التيسير في التفسير للقرآن - ج ٨

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٨

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

في آية أخرى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)(١).

قال : «ثكلتك أمك يا بن الكواء ، هذا المشرق وهذا المغرب ، [وأما] قوله : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) فإن مشرق الشتاء على حدة ، ومشرق الصيف على حدة ، أما تعرف ذلك من قرب الشمس وبعدها؟ وأما قوله : (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) فإن لها ثلاثمائة وستين برجا ، تطلع كل يوم من برج تغيب في آخر ، فلا تعود إليه إلا من قابل في ذلك اليوم» (٢).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : المشارق : الأنبياء ، والمغارب : الأوصياء (صلوات الله عليهم أجمعين)» (٣).

* س ١٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤)) [سورة المعارج : ٤٢ ـ ٤٤]؟!

الجواب / ١ ـ أقول : هذه الآيات والتي هي آخر آيات سورة المعارج جاءت لتنذر وتهدد الكفار المعاندين والمستهزئين والمتعنتين ، يقول سبحانه : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)(٤) لا يلزم الاستدلال والموعظة أكثر من هذا ، فإنهم لا يتعظون وليس لهم الاستعداد للاستيقاظ ، دعهم يخوضون في أباطيلهم وأراجيفهم كلعب الأطفال ولهوهم ،

__________________

(١) الشعراء : ٢٨.

(٢) الاحتجاج : ص ٢٥٩.

(٣) تأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٧٢٥ ، ح ٦.

(٤) يَخُوضُوا : من أصل خوض على وزن حوض وتعني في الأصل الحركة في الماء ، عندئذ تأتي بصيغة الكناية فتستعمل في موارد يغطس فيه الإنسان في الباطل.

٢٢١

إلى يومهم الموعود ، يوم البعث ويرون كل شيء بأعينهم!

٢ ـ قال علي بن إبراهيم ، قوله : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) قال : من القبور (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) ، قال : إلى الداعي ينادون ، قوله : (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) ، قال : نصيبهم ذلة (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)(١).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : في الآية الأخيرة ـ «يعني يوم خروج القائم عليه‌السلام» (٢).

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٨٧.

(٢) تأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٧٢٦ ، ح ٧.

٢٢٢

تفسير سورة

(نوح ـ الجن)

رقم السورة

ـ ٧١ ـ ٧٢ ـ

٢٢٣
٢٢٤

سورة نوح

* س ١ : ما هو فضل سورة نوح؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «من كان يؤمن بالله ويقرأ كتابه ، لا يدع قراءة (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) فأي عبد قرأها محتسبا صابرا في فريضة أو نافلة أسكنه الله تعالى في مساكن الأبرار ، وأعطاه ثلاث جنان مع جنته كرامة من الله ، وزوّجه مائتي حوراء ، وأربعة آلاف ثيب إن شاء الله تعالى» (١).

وقال الصادق عليه‌السلام : «من أدمن قراءتها ليلا أو نهارا لم يمت حتى يرى مقعده في الجنة ، وإذا قرئت في وقت طلب حاجة قضيت بإذن الله تعالى» (٢).

* س ٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦)) [سورة نوح : ١ ـ ٦]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : أخبر سبحانه عن نفسه فقال : (إِنَّا أَرْسَلْنا) أي بعثنا (نُوحاً) رسولا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم

__________________

(١) ثواب الأعمال : ص ١٢٠.

(٢) خواصّ القرآن : ص ١١ «مخطوط».

٢٢٥

عذاب أليم معناه. أرسلنا لينذرهم بالعذاب إن لم يؤمنوا. قال الحسن : أمره أن نذرهم عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة. ثم حكى أن نوحا امتثل ما أمر الله سبحانه به بأن قال : (قالَ يا قَوْمِ) أضافهم إلى نفسه ، فكأنه قال : أنتم عشيرتي يسوؤني ما يسوؤكم (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي مخوف مبين وجوه الأدلة في الوعيد ، وبيان الدين والتوحيد (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) أي اعبدوا الله وحده ، ولا تشركوا به شيئا ، واتقوا معاصيه. (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به ، لأن طاعتي مقرونة بطاعة الله ، وطاعة الله واجبة عليكم ، لمكان نعمه السابقة التي لا توازيها نعمة منعم (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي فإنكم إن فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم. ومن مزيدة. وقيل : إن (مِنْ) ههنا للتبعيض ، والمعنى : يغفر لكم ذنوبكم السالفة ، وهي بعض الذنوب التي تضاف إليكم. ولما كانت ذنوبهم التي يستأنفونها لا يجوز الوعد بغفرانها على الإطلاق لما يكون في ذلك من الإغراء بالقبيح ، قيد سبحانه هذا التقييد. (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وفي هذا دلالة على ثبوت أجلين كأنه شرط في الوعد بالأجل المسمى عبادة الله والتقوى. فلما لم يقع ذلك منهم ، اقتطعوا بعذاب الاستئصال قبل الأجل الأقصى بالأجل الأدنى. ثم قال. (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) يعني الأقصى (إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) صحة ذلك ، وتؤمنون به. قال الحسن : يعني بأجل الله يوم القيامة ، جعله أجلا للبعث. ويجوز أن يكون هذا حكاية عن قول نوح عليه‌السلام لقومه أن يكون إخبارا منه سبحانه عن نفسه. (قالَ) نوح (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) إلى عبادتك ، وخلع الأنداد من دونك ، وإلى الإقرار بنبوتي (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي لم يزدادوا بدعائي إياهم إلا فرارا من قبوله ، ونفارا منه ، وإدبارا عنه. وإنما سمي كفرهم عند دعائه زيادة في الكفر ، لأنهم كانوا على كفر وضلال ، فلما دعاهم نوح عليه‌السلام إلى الإقلاع عن ذلك ، والإقرار به ، ولم يقبلوه فكفروا بذلك ، كان

٢٢٦

ذلك زيادة في الكفر ، لأن الزيادة هي إضافة الشيء إلى مقدار قد كان حاصلا. ولو حصلا جميعا في وقت واحد لم يكن لأحدهما زيادة على الآخر (١).

* س ٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)) [سورة نوح : ٧ ـ ٩]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم القمي ، قوله تعالى : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) قال : استتروا بها (وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) أي عزموا على أن لا يسمعوا شيئا (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) ، قال : دعوتهم سرّا وعلانية (٢).

أقول : وقوله : (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) ، أي : دعوتهم إلى الإيمان في حلقات عامة وبصوت جهور ، ثم لم أكتفي بهذا.

* س ٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)) [سورة نوح : ١٠ ـ ١٤]؟!

الجواب / ١ ـ قال زرارة : وفد أبو جعفر عليه‌السلام إلى هشام بن عبد الملك فأبطأ عليه الإذن حتى اغتمّ ، وكان له حاجب كبير لا يولد له ، فدنا منه أبو جعفر عليه‌السلام فقال له : «هل لك أن توصلني إلى هشام وأعلّمك دعاء يولد

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ١٣١ ـ ١٣٢.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٨٧.

٢٢٧

لك؟» قال : نعم ، فأوصله إلى هشام ، وقضى له جميع حوائجه.

قال : فلما فرغ قال له الحاجب : جعلت فداك ، الدعاء الذي قلت لي؟ قال له : «نعم قل في كل يوم إذا أصبحت وأمسيت : سبحان الله ، سبعين مرة ، وتستغفر عشر مرات ، وتسبح تسع مرات ، وتختم العاشرة بالاستغفار ، ثم تقول قول الله عزوجل : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) فقالها الحاجب فرزق ذرية طيبة كثيرة ، وكان بعد ذلك يصل أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما‌السلام.

فقال سليمان : ففعلتها ، وقد تزوجت ابنة عم لي ، فأبطأ علي الولد منها ، فعلّمتها أهلي فرزقت ولدا ، وزعمت المرأة أنها متى تشاء أن تحمل حملت إذا قالتها وعلّمتها غير واحد من الهاشميّين ممن لم يكن يولد لهم ، فولد لهم ولد كثير والحمد لله (١).

٢ ـ قال علي بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، في قوله تعالى : (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) ، قال : «لا تخافون لله عظمة» (٢).

وقال قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) ، قال : على اختلاف الأهواء والإرادات والمشيئات» (٣).

* س ٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ

__________________

(١) الكافي : ج ٦ ، ص ٨ ، ح ٥.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٨٧.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٨٧.

٢٢٨

إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) (٢٢) [سورة نوح : ١٥ ـ ٢٢]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : ثم خاطب سبحانه المكلفين منبها لهم على توحيده ، فقال : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي واحدة فوق الأخرى كالقباب

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) قيل فيه وجوه أحدها : إن المعنى وجعل القمر نورا في السماوات والأرض ، عن ابن عباس قال : يضيء ظهره لما يليه من السماوات ، ويضيء وجهه لأهل الأرض ، وكذلك الشمس ، وثانيها : إن معنى فيهن معهن. يعني : وجعل القمر معهن أي مع خلق السماوات نورا ، لأهل الأرض وثالثها : إن معنى فيهن في حيزهن ، وإن كان في واحدة منها ، كما تقول إن في هذه الدور لبئرا ، وإن كانت في واحدة منها ، لأن ما كان في إحداهن كان فيهن ، وكما تقول : أتيت بني تميم ، وإنما أتيت بعضهم. (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي مصباحا يضيء لأهل الأرض لما كانت الشمس ، جعل فيها النور للاستضاءة به كانت سراجا ، فهي سراج العالم كما أن المصباح سراج الإنسان (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) يعني مبتدأ خلق آدم ، وآدم خلق من الأرض والناس ولده وهذا كقوله : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) وقيل : معناه أنه أنشأ جميع الخلق باغتذاء ما تنبته الأرض ، ونما فيها. وقيل : معناه أنبتكم من الأرض بالكبر بعد الصغر ، وبالطول بعد القصر. (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) أي في الأرض أمواتا (وَيُخْرِجُكُمْ) منها عند البعث أحياء (إِخْراجاً) وإنما ذكر المصدر تأكيدا (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) أي مبسوطة ليمكنكم المشي عليها ، والاستقرار فيها. ثم بين أنه إنما جعلها كذلك (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) أي طرقا واسعة. وقيل : طرقا مختلفة. وقيل : سبلا في الصحارى ، وفجاجا في الجبال. وإنما عدد سبحانه هذه الضروب من

٢٢٩

النعم ، امتنانا على خلقه ، وتنبيها لهم على استحقاقه للعبادة ، خالصة من كل شرك ، ودلالة لهم على أنه عالم بمصالحهم ، ومدبر لهم على ما تقتضيه الحكمة ، فيجب أن لا يقابلوا هذه النعم الجليلة بالكفر والجحود.

ثم عاد سبحانه إلى ذكر نوح عليه‌السلام بقوله : (قالَ نُوحٌ) على سبيل الدعاء (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) «فيما أمرتهم به ، ونهيتهم عنه يعني قومه (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي واتبعوا أغنياء قومهم اغترارا بما آتاهم الله من المال والولد ، فقالوا : لو كان هذا رسولا لله ، لكان له ثروة وغنى. وقرىء ولده وولده بالضم والفتح. فالولد : الجماعة من الأولاد. والولد. الواحد. وقيل : هما سواء. والخسار : الهلاك بذهاب رأس المال. وقيل : إن معناه اتبع الفقراء والسفلة الرؤساء الذين لم يزدهم كثرة المال والأولاد إلا هلاكا في الدنيا ، وعقوبة في الآخرة (وَمَكَرُوا) في دين الله (مَكْراً كُبَّاراً) أي كبيرا عظيما. وقيل : معناه قالوا قولا عظيما. وقيل : اجترأوا على الله ، وكذبوا رسله ، وقيل : مكرهم تحريشهم سفلتهم على قتل نوح عليه‌السلام (١).

* س ٦ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧)) [سورة نوح : ٢٣ ـ ٢٧]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم : كان قوم مؤمنون قبل نوح عليه‌السلام فماتوا ، فحزن عليهم الناس ، فجاء إبليس فاتخذ لهم صورهم ليأنسوا بها فأنسوا ، فلما

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ١٣٦ ـ ١٣٧.

٢٣٠

جاءهم الشتاء أدخلوها البيوت ، فمضى ذلك القرن وجاء القرن الآخر ، فجاءهم إبليس فقال لهم : إن هؤلاء الآلهة كانوا آباؤكم يعبدونها ، فعبدوهم وضلّ منهم بشر كثير ، فدعا عليهم نوح عليه‌السلام حتى أهلكهم الله (١).

وقال جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، في قول الله عزوجل : (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) ، قال : «كانوا يعبدون الله عزوجل فماتوا ، فضجّ قومهم وشق ذلك عليهم ، فجاءهم إبليس لعنه الله ، فقال لهم : اتخذ لكم أصناما على صورهم فتنظرون إليهم وتأنسون بهم وتعبدون الله ، فأعد لهم أصناما على مثالهم ، فكانوا يعبدون الله عزوجل [وينظرون إلى تلك الأصنام ، فلما جاءهم الشتاء والأمطار أدخلوا الأصنام البيوت ، فلم يزالوا يعبدون الله عزوجل] حتى هلك ذلك القرن ونشأ أولادهم فقالوا : إن آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء ، فعبدوهم من دون الله عزوجل ، وذلك قول الله عزوجل : (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً) الآية» (٢).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كانت قريش تلطخ الأصنام التي كانت حول الكعبة بالمسك والعنبر ، وكان يغوث قبال الباب ، وكان يعوق عن يمين الكعبة ، وكان نسر عن يسارها ، وكانوا إذا دخلوا خرّوا سجّدا ليغوث ولا ينحنون ، ثم يستديرون بحيالهم إلى يعوق ، ثم يستديرون بحيالهم إلى نسر ، ثم يلبون فيقولون : لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك ، قال : فبعث الله ذبابا أخضر له أربعة أجنحة ، فلم يبق من ذلك المسك والعنبر شيئا إلا أكله ، وأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(٣) (٤).

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٨٧.

(٢) علل الشرائع : ص ٣ ، ح ١.

(٣) الحج : ٧٣.

(٤) الكافي : ج ٤ ، ص ٥٤٢ ، ح ١١.

٢٣١

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ولبث نوح عليه‌السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، يدعوهم إلى الله عزّ ذكره ، فيهزءون به ويسخرون منه ، فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم ، فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) ، فأوحى الله عزوجل إلى نوح عليه‌السلام أن أصنع السفينة وأوسعها وعجل عملها ، فعمل نوح عليه‌السلام سفينة في مسجد الكوفة [بيده] فأتى بالخشب من بعد حتى فرغ منها».

قال المفضل : فانقطع حديث أبي عبد الله عليه‌السلام عند زوال الشمس ، فقام أبو عبد الله عليه‌السلام فصلى الظهر والعصر ، ثم انصرف من المسجد ، فالتفت عن يساره ، وأشار بيده إلى موضع دار الداريّين (١) ، وهو موضع دار ابن حكيم ، وذلك فرات اليوم ، فقال : «يا مفضّل ، وهاهنا نصبت أصنام قوم نوح : يغوث ويعوق ونسرا» (٢).

وقال الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام : «لما أظهر الله تبارك وتعالى نبوّة نوح عليه‌السلام وأيقن الشيعة بالفرج ، اشتدّت البلوى وعظمت الغربة إلى أن آل الأمر إلى شدة شديدة نالت الشيعة ، والوثوب على نوح عليه‌السلام بالضرب المبرّح ، حتى مكث عليه‌السلام في بعض الأوقات مغشيّا عليه ثلاثة أيام يجري الدم من أذنه ، ثم أفاق ، وذلك بعد ثلاثمائة سنة من مبعثه ، وهو في خلال ذلك يدعوهم ليلا ونهارا فيهربون ، ويدعوهم سرا فلا يجيبون ، ويدعوهم علانية فيولون.

فهمّ بعد ثلاثمائة سنة بالدّعاء عليهم ، وجلس بعد صلاة الفجر للدعاء ، فهبط إليه وفد من السماء السابعة ، وهم ثلاثة أملاك ، فسلّموا عليه ، ثم قالوا : يا نبي الله لنا حاجة. قال : وما هي؟ قالوا : تؤخّر الدعاء على قومك ، فإنها

__________________

(١) الدّاري : العطار. «لسان العرب : ج ٤ ، ص ٢٩٩».

(٢) الكافي : ج ٨ ، ص ٢٨٠ ، ح ٤٢١.

٢٣٢

أول سطوة لله عزوجل في الأرض ، قال : قد أخرت الدعاء ثلاثمائة سنة أخرى ، وعاد إليهم ، فصنع ما كان يصنع ، ويفعلون ما كانوا يفعلون ، حتى إذا انقضت ثلاثمائة سنة أخرى ويئس من إيمانهم ، جلس في وقت ضحى النهار للدعاء ، فهبط عليه وفد من السماء السادسة وهم ثلاثمائة أملاك فسلّموا عليه ، وقالوا : نحن وفد من السماء السادسة خرجنا بكرة وجئناك ضحوة ، ثم سألوه مثل ما سأله وفد السماء السابعة ، فأجابهم إلى مثل ما أجاب أولئك الثلاثة.

وعاد عليه‌السلام إلى قومه يدعوهم فلا يزيدهم دعاؤه إلا فرارا ، حتى انقضت ثلاثمائة سنة أخرى تتمّة تسعمائة سنة ، فصارت إليه الشيعة ، وشكوا ما ينالهم من العامة والطواغيت وسألوه الدّعاء بالفرج ، فأجابهم إلى ذلك وصلّى ودعا ، فهبط عليه جبرئيل عليه‌السلام. فقال له : إن الله تبارك وتعالى قد أجاب دعوتك فقل للشيعة يأكلون التمر ويغرسون النّوى ويراعونه حتى يثمر ، فإذا أثمر فرّجت عنهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، وعرفهم ذلك فاستبشروا به ، فأكلوا التمر وغرسوا النوى وراعوه حتى أثمر ، ثم صاروا إلى نوح عليه‌السلام بالتمر ، وسألوه أن ينجز لهم الوعد ، فسأل الله تعالى في ذلك ، فأوحى الله إليه : قل لهم : كلوا هذا التمر ، وأغرسوا النّوى ، فإذا أثمر فرّجت عنكم.

فلمّا ظنوا أن الخلف قد وقع عليه ، ارتدّ منهم الثلث وثبت الثلثان ، فأكلوا التمر وغرسوا النوى حتى إذا أثمر أتوا به نوحا عليه‌السلام ، فأخبروه وسألوه أن ينجز لهم الوعد ، فسأل الله تعالى في ذلك ، فأوحى الله إليه قل لهم : كلوا هذا التمر ، وأغرسوا النّوى ، فارتدّ الثلث الآخر وبقي الثّلث ، فأكلوا التمر وغرسوا النّوى ، فلمّا أثمر أتوا به نوحا عليه‌السلام فقالوا : لم يبق منا إلا القليل ونحن نتخوّف على أنفسنا بتأخر الفرج أن نهلك ، فصلى نوح عليه‌السلام ثم قال : يا رب ، لم يبق من أصحابي إلا هذه العصابة ، وإني أخاف عليهم الهلاك إن تأخر عنهم الفرج ، فأوحى الله عزوجل إليه : قد أجبت دعاءك ، فاصنع

٢٣٣

الفلك ، وكان بين إجابة الدّعاء والطوفان خمسون سنة» (١).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام في قوله : (اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً)(٢) ، يقول : «بعضها فوق بعض» ، وقوله : (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) قال : «كانت ودّ صنما لكلب ، وكانت سواع لهذيل ، وكانت يغوث لمراد ، وكانت يعوقا لهمدان ، وكانت نسر لحصين». (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) ، قال : «هلاكا وتدميرا (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) فأهلكهم الله» (٣).

وقال صالح بن ميثم : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ما كان علم نوح عليه‌السلام حين دعا لى قومه أنهم لا يلدوا إلا فاجرا كفّارا؟ فقال : «أما سمعت قول الله عزوجل لنوح : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)(٤)» (٥).

* س ٧ : ما هو معنى قوله تعالى :

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨)) [سورة نوح : ٢٨]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنما يعني الولاية ، من دخل في الولاية دخل في بيت الأنبياء عليهم‌السلام ، وقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٦) يعني الأئمة عليهم‌السلام وولايتهم ،

__________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة : ص ١٣٣ ، ح ٢.

(٢) نوح : ١٥.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٨٧.

(٤) هود : ٣٦.

(٥) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٨٨.

(٦) الأحزاب : ٣٣.

٢٣٤

من دخل فيها دخل في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

وقال ابن عباس ، في قوله تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) وقد كان قبر علي بن أبي طالب عليه‌السلام مع نوح عليه‌السلام في السفينة ، فلمّا خرج من السفينة ترك قبره خارج الكوفة ، فسأل نوح عليه‌السلام ربّه المغفرة لعلي وفاطمة عليهما‌السلام وهو قوله : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ، ثم قال : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) يعني الظلمة لأهل بيت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِلَّا تَباراً)(٢).

وقال علي بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، في قوله : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) ، «التبار : الخسار» (٣).

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، ص ٣٥٠ ، ح ٥٤.

(٢) المناقب : ج ٣ ، ص ٣٠٩.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٨٨.

٢٣٥
٢٣٦

سورة الجنّ

* س ١ : ما هو فضل سورة الجنّ؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «من أكثر قراءة (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ) لم يصبه في الحياة الدنيا شيء من أعين الجنّ ولا نفثهم ولا سحرهم ولا كيدهم ، كان مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقول : يا ربّ لا أريد منه بدلا ، ولا أبغي عنه حولا» (١).

ومن (خواص القرآن) : روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ هذه السورة كان له من الأجر بعدد كلّ جني وشيطان صدق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو كذّب به عتق رقبة ، وأمن من الجنّ» (٢).

وقال الصادق عليه‌السلام : «قراءتها تهرّب الجانّ من الموضع ، ومن قرأها وهو قاصد إلى سلطان جائر أمن منه ، ومن قرأها وهو مغلغل سهل الله عليه خروجه ، ومن أدمن في قراءتها وهو في ضيق فتح الله له باب الفرج بإذن الله تعالى» (٣).

* س ٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا

__________________

(١) ثواب الأعمال : ص ١٢٠.

(٢) خواص القرآن : ص ١١ «مخطوط».

(٣) خواص القرآن : ص ١١ «مخطوط».

٢٣٧

وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥)) [سورة الجنّ : ١ ـ ٥]؟!

الجواب / ١ ـ قال علي بن إبراهيم ـ في حكاية الجنّ ـ : وكان سبب نزولها أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من مكّة إلى سوق عكاظ ، ومعه زيد بن حارثة ، يدعو الناس إلى الإسلام ، فلم يجبه أحد ، ولم يجد من يقبله ، ثمّ رجع إلى مكّة ، فلمّا بلغ موضعا [يقال] له : وادي مجنّة تهجّد بالقرآن في جوف الليل ، فمرّ به نفر من الجنّ ، فلمّا سمعوا قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، استمعوا له ، فلمّا سمعوا قراءته ، قال بعضهم لبعض : (أَنْصِتُوا) ، يعني اسكتوا : (فَلَمَّا قُضِيَ) ، أي فرغ : (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) قالوا (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ) إلى قوله تعالى : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، فجاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأسلموا وآمنوا ، وعلمهم شرائع الإسلام ، فأنزل على نبيه : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) ، السورة كلها ، فحكى [الله] عزوجل قولهم وولّى عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانوا يعودون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ وقت ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يعلّمهم ويفقههم ، فمنهم مؤمنون وكافرون وناصبون ، ويهود ونصارى ومجوس ، وهم ولد الجانّ (١).

وقال الطبرسي في (الاحتجاج) : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد سأله يهوديّ ، قال اليهوديّ : فإنّ هذا سليمان سخّرت له الشياطين ، يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل.

قال له علي عليه‌السلام : «لقد كان كذلك ، ولقد أعطي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من هذا ، إنّ الشياطين سخرت لسليمان وهي مقيمة على كفرها ، وسخرت لنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشياطين بالإيمان ، فأقبل إليه من الجنّ تسعة من أشرافهم ، واحد

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٢٩٨.

٢٣٨

من جنّ نصيبين ، والثمان من بني عمرو بن عامر من الأحجة ، منهم شضاه ، ومضاه ، والهملكان ، والمرزبان ، والمازمان ، ونضاه ، وهضب ، وعمرو ، وهم الذين يقول الله تبارك وتعالى اسمه فيهم : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) وهم التسعة ، فأقبل إليه الجنّ والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببطن النخل ، فاعتذروا بأنهم ظنّوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ، ولقد أقبل إليه أحد وسبعون ألفا منهم ، فبايعوه على الصوم والصلاة والزكاة والحجّ والجهاد ونصح المسلمين ، واعتذروا بأنهم قالوا على الله شططا ، وهذا أفضل ممّا أعطي سليمان ، سبحان من سخّرها لنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن كانت تتمرّد وتزعم أن لله ولدا ، ولقد شمل مبعثه من الجن والإنس ما لا يحصى» (١).

٢ ـ أقول : قالت الجن بعد سماعهم للقرآن : (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) التعبير بالرشد تعبير واسع وجامع ويمكن أن يتخذ معاني كثيرة ، وهو الطريق المستقيم من دون اعوجاج ، وهو الضياء والوضوح الذي يوصل المتعلقين به إلى محل السعادة والكمال.

٣ ـ قال علي بن إبراهيم القمي : قوله تعالى : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) : هو شيء قالته الجنّ بجهالة فلم يرضه الله منهم ، ومعنى جدّ ربنا ، أي بخت ربنا.

قوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) أي ظلما (٢).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام ، في قول الجنّ : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) فقال : «شيء كذبه الجن فقصه الله كما قالوا» (٣).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : «شيئان يفسد الناس بهما صلاتهم : قول الرجل :

__________________

(١) الاحتجاج : ص ٢٢٢.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٨٨.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٨٨.

٢٣٩

تبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك ، وإنما هو شيء قالته الجنّ بجهالة ، فحكى الله عزوجل عنهم. وقول الرجل : السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (١)» (٢).

٥ ـ أقول : ثم قالوا : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) يحتمل أن يكون هذا هو التقليد الأعمى للغير حيث كانوا يشركون بالله وينسبون إليه الأولاد ، ويقولون : لقد كنا نصدقهم بحسن ظننا بهم ، وما كنا نظنهم يتجرؤون على الله بهذه الأكاذيب ، ونحن إذ نخطىء هذا التقليد المزيف لما عرفنا من الحق والإيمان بالقرآن ، فإننا نقر بما التبس علينا ، وبانحراف المشركين من الجن.

* س ٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦)) [سورة الجنّ : ٦]؟!

الجواب / قال زرارة : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) ـ قال : ـ كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الذي يوحي إليه الشيطان فيقول : قل لشيطانك : فلان قد عاذ بك» (٣).

وقال علي بن إبراهيم : كان الجنّ ينزلون على قوم من الإنس ، ويخبرونهم الأخبار التي يسمعونها في السماء من قبل مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١) قال المجلسي (رحمه‌الله) : قلنا : الظاهر أن الإفساد للإتيان به في التشهّد الأول ، كما تفعله العامة. وفي الثاني مخرج ولا تبطل به الصلاة ، كما عليه الأخبار الكثيرة. «ملاذ الأخيار : ج ٤ ، ص ٤٧٢».

(٢) التهذيب : ج ٢ ، ص ٣١٦ ، ح ١٢٩٠.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٨٩.

٢٤٠