التيسير في التفسير للقرآن - ج ٨

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٨

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

وقوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الذين غصبوا آل محمد حقهم ، فيعرض عليهم أعمالهم ، فيحلفون له أنهم لم يعملوا منها شيئا كما حلفوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدنيا حين حلفوا أن لا يردوا الولاية في بني هاشم ، وحين همّوا بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة ، فلما أطلع الله نبيه وأخبره ، حلفوا له أنهم لم يقولوا ذلك ولم يهموا به حتى أنزل الله على رسوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ)(١).

قال : ذلك إذا عرض الله عزوجل ذلك عليهم في القيامة ينكرونه ويحلفون له كما حلفوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو قوله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) أي غلب عليهم الشيطان (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) أي أعوانه (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(٢).

قال سليم بن قيس الهلالي في كتابه : سمعت علي بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : «إن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون فرقة في النار ، وفرقة في الجنّة ، وثلاث عشرة فرقة من الثلاث والسبعين تنتحل مودتنا أهل البيت ، واحدة في الجنة ، واثنتا عشرة في النار.

فأمّا الفرقة الناجية المهدية المؤملة المؤمنة المسلّمة الموفقة المرشدة ، فهي المؤتمنة بي ، وهي المسلمة لأمري المطيعة الناجية المتبرئة من عدوّي ،

__________________

(١) التوبة : ٧٤.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٥٧.

٢١

المحبة لي ، المبغضة لعدوي ، التي عرفت حقي وإمامتي وفرض طاعتي من كتاب الله وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم ترتب ولم تشك لما قد نوّر الله من حقنا في قلوبها وعرفها من فضلنا ، وألهمها وأخذ بنواصيها فأدخلها في شيعتنا ، حتى اطمأنت [قلوبها] واستيقنت يقينا لا يخالطه شك.

إني أنا والأوصياء من بعدي إلى يوم القيامة [هداة مهتدون] الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه في آي من القرآن كثيرة ، وطهّرنا وعصمنا وجعلنا الشهداء على خلقه ، وحجّته في أرضه [وخزانه على علمه ، ومعادن حكمه وتراجمة وحيه] وجعلنا مع القرآن ، وجعل القرآن معنا ، لا نفارقه ولا يفارقنا حتى نرد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حوضه ، كما قال.

فتلك الفرقة من الثلاث والسبعين هي الناجية من النار ، ومن جميع الفتن والضلالات والشّبهات ، وهم من أهل الجنة حقا ، وهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، وجميع الفرق الاثنين والسبعين فرقة هم المدينون بغير الحقّ ، الناصرون لدين الشيطان ، الآخذون عن إبليس وأوليائه ، هم أعداء الله تعالى وأعداء رسوله وأعداء المؤمنين ، يدخلون النار بغير حساب براءة من الله ورسوله ، وأشركوا بالله ورسوله ، وعبدوا غير الله من حيث لا يعلمون ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، يقولون يوم القيامة : والله ربنا ما كنا مشركين ، ويحلفون له كما يحلفون لكم ، ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون» (١).

* س ١١ : ما هو معنى قوله تعالى :

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس : ص ٥٣.

٢٢

خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢) [سورة المجادلة : ٢٢]؟!

الجواب / ١ ـ قال علي بن إبراهيم : قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) الآية ، أي من يؤمن بالله واليوم الآخر لا يؤاخي من حاد الله ورسوله ، قوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) وهم الأئمة عليهم‌السلام (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) قال : الروح : ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو مع الأئمة عليهم‌السلام (١).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ما من مؤمن إلا ولقلبه أذنان في جوفه : أذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس ، وأذن ينفث فيها الملك ، فيؤيد الله المؤمن بالملك ، فذلك قوله تعالى : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)(٢).

وقال أبو خديجة : دخلت على أبي الحسن عليه‌السلام ، فقال لي : «إنّ الله تبارك وتعالى أيّد المؤمن بروح منه تحضره في كل وقت يحسن فيه ويتقي ، وتغيب عنه في كل وقت يذنب فيه ويعتدي ، فهي معه تهتز سرورا عند إحسانه ، وتسيخ في الثرى عند إساءته ، فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقينا وتربحوا نفيسا ثمينا ، رحم الله امرءا همّ بخير فعمله ، أو همّ بشرّ فارتدع عنه» ثم قال : «نحن نزيد الرّوح بالطاعة لله والعمل له» (٣).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام ، : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي قوّاهم» (٤).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إن للقلب أذنين : روح الإيمان يسارّه بالخير ، والشيطان يسارّه بالشرّ ، فأيهما ظهر على صاحبه غلبه».

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٥٨.

(٢) الكافي : ج ٢ ، ص ٢٠٦ ، ح ٣.

(٣) الكافي : ج ٢ ، ص ٢٠٦ ، ح ١.

(٤) التوحيد : ص ١٥٣ ، ح ١.

٢٣

قال : وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إذا زنى الرجل أخرج الله منه روح الإيمان» قلنا : الروح التي قال الله تعالى : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)؟ قال : «نعم».

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن ، إنما عنى ما دام على بطنها ، فإذا توضأ وتاب كان في حال غير ذلك» (١).

وقال محمد بن علي عليه‌السلام ـ ابن الحنفية ـ : إنما حبنا أهل البيت شيء يكتبه الله في أيمن قلب العبد ، ومن كتبه الله في قلبه لا يستطيع أحد محوه ، أما سمعت الله سبحانه يقول : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) إلى آخر الآية ، فحبّنا أهل البيت الإيمان (٢).

٢ ـ قال الطوسي : (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ) أي بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها الأنهار. وقيل : إن أنهارها أخاديد في الأرض ، فلذلك قال : (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). والأنهار جمع نهر (خالِدِينَ فِيها) أي مؤبدين لا يفنون ولا يخرجون منها «رضي الله عنهم» بإخلاص الطاعة منهم (ورضوا عنه) بثواب الجنة (٣).

٣ ـ قال علي بن إبراهيم : قوله تعالى : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) يعني الأئمّة عليهم‌السلام أعوان الله (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٤).

وقال سلمان الفارسي لعليّ أبي طالب عليه‌السلام : يا أبا الحسن ، ما طلعت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا وضرب بين كتفي ، وقال : يا سلمان ، هذا وحزبه هم المفلحون» (٥).

__________________

(١) قرب الإسناد : ص ١٧.

(٢) تأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٦٧٦ ، ح ٨.

(٣) التبيان : ج ٩ ، ص ٥٥٧.

(٤) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٥٨.

(٥) تأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٦٧٦ ، ح ٩ ، النور المشتعل : ص ٢٥٣ ، ح ٧٠.

٢٤

تفسير

سورة الحشر

رقم السورة ـ ٥٩ ـ

٢٥
٢٦

سورة الحشر

* س ١ : ما هو فضل سورة الحشر؟!

الجواب / قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «من قرأ إذا أمسى الرحمن والحشر وكّل الله بداره ملكا شاهرا سيفه حتى يصبح» (١).

ومن (خواص القرآن) : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ هذه السورة كان من حزب الله المفلحين ، ولم يبق جنّة ولا نار ولا عرش ولا كرسي ولا حجب ولا السماوات السبع ولا الأرضون السبع ولا الطير في الهواء ولا الجبال ولا شجر ولا دواب ولا ملائكة ، إلا صلوا عليه واستغفروا له ، وإن مات في يومه أو ليلته كان من أهل الجنّة ، ومن قرأها ليلة الجمعة أمن من البلاء حتى يصبح. ومن صلى أربع ركعات ، يقرأ في كل ركعة الحمد والحشر ويتوجّه إلى أي حاجة شاءها وطلبها ، قضاها الله تعالى ، ما لم تكن معصية» (٢).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كتبها وعلقها وتوجه في حاجة ، قضاها الله له ، ما لم تكن في معصية» (٣).

وقال الصادق عليه‌السلام : ومن كتبها بماء طاهر وشربها رزق الذكاء وقلة النسيان بإذن الله تعالى» (٤).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٢٥٥ وص ٢٥٦.

(٢) البرهان : ج ٩ ، ص ٤٤٩.

(٣) خواصّ القرآن : ص ٢١ «مخطوط».

(٤) خواص القرآن : ص ١٠ «مخطوط».

٢٧

* س ٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥)) [سورة الحشر : ١ ـ ٥]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم : سبب ذلك أنه كان بالمدينة ثلاثة أبطن من اليهود : بنو النّضير ، وقريظة وقينقاع ، وكان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد ومدّة ، فنقضوا عهدهم ، وكان سبب ذلك من بني النضير في نقض عهدهم ، أنه أتاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستسلفهم دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه غيلة ، يعني يستقرض ، وكان قصد كعب بن الأشرف فلما دخل على كعب قال : مرحبا يا أبا القاسم وأهلا ، وقام كأنه يصنع له الطعام ، وحدّث نفسه بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتتبّع أصحابه ، فنزل جبرئيل عليه‌السلام فأخبره بذلك.

فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة ، وقال لمحمد بن مسلمة الأنصاري : «اذهب إلى بني النضير ، فأخبرهم أن الله عزوجل أخبرني بما هممت به من الغدر ، فإما أن تخرجوا من بلادنا ، وإما أن تأذنوا بحرب». فقالوا : نخرج من بلادكم ؛ فبعث إليهم عبد الله بن أبي ، أن لا تخرجوا ، وتقيموا وتنابذوا محمدا الحرب ، فإني أنصركم أنا وقومي وحلفائي ، فإن خرجتم خرجت معكم ، ولئن قاتلتم قاتلت معكم ، فأقاموا وأصلحوا حصونهم وتهيئوا للقتال ، وبعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع.

٢٨

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكبر وكبر أصحابه ، وقال لأمير المؤمنين عليه‌السلام : «تقدّم إلى بني النّضير» فأخذ أمير المؤمنين عليه‌السلام الراية وتقدّم ، وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحاط بحصنهم ، وغدر [بهم] عبد الله بن أبيّ.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ظهر بمقدّم بيوتهم حصّنوا ما يليهم وخرّبوا ما يليه ، وكان الرجل منهم ممّن كان له بيت حسن خرّبه ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقطع نخلهم فجزعوا من ذلك (١) ، فقالوا : يا محمد ، إن الله يأمرك بالفساد؟ إن كان لك هذا فخذوه ، وإن كان لنا فلا تقطعه ؛ فلما كان بعد ذلك قالوا : يا محمد ، نخرج من بلادك فأعطنا مالنا. فقال : «لا ، ولكن تخرجون [ولكم ما حملت الإبل» فلم يقبلوا ذلك فبقوا أياما ، ثم قالوا : نخرج ولنا ما حملت الإبل. قال : «لا ، ولكن تخرجون] ولا يحمل أحد منكم شيئا ، فمن وجدنا معه شيئا قتلناه».

فخرجوا على ذلك ، ووقع قوم منهم إلى فدك ووادي القرى ، وخرج منهم قوم إلى الشام ، فأنزل الله فيهم : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) إلى قوله تعالى : (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) وأنزل الله عليه فيما عابوه من قطع النخل : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) إلى قوله : (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٢).

وأنزل الله عليه في عبد الله بن أبيّ وأصحابه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا

__________________

(١) أقول : وهو قوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) (الحشر : ٥).

(٢) الحشر : ٥ ـ ١٠.

٢٩

نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)(١) ثم قال : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني بني قينقاع (قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢) ، ثم ضرب في عبد الله بن أبي وبني النضير مثلا ، فقال : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ)(٣).

وقال أبو بصير ـ في غزوة بني النضير ـ وزاد فيه : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصار : «إن شئتم دفعت إليكم فيء المهاجرين [منها] ، وإن شئتم قسمتها بينكم وبينهم وتركتهم معكم». قالوا : قد شئنا أن تقسمها فيهم. فقسّمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين ودفعهم عن الأنصار ، ولم يعط من الأنصار إلا رجلين وهما : سهل بن حنيف وأبو دجانة فإنّهما ذكرا حاجة (٤).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «العجوة أم التمر ، وهي التي أنزلها الله عزوجل من الجنة لآدم عليه‌السلام ، وهو قول الله عزوجل : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها) ، قال : «يعني العجوة» (٥).

أقول : جملة (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) ترينا على الأقل أن أحد أهداف هذا العمل ـ وهو قطع النخل ـ هو خزي لهؤلاء ناقضي العهد ، وكسر لشوكتهم وتمزيق لروحيتهم.

__________________

(١) الحشر : ١١ ، ١٢.

(٢) الحشر : ١٥.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٥٨. والآية من سورة الحشر : ١٦ ، ١٧.

(٤) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٦٠.

(٥) الكافي : ج ٦ ، ص ٣٤٧ ، ح ١١.

٣٠

* س ٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧)) [سورة الحشر : ٦ ـ ٧]؟!

الجواب / ١ ـ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «الفيء ما كان من أموال لم يكن فيها هراقة دم أو قتل ، والأنفال مثل ذلك ، هو بمنزلته» (١).

وقال محمد بن مسلم سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : «الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة من الدماء ، وقوم صولحوا وأعطوا بأيديهم ، ما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهو كلّه من الفيء ، فهذا لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما كان لله فهو لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يضعه حيث شاء ، وهو للإمام عليه‌السلام بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوله : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) قال : ألا ترى هو هذا.

وأما قوله : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) فهذا بمنزلة المغنم ، كان أبي عليه‌السلام يقول ذلك ، وليس لنا فيه غير سهمين : سهم الرسول ، وسهم القربى ، نحن شركاء الناس فيما بقي» (٢).

وقال الإمام علي عليه‌السلام «نحن والله الذين عنى الله بذي القربى الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... وقال عليه‌السلام : ولم يجعل لنا سهما في الصّدقة ، أكرم الله نبيّه ، وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس» (٣).

__________________

(١) التهذيب : ج ٤ ، ص ١٣٣ ، ح ٣٧١.

(٢) التهذيب : ج ٤ ، ص ١٣٤ ، ح ٣٧٦.

(٣) الكافي : ج ١ ، ص ٤٥٣ ، ح ١.

٣١

وقال أبو المقدام : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «هذه الآية نزلت فينا خاصة ، فما كان لله وللرسول فهو لنا ، ونحن ذو القربى ، ونحن المساكين ، لا تذهب مسكنتنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبدا ، ونحن أبناء السبيل فلا يعرف سبيل الله إلا بنا ، والأمر كله لنا» (١).

٢ ـ أقول : ثم يستعرض سبحانه فلسفة هذا التقسيم الدقيق بقوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ).

وقد ذكر قسم من المفسرين سببا لنزول هذه الجملة بشكل خاص ، وهو أن مجموعة من زعماء المسلمين قد جاءوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد واقعة بني النضير ، وقالوا له : خذ المنتخب وربع هذه الغنائم ، ودع الباقي لنا نقتسمه بيننا ، كما كان ذلك في زمن الجاهلية. فنزلت الآية أعلاه تحذرهم من عدم تداول هذه الأموال بين الأغنياء فقط.

و (دُولَةً) بفتح الدال وضمها بمعنى واحد ، بالرغم من أن البعض قد وضع فرقا بين الاثنين حيث ذكروا أن (دولة) بفتح الدال تعني الأموال ، أما بضمها فتعني الحرب والمقام ، أو أنهم اعتبروا الأول اسم مصدر ، والثاني مصدر ، وعلى كل حال فإن لها أصلا مشتركا مع مادة تداول بمعنى التعامل من يد إلى أخرى.

٣ ـ قال أبو إسحاق النحوي : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فسمعته يقول : «إن الله عزوجل أدب نبيه على محبته ، فقال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(٢) ثم فوّض إليه فقال عزوجل : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما

__________________

(١) تأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٦٧٧ ، ح ٢.

(٢) القلم : ٤.

٣٢

نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، وقال عزوجل : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ)(١)».

قال : ثم قال : «وإن نبي الله فوض إلى علي عليه‌السلام وائتمنه ، فسلّمتم وجحد الناس ، فو الله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا ، وأن تصمتوا إذا صمتنا ، ونحن فيما بينكم وبين الله عزوجل ، ما جعل الله لأحد خيرا في خلاف أمرنا» (٢).

وقال فضيل بن يسار : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر : «إن الله عزوجل أدّب نبيه فأحسن أدبه ، فلما أكمل له الأدب قال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(٣) ، ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده ، فقال عزوجل : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مسددا موفقا مؤيدا بروح القدس ، لا يزلّ ولا يخطىء في شيء مما يسوس به الخلق ، فتأدب بآداب الله ، ثم إن الله عزوجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين ، عشر ركعات ، فأضاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الركعتين ركعتين ، وإلى المغرب ركعة ، فصارت عديل الفريضة ، لا يجوز تركهن إلا في سفر ، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر ، فأجاز الله عزوجل له ذلك كلّه ، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة.

ثم سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النوافل أربعا وثلاثين ركعة مثلي الفريضة ، فأجاز الله عزوجل له ذلك ، والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة ، منها ركعتان بعد العتمة جالسا تعد بركعة مكان الوتر.

وفرض الله عزوجل في السنة صوم شهر رمضان ، وسن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صوم شعبان ، وثلاثة أيام في كل شهر مثلي الفريضة ، فأجاز الله عزوجل له ذلك.

__________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) الكافي : ج ١ ، ص ٢٠٧ ، ح ١.

(٣) القلم : ٤.

٣٣

وحرّم الله عزوجل الخمر بعينها ، وحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسكر من كل شراب ، فأجاز الله له ذلك.

وعاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام وإنما نهى عنها نهي إعافة وكراهة ، ثم رخص فيها فصار الأخذ برخصه واجبا على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه ، ولم يخرص لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما نهاهم عنه نهي حرام ، ولا فيما أمر به أمر فرض لازم ، فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام لم يرخص فيه لأحد ، ولم يرخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمّهما إلى ما فرض الله عزوجل بل ألزمهم ذلك إلزاما واجبا ، لم يرخص لأحد في شيء من ذلك إلا للمسافر ، وليس لأحد أن يرخص ما لم يرخصه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوافق أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الله عزوجل ، ونهيه نهي الله عزوجل ، ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى» (١).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «قوله عزوجل : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ) وظلم آل محمد ف (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن ظلمهم» (٢).

* س ٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨)) [سورة الحشر : ٨]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : ثم قال سبحانه (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) الذين هاجروا من مكة إلى المدينة ، ومن دار الحرب إلى دار الإسلام (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) التي كانت لهم (يَبْتَغُونَ) أي يطلبون (فَضْلاً

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، ص ٢٠٨ ، ح ٤.

(٢) تأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٦٧٨ ، ح ٣.

٣٤

مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ) أي وينصرون دين الله (وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في الحقيقة عند الله العظيم والمنزلة عنده (١).

* س ٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)) [سورة الحشر : ٩]؟!

الجواب / ١ ـ قال الشيخ الطبرسي : ثم ثنى سبحانه بوصف الأنصار ومدحهم ، حتى طابت أنفسهم عن الفيء فقال : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) يعني المدينة ، وهي دار الهجرة تبوأها الأنصار قبل المهاجرين. وتقدير الآية : والذين تبوأوا الدار من قبلهم (وَالْإِيمانَ) لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين ، وعطف الإيمان على الدار في الظاهر ، لا في المعنى ، لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ والتقدير : وآثروا الإيمان. وقيل : (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم. وقيل : معناه قبل إيمان المهاجرين ، والمراد به أصحاب ليلة العقبة ، وهم سبعون رجلا ، بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حرب الأبيض والأحمر ، (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) ، لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين ، وأسكنوهم دورهم ، وأشركوهم في أموالهم (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أي لا يجدون في قلوبهم حسدا وحزازة وغيظا مما أعطي المهاجرون دونهم ، من مال بني النضير (٢).

٢ ـ قال سماعة : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل ليس عنده إلا قوت يومه ، أيعطف من عنده قوت يومه على من ليس عنده شيء ويعطف من عنده قوت شهر على من دونه ، والسنة على نحو ذلك ، أم ذلك كله الكفاف

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٤٣٢.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٤٣٣.

٣٥

الذي لا يلام عليه؟ فقال : «هو أمران ، أفضلهم فيه أحرصهم على الرغبة والأثرة على نفسه ، فإن الله عزوجل : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) ، والأمر الآخر لا يلام على الكفاف ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول» (١).

وقال جميل بن دراج : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «خياركم سمحاؤكم ، وشراركم بخلاؤكم ، ومن خالص الإيمان البر بالإخوان والسعي في حوائجهم ، وإن البار بالإخوان ليحبه الرحمن ، وفي ذلك مرغمة للشيطان وتزحزح عن النيران ودخول الجنان ، يا جميل ، أخبر بهذا غرر أصحابك». قلت : جعلت فداك من غرر أصحابي؟ قال : «هم البارون بالإخوان في العسر واليسر».

ثم قال : «يا جميل ، أما إنّ صاحب الكثير يهون عليه ذلك ، وقد مدح الله عزوجل في ذلك صاحب القليل ، فقال في كتابه : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٢).

وعن أبي بصير ، عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : قلت له : أي الصدقة أفضل؟ قال : «جهد المقلّ ، أما سمعت قول الله عزوجل : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) ترى ها هنا فضلا؟» (٣).

وقال أبان بن تغلب ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أخبرني عن حق المؤمن على المؤمن؟.

فقال : «يا أبان ، دعه لا ترده».

قلت : بلى جعلت فداك ، فلم أزل أردّد عليه ، فقال : «يا أبان ، تقاسمه

__________________

(١) الكافي : ج ٤ ، ص ١٨ ، ح ١.

(٢) الكافي : ج ٤ ، ص ٤١ ، ح ١٥.

(٣) الكافي : ج ٤ ، ص ١٨ ، ح ٣.

٣٦

شطر مالك» ثم نظر إليّ فرأى ما دخلني ، فقال : «يا أبان ، ألم تعلم أن الله عزوجل قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟» قلت : بلى جعلت فداك فقال : «إذا قاسمته فلم تؤثره بعد ، إنما أنت وهو سواء ، إنما تؤثره إذا أعطيته من النصف الآخر» (١).

وروي : أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكا إليه الجوع ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيوت أزواجه فقلن : ما عندنا إلّا الماء.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من لهذا الرجل الليلة»؟ فقال علي بن أبي طالب عليه‌السلام : «أنا له يا رسول الله ، فأتى فاطمة عليها‌السلام فقال لها : «ما عندك يا ابنة رسول الله؟» فقالت : «ما عندنا إلا قوت الصّبية ، لكّنا نؤثر ضيفنا».

فقال علي عليه‌السلام : «يا ابنة محمد ، نوّمي الصبية ، وأطفئي المصباح» فلما أصبح علي عليه‌السلام غدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخبره الخبر ، فلم يبرح حتى أنزل الله عزوجل : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٢).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «بينا علي عليه‌السلام عند فاطمة عليها‌السلام إذ قالت له : يا علي ، اذهب إلى أبي فابغنا منه شيئا. فقال : نعم. فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعطاه دينارا ، وقال : يا علي اذهب فابتع لأهلك طعاما.

فخرج من عنده فلقيه المقداد بن الأسود (رحمه‌الله) وقاما ما شاء الله أن يقوما وذكر له حاجته ، فأعطاه الدينار وانطلق إلى المسجد ، فوضع رأسه فنام ، فانتظره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يأت ، ثم انتظره فلم يأت ، فخرج يدور في المسجد ، فإذا هو بعلي عليه‌السلام نائما في المسجد فحرّكه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقعد. فقال له : يا عليّ ، ما صنعت؟ فقال : يا رسول الله خرجت من عندك فلقيني

__________________

(١) الكافي : ج ٤ ، ص ١٣٧ ، ح ٨.

(٢) الأمالي : ج ١ ، ص ١٨٨.

٣٧

المقداد بن الأسود ، فذكر لي ما شاء الله أن يذكر فأعطيته الدينار. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما إن جبرئيل عليه‌السلام قد أنبأني بذلك ، وقد أنزل الله فيك كتابا : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) ـ إلى قوله تعالى ـ (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١).

* س ٦ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠)) [سورة الحشر : ١٠]؟!

الجواب / قال الحسن بن علي عليهما‌السلام : في خطبة خطبها عند صلحة مع معاوية ، بمحضر معاوية : فصدق أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سابقا ووقاه بنفسه ، ثم لم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل موطن يقدّمه ، ولكلّ شديدة يرسله ثقة منه به وطمأنينة إليه ، لعلمه بنصيحته لله عزوجل ورسوله [وإنه أقرب المقرّبين من الله ورسوله ، وقد قال الله عزوجل :] (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)(٢) ، فكان أبي سابق السابقين إلى الله عزوجل ، وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقرب الأقربين ، وقد قال الله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً)(٣) ، فأبي كان أولهم إسلاما وإيمانا ، وأولهم إلى الله ورسوله هجرة ولحوقا ، وأولهم على وجده ووسعه نفقة ، قال سبحانه : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ، فالناس من جميع الأمم يستغفرون له لسبقه إياهم إلى الإيمان بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك أنه لم يسبقه به أحد ، وقد قال الله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ

__________________

(١) تأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٦٧٩ ، ح ٥.

(٢) الواقعة : ١٠ ، ١١.

(٣) الحديد : ١٠.

٣٨

بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) (١) ، فهو سابق جميع السابقين ، فكما أن الله عزوجل فضل السابقين على المتخلفين [والمتأخرين ، فكذلك] فضّل سابق السابقين على السابقين» (٢).

وقال ابن عباس : فرض الله الاستغفار لعلي عليه‌السلام في القرآن على كل مسلم ، وهو قوله تعالى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) وهو سابق الأمة (٣).

* س ٧ : ما هو معنى قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)) [سورة الحشر : ١١ ـ ١٨]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : لما وصف سبحانه المهاجرين الذين

__________________

(١) التوبة : ١٠٠.

(٢) الأمالي : ص ١٧٥.

(٣) تأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٦٨١ ، ح ٨.

٣٩

هاجروا الديار والأوطان ، ثم مدح الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان ، ثم ذكر التابعين بإحسان ، وما يستحقونه من النعيم في الجنان ، عقب ذلك بذكر المنافقين ، وما أسروه من الكفر والعصيان فقال : (أَلَمْ تَرَ) يا محمد (إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) فأبطنوا الكفر ، وأظهروا الإيمان (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) في الكفر (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني يهود بني النضير (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من دياركم وبلادكم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) مساعدين لكم (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) أي في قتالكم ومخاصمتكم (أَحَداً أَبَداً) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه. ووعدوهم النصر بقولهم (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) أي لندفعن عنكم. ثم كذبهم الله في ذلك بقوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يقولونه من الخروج معهم ، والدفاع عنهم. ثم أخبر سبحانه أنهم يخلفونهم ما وعدوه من النصر والخروج بقوله : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) أي ولئن قدر وجود نصرهم ، لأن ما نفاه الله تعالى لا يجوز وجوده (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) أي ينهزمون ويسلمونهم. وقيل معناه : لئن نصرهم من يفي منهم لولوا الإدبار. فعلى هذا لا تنافي بين قوله (لا يَنْصُرُونَهُمْ) وقوله (لَئِنْ نَصَرُوهُمْ) فقد أخبر الله تعالى في هذه الآية ، عما لا يكون منهم أن لو كان ، كيف كان يكون. (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي ولو كان لهم هذه القوة ، وفعلوا ، لم ينتفع أولئك بنصرتهم. نزلت الآية قبل إخراج بني النضير ، وأخرجوا بعد ذلك ، وقوتلوا ، فلم يخرج معهم منافق ، ولم ينصروهم كما أخبر الله تعالى بذلك. وقيل : أراد بقوله (لِإِخْوانِهِمُ) بني النضير ، وبني قريظة ، فأخرج بنو النضير ، ولم يخرجوا معهم ، وقوتل بنو قريظة فلم ينصروهم. ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) أي خوفا (فِي صُدُورِهِمْ) أي في قلوب هؤلاء المنافقين (مِنَ اللهِ) المعنى أن خوفهم منكم ، أشد من خوفهم من الله ، لأنهم يشاهدونكم ، ويعرفونكم ، ولا يعرفون

٤٠