القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

التنبيه الرابع

هل القاعدة تشمل العدميات أم لا؟

الحق انه لا فرق في شمول أدلة نفى الحرج بين الأحكام الوجودية والعدمية ؛ كما مر نظيره في «قاعدة نفى الضرر».

ولكن بمعنى انه لو لزم من ترك بعض الافعال ضيق وحرج على المكلف ـ كترك شرب مائع نجس أحيانا ـ فإنه يجوز شربه ويرتفع حرمته بمقتضى قاعدة نفى الحرج ؛ ومجرد كون موضوعه وهو ترك الشرب امرا عدميا لا اثر له أصلا ، بعد كون الدليل الدال على نفى الحرج شاملا لجميع الموارد مثل قوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وقوله عليه‌السلام «ان الدين ليس بمضيق» وقوله «الدين أوسع من ذلك» فان مفادها جميعا نفى الاحكام الحرجية سواء تعلقت بموضوعات وجودية أو عدمية.

هذا بناء على المختار من ان الحرج والعسر من صفات فعل المكلف لا من صفات الاحكام ، وبناء عليه يلاحظ العدمي والوجودي في ناحية متعلق الحكم وهو فعل المكلف لا في ناحية الحكم نفسه.

واما بناء على كونه من أوصاف الحكم فظاهر أدلة نفى الحرج ـ اعنى نفى الاحكام الحرجية بناء على هذا القول ـ وان كان خصوص الأحكام الوجودية ، لأن عدم الحكم ليس حكما ولا يصدق عليه انه مما جعله الشارع فلا يدخل في قوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، إلا انك قد عرفت سابقا في بحث قاعدة لا ضرر ، ان العرف يحكم حكما قطعيا بإلغاء هذه الخصوصية ؛ فلا يرى اى فرق بين لزوم الحرج من جعل الوضوء على المكلف أو من ترك جعل تسلط الناس على أموالهم ، ولا يرى وجها للامتنان بترك جعل الأول دون الثاني وقد مر هناك بعض ما ينفعك في المقام فراجع.

التنبيه الخامس

نفى الحرج هل هو رخصة أو عزيمة؟

إذا تحمل الحرج واتى بالعمل الذي فيه ضيق وشدة منفية ـ كالوضوء والغسل

٢٠١

الحرجيين ـ فهل يجزى عنه لكون المرفوع وجوبه لا أصل مشروعيته ، أو لا يجزى لكونه باطلا لعدم الأمر به رأسا فيكون تشريعا محرما؟

وهذه المسألة كأصل القاعدة غير معنونة في كلمات القوم مستقلا حتى ان المحقق النراقي الذي انفرد بذكر هذه القاعدة في عوائده لم يتعرض لها ولا لغير واحد من التنبيهات التي ذكرناها ، الا ان الذي يظهر من غير واحد من أعاظم المتأخرين في الفروع الفقهية المتفرعة على هذه القاعدة كونها من باب الرخصة لا العزيمة ، فلنذكر بعض ما وصل إلينا من كلماتهم ثمَّ نتبعها بما هو المختار.

قال الفقيه المتتبع الماهر صاحب الجواهر قدس‌سره الشريف في ذيل مسألة سقوط الصيام عن الشيخ والشيخة وذي العطاش ما نص عبارته :

«ثمَّ لا يخفى عليك ان الحكم في المقام ونظائره من العزائم لا الرخص ضرورة كون المدرك فيه نفى الحرج ونحوه مما يقضى برفع التكليف ـ الى ان قال : «مع عدم ظهور خلاف فيه من احد من أصحابنا عدا ما عساه يظهر من المحدث البحراني فجعل المرتفع التعين خاصة تمسكا بظاهر قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ) الى قوله : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)» انتهى.

وظاهر كلامه ان دلالة عمومات نفى الحرج على ارتفاع التكليف كلية وكونه من باب العزيمة أمر مفروغ عنه ، حتى ان ذهاب المحدث البحراني إلى الرخصة في هذا المورد الخاص انما هو لقيام دليل خاص عليه وهو قوله تعالى (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ).

وقال المحقق الهمداني في مصباحه في بعض التنبيهات التي ذكرها في مسوغات التيمم ما حاصله :

ان التيمم في الموارد التي ثبت جوازه بدليل نفى الحرج رخصة لا عزيمة ، فلو تحمل المشقة الشديدة الرافعة للتكليف واتى بالطهارة المائية صحت طهارته ، كما تقدمت الإشارة إليه في حكم الاغتسال لدى البرد الشديد ، فإن أدلة نفى الحرج لأجل ورودها في مقام الامتنان وبيان توسعة الدين لا تصلح دليلا إلا لنفي الوجوب لا لرفع الجواز.

ثمَّ أورد على نفسه بقوله : فان قلت : إذا انتفى وجوب الطهارة في موارد الحرج

٢٠٢

فلا يبقى جوازها حتى تصح عبادة ، فإن الجنس يذهب بذهاب فصله وبعبارة أخرى أدلة نفى الحرج حاكمة على العمومات المثبتة للتكاليف فتخصصها بغير موارد الحرج فاتيانها في تلك الموارد بقصد الامتثال تشريع محرم.

ثمَّ أجاب عنه بأنه إذا كان منشأ التخصيص كون التكليف بالوضوء والغسل حرجيا من دون ان يترتب عليهما عدا المشقة الرافعة للتكليف مفسدة أخرى لا يجوز الاقدام عليها شرعا كالضرر ونحوه ، فهو لا يقتضي إلا رفع مطلوبية الفعل على سبيل الإلزام لا رفع ما يقتضي الطلب ومحبوبية الفعل ، وكيف كان فلا يفهم من أدلة نفى الحرج عرفا وعقلا الا ما عرفت (انتهى) (١).

وقال السيد السند المحقق الطباطبائي اليزدي في «العروة» في المسألة ١٨ من مسوغات التيمم : إذا تحمل الضرر وتوضأ واغتسل فان كان الضرر في المقدمات من تحصيل الماء ونحوه وجب الوضوء والغسل وصح وان كان في استعمال الماء في أحدهما بطل ، واما إذا لم يكن استعمال الماء مضرا بل كان موجبا للحرج والمشقة كتحمل الم البرد أو الشين مثلا فلا يبعد الصحة ؛ وان كان يجوز معه التيمم ، لان نفى الحرج من باب الرخصة لا العزيمة ، ولكن الأحوط ترك الاستعمال وعدم الاكتفاء به على فرضه فيتمم أيضا» انتهى.

واستشكل عليه كثير من المحشين وصرحوا بوجوب التيمم أو بعدم ترك الاحتياط به

أقول ـ قد ظهر لك مما ذكرنا سابقا ان أدلة نفى الحرج وان لم تكن حاكمة على عمومات الاحكام الا انها مقدمة عليها لقوة دلالتها بالنسبة إليها فيخصص العمومات المثبتة للأحكام بها ، ومن الواضح انه لا دلالة لتلك العمومات عرفا على إثبات أمرين : الإلزام والمطلوبية ، حتى يرتفع أحدهما ويبقى الأخر ، بل المستفاد منها حكم واحد إثباتا ونفيا ؛ فاما ان يخصص فينتفى من أصله ؛ واما ان يبقى بحاله ؛ ولا دخل له بمسألة عدم جواز بقاء الجنس من دون فصله ، فان ذلك مسألة عقلية والكلام هنا في دلالة لفظية بحسب متفاهم العرف. فالذي يقتضيه القاعدة الأولية هو نفى المشروعية رأسا

__________________

(١) كتاب الطهارة من المصباح ص ٤٦٣.

٢٠٣

في موارد الحرج أو الضرر أو غيرهما مما يستلزم تخصيصا في أدلة الاحكام.

وورودها في مقام الامتنان وان كان معلوما لا ريب فيه الا انه لا يقتضي ما ذكره من نفى خصوص الإلزام ؛ لما حققناه في بعض أبحاث قاعدة لا ضرر من ان الامتنان يجوز ان يكون في أصل الحكم فلا يجب وجود ملاكه في جزئيات موارده.

مثلا رفع أثر الإكراه بحديث الرفع يوجب بطلان البيع الحاصل عن اكراه وان كان في هذا البيع منافع كثيرة للمكره في بعض موارد الإكراه ، كما إذا كان الثمن أكثر من ثمن المثل بأضعاف وكان لا يعلمه البائع المكره ، فإنه لا إشكال في ان حديث الرفع من أظهر مصاديق ما ورد مورد الامتنان ولكن الامتنان في رفع آثار الإكراه انما يكون بنحو كلى عام ، لا في كل واحد واحد من مصاديقه وجزئياته. فلو انكشف بعد بيع المكره انه كان مشتملا على منافع كثيرة له لم يكشف ذلك عن صحة البيع المذكور من حيث ان رفع اثر هذا الإكراه مخالف للامتنان لما في مورده من المنافع الهامة ؛ بل يتوقف على الإجازة اللاحقة بلا اشكال.

فالمعيار هو كون الحكم الكلى ؛ وهو رفع أثر الإكراه على نحو عام وبعنوان ضرب قانون كلى ؛ امتنانا على المكلف وان كان بملاحظة بعض مصاديقه النادرة مخالفا له. وهكذا الكلام في باقي التسعة وكذا الحال في حجية كثير من الامارات الشرعية كسوق المسلمين وأيديهم وغيرهما مما يستفاد من أدلتها أو من قرائن خارجية ان حجيتها انما هو من باب التوسعة على المكلفين وان الله قد من عليهم بذلك ، فان ذلك لا ينافي ثبوت بعض التكاليف من ناحيتها عليهم أحيانا بحيث لولاها لم يكن طريقا إلى إثباتها ، والحاصل ان الامتنان بهذه الأمور انما هو باعتبار مجموع الوقائع التي تشملها.

فورود عمومات نفى الحرج مورد الامتنان لا يصلح قرينة على صرفها عن ظاهرها من نفى الاحكام الحرجية رأسا ، وجوبا كان أو تحريما أو غيرهما ؛ فلا وجه للقول بنفي خصوص الإلزام في بعض مواردها مع بقاء أصل المحبوبية.

واما ما أفاده في جواب المستشكل فهو بمنزلة قرينة أخرى لصرف عمومات لا حرج عن نفى الجواز في موارد الأحكام الوجوبية الحرجية وانحصار مفادها في نفى

٢٠٤

الوجوب وحاصله ببيان منا :

انا نعلم خارجا ان الوضوء والغسل الحرجيين وأشباههما لا يترتب عليها أي مفسدة موجبة لنقصان ملاك المحبوبية فيها ، الا ان إيجابها لما كان موجبا للضيق والحرج على المكلفين رفعه الشارع منة عليهم مع وجود ملاكه فيها ؛ فعدم وجوبها ليس من ناحية عدم المقتضى بل من جهة ابتلائه بالمانع وهو ما اراده الشارع المقدس من الامتنان على هذه الأمة ، ومن المعلوم ان هذا مانع عن الأمر الإلزامي دون غيره فوجود ملاك المطلوبية فيها مع عدم المانع عن الأمر غير الإلزامي بها يكشف عن تعلق أمر بها كذلك ، بل يكفي في صحتها وصحة قصد القربة بها مجرد وجود ملاك المحبوبية فيها ولو لم يكشف عن تعلق أمر بها.

ولكن يرد عليه ان دعوى العلم بعدم المفسدة فيها دعوى بلا بينة ولا برهان لاحتمال وجود بعض المفاسد فيها بعد كونها حرجية ، ولا أقل من ان التكليف إذا كان حرجيا وثقيلا على المكلفين أوجب كثرة المخالفة والعصيان وهي مفسدة عظيمة ولهذا ذهب بعضهم الى ان نفى الحرج لازم على الواجب الحكيم من باب وجوب اللطف فتأمل.

أضف الى ذلك ان تحمل الحرج وتكلف الفعل الحرجي ، بعد ما من الله تعالى على عباده بنفيه ، رفض لما تصدق وما من به عليهم ويمكن ان يكون في هذا مفسدة ؛ كما ورد في باب عدم صحة التمام في مواطن القصر من التعليل بأنه رد لتصدق الله على الأمة مثل ما رواه ابن ابى عمير عن بعض أصحابنا عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان الله عزوجل تصدق على مرضى أمتي ومسافريها بالتقصير والإفطار أيسر أحدكم إذا تصدق بصدقة ان ترد عليه؟ وفي معناه رواية أخرى رواها الصدوق في الخصال عن السكوني (١).

والغرض من ذلك كله إبداء احتمال وجود مفسدة في تحمل الحرج والإتيان بالتكاليف الحرجية ؛ ومعه لا يصح دعوى القطع بعدم وجود مفسدة فيها وبقاء ملاك

__________________

(١) رواهما في الوسائل في الباب ٢٢ من أبواب صلاة القصر من المجلد الأول.

٢٠٥

المحبوبية على حالها ، ومن المعلوم ان مجرد الاحتمال كاف في المقام.

واما مسألة جواز التيمم في الموارد التي ثبت بدليل نفى الحرج ففيها اشكال آخر مضافا الى ما ذكرنا في الجميع ، وهو ان المستفاد من أدلة تشريع التيمم والمركوز في أذهان المتشرعة كون التيمم بدلا طوليا عن الوضوء والغسل ، لا عرضيا ، فلا يجتمعان في مورد. ومن المعلوم ان القول بالرخصة يستلزم كونهما في عرض واحد في الموارد التي ثبت جواز التيمم فيها بأدلة نفى الحرج ، فيجوز في حال واحد التيمم والغسل أو هو والوضوء والالتزام به مشكل جدا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا ان الأقوى بحسب ما يستفاد من ظاهر أدلة نفى الحرج كونه من باب العزيمة لا الرخصة ، كما فهمه الشيخ الأجل صاحب الجواهر وجعله امرا مفروغا عنه ، فح لا يجوز تحمل الحرج والإتيان بالفعل الحرجي ، ولو فعله لا يجتزى به.

التنبيه السادس

لا يخفى ان العسر والحرج يختلف باختلاف الأشخاص ، والحالات ، والأمكنة ، والأزمنة ، والظروف المختلفة ووجود الأسباب وعدمها الى غير ذلك.

فرب شيء يكون حرجيا بالنسبة إلى شخص دون آخر ، كالضعيف دون القوى ، ورب شيء يختلف باختلاف حالات شخص واحد من القوة والضعف والصحة والمرض ، ورب شيء يكون عسرا وحرجيا في مكان دون آخر كتحصيل الماء في الصحاري القفار دون الشاطئ ، أو في زمان دون آخر كالحج بالنسبة الى بعض الناس في الأزمنة السابقة دون زماننا هذا ، الى غير ذلك.

وحيث قد عرفت في التنبيه الثاني من هذه التنبيهات ان المعيار في هذا الباب هو الحرج الشخصي لا النوعي فاللازم ملاحظة جميع هذه الأمور في الحكم بنفي التكليف ، واما لو قلنا بأن العبرة بالحرج النوعي فهل العبرة بنوع المكلفين في جميع الأزمنة و

٢٠٦

الأمكنة على اختلافهم في الصنوف والحالات والظروف ، أو ان العبرة بصنف منهم؟ وما الدليل على تعيين صنف خاص وما المعيار في سعة دائرة هذا الصنف؟ وقد عرفت سابقا ان عدم وجود الضابطة لتشخيص ذلك احد الموهنات لهذا القول.

هذا آخر ما أردنا تحريره في هذه القاعدة المهمة المغفول ذكرها في كلمات الأصحاب ، مع استنادهم إليها في مختلف أبواب الفقه وتفريع فروع كثيرة عليها ؛ وقد بقي خبايا في زوايا يعثر عليها الخبير.

وقد وقع الفراغ منه يوم الأحد التاسع عشر من شهر شوال من سنة ١٣٨٢.

وها نحن في فتنة عظيمة وحرج شديد من تحامل الحكومة على رجال العلم والدين الذابين عن حوزة الإسلام ولا سيما من تحاملهم على رواد العلم وطلابه بجامعة العلمية الدينية بقم المشرفة ؛ وما نقموا منهم الا ان يؤمنوا بالله العزيز الحميد.

اللهم اكشف عنها هذا البلاء ، وادفع عنا الاعداء ، اللهم اجعل لنا من بعد العسر يسرا ، ولا تحمل علينا إصرا ، وصل على نبيك وآله الهادين

٢٠٧
٢٠٨

٤ ـ قاعدة الفراغ والتجاوز

٢٠٩
٢١٠

من القواعد الهامة التي اشتهرت في السنة المتأخرين اشتهارا تاما حتى صارت كالمسلمات ، الدائرة بينهم هي قاعدة «التجاوز والفراغ» وان اختلفوا في أنها هل ترجع الى قاعدتين : «التجاوز» و «الفراغ» أو هي قاعدة واحدة يعبر عنها باسم تارة وبآخر اخرى ، حسب اختلاف المقامات؟ كما يأتي البحث عنه بما يستحقه. وهي المدرك الوحيد لكثير من الفروع الفقهية في أبوابها ؛ ولذا وضع غير واحد من المحققين رسالات خاصة لها ومع ذلك لم يؤد حقها من البحث ؛ وقد بذلنا غاية المجهود في كشف الستر عن وجه هذه القاعدة ومداركها وما يتفرع عليها من الفروع ؛ وغيرها مما يتعلق بها وسنبين انها لا تختص بباب معين من أبواب الفقه.

والكلام فيها يقع في مقامات :

١ ـ البحث عن مدرك القاعدة.

٢ ـ في أنها قاعدة واحدة لا قاعدتان.

٣ ـ في انها من الامارات أو من الأصول العملية

٤ ـ في اعتبار الدخول في الغير فيها وعدمه.

٥ ـ في ان المراد من «الغير» إذا؟

٦ ـ في ان المحل الذي يعتبر التجاوز عنه شرعي أو عقلي أو عادى؟

٢١١

٧ ـ في عموم القاعدة لجميع أبواب الفقه وعدم اختصاصها بباب دون باب

٨ ـ في عمومها لاجزاء اجزاء العبادة وغيرها.

٩ ـ في جريانها عند الشك في صحة العمل.

١٠ ـ في جريانها في «الشرائط»

١١ ـ في انه لما ذا لا تجري القاعدة في اجزاء الطهارات الثلث.

١٢ ـ في عدم جريان القاعدة عند الغفلة عن كيفية العمل.

١٣ ـ في عدم جريانها في الشبهات الحكمية.

١٤ ـ في اختصاصها بالشك الحاصل بعد العمل ، لا الشك الموجود من قبل ،

وإذ قد عرفت ذلك نرجع الى تفصيل هذه الأبحاث وتوضيح هذه القاعدة من شتى الجهات فنقول ومن الله جل شأنه نستمد التوفيق والهداية.

١ ـ البحث عن مدرك القاعدة

الذي يجب البحث والتنقيب عنه قبل كل شيء ان قاعدة الفراغ والتجاوز وان كانت ثابتة في النصوص الواردة من أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) لكنها لم تكن معروفة عند قدماء الأصحاب ، كمعروفيتها عند المتأخرين ، وان استند إليها بعضهم أحيانا في بعض أبواب الطهارة أو الصلاة ، بعنوان حكم جزئي لا قاعدة كلية سارية في أبواب كثيرة من الفقه أو كلها.

ولا غرو في ذلك فان لها نظائر من القواعد الفقهية وأدلة الأحكام ؛ فهل كان الاستصحاب المتكى على اخبارها اليوم معروفة عند الأوائل؟ مع ان أول من استدل بها هو والد شيخنا البهائي على ما حكى عنه ، الى غير ذلك من أشباهه.

ولكن من الواضح ان غفلتهم عنها ، أو عدم استنادهم إليها في كثير من كتبهم ، لا تؤثر في اعتبار القاعدة بعد تمامية دلالة الاخبار عليها كما هو ظاهر ، فان ذلك لا يسقطها من الاعتبار من جهة إعراض الأصحاب عنها ، لعدم ثبوت الاعراض في أمثالها بعد ما كانت

٢١٢

استفادتها من الاخبار تحتاج إلى دقة خاصة في الاخبار لا تحصل الا تلاحق الأفكار بعد برهة طويلة من الزمان.

مضافا الى ان عدم تعرضهم لها بهذه الصورة المعمولة في هذه الأعصار ، لا يدل على عدم اعتبارها عندهم فإنه لم يكن من دأبهم إيداع جميع القواعد والأصول التي يستند إليها في استنباط الاحكام في كتبهم بصورة خاصة مشروحة.

وكيف كان يمكن الاستدلال على هذه القاعدة بأمور.

١ ـ الأخبار العامة والخاصة

أولها وهي العمدة ؛ الأخبار المستفيضة الواردة في أبواب مختلفة : بعضها مختصة بالطهارة أو الصلاة ، وبعضها عامة لا تقييد فيها بشيء وقسم ثالث منها وان كان واردا في مورد خاص ولكنه مشتمل على كبرى كلية يستفاد منها قاعدة كلية شاملة لسائر الأبواب.

فلا بد لنا أولا إيراد جميع ما ظفرنا به من الروايات ثمَّ البحث عن مقدار دلالتها وما يحصل لنا من ضم بعضها ببعض والجمع بينها وهي روايات :

١ ـ ما رواه زرارة عن ابى عبد الله عليه‌السلام رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر؟ قال يمضى قلت : رجل شك في التكبير وقد قرء؟ قال يمضى ، قلت : شك في القراءة وقد ركع؟ قال : يمضى قلت شك في الركوع وقد سجد؟ قال : يمضى على صلوته ثمَّ قال : يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمَّ دخلت في غيره فشكك ليس بشيء (رواه في الوسائل في الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث الأول ـ) وهذه الرواية بحسب ظاهرها شاملة للطهارة والصلاة وغيرهما من العبادات بل تشمل جميع المركبات التي لها أثر شرعي في أبواب العبادات والمعاملات وغيرهما ـ كما سيأتي الكلام فيه

٢١٣

مستوفى إنشاء الله ـ لعموم لفظ «شيء» لها.

ولكن ظاهرها بقرينة قوله «خرجت من.» اختصاصه بالشك في صحته بعد الفراغ عن أصل وجوده فان الخروج عن الشيء ـ بحسب الظهور الاولى ـ هو الخروج عن نفسه لا عن محله.

كما ان ظاهره ، بادي الأمر ، هو اعتبار الدخول في الغير ، الا ان يكون جاريا مجرى الغالب لأن الإنسان لا يخلو عن فعل ما غالبا ، فكلما خرج من شيء دخل في غيره عادتا فيكون قوله «ودخلت في غيره» من باب التأكيد للخروج من الفعل الأول ، فليكن هذا على ذكر منك وسيأتي توضيحه في الأمر الرابع إنشاء الله.

٢ ـ ما رواه إسماعيل بن جابر عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض وان شك في السجود بعد ما قام فليمض كل شيء شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه.

(رواه في الوسائل في الباب ١٣ من أبواب الركوع من كتاب التهذيب وهو الحديث الرابع من ذاك الباب).

وصدرها وان كان مختصا بباب اجزاء الصلاة الا ان ذيلها قضية عامة كالرواية الاولى وظهورها بادي الأمر في اعتبار الدخول في الغير مثلها.

٣ ـ ما رواه محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام انه قال : كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو (رواه في الوسائل في الباب ٢٣ من أبواب الخلل) (١) وهي أيضا ظاهرة في عدم اعتبار الدخول في الغير الا ان يقال بأن إطلاقها منصرفة الى ما هو الغالب من تلازم مضى الشيء للدخول في الآخر ، على عكس ما قلناه في الرواية الاولى ؛ ولكنها من حيث اختصاصها بالشك في الصحة دون أصل الوجود كالأولى وان كان القول بالتعميم هنا أقرب لأن إطلاق مضى الشيء على مضى وقته أو محله كثير ، يقال مضت الصلاة اى فات وقته ومحلّه وسيأتي

__________________

(١) وسائل الشيعة المجلد ٥ الصفحة ٣٣٦.

٢١٤

البحث عنه مستوفى.

٤ ـ ما رواه ابن ابى يعفور عن ابى عبد الله عليه‌السلام إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشيء إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه (رواه في الوسائل في الباب ٤٢ من أبواب الوضوء من كتاب الطهارة).

والضمير في قوله «غيره» يحتمل رجوعه إلى «شيء من الوضوء» وهو الذي يسبق الى الذهن بادي الأمر ولكنه مخالف لما يأتي من عدم جريان القاعدة في اجزاء الطهارات الثلث ؛ ويحتمل رجوعه الى «الوضوء» فينطبق على ما هو المشهور المعروف ، المدعى عليه الإجماع ، ولكن هذا الاحتمال لا يخلو عن مخالفة للظاهر كما عرفت.

وهل هي عامة للشك في الصحة والوجود معا أو مختصة بأحدهما؟ ظاهر صدرها التعميم فان الشك في شيء من الوضوء أعم من الشك في أصل وجوده أو صحته ولا تأبى ذيلها عن الحمل عليه أيضا.

وهل الرواية تعم جميع أبواب الفقه أو تختص بباب الوضوء؟ ظاهر قوله انما الشك إلخ العموم ، ولكن تخصيصها بباب الوضوء ليس ببعيد فان قوله «انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» يحتمل ان يكون ناظرا الى قوله «شيء من الوضوء» فالمعنى (ح) ان الشك انما يعتبر «إذا كنت في شيء من الوضوء لم تجزه» ولكن هذا الاحتمال لا يخلو عن مخالفة للظاهر لا سيما بملاحظة كون التعليل كقاعدة ارتكازية عقلائية كما سيأتي إنشاء الله.

وهل يستفاد منه اعتبار الدخول في الغير أولا؟ ظاهر صدرها ـ كما أفاده العلامة الأنصاري ـ هو الاعتبار ، بينما يكون ذيلها ظاهرة في خلافه. هذا ولم لم يحمل إطلاق الذيل على ما هو الغالب من الدخول في الغير بعد الفراغ عن الشيء ، لم يبعد ترجيحه على الصدر بناء على ان ظهور التعليل يكون أقوى.

٥ ـ «ما رواه بكير بن أعين قال : قلت له : الرجل يشك بعد ما يتوضأ؟ قال هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك. (رواه في الوسائل في الباب ٤٢ من أبواب الوضوء).

٢١٥

وهي وان كان واردة في خصوص الشك في الوضوء الا ان قوله «هو حين يتوضأ إلخ» من قبيل ذكر العلة في مقام بيان المعلول ، فذكر قوله «هو حين يتوضأ إلخ» بدل قوله» لا يعيد الوضوء».

وحيث ان التعليل بأمر عقلي شامل لغير مورد السؤال ، يجوز عد الرواية في سلسلة الروايات العامة الدالة على القاعدة.

اللهم الا ان يقال انه ليس من قبيل العلة للحكم ، بل من سنخ الحكمة له ، ذكر استيناسا للحكم ؛ لا يجوز التعدي عنه إلى سائر الموارد ، ومثله كثير في مختلف أبواب الفقه فتأمل.

٦ ـ ما رواه محمد بن مسلم عن ابى عبد الله عليه‌السلام انه قال : إذا شك الرجل بعد ما صلى فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا وكان يقينه حين انصرف انه كان قد أتم ؛ لم يعد الصلاة وكان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك (رواه في الوسائل في الباب ٢٧ من أبواب الخلل في الصلاة ـ ج ٥ ـ ص ٣٤٣).

وبيان دلالتها بعين التقريب الذي تقدم في سابقها الا ان الحكم وعلته كليهما مذكور ان هنا.

وقد يتوهم ان التعبير بقوله : «وكان يقينه حين انصرف انه كان أتم» دليل على انها ناظرة إلى بيان قاعدة اليقين والشك الساري ولكنه كما ترى ، فان اليقين في تلك القاعدة لا يجب ان يكون في خصوص حال الانصراف كما ذكر في هذه الرواية ، مضافا الى ان لسانها في الذيل «وكان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك» من أقوى الشواهد على انها بصدد بيان قاعدة الفراغ وظاهر في انها من سنخ الامارات ، وقاعدة اليقين على القول بها ليست كذلك فتدبر.

ثمَّ لا يخفى ان عد الرواية من الروايات العامة الدالة على القاعدة مبنى على التعليل الضمني الارتكازي المستفاد من قوله : وكان حين انصرف إلخ وإلا هي مختصة بباب الشك في ركعات الصلاة بعد الفراغ ، ولو قلنا بأنه لا يزيد على الاشعار بالعلة العامة سقطت عن الدلالة على المطلوب.

٢١٦

٧ ـ ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا عن كتاب حريز بن عبد الله عن زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام قال :

«إذا جاء يقين بعد حائل قضاه ومضى على اليقين ويقضى الحائل والشك جميعا ؛ فان شك في الظهر فيما بينه وبين ان يصلى العصر قضاها ، وان دخله الشك بعد ان يصلى العصر فقد مضت ، الا ان يستقين ؛ لان العصر حائل فيما بينه وبين الظهر فلا يدع الحائل لما كان من الشك الا بيقين» (رواه في الوسائل في الباب ٦٠ من أبواب المواقيت ـ ج ٣ ص ٢٠٥)

وحاصل مفادها ان وجود «الحائل» الذي هو عبارة أخرى عن «الغير» الوارد في سائر الروايات يوجب عدم الاعتناء بالشك فيما تجاوز عنه فلو شك في فعل الظهر بعد الإتيان بالعصر لا يعتنى بشكه لتحقق الحائل وهو العصر واما لو شك قبله فعليه إتيانها.

نعم لو علم بترك الظهر ولو بعد تحقق الحائل وهو العصر فعليه أدائها ، لوضوح ان القاعدة تختص بصورة الشك ، واما قوله «ويقضى الحائل والشك جميعا» فلا يخلو عن تشويش واضطراب ولكن لا يمنع من الاستدلال بالذيل بعد وضوحها وظهورها في المقصود.

وقد استدل بالرواية سيدنا الأستاذ في المستمسك على عدم وجوب الظهر على من صلى العصر ثمَّ شك في فعل الظهر ثمَّ صرح بأنه لم يجد عاجلا من تعرض لذلك ؛ ثمَّ استدل لهذا الحكم بقاعدة التجاوز أيضا بناء على انه يثبت وجود المشكوك بلحاظ جميع آثاره (١) هذا ولكن الرواية بنفسها من أدلة القاعدة كما رأيت وسيأتي له مزيد تحقيق أيضا ؛ وعلى كل حال هو من الأدلة العامة الدالة على عدم الاعتناء بالشك بعد تحقق الحائل لأن الحكم المذكور في صدر الرواية كالعلة المذكورة في ذيلها حكم عام لا يختص بباب دون باب ، ولكن ظاهرها اعتبار الدخول في الغير لو لم نقل بظهورها في اعتبار الفراغ عن الغير فتأمل.

هذا ما عثرنا عليه من الروايات العامة التي لا تختص بباب دون باب وهناك روايات

__________________

(١) مستمسك العروة ـ ج ٥ ص ٢٦٧.

٢١٧

كثيرة خاصة وردت في أبواب مختلفة مثل أبواب الوضوء وغسل الجنابة والركوع وغيره من أفعال الصلاة بل وفي أبواب الحج ، ولا بأس بالإشارة الى بعض ما ورد في تلك الأبواب من الروايات الخاصة المؤيدة لما مر عليك من العمومات :

١ ـ ما ورد في باب الوضوء مثل ما رواه محمد بن مسلم قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : كلما مضى من صلوتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه ولا اعادة عليك (رواه في الوسائل في الباب ٤٢ من أبواب الوضوء) (١)

وهذه الرواية ـ كما ترى ـ مختصة بباب الوضوء والصلاة ولا تعم سائر الأبواب بلسانها

٢ ـ «ما ورد في أبواب الجنابة مثل ما رواه زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام في حديث فان قلت له : رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة ـ الى ان قال فان دخله الشك وقد دخل في صلوته ولا شيء عليه الحديث (رواه في الوسائل في الباب ٤١ من أبواب الجنابة) (٢) وظاهرها اعتبار الدخول في الغير فتأمل.

٣ ـ «ما ورد في باب الشك في الركوع مثل ما رواه حماد بن عثمان قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أشك وانا ساجد فلا ادرى ركعت أم لا فقال قد ركعت ؛ امضه» (رواه في الوسائل في الباب ١٣ من أبواب الركوع) (٣)

٤ ـ ما رواه في ذاك الباب بعينه عن فضيل بن يسار قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : استتم قائما فلا ادرى ركعت أم لا؟ قال : بلى قد ركعت فامض في صلوتك.

٥ ـ وما رواه أيضا في ذاك الباب عن عبد الرحمن بن ابى عبد الله قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل أهوى إلى السجود فلم يدر اركع أم لم يركع قال : قد ركع.

٦ ـ ما ورد في باب عدد الأشواط في الطواف من عدم الاعتناء بالشك فيه بعد خروجه

__________________

(١) المجلد الأول ص ٣٣١.

(٢) المجلد الأول ص ٥٢٤.

(٣) المجلد الرابع س ٩٣٦.

٢١٨

عن الطواف وفوت المحل مثل ما رواه محمد بن مسلم قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل طاف بالبيت فلم يدر أستة طاف أم سبعة ، طواف فريضة ، قال : فليعد طوافه ، قيل : انه قد خرج وفاته ذلك ، قال ليس عليه شيء (رواه في الوسائل في أبواب الطواف) (١).

٧ ـ وما رواه عن منصور بن حازم في ذاك الباب بعينه قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل طاف طواف الفريضة فلم يدر ستة طاف أو سبعة قال فليعد طوافه ، قلت ففاته ، قال ما ارى عليه شيئا والإعادة أحب الى وأفضل (٢)

واستدل في الجواهر بها وبما أشبهها للحكم بعدم العبرة بالشك في عدد أشواط الطواف بعد الفراغ عنه ؛ بعد استظهار عدم الخلاف في حكم المسئلة.

ومن هنا تعرف أيضا ان الحكم بمقتضى قاعدة التجاوز والفراغ لا يختص بأبواب الطهارة والصلاة بل يجري في الحج وغيرها كما سيأتي البحث عنه مستوفى إنشاء الله ولم نعثر في غير هذا الباب من أبواب الحج ما يدل عليه ، لعل المتتبع الخبير يعثر على غيره أيضا.

وهناك روايات أخرى خاصة في مختلف أبواب الصلاة والطهارة تتحد مضامينها مع ما ذكرنا لم نتعرض لبيانها وانما اخترنا هذه الروايات السبع من بينها لما فيها من الشواهد والإشارات واضواء تشرق على المباحث الاتية ، يهتدى بحقائقها تحتها كما ستعرف إنشاء الله.

وهذه الروايات وان وردت في أبواب خاصة وليس فيها ما يدل على عموم الحكم كالروايات السابقة ولكنها تكون مؤيدة لها ويشرف الباحث على القطع بعدم اختصاص القاعدة بباب دون باب ، وجريانها في جميع العبادات بل وغيرها من المركبات الشرعية إذا شك في بعض اجزائها وشرائطها أو في أصل وجودها بعد مضى محلها.

ويمكن جعل هذه الاخبار وما يضاهيها دليلا مستقلا بنفسه ، فان استقراء احكام الشرع في أبواب الوضوء والغسل ، والأذان والإقامة والتكبير والقراءة والركوع والسجود

__________________

(١) الجلد التاسع من الوسائل ص ٤٣٣.

(٢) الجلد التاسع من الوسائل ص ٤٣٥.

٢١٩

والطواف ـ مع قطع النظر عن العمومات ـ يوجب الاطمئنان على عدم اختصاص الحكم بباب دون باب وجريان القاعدة في جميع الأبواب ، ولا سيما بعد ملاحظة التعبيرات الواردة فيها مما يشعر أو يدل على عدم اتكاء الحكم على خصوصية المورد بل على عنوان الشك الفراغ والتجاوز وأمثالها فتأمل.

٢ ـ السيرة العقلائية

ويدل على المقصود أيضا استقرار سيرة العقلاء وأهل العرف ـ في الجملة ـ على البناء على صحة العمل بعد مضيه ، ولعله في الحقيقة راجع الى عمومية أصالة الصحة لفعل النفس كما مر في المجلد الأول من كتابنا هذا عند ذكر «قاعدة الصحة» وانه لا فرق فيها بين فعل الغير وفعل النفس خلافا لما يستفاد من صريح كلمات بعضهم وظاهر آخرين من تخصيصها بفعل الغير فقط ، ولذا ذكروا في عناوين كلماتهم هناك «أصالة الصحة في فعل الغير».

وقد عرفت ان دقيق النظر يعطى عدم اختصاص بعض أدلتها به وشمولها لأصالة الصحة في فعل النفس أيضا.

ولذا قال فخر المحققين (قدس‌سره الشريف) في «إيضاح القواعد» في مسئلة الشك في بعض أفعال الطهارة ان الأصل في فعل العاقل المكلف الذي يقصد براءة ذمته بفعل صحيح وهو يعلم الكمية والكيفية الصحة (انتهى).

وهذا الكلام منه ـ كما ترى ـ إشارة إلى قاعدة عامة تجري في فعل الإنسان نفسه وغيره وهو مبنى على ظهور حال الفاعل الذي هو بصدد تفريغ ذمته بفعل صحيح مع علمه باجزاء الفعل وشرائطه ، وهو في قاعدة عقلائية عامة في جميع الافعال وجميع الأبواب.

ولذا لو فرضنا واحدا منا كتب كتابا أو حاسب حسابا أو اقدام على تركيب معجون وهو عالم باجزائه وشرائطه ثمَّ مضت عليه أيام أو شهور فشك في صحة الكتاب أو المحاسبة أو تركيب المعجون من جهة احتمال الإخلال ببعض شرائطه واجزائه غفلتا منه فهل تراه

٢٢٠