا شك ان موضوعات احكام الشرع التي نتكلم فيها على قسمين :

قسم يكون من الموضوعات الشرعية التي يكون بيانها بيد الشارع

٤٦٢

المقدس كوقت المغرب وانه استتار القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية.

وقسم يكون من الموضوعات الخارجية المحضة كالهلال ورؤيته.

لا إشكال في القسم الأول لأنه يعود بالأخرة إلى اختلاف في الحكم.

واما القسم الثاني الذي هو محل الكلام فعلا فهو أيضا على أقسام :

تارة نعلم خطائهم فيها ،

واخرى نشك ،

ومنشأ الخطاء قد يكون في كشف الواقع بطرقها الخارجية المعمولة ، واخرى في اعمال طريق شرعي معتبر عندهم باطل عندنا كالركون الى بعض الشهود من غير الفحص عن حالهم ، لعدم وجوبه عندهم مع وجوبه عندنا.

لا ينبغي الإشكال في القسم الأخير أيضا لأنه أيضا راجع الى التقية في الاحكام وجوازها لعله مما لا كلام فيه فتدبر.

يبقى الكلام في الموضوعات الخارجية المحضة سواء علمنا بخطائهم فيها أو شككنا ولم يثبت عندنا.

والكلام هنا أيضا تارة يكون من حيث الحكم التكليفي واخرى من حيث الحكم الوضعي :

اما من ناحية الحكم التكليفي فلا إشكال في جواز العمل مثلهم عند الضرورة واجتماع شرائط التقية وسيأتي ان بعض الأئمة عليهم‌السلام بأنفسهم ووقعوا في الضرورة من هذه الناحية أحيانا وعملوا بالتقية كإفطار الصادق عليه‌السلام صوم آخر يوم من رمضان (أو يوم الشك) خوفا من منصور عند حكمه بشوال لما كان في مخالفة الجبار العنود من الخوف على النفس

٤٦٣

النفيس المقدسة ، كما ورد في بعض الروايات وسيأتي الإشارة اليه ان شاء الله عن قريب.

ويجرى هنا جميع ما دل على جواز التقية عند الضرورة ، ودليل العقل.

انما الكلام في الناحية الثانية وهي صحة العمل إذا اتى به في غير محله تقية منهم ، واجزائه عن الواقع الصحيح.

فهل تشمله الإطلاقات السابقة الدالة على الاجتزاء بالعمل مثل قوله عليه‌السلام في رواية أبي عمر الأعجمي والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين (١).

وظاهره صحة العبادات التي يؤتى بها على وفق التقية ، إلا في الموارد المستثناة التي مر الكلام فيها.

وكذا قوله في رواية زرارة ثلثة لا اتقى فيهن أحدا شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج (٢).

وهكذا الرواية ١٨ من الباب ٣٨ من أبواب الوضوء.

والرواية ٥ من الباب ٣ من أقسام الحج.

نعم ظاهر قوله عليه‌السلام في حديثه مع منصور لأن أفطر يوما واقضيه أحب الى من ان يضرب عنقي دليل على عدم الاجزاء بذاك الصوم ولزوم قضائه ولكن سيأتي ان شاء الله في ذيل البحث وجهة ، بحيث لا يبقى شك من هذه الناحية.

__________________

(١) الحديث ٣ من الباب ٢٥ من أبواب الأمر بالمعروف.

(٢) الحديث ٥ من الباب ٢٥ من أبواب الأمر بالمعروف.

٤٦٤

وعلى كل حال الإنصاف ان الإطلاقات بأنفسها ، أو لا أقل بإلغاء الخصوصية عن موارد الاحكام وتنقيح المناط فيها ، يشمل ما نحن فيه فالعمل على طبق موازين التقية هنا مجز ورافع للتكليف ، لا سيما بالنسبة إلى الحج وثبوت الهلال فيه الذي يمكن القول باستقرار السيرة فيها في جميع الأعصار.

قال الفقيه المحقق النابه صاحب الجواهر في كلام له في كتاب الحج ما نصه :

«بقي هنا شيء مهم تشتد الحاجة اليه وكأنه أولى من ذلك كله بالذكر وهو انه لو قامت البينة عند قاضي العامة وحكم بالهلال على وجه يكون التروية عندنا عرفة عندهم ، فهل يصح للامامى الوقوف معهم ويجزى لأنه من أحكام التقية ويعسر التكليف بغيره ، أو لا يجزى لعدم ثبوتها في الموضوع الذي محل الفرض منه ، كما يومئ اليه وجوب القضاء في حكمهم بالعيد في شهر رمضان الذي دلت عليه النصوص التي منها «لأن أفطر يوما ثمَّ اقضيه أحب الى من ان يضرب عنقي». لم أجد لهم كلاما في ذلك ولا يبعد القول بالاجزاء هنا إلحاقا له بالحكم ، للحرج ، واحتمال مثله في القضاء وقد عثرت على الحكم بذلك منسوبا للعلامة الطباطبائي ، ولكن مع ذلك فالاحتياط لا ينبغي تركه والله العالم» انتهى كلامه قدس‌سره الشريف (١).

وكلامه وان كان متينا من حيث النتيجة ولكن فيه مواقع للنظر.

منها ـ انه لا وجه لقياس مسئلة القضاء عند حكمهم بالعيد في

__________________

(١) الجواهر ج ١٩ ص ٣٢.

٤٦٥

شهر رمضان بمسئلة الوقوف أو سائر المناسك في الحج كما سنتلو عليك منه ذكرا.

ومنها ـ ان مجرد الحرج لا يدل على الصحة وتمامية العمل بل غاية ما يدل عليه هنا هو الجواز التكليفي وعدم الحرمة كما لا يخفى.

ومنها ـ ان قوله «احتمال مثله في القضاء» مدفوع بان مجرد احتمال تحقق الخلاف في ثبوت الهلال في السنين الاتية لا يوجب سقوط التكليف بالحج الذي هو في ذمته.

والانصاف انه لا ينبغي الإشكال في أصل المسئلة والمستند هو عمومات أدلة التقية الظاهرة في الاجزاء في العبادات وغيرها بالشرح الذي عرفته ، ولا سيما في مثل الحج الذي استقر سيرة الأصحاب خلفا عن سلف على العمل بحكمهم بالهلال مهما كان من غير نكير ، ولم يسمع منهم وجوب الإعادة أو تغيير الوقوفات ، بل لم يتعرضوا لهم في كتبهم الفقهية كما عرفت الإشارة إليه في كلام الجواهر.

وما قد يتراءى من بعض الاعلام واتباعهم من المعاصرين أو ممن قارب عصرنا بالاحتياط في بعض السنين الذي وقع الاختلاف فيها في رؤية الهلال ، فالظاهر انه أمر مستحدث لم يسمع به من قبل ، ان هذا الا اختلاق!

بقي هنا شيء

وهو انهم ذكروا مسئلة الإكراه في إفطار الصيام وحكم الأكثرون فيها بالصحة وحكى عن الشيخ قدس‌سره الفساد ، ومما أيد به القول

٤٦٦

بالفساد ووجوب القضاء انه تجب القضاء في الإفطار تقية وهي من مصاديق الإكراه.

قال شيخنا الأجل في الجواهر عند ذكر الإكراه في إفطار الصيام بعد ما عرفت من الأقوال وبعد التصريح بعدم الخلاف في الصحة في خصوص ما إذا وجر في حلق الصائم شيء ما نصه :

الاولى الاستدلال (على الفساد ووجوب القضاء في الإكراه) بما دل على حكم اليوم الذي يفطر للتقية إذ هو في معنى الإكراه كمرسل رفاعة عن الصادق عليه‌السلام انه قال : دخلت على ابى العباس بالحيرة فقال : يا أبا ـ عبد الله عليه‌السلام ما تقول في الصيام اليوم فقلت ذلك الى الامام ان صمت صمنا وان أفطرت أفطرنا فقال يا غلام على بالمائدة فأكلت معه وانا أعلم والله انه من شهر رمضان ، فكان إفطاري يوما وقضائه أيسر على من ان يضرب عنقي ولا أعبد الله» وفي آخر «أفطر يوما من شهر رمضان أحب الى من ان يضرب عنقي» حيث أطلق عليه اسم الإفطار (١).

وذكر في أواخر كلامه في المسألة إمكان الفرق بين مسئلتى الإكراه والتقية وتضعيف خبر القضاء فيها بالإرسال وتخصيص دليل القضاء بالإكراه ، ثمَّ رجع منه وذكر ان الأحوط سلك الجميع في مسلك واحد للشك في شمول إطلاقات أدلة التقية لمثل ذلك الذي مرجعه في الحقيقة إلى الموضوع مصداقا أو مفهوما لا الى الحكم.

والانصاف ان الروايات الواردة في هذا الباب التي رواها في الوسائل في الباب ٥٧ من أبواب ما يمسك الصائم ، منه ما لا يدل على شيء

__________________

(١) الجواهر ج ١٦ ص ٢٥٨.

٤٦٧

مثل ما رواه الصدوق قدس‌سره عن عيسى بن ابى منصور انه قال : كنت عند ابى عبد الله عليه‌السلام في اليوم الذي يشك فيه فقال : يا غلام اذهب فانظر أصام السلطان أم لا فذهب ثمَّ عاد فقال لا فدعا بالغداء فتغدينا معه (١).

فإن غاية ما يدل عليه هو جواز الإفطار واما القضاء فهو ساكت عنه بالمرة.

وهكذا الرواية الثانية والثالثة والسادسة من هذا الباب.

وما يدل على فساد الصوم وان جاز الإفطار ، ولازمه القضاء كما هو ظاهر ، مثل رواية أبي العباس التي مر ذكرها في كلام الجواهر وهي الرواية الرابعة من هذا الباب وكذلك الخامسة منها وفي ذيلها فكان إفطاري يوما وقضائه أيسر على من ان يضرب عنقي ولا يعبد الله. ولكنهما ضعيفا السند بالإرسال.

ويستشم ذلك من الرواية الثامنة فراجع.

وقد يتوهم من بعضها صحة الصوم وهي الرواية السابعة منها التي رواها الشيخ عن ابى الجارود قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام انا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى فلما دخلت على ابى جعفر عليه‌السلام وكان بعض أصحابنا يضحى فقال الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحى الناس والصوم يوم يصوم الناس.

بدعوى ان ظاهرها كون ذلك اليوم الذي يفطر فيه الناس يوم فطر حقيقة وإذا كان كذلك لم يجب قضائه قطعا ، ولكن حملها على هذا المعنى بعيد جدا والأظهر انها تدل على حكم ظاهري في المسألة الذي لا اشكال

__________________

(١) الحديث ١ من الباب ٥٧.

٤٦٨

فيه وهو جواز الإفطار من باب التقية ، واما إجزائه عن القضاء فهو ما ليس بصدد بيانه ، ولو فرض له ظهور في ذلك فهو لا يقاوم ما مضى وما يأتي من سائر الأدلة الدالة على الفساد.

والذي لا بد من ذكره في المقام ان إطلاقات الاجزاء في التقية والعبادات التي يؤتى على طبقها لا قصور لها في شمول الموضوعات ، فكما تكون دليلا على صحتها في الأحكام كذلك تدل على صحتها في الموضوعات كما في مناسك الحج ووقوفاته.

ولكن تختص مسئلة الإفطار في الصيام بخصوصية وهي ان البحث عن أجزاء الاعمال الصادرة عن تقية انما هو في الموارد التي يكون هناك عمل عبادي ولكن اتى به على وجه التقية وعلى وفق مذهب المخالفين ، اما إذا ترك العمل ، لاقتضاء مذهبهم تركه فلا وجه لسقوط القضاء عن المكلف.

وان شئت قلت : الاعمال الصادرة عن تقية ابدال اضطرارية عن التكاليف الواقعية كالصلاة مع التيمم التي تكون بدلا عن الصلاة مع الوضوء ، واقتضائها الاجزاء ليس الا من هذه الناحية ، ومن الواضح ان ترك العمل كالإفطار استنادا الى عدم وجوبه لا يمكن ان يكون بدلا عن الواجب فلا يسقط الواجب به كما لا يخفى.

ويشبه هذا من بعض الجهات ما ذكره في باب أصالة الصحة وانها لا تجري إلا فيما إذا صدر عن المكلف عمل شككنا في صحته وفساده فلو شككنا في أصل العمل لم تجري القاعدة لعدم إحراز عمل هناك حتى يحمل على الصحيح.

٤٦٩

ان قلت ـ ان التقية كما تقتضي في المقام ترك الأداء كذلك تقتضي ترك القضاء.

قلت ـ إذا كان هناك شرائط التقية موجودة بالنسبة إلى القضاء قلنا به ، كما إذا كان المكلف معاشرا معهم طول السنة وعلم من فعله انه قصد القضاء ، وهو فرض نادر جدا بل لعله لا يوجد له مصداق ، فاذا لم يكن تقية في القضاء وجب فعله.

٤٧٠

٣ ـ هل يعتبر فيها عدم

المندوحة أم لا؟

قد وقع الكلام بينهم في اعتبار عدم المندوحة وما يكون به الفرار ، في التقية ، وآثارها التي منها صحة الأعمال المأتي على طبقها على أقوال :

أولها ـ انه غير معتبر مطلقا ، كما حكى عن الشهيدين والمحقق الثاني في البيان والروض وجامع المقاصد.

ثانيها ـ انه معتبر مطلقا ، كما حكى عن صاحب المدارك.

ثالثها ـ التفصيل بين ما كان متعلق التقية مأذونا فيه بالخصوص وورد فيه دليل خاص مثل القبض في الصلاة (اى التكتف فيها) فهو صحيح مجز سواء كان هناك مندوحة أم لا ، وبين ما كان الدليل عليه هو عمومات التقية الدالة على انها في كل ضرورة واضطرار ، كالوضوء بالنبيذ أو الصلاة الى غير القبلة وأشباههما ، فحينئذ لا يصح العمل الا عند عدم المندوحة ، لعدم صدق الضرورة بدونه ، وهذا القول أيضا محكي عن المحقق الثاني قدس‌سره.

٤٧١

وقد يقال برجوع هذا القول الى قول صاحب المدارك حيث ان نفى اعتبار عدم المندوحة في الشق الأول انما هو باعتبار جميع الوقت ، لا بالنسبة إلى خصوص الوقت الذي يؤدي الصلاة فيه مثلا ، ومن المعلوم ان صاحب المدارك القائل باعتباره مطلقا لا يقول به في جميع الوقت لأنه مما لم يقل به احد فيما نعلم. والأمر سهل.

وهناك قول رابع وهو التفصيل الذي اختاره شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري قدس‌سره وحاصله :

ان هناك صور ثلث :

الأول : ما إذا كان المتقى قادرا على الامتثال الواقعي من دون تعويض في الزمان والمكان كما إذا كان عمله في الظاهر على وفق مذهب المتقى منه ، مع إتيانه بالعمل الصحيح الاختياري واقعا ، كمن يقرأ (مثلا) خلف امامهم سرا وهو يريهم انه لا يقرأ ، من دون اى محذور. فهذا مما لا يصح التقية فيه لوجود المندوحة بلا حاجة الى تغيير زمانه أو مكانه

الثاني : ما إذا كان في ضرورة بالنسبة الى بعض الوقت دون تمامه ، فلو أراد الصلاة مثلا في أول وقتها لم يمكنه إلا بالتقية. فهذا صحيح مجز ، ولا يعتبر عدم المندوحة في تمام وقتها.

الثالث : ما إذا كان في ضرورة بالنسبة إلى مكان خاص دون جميع الأمكنة ، كمن لا يقدر على ترك التقية في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو المسجد الحرام مع قدرته على العمل الصحيح التام في غيرهما ، وهذا أيضا مجز فلا يعتبر عدم المندوحة في كل مكان.

٤٧٢

ولكن نحن نقول

أولا : انه لا يخفى ان هذه الأقوال كلها تختص بالتقية الخوفية ولا تجري في التقية المداراتية حيث لا يعتبر فيها تغيير الزمان أو المكان ، بل الظاهر من أخبارها انها انما شرعت لجلب قلوبهم ، واتفاق كلمة المسلمين ، ومثل هذا لا يعتبر فيه عدم المندوحة بلا اشكال.

فهل ترى ان قوله عودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم ، أو قوله : من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو قوله : كمن أول داخل وآخر خارج. الى غير ذلك مما قد مضى عند سرد الاخبار ، محمول على ما إذا كان مضطرا اليه ولم يقدر على الفرار؟

فهذا مما لا ينبغي الكلام فيه.

نعم لو قلنا باجزاء العمل في مثل هذا النوع من التقية أمكن استثناء الصورة الاولى من الصور الثلاث التي ذكرها العلامة الأنصاري قده ، وهو ما إذا قدر على العمل التام في مكانه وزمانه بعينه مع عدم اى محذور ، لانصرافها الى غيرها.

ثانيا ـ في التقية الخوفية لا ينبغي الريب في عدم اعتبار نفى المندوحة في تمام الوقت لا للإجماع ، لعدم اعتباره في هذه المسئلة ، ولا لعمومات التقية لظهورها في الاضطرار المطلق وهو لا يحصل إلا في تمام الوقت كما في غيره من ذوي الأعذار ، بل لخصوص الروايات الكثيرة الإمرة بالصلاة معهم وغيرها تقية ، فإنها مطلقة بلا اشكال ، وحملها على خصوص المضطر في تمام الوقت حمل على فرد نادر جدا.

٤٧٣

وكذا إذا كان قادرا على العمل الصحيح في غير ذاك المكان فإنه أيضا لا يجب الأخذ فيها بالمندوحة وترك الصلاة في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلا والصلاة في ربعه وقافلته خارجا ، يدل على ذلك وعلى ما قبله روايات كثيرة :

منها : ما عن احمد بن ابى نصر البزنطي عن ابى الحسن عليه‌السلام قال قلت انى ادخل مع هؤلاء في صلاة المغرب فيعجلوني الى ما ان أؤذن وأقيم ولا اقراء الا الحمد ، حتى يركع أيجزينى ذلك؟ قال : نعم يجزيك الحمد وحدها (١).

وحملهما على صورة الاضطرار بترك السورة في تمام الوقت كما ترى

ومنها ما عن بكير بن أعين قال سألت أبا عبد الله : عن الناصب يؤمنا ما تقول في الصلاة معه؟ فقال اما إذا جهر فأنصت للقراءة واسمع ثمَّ اركع واسجد أنت لنفسك (٢).

ومنها ما عن زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : لا بأس بأن تصلى خلف الناصب ولا تقرء خلفه فيها يجهر فيه فان قرائته يجزيك إذا سمعتها (٣).

ولا ينبغي في لزوم حملهما على التقية كما ان الظاهر وجود المندوحة في غالب هذه الموارد بان يصلى بعده أو قبله في داره.

__________________

(١) الرواية ٦ من الباب ٣٣ من أبواب صلاة الجماعة.

(٢) الرواية ٣ من الباب ٣٤ من أبواب صلاة الجماعة.

(٣) الرواية ٥ من الباب ٣٤ من أبواب صلاة الجماعة.

٤٧٤

ومنها ما عن ابى بصير ليث المرادي قال قلت لأبي جعفر عليه ـ السلام : من لا اقتدى الصلاة؟ قال افرغ قبل ان يفرغ فإنك في حصار فان فرغ قبلك فاقطع القراءة واركع معه (١).

وظاهرها الاجزاء والاكتفاء بتلك الصلاة مطلقا ولو قدر على أدائها في ذاك الموضع كما هو الغالب ، وقوله «افرغ.» يعنى من القراءة.

ومنها ما ورد في أبواب صلاة «الجمعة» عن حمران عن ابى ـ عبد الله عليه‌السلام في حديث قال في كتاب على عليه‌السلام إذا صلوا الجمعة في وقت فصلوا معهم ولا تقو من من مقعدك حتى تصلى ركعتين أخريين ، قلت : فأكون قد صليت أربعا لنفسي لم أقتد به؟ فقال نعم (٢).

ودلالتها على الاجزاء كإطلاقها من حيث وجود المندوحة في مكان آخر وعدمه مما لا اشكال فيه.

ومنها ما رواه حمران بن أعين أيضا قال : قلت لأبي جعفر عليه. السلام : جعلت فداك انا نصلي مع هؤلاء يوم الجمعة وهم يصلون في الوقت كيف نصنع؟ فقال : صلوا معهم. فخرج حمران إلى زرارة فقال له : أمرنا أن نصلي معهم بصلوتهم فقال زرارة : هذا ما يكون إلا بتأويل. فقال له حمران : قم حتى نسمع منه ، قال : فدخلنا عليه فقال له زرارة : ان حمران أخبرنا عنك انك أمرتنا أن نصلي معهم فأنكرت ذلك فقال لنا :

__________________

(١) الحديث ١ من الباب ٣٤ من أبواب صلاة الجماعة.

(٢) الرواية ١ من الباب ٢٩ من أبواب الجمعة.

٤٧٥

كان الحسين بن على عليه‌السلام يصلى معهم الركعتين فاذا فرغوا قام فأضاف إليها ركعتين (١).

وإطلاق صدرها بجواز الصلاة معهم الدال على عدم وجوب اضافة الركعتين مقيد بما في ذيلها أو يحمل الثاني على خصوص ما إذا قدر على اضافة ركعتين أخريين فإن ذلك من قبيل ما يكون فيه المندوحة من دون حاجة الى تغيير المكان والزمان وان كان التقية موجودا بالنسبة إلى القراءة في الأوليين.

فتلخص من جميع ذلك ، ولو بإلغاء الخصوصية عن مورد الروايات عدم اعتبار نفى المندوحة من ناحية تغيير المكان أو الزمان في التقية سواء كانت في الاجزاء كمورد الروايات أو الكل. وان كان إطلاقات التقية المقيدة بالضرورة كدليل العقل غير دالة عليه.

__________________

(١) الرواية ٥ من الباب ٢٩ من أبواب الجمعة.

٤٧٦

٤ ـ هل المدار على الخوف

الشخصي أو النوعي؟

إذا كانت التقية من القسم الخوفى فهل المدار فيها على الخوف الشخصي أو النوعي بعد الفراغ عن كون المناط في الخوف وجود احتمال الضرر ، احتمالا معتدا به حتى وان لم يظن به ، بل وان شك أو كان احتماله مرجوحا مع كونه مما يعتنى به العقلاء فان عنوان الخوف عرفا صادق في جميع ذلك ، وان كان قد يتفاوت بتفاوت المحتملات شدة وضعفا.

والحق في المقام ان يقال :

ان المتقى تارة يخاف على نفسه أو عرضه أو ماله ، أو على شيء من ذلك يتعلق بمن له علقة ، أو على فرد معين أخر لا علقة له به.

واخرى على فرد أو جماعة غير معينة من أهل الحق قد يحصرون في أيدي أعدائهم فيعاقبون من جراء العمل الذي ترك فيه التقية غيرهم.

اما الأول فلا إشكال في جريان أحكام التقية فيه ، بل هو من أظهر

٤٧٧

مصاديق التقية ويؤيده الروايات المعبرة فيها بأنها جنة أو ترس أو شبه ذلك.

وقد وقع التصريح به أيضا في عدة روايات :

منها : ما رواه اعمش عن جعفر بن محمد عليه‌السلام في حديث شرائع الدين قال : ولا يحل قتل احد من الكفار والنصاب في التقية إلا قاتل أو ساع في فساد وذلك إذا لم تخف على نفسك ولا على أصحابك ، واستعمال التقية في دار التقية واجب الحديث (١).

والقدر المتيقن منه هو الخوف الشخصي على الأصحاب فتدبر.

ومنها ـ رواية المنصوري عن عم أبيه عن الامام على بن محمد عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال الصادق عليه‌السلام : ليس منا من لم يلزم التقية ويصوننا عن سفلة الرعية (٢).

ومنها ـ قول أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي ورد في تفسير الامام الحسن العسكري عليه‌السلام قال : التقية من أفضل أعمال المؤمن يصون بها نفسه واخوانه عن الفاجرين وقضاء حقوق الإخوان أشرف أعمال المتقين الحديث (٣).

ويدل عليه أيضا الروايات الكثيرة الواردة في الباب ٢٨ من أبواب الأمر بالمعروف التي قرنت فيهما التقية بقضاء حقوق الاخوان ، ومن المحتمل ان يكون مراعاة التقية شطرا من حقوق الاخوان فتكون المقارنة بينهما من هذه الناحية لوجوب حفظهم بها ، وبعبارة أخرى تجب التقية لحفظ حقوق أخيه

__________________

(١) الحديث ٢١ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف.

(٢) الحديث ٢٧ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف.

(٣) الحديث ٣ من الباب ٢٨ من أبواب الأمر بالمعروف.

٤٧٨

كما تجب لحفظ نفسه وحقوقه ، وان سبق منا احتمال أخر في بيان هذه المقارنة وان الأول ناظر إلى مناسبة الإنسان مع أعدائه والثاني إلى مناسبته مع أحبائه.

وكذلك ما دل على ان ترك التقية من مصاديق إلقاء النفس في التهلكة ، وهو كثير. فكما أن إلقائه بنفسه في التهلكة حرام كذلك إلقاء أخيه المؤمن بالهلاك أو بإطلاق «أنفسكم» وشموله للغير أيضا.

واما القسم الثاني وهو الخوف على النوع بان يكون ترك التقية مستلزما للضرر في زمان آخر على أقوام اخرين احتمالا معتدا به ، كما إذا تركها في بلاده عند بعض أهل الخلاف ، وخاف منه الضرر على بعض إخوانه إذا رجعوا الى بلادهم ، سواء كان ذلك بالنسبة إلى فرد أو افراد.

والظاهر جواز ذلك أيضا اما أولا فلما عرفت مرارا من ملاك التقية وانه من باب مراعاة الأهم وتقديمه على المهم.

واما ثانيا فلصدق الضرورة عليه فيشمله عمومات التقية الدالة على جوازها في كل ضرورة.

واما ثالثا فلدلالة غير واحد من اخبار أبواب التقية عليه بل على ما هو أوسع منه :

«منها» : ما روى في تفسير الامام الحسن العسكري عليه‌السلام عن الحسن بن على عليه‌السلام قال : ان التقية يصلح الله بها امة لصاحبها مثل ثواب أعمالهم فإن تركها أهلك أمة ، تاركها شريك من أهلكهم الحديث. (١) «ومنها» : ما رواه الشيخ في مجالسه بسنده عن المنصوري عن عم

__________________

(١) الحديث ٤ من الباب ٢٨ من أبواب الأمر بالمعروف.

٤٧٩

أبيه عن الامام على بن محمد عليه‌السلام عن آبائه عليه‌السلام قال : قال سيدنا الصادق عليه‌السلام عليكم بالتقية فإنه ليس منا من لم يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجية مع من يحذره. (١)

بل مفاده أوسع مما نحن بصدده لدلالته على وجوب رعايتها عند شدة التقية مع من يأمنه إذا كان مقدمة لأن يعتادها مع من يحذره ويكون تركها سببا لاضاعتها في موارد لزومها ووجوبها فتأمل.

ولا يعارضه ما عن على بن موسى الرضا عليه‌السلام في حديث حيث جفى جماعة من الشيعة وحجبهم لتقيتهم حيث لا تجب التقية (٢) كما هو واضح.

__________________

(١) الحديث ٢٨ من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف.

(٢) الحديث ٩ من الباب ٢٥ من أبواب الأمر بالمعروف.

٤٨٠