التيسير في التفسير للقرآن - ج ٣

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

١
٢

٣

٤

سورة الأنفال

* س ١ : ما هو فضل سورة الأنفال؟!

الجواب / وردت روايات عديدة عن طريق أهل البيت عليهم‌السلام في فضل هذه السورة نذكر منها :

١ ـ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : من قرأ سورة براءة والأنفال في كلّ شهر لم يدخله نفاق أبدا ، وكان من شيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام حقّا ، وأكل يوم القيامة من موائد الجنّة مع شيعته حتّى يفرغ الناس من الحساب» (١).

٢ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ هذه السورة فأنا شفيع له يوم القيامة ، وشاهد أنّه بريء من النّفاق ، وكتبت له الحسنات بعدد كلّ منافق ، ومن كتبها وعلّقها عليه لم يقف بين يدي حاكم إلّا وأخذ حقّه وقضى حاجته ، ولم يتعدّ عليه أحد ولا ينازعه أحد إلّا وظفر به ، وخرج عنه مسرورا ، وكان له حصنا» (٢)

* س ٢ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١) [الأنفال : ١] وما هو سبب نزولها؟!

الجواب / قال إسحاق بن عمّار : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الأنفال ،

__________________

(١) تفسير العيّاشي : ج ٢ ، ص ٤٦ ، وثواب الأعمال : ص ١٠٦.

(٢) خواص القرآن : ص ٤١ (مخطوط).

٥

فقال : «هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها ، فهي لله وللرّسول ، وما كان للملوك فهو للإمام ، وما كان من أرض خربة ، وما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، وكلّ أرض لا ربّ لها والمعادن منها ، ومن مات وليس له مولى ، فما له من الأنفال» (١).

وفي رواية أخرى قال عليه‌السلام فهو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء» (٢).

وقال عليه‌السلام : «من مات وترك دينا فعلينا دينه وإلينا عياله ، ومن مات وترك مالا فلورثته ، ومن مات وليس له موال فماله من الأنفال» (٣).

أما سبب نزولها :

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «نزلت يوم بدر لما انهزم الناس ، وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ثلاث فرق : فصنف كانوا عند خيمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصنف أغاروا على النّهب ، وفرقة طلبت العدوّ وأسروا وغنموا ، فلما جمعوا الغنائم والأسارى ، تكلّمت الأنصار في الأسارى ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (٤). فلمّا أباح الله لهم الأسارى والغنائم تكلّم سعد بن معاذ ، وكان ممّن أقام عند خيمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ما منعنا أن نطلب العدو زهادة في الجهاد ، ولا جبنا من العدو ، ولكنا خفنا أن نعدو موضعك فتميل عليك خيل المشركين ، وقد أقام عند الخيمة وجوه المهاجرين والأنصار ولم يشكّ أحد منهم ، والناسخ كثير ـ يا رسول الله ـ والغنائم قليلة ، ومتى تعطي هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء. وخاف أن يقسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغنائم وأسلاب القتلى بين من قاتل ، ولا يعطي

__________________

(١) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٢٥٤.

(٢) الكافي : ج ١ ، ص ٤٥٣ ، ح ٣.

(٣) الكافي : ج ٧ ، ص ١٦٨ ، ح ١.

(٤) الأنفال : ٦٧.

٦

من تخلّف عند خيمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا ، فاختلفوا فيما بينهم حتّى سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : لمن هذه الغنائم؟ فأنزل الله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) فرجع الناس وليس لهم في الغنيمة شيء.

ثمّ أنزل الله بعد ذلك (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (١) فقسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم ، فقال سعد بن أبي وقّاص : يا رسول الله ، أتعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ثكلتك أمّك ، وهل تنصرون إلّا بضعفائكم؟».

قال : «فلم يخمّس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببدر ، قسّمه بين أصحابه ، ثمّ استقبل يأخذ الخمس بعد بدر ، ونزل قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) بعد انقضاء حرب بدر ، فقد كتب ذلك في أوّل السورة ، وذكر بعده خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الحرب» (٢).

* س ٣ : ما هو تفسير قوله تعالى :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٦) [الأنفال:٢ ـ ٦]؟!

الجواب / قال عليّ بن إبراهيم القميّ : قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٢٥٤.

٧

الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) : إنها نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام وأبي ذرّ وسلمان والمقداد.

وقال : ثمّ ذكر بعد ذلك الأنفال وقسمة الغنائم وخروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الحرب ، فقال : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ) ـ إلى قوله ـ (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) وكان سبب ذلك أنّ عيرا لقريش خرجت إلى الشّام فيها خزائنهم ، فأمر رسول الله أصحابه بالخروج ليأخذوها ، فأخبرهم أنّ الله قد وعده إحدى الطائفتين : إمّا العير ، وإمّا قريش إن ظفر بهم ، فخرج في ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا ، فلمّا قارب بدرا كان أبو سفيان في العير فلمّا بلغه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خرج يتعرّض للعير خاف خوفا شديدا ، ومضى إلى الشام ، فلمّا وافى بهرة (١) اكترى ضمضم الخزاعيّ بعشرة دنانير وأعطاه قلوصا (٢) ، وقال له : امض إلى قريش وأخبرهم أنّ محمدا والصّباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم ، فأدركوا العير ، وأوصاه أن يخرج ناقته ، ويقطع أذنها حتى يسيل الدم ، ويشقّ ثوبه من قبل ودبر ، فإذا دخل مكة ولى وجهه إلى دبر البعير ، وصاح بأعلى صوته : يا آل غالب ، يا آل غالب ، اللطيمة اللطيمة (٣) ، العير العير ، أدركوا أدركوا ، وما أراكم تدركون ، فإنّ محمدا والصّباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم. فخرج ضمضم يبادر إلى مكة.

ورأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم في منامها بثلاثة أيام كأن راكبا قد دخل مكّة ، وهو ينادي : يا آل غالب ، يا آل غالب ، اغدوا إلى مصارعكم ، صبح ثالث. ثم وافى بجمله على أبي قبيس ، فأخذ حجرا

__________________

(١) بهرة : موضع بنواحي المدينة ، أو موضع في اليمامة.

(٢) القلوص من النوق : الشابّة.

(٣) اللطيمة : العير التي تحمل الطيب وبزّ التجّار ، ومنه : يا قوم اللطيمة اللطيمة ، أي أدركوها «أقرب الموارد ـ لطم ـ ج ٢ ، ص ١١٤٥».

٨

فدهدهه من الجبل ، فما ترك دارا من دور قريش إلا أصابه منه فلذة ، وكان وادي مكة قد سال من أسفله دما ، فانتبهت ذعرة ، فأخبرت العبّاس بذلك ، فأخبر العباس عتبة بن ربيعة ، فقال عتبة : هذه مصيبة تحدث في قريش.

وفشت الرّؤيا في قريش ، وبلغ ذلك أبا جهل ، فقال : ما رأت عاتكة هذه الرؤيا ، وهذه نبية ثانية في بني عبد المطلب ، واللات والعزى لننتظرنّ ثلاثة أيام ، فإن كان ما رأت حقا فهو كما رأت ، وإن كان غير ذلك لنكتبن بيننا كتابا أنه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالا ولا نساء من بني هاشم. فلما مضى يوم ، قال أبو جهل : هذا يوم قد مضى. فلما كان اليوم الثاني ، قال أبو جهل : هذان يومان قد مضيا ، فلما كان اليوم الثالث ، وافى ضمضم ينادي في الوادي : يا آل غالب ، يا آل غالب ، اللطيمة اللطيمة ، العير العير ، أدركوا ، أدركوا ، وما أراكم تدركون ، فإن محمدا والصّباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم التي فيها خزائنكم.

فتصايح الناس بمكّة وتهيّأوا للخروج ، وقام سهيل بن عمرو وصفوان بن أميّة وأبو البختري بن هشام ومنبّه ونبيه ابنا الحجّاج ونوفل بن خويلد ، فقالوا : يا معاشر قريش ، والله ما أصابكم مصيبة أعظم من هذه ، أن يطمع محمد والصّباة من أهل يثرب أن يتعرّضوا لعيركم التي فيها خزائنكم ، فو الله ما قرشيّ ولا قرشيّة إلّا ولها في هذا العير نشّ (١) فصاعدا ، وإن هو إلّا الذّلّ والصّغار أن يطمع محمد في أموالكم ، ويفرّق بينكم وبين متجركم ، فاخرجوا.

وأخرج صفوان بن أميّة خمس مائة دينار وجهّز بها ، وأخرج سهيل بن عمرو [خمس مائة] ، وما بقي أحد من عظماء قريش إلّا أخرجوا مالا ،

__________________

(١) النّش : نصف أوقيّة ، ويعادل عشرين درهما. «الصحاح ـ نشش ـ ٣ : ١٠٢١» وفي المصدر : شيء.

٩

وحملوا ووقروا ، وأخرجوا على الصّعبة والذّلول ، لا يملكون أنفسهم ، كما قال الله تعالى : (خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) (١) وخرج معهم العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب ، وأخرجوا معهم القيان (٢) ، يشربون الخمر ويضربون بالدفوف.

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا ، فلما كان بقرب بدر على ليلة منها بعث عديّ بن أبي الزغباء وبسبس بن عمرو يتجسّسان خبر العير ، فأتيا ماء بدر وأناخا راحلتيهما ، واستعذبا من الماء ، وسمعا جاريتين قد تشبّثت إحداهما بالأخرى تطالبها بدرهم كان لها عليها ، فقالت : عير قريش نزلت أمس في موضع كذا وكذا ، وهي تنزل غداها هنا ، وأنا أعمل لهم وأقضيك. فرجعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخبراه بما سمعا ، فأقبل أبو سفيان بالعير ، فلما شارف بدرا تقدّم العير ، وأقبل وحده حتى انتهى إلى ماء بدر ، وكان بها رجل من جهينة ، يقال له مجدي الجهني ، فقال له : مجديّ ، هل لك علم بمحمد وأصحابه؟ قال : لا. قال : واللّات والعزّى ، لئن كتمتنا أمر محمد لا تزال قريش لك معادية إلى آخر الدهر ، فإنه ليس أحد من قريش إلّا وله شيء في هذه العير نش فصاعدا ، فلا تكتمني. فقال : والله ما لي علم بمحمد ، وما بال محمد وأصحابه بالتجّار ، إلّا أني رأيت في هذا اليوم راكبين أقبلا واستعذبا من الماء ، وأناخا راحلتيهما في هذا المكان ورجعا ، فلا أدري من هما. فجاء أبو سفيان إلى موضع مناخ إبلهما ففتّ أبعار الإبل بيده ، فوجد فيها النّوى ، فقال : هذه علائف يثرب ، هؤلاء والله عيون محمد. فرجع مسرعا ، وأمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل البحر ، وتركوا الطريق ومرّوا مسرعين.

__________________

(١) الأنفال : ٤٧٨.

(٢) القيان : جمع قينة : الأمة مغنية كانت أو غير مغنية. «الصحاح ـ قين ـ ٦ : ٢١٨٦».

١٠

ونزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره أن العير قد أفلتت ، وأنّ قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها ، وأمره بالقتال ، ووعده النّصر ، وكان نازلا بالصّفراء (١) ، فأحبّ أن يبلو الأنصار لأنهم إنما وعدوه أن ينصروه في الدار ، فأخبرهم أن العير قد جازت ، وأن قريشا قد أقبلت لتمنع عيرها ، وأنّ الله قد أمرني بمحاربتهم. فجزع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك ، وخافوا خوفا شديدا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أشيروا عليّ». فقام أبو بكر فقال : يا رسول الله ، إنّها قريش وخيلاؤها ، وقد آمنا بك وصدّقناك ، وشهدنا أن ما جئت حق من عند الله! والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا أو شوك الهراس (٢) لخضنا معك ، ولا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (٣) ولكنّا نقول : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فجزاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيرا ، ثم جلس.

ثم قال : «أشيروا عليّ». فقام سعد بن معاذ ، فقال : بأبي أنت وأمّي ـ يا رسول الله ـ كأنّك قد أردتنا؟ فقال : «نعم». قال : فلعلّك خرجت على أمر قد أمرت بغيره؟ قال : «نعم». قال : بأبي أنت وأمّي ، يا رسول الله ، إنا قد آمنا بك وصدّقناك ، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند الله ، فمرنا بما شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، واترك منها ما شئت ، والذي أخذت منه أحبّ إلي من الذي تركت ، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك. فجزاه خيرا ، ثم قال سعد : بأبي أنت وأمّي ، يا رسول الله ، والله ما أخذت هذا الطريق قطّ ، وما لي به علم ، وقد خلّفنا بالمدينة قوما ليس نحن بأشدّ جهادا

__________________

(١) الصفراء : واد من ناحية المدينة ، كثير النخل والزرع ، بينه وبين بدر مرحلة. «معجم البلدان ٣ : ٤١٢».

(٢) الهراس : شوك كأنّه حسك «لسان العرب ـ هرس ـ ٦٠ : ٢٤٧».

(٣) المائدة : ٢٤.

١١

لك منهم ، ولو علموا أنها الحرب لما تخلفوا ، ونحن نعدّ لك الرواحل ونلقى عدوّنا ، فإنا نصبر عند اللقاء ، أنجاد في الحرب ، وإنا لنرجو أن يقر الله عينك بنا ، فإن يك ما تحبّه فهو ذاك ، وإن يك غير ذلك قعدت على راحلتك فلحقت بقومنا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أو يحدث الله غير ذلك ، كأنّي بمصرع فلان ها هنا وبمصرع فلان ها هنا ، وبمصرع أبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومنبّه ونبيه ابني الحجّاج ، فإنّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، ولن يخلف الله الميعاد». فنزل جبرئيل عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الآية (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) إلى قوله : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (١).

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرّحيل حتى نزل عشاء على ماء بدر ، وهي العدوة الشاميّة ، فأقبلت قريش فنزلت بالعدوة اليمانيّة ، وبعثت عبيدها تستعذب من الماء ، فأخذهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبسوهم ، فقالوا لهم : من أنتم؟ قالوا : نحن عبيد قريش. قالوا : فأين العير؟ قالوا : لا علم لنا بالعير. فأقبلوا يضربونهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي ، فانفتل من صلاته ، فقال : «إن صدقوكم ضربتموهم ، وإن كذبوكم تركتموهم! عليّ بهم». فأتوا بهم ، فقال لهم : «من أنتم؟» فقالوا : يا محمد ، نحن عبيد قريش. قال : «كم القوم؟» قالوا : لا علم لنا بعددهم. فقال : «كم ينحرون في كل يوم جزورا؟» قالوا : تسعة إلى عشرة. فقال : «تسع مائة إلى ألف» قال : «فمن فيهم من بني هاشم؟» فقالوا : العباس بن عبد المطلب ، ونوفل بن الحارث ، وعقيل بن أبي طالب. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهم فحبسوا ، وبلغ قريشا ذلك ، فخافوا خوفا شديدا.

__________________

(١) الأنفال : ٥ ـ ٨.

١٢

ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام ، فقال له : أما ترى هذا البغي؟ والله ما أبصر موضع قدمي ، خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت فجئنا بغيا وعدوانا ، والله ما أفلح قط قوم بغوا ، ولوددت أنّ ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهب كله ، ولم نسر هذا المسير.

فقال له أبو البختري : إنك سيد من سادات قريش فسر في الناس وتحمّل العير التي أصابها محمد وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرمي ، فإنّه حليفك.

فقال عتبة : أنت تشير علي بذلك ، وما على أحد منا خلاف إلا ابن حنظلة ـ يعني أبا جهل ـ فسر إليه وأعلمه أني قد تحمّلت العير التي قد أصابها محمد بنخلة ، ودم ابن الحضرميّ.

قال أبو البختري : فقصدت خباءه ، فإذا هو قد أخرج درعا له ، فقلت له : إن أبا الوليد بعثني إليك برسالة. فغضب ثمّ قال : أما وجد عتبة رسولا غيرك؟ فقلت له : أما والله لو غيره أرسلني ما جئت ، ولكن أبا الوليد سيّد العشيرة ، فغضب غضبة أخرى ، وقال : تقول : سيد العشيرة؟!

فقلت : أنا أقول وقريش كلّها تقول ، أنه قد تحمّل العير ، وما أصابه محمد بنخلة ، ودم ابن الحضرمي.

فقال : إن عتبة أطول الناس لسانا ، وأبلغهم في الكلام ، ويتعصّب لمحمد ، فإنه من بني عبد مناف وابنه معه ، ويريد أن يخذل الناس ، لا ، واللات والعزّى حتى نقحم عليهم بيثرب ، ونأخذهم أسارى فندخلهم مكة ، وتتسامع العرب بذلك ، ولا يكون بيننا وبين متجرنا أحد نكرهه.

وبلغ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثرة قريش ، ففزعوا فزعا شديدا ، وبكوا واستغاثوا ، فأنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي

١٣

مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١).

فلمّا أمسى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجنّه الليل ، ألقى الله على أصحابه النّعاس حتى ناموا ، وأنزل الله تبارك وتعالى عليهم الماء ، وكان نزول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موضع لا تثبت فيه القدم ، فأنزل الله عليهم السماء ولبّد (٢) الأرض حتى تثبت أقدامهم ، وهو قول الله تعالى : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) (٣) وذلك أن بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احتلم (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) (٤) وكان المطر على قريش مثل العزالي (٥) ، وعلى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رذاذا بقدر ما لبّد الأرض ، وخافت قريش خوفا شديدا ، فأقبلوا يتحارسون ، يخافون البيات (٦).

فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود ، وقال : «ادخلا في القوم ، واتياني بأخبارهم». فكانا يجولان في عسكرهم ، لا يرون إلّا خائفا ذعرا ، إذا صهل الفرس ثبت على جحفلته (٧) ، فسمعوا منبّه بن الحجّاج يقول :

لا يترك الجوع لنا مبيتا

لا بد أن نموت أو نميتا

__________________

(١) الأنفال : ٨ : ٩ ـ ١٠.

(٢) لبّد المطر والندى الأرض : ألصق بعض ترابها ببعض فصارت قويّة لا تسوخ فيها الأرجل.

(٣) الأنفال ٨ : ١١.

(٤) الأنفال ٨ : ١١.

(٥) يقال للسّحابة إذا انهمرت بالمطر : قد حلّت عزاليها وأرسلت عزاليها. «لسان العرب ـ عزل ـ ١١ : ٤٤٣».

(٦) بيّتهم العدو بياتا : أي أوقع بهم ليلا. «الصحاح ـ بيت ـ ١ : ٢٤٥».

(٧) الجحفلة لذي الحافر : كالشّفّة للإنسان. «مجمع البحرين ـ جحفل ـ ٥ : ٣٣٤».

١٤

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد ـ والله ـ كانوا شباعى ، ولكنهم من الخوف قالوا هذا ، وألقى الله في قلوبهم الرّعب ، كما قال الله تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) (١)».

فلما أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبّأ أصحابه ، وكان في عسكره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرسان : فرس للزّبير بن العوّام ، وفرس للمقداد ، وكان في عسكره سبعون جملا يتعاقبون عليها ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ومرثد بن أبي مرثد الغنوي على جمل [يتعاقبون عليه] ، والجمل لمرثد ، وكان في عسكر قريش أربع مائة فرس ، فعبأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه بين يديه ، وقال : «غضوا أبصاركم ، ولا تبدأوهم بالقتال ، ولا يتكلّمن أحد».

فلما نظرت قريش إلى قلّة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال أبو جهل : ما هم إلّا أكلة (٢) رأس ، لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد. فقال عتبة بن ربيعة : أترى لهم كمينا ومددا؟ فبعثوا عمير بن وهب الجمحي ، وكان فارسا شجاعا ، فجال بفرسه حتى طاف على عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ صعد الوادي وصوّت ، ثم رجع إلى قريش ، فقال : ما لهم كمين ولا مدد ، ولكن نواضح (٣) يثرب قد حملت الموت النافع ، أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون ، يتلمّظون تلمّظ الأفاعي ، ما لهم ملجأ إلا سيوفهم ، وما أراهم يولّون حتى يقتلوا ، ولا يقتلون حتى يقتلوا بعددهم فارتأوا رأيكم. فقال أبو جهل : كذبت وجبنت ، وانتفخ سحرك (٤) حين نظرت إلى سيوف يثرب.

وفزع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين نظروا إلى كثرة قريش وقوّتهم ، فأنزل

__________________

(١) الأنفال : ٨ : ١٢.

(٢) أي قليل يشبعهم رأس واحد.

(٣) الناضح : البعير يستقى عليه ، والجمع نواضح. «الصحاح ـ نضح ـ ١ : ٤١١».

(٤) انتفح سحرك : أي رئتك ، يقال ذلك للجبان «النهاية ٢ : ٣٤٦».

١٥

الله على رسوله : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(١) وقد علم الله أنّهم لا يجنحون ولا يجيبون إلى السّلم ، وإنما أراد سبحانه بذلك لتطيب قلوب أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قريش ، فقال : «يا معشر قريش ، ما أحد من العرب أبغض إلي من أن أبدأكم ، فخلّوني والعرب ، فإن أك صادقا فأنتم أعلى بي عينا ، وإن أك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمري ، فارجعوا».

فقال عتبة : والله ، ما أفلح قوم قطّ ردّوا هذا. ثمّ ركب جملا له أحمر ، فنظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجول في العسكر وينهى عن القتال ، فقال : «إن يكن عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، فإن يطيعوه يرجعوا ويرشدوا». فأقبل عتبة يقول : يا معشر قريش ، اجتمعوا واسمعوا. ثم خطبهم ، فقال : يمن مع رحب ، ورحب مع يمن. يا معشر قريش ، أطيعوني اليوم ، واعصوني الدّهر ، وارجعوا إلى مكّة واشربوا الخمور ، وعانقوا الحور ، فإنّ محمدا له إلّ (٢) وذمّة ، وهو ابن عمّكم ، فارجعوا ولا تردّوا رأيي ، وإنّما تطالبون محمدا بالعير التي أخذوها بنخلة ، ودم ابن الحضرمي ، وهو حليفي وعليّ عقله. فلمّا سمع أبو جهل ذلك غاضه ، وقال : إنّ عتبة أطول الناس لسانا ، وأبلغهم كلاما ، ولئن رجعت قريش بقوله ليكوننّ سيد قريش إلى آخر الدهر. ثم قال : يا عتبة ، نظرت إلى سيوف بني عبد المطلب وجبنت وانتفخ سحرك ، وتأمر الناس بالرجوع وقد رأينا ثأرنا بأعيننا. فنزل عتبة عن جمله ، وحمل على أبي جهل ، وكان على فرس ، فأخذ بشعره ، فقال الناس : يقتله. فعرقب فرسه ، فقال : أمثلي يجبن ، وستعلم قريش اليوم أيّنا ألأم وأجبن ، وأيّنا المفسد لقومه ، لا يمشي إلا أنا وأنت إلى الموت عيانا. ثم قال :

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٦١.

(٢) الإل : العهد والقرابة. «مختار الصحاح : ٢٢».

١٦

هذا جناي وخياره فيه

وكلّ جان يده إلى فيه

ثم أخذ بشعره يجرّه ، فاجتمع إليه الناس ، وقالوا : يا أبا الوليد ، الله الله لا تفتّ في أعضاد الناس ، تنهى عن شيء وتكون أوّله. فخلّصوا أبا جهل من يده.

فنظر عتبة إلى أخيه شيبة ، ونظر إلى ابنه الوليد ، فقال : قم يا بنيّ. فقام ثمّ لبس درعه ، وطلبوا له بيضة تسع رأسه ، فلم يجدوها لعظم هامته ، فاعتجر بعمامتين ، ثم أخذ سيفه وتقدم هو وأخوه وابنه ، ونادى : يا محمّد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قريش. فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار : عوذ (١) ومعوّذ وعوف من بني عفراء ، فقال عتبة : من أنتم ، انتسبوا لنعرفكم؟ فقالوا : نحن بنو عفراء ، أنصار الله ، وأنصار رسوله. فقال : ارجعوا ، فإنّا لسنا إيّاكم نريد ، إنما نريد الأكفاء من قريش. فبعث إليهم رسول الله : «أن ارجعوا». فرجعوا ، وكره أن يكون أول الكرّة بالأنصار ، فرجعوا ووقفوا موقفهم.

ثم نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب ، وكان له سبعون سنة ، فقال له : «قم يا عبيدة». فقام بين يديه بالسّيف ، ثم نظر إلى حمزة بن عبد المطّلب ، فقال : «قم يا عمّ» ثم نظر إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال له : «قم يا علي» وكان أصغرهم ، فقاموا بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسيوفهم وقال : «فاطلبوا بحقّكم الذي جعله الله لكم ، فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها ، تريد أن تطفىء نور الله ، ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره». ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عبيدة ، عليك بالوليد بن عتبة» وقال لحمزة : «عليك بشيبة» وقال لعليّ عليه‌السلام : «عليك بالوليد بن عتبة». فمرّوا حتى انتهوا إلى القوم ، فقال عتبة : من أنتم؟ انتسبوا حتى نعرفكم. فقال عبيدة : أنا عبيدة بن الحارث بن

__________________

(١) في مغازي الواقدي ١ : ٦٨ معاذ ، بدل عوذ.

١٧

عبد المطّلب. فقال : كفؤ كريم ، فمن هذان؟ فقال : حمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب. فقال : كفؤان كريمان ، لعن الله من واقفنا وإيّاكم هذا الموقف. فقال شيبة لحمزة : من أنت؟ فقال : أنا حمزة بن عبد المطّلب ، أسد الله وأسد رسوله. فقال له شيبة : لقد لقيت أسد الحلفاء ، فانظر كيف تكون صولتك ، يا أسد الله.

فحمل عبيدة على عتبة ، فضربه على رأسه ضربة فلق بها هامته ، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فقطعها وسقطا جميعا ، فحمل حمزة على شيبة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما ، وكل واحد يتقي بدرقته ، وحمل أمير المؤمنين عليه‌السلام على الوليد بن عتبة فضربه على عاتقه ، فخرج السيف من إبطه. قال علي عليه‌السلام : «فأخذ يمينه المقطوعة بيساره فضرب بها هامتي ، فظننت أن السّماء وقعت على الأرض». ثم اعتنق حمزة وشيبة ، فقال المسلمون : يا عليّ ، أما ترى الكلب قد أبهر عمّك؟ فحمل عليه علي عليه‌السلام ، ثم قال : «يا عمّ طأطىء رأسك» وكان حمزة أطول من شيبة ، فأدخل حمزة رأسه في صدره ، فضربه أمير المؤمنين عليه‌السلام على رأسه فطنّ نصفه ، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه. وحمل عبيدة بين حمزة وعلي حتى أتيا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنظر إليه رسول الله ، فاستعبر ، فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمّي ، ألست شهيدا؟ قال : «بلى أنت أوّل شهيد من أهل بيتي».

فقال : «أما لو كان عمك حيّ لعلم أني أولى بما قال منه ، قال : «وأيّ أعمامي تريد؟» قال : أبا طالب ، حيث يقول :

كذبتم وبيت الله يبزى (١) محمد

ولّما نطاعن دونه ونناضل

__________________

(١) يبزى : أي يقهر ويغلب ، أراد لا يبزى ، فحذف (لا) من جواب القسم ، وهي مراده ، أي لا يقهر ولم نقاتل عنه وندافع. «النهاية ١ : ١٢٥».

١٨

ونسلمه حتى نصرّع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

***

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أما ترى ابنه كاللّيث العادي بين يدي الله ورسوله ، وابنه الآخر في جهاد الله بأرض الحبشة». فقال : يا رسول الله ، أسخطت عليّ في هذه الحالة. فقال : «ما سخطت عليك ، ولكن ذكرت عمّي فانقبضت لذلك».

وقال أبو جهل لقريش : لا تعجلوا ولا تبطروا كما عجل وبطر أبناء ربيعة ، عليكم بأهل يثرب ، فاجزروهم جزرا ، وعليكم بقريش فخذوهم أخذا حتى ندخلهم مكة ، فنعرّفهم ضلالتهم التي كانوا عليها. وكان فتية من قريش أسلموا بمكة ، فاحتبسهم آباؤهم ، فخرجوا مع قريش إلى بدر وهم على الشّكّ والارتياب والنّفاق ، منهم قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه ، والحارث بن ربيعة ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاص بن المنبّه. فلما نظروا إلى قلّة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالوا : مساكين هؤلاء غرّهم دينهم فيقتلون الساعة. فأنزل الله على رسوله : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(١) وجاء إبليس لعنه الله في صورة سراقة بن مالك ، فقال لهم : أنا جار لكم ادفعوا إليّ رايتكم. فدفعوها إليه ، وجاء بشياطينه يهوّل بهم على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويخيّل إليهم ويفزعهم ، وأقبلت قريش يقدمها إبليس ، معه الراية ، فنظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «غضّوا أبصاركم ، وعضّوا على النواجذ ، ولا تسلّوا سيفا حتى آذن لكم».

ثم رفع يده إلى السّماء ، فقال : يا ربّ ، إن تهلك هذه العصابة لم تعبد ،

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٤٩.

١٩

وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد. ثم أصابه الغشيّ فسرّي عنه وهو يسلت (١) العرق عن وجهه ، ويقول : «هذا جبرئيل قد أتاكم بألف من الملائكة مردفين». قال : فنظرنا فإذا بسحابة سوداء فيها برق لائح قد وقعت على عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقائل يقول : أقدم حيزوم ، أقدم حيزوم. وسمعنا قعقعة السلاح من الجوّ ، ونظر إبليس إلى جبرئيل عليه‌السلام فتراجع ورمى باللّواء ، فأخذ منبّه بن الحجاج بمجامع ثوبه ، ثم قال : ويلك ، يا سراقة ، تفتّ في أعضاد الناس ، فركله إبليس ركلة في صدره ، ثم قال : إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله. وهو قول الله : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢). ثمّ قال عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ)(٣).

قال : وحمل جبرئيل على إبليس فطلبه حتى غاص في البحر ، وقال : يا ربّ ، أنجز لي ما وعدتني من البقاء إلى يوم الدين.

روي في الخبر : أنّ إبليس التفت إلى جبرئيل عليه‌السلام وهو في الهزيمة ، فقال : يا هذا ، أبدا لكم فيما أعطيتمونا؟ فقيل لأبي عبد الله عليه‌السلام : أترى كان يخاف أن يقتله؟ فقال : «لا ، ولكنه كان يضربه ضربة يشينه منها إلى يوم القيامة».

وأنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ)(٤) قال : أطراف الأصابع ، فقد جاءت قريش بخيلائها

__________________

(١) أي يمسحه ويزيله. «انظر : المعجم الوسيط ـ سلت ـ ١ : ٤٤١».

(٢) الأنفال ٨ : ٤٨.

(٣) الأنفال ٨ : ٥٠.

(٤) الأنفال : ٨ : ١٢.

٢٠