التيسير في التفسير للقرآن - ج ٨

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٨

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

١
٢

٣

٤

سورة المجادلة

* س ١ : ما هو فضل سورة المجادلة؟!

الجواب / تقدّم في سورة الحديد ذكر بعض الروايات في فضلها :

ومن (خواصّ القرآن) : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قرأ هذه السورة كان يوم القيامة من حزب الله المفلحين. ومن كتبها وعلقها على مريض ، أو قرأها عليه ، سكن عنه ما يؤلمه. وإن قرئت على ما يدفن أو يحرز ، حفظته إلى أن يخرجه صاحبه» (١).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : «من قرأها عند مريض نوّمته وسكنته. وإذا أدمن على قراءتها ليلا أو نهارا حفظ من كل طارق. وإن قرئت على ما يخزن أو يدفن يحفظ إلى أن يخرج من ذلك الموضع. وإذا كتبت وطرحت في الحبوب ، زال عنها ما يفسدها ويتلفها بإذن الله تعالى» (٢).

* س ٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ

__________________

(١) خواص القرآن : ص ٩ «مخطوط».

(٢) خواص القرآن : ص ١٠ «مخطوط».

٥

شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤)) [سورة المجادلة : ١ ـ ٤]؟!

الجواب / قال أبو جعفر عليه‌السلام : «إن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : إن امرأة من المسلمين أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت له : يا رسول الله ، إن فلانا زوجي قد نثرت له بطني (١) ، وأعنته على دنياه وآخرته ، فلم ير مني مكروها ، وأنا أشكوه إلى الله عزوجل وإليك. قال : مما تشتكينه؟ قالت له : إنه قال لي اليوم : إنت علي حرام كظهر أمي ، وقد أخرجني من منزلي ، فانظر في أمري.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أنزل الله علي كتابا أقضي به بينك وبين زوجك ، وأنا أكره أن أكون من المتكلفين ؛ فجعلت تبكي وتشتكي ما بها إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانصرفت ، فسمع الله عزوجل محاورتها لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زوجها وما شكت إليه ، فأنزل الله عزوجل قرآنا (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) ، يعني محاورتها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زوجها : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ).

فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المرأة فأتته ، فقال لها : جيئيني بزوجك ؛ فأتته به ، فقال له : أقلت لامرأتك هذه : أنت عليّ حرام كظهر أمي؟ قال : قد قلت لها ذلك ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد أنزل الله عزوجل فيك وفي امرأتك قرآنا ، فقرأ عليه ما أنزل الله من قوله : (قَدْ سَمِعَ اللهُ) إلى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) فضم امرأتك إليك ، فإنك قد قلت منكرا من القول وزورا قد

__________________

(١) نثرت المرأة بطنها : كثر ولدها. «المعجم الوسيط : ج ٢ ، ص ٩٠».

٦

عفا الله عنك وغفر لك ، فلا تعد ، فانصرف الرجل وهو نادم على ما قال لامرأته.

وكره الله ذلك للمؤمنين بعد ، فأنزل الله عزوجل : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ) منكم (مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) يعني لما قال الرجل لامرأته : أنت علي حرام كظهر أمّي ، قال : فمن قالها بعدما عفا الله وغفر للرجل الأول ، فإن عليه : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) يعني مجامعتها (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) فجعل الله عقوبة من ظاهر بعد النهي هذا ، وقال : (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) فجعل الله عزوجل هذا حد الظّهار».

قال حمران : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «ولا يكون ظهار في يمين ، ولا في إضرار ، ولا في غضب ، ولا يكون ظهار إلا على طهر بغير جماع بشهادة شاهدين مسلمين» (١).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام في قوله عزوجل : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) ، قال : «من مرض أو عطاش» (٢).

وقال جميل بن درّاج : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يقول لامرأته : أنت علي كظهر عمتي أو خالتي؟ قال : «هو الظّهار».

قال : وسألناه عن الظهار متى يقع على صاحبه الكفّارة؟ فقال : «إذا أراد أن يواقع امرأته».

قلت : فإن طلّقها قبل أن يواقعها ، أعليه كفارة؟ قال : «لا ، سقطت الكفارة عنه». قلت : فإن صام بعضا ثم مرض فأفطر ، أيستقبل أم يتم ما بقي

__________________

(١) الكافي : ج ٦ ، ص ١٥٢ ، ح ١.

(٢) الكافي : ج ٤ ، ص ١١٦ ، ح ١.

٧

عليه؟ فقال : «إن صام شهرا فمرض استقبل ، وإن زاد على الشهر الآخر يوما أو يومين بنى على ما بقي».

قال : وقال : «الحرة والمملوكة سواء ، غير أن على المملوك نصف ما على الحرّ من الكفارة ، وليس عليه عتق ولا صدقة ، إنما عليه صيام شهر» (١).

وقال علي بن إبراهيم : كان سبب نزول هذه السورة ، أنه أول من ظاهر في الإسلام كان رجلا يقال له أوس بن الصامت من الأنصار ، وكان شيخا كبيرا ، فغضب على أهله يوما ، فقال لها : أنت علي كظهر أمي ، ثم ندم على ذلك ، قال : وكان الرجل في الجاهلية إذا قال لأهله : أنت عليّ كظهر أمي ، حرمت عليه إلى آخر الأبد.

وقال أوس [لأهله] : يا خولة ، إنا كنا نحرم هذا في الجاهلية ، وقد أتانا الله بالإسلام ، فاذهبي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسليه عن ذلك ، فأتت خولة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله إن أوس بن الصامت زوجي وأبو ولدي وابن عمي ، فقال لي : أنت علي كظهر أمي ، وكنا نحرم ذلك في الجاهلية ، وقد آتانا الله الإسلام بك ، فأنزل الله السورة (٢).

أقول : وقوله : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) : يجدر الانتباه إلى أن مصطلح «الكفر» له معاني مختلفة ، واحد منها هو الكفر العملي الذي يعني المعصية واقتراف الذنوب ، وقد أريد في الآية الكريمة هذا المعنى ، وكما جاء في آية أخرى بالنسبة للمتخلفين عن أداء فريضة الحج ، حيث يقول سبحانه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).

و «حد» بمعنى الشيء الذي يفصل بين شيئين ، ومن هنا يقال لحدود

__________________

(١) الكافي : ج ٦ ، ص ١٥٥ ، ح ١٠.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٥٣.

٨

البلدان (حُدُودُ) وبهذا اللحاظ يقال للقوانين الإلهية إنها حدود ، وذلك لحرمة تجاوزها.

* س ٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦)) [سورة المجادلة : ٥ ـ ٦]؟!

الجواب / قال الشيخ الطوسي : ثم قال (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) والمحادة المخالفة في الحدود أي من خالف الله ورسوله فيما ذكراه من الحدود (كُبِتُوا) أي أخذوا ـ في قول قتادة وقال غيره : أذلوا. وقال الفراء : معناه أغيظوا واحزنوا يوم الخندق (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني من قاتل الأنبياء من قبلهم. ثم قال تعالى (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) أي حجج واضحات من القرآن وما فيه من الأدلة. ثم قال (وَلِلْكافِرِينَ) أي للجاحدين لما أنزلناه من القرآن والآيات (عَذابٌ مُهِينٌ) أي يهينهم ويخزيهم.

ولما قال الله تعالى أن الكافرين لحدود الله لهم عذاب مهين ، بين متى يكون ذلك ، فقال (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي يحشرهم إلى أرض المحشر ويعيدهم أحياء (فَيُنَبِّئُهُمْ) أي يخبرهم ويعلمهم (بِما عَمِلُوا) في دار الدنيا من المعاصي وارتكاب القبائح ، ثم قال (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) أي أحصاه الله عليهم وأثبته في كتاب أعمالهم ونسوه هم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ومعناه أنه يعلم الأشياء كلها من جميع وجوهها لا يخفى عليه شيء من ذلك وإن كان كثيرا من الأشياء لا يصح مشاهدتها ولا إدراكها ، ومنه قوله (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي علم ذلك (١).

__________________

(١) التبيان : ج ٩ ، ص ٥٤٦.

٩

* س ٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧)) [سورة المجادلة : ٧]؟!

الجواب / ١ ـ أقول : تبين الآية في مقدمتها حضور الله سبحانه في كل مكان وعلمه بكل شيء فيقول تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ) والرؤيا هنا بمعنى الشهود القلبي والعلم والمعرفة. بالرغم من أن ظاهر الحديث هنا للرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أن المقصود هو عموم الناس ، وهذه في الحقيقة مقدمة لبيان مسألة النجوى.

٢ ـ قال أبو عبد الله عليه‌السلام ، في قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) ، فقال : «هو واحد ، واحديّ الذات ، بائن من خلقه ، وبذاك وصف نفسه ، وهو بكل شيء محيط بالإشراف والإحاطة والقدرة ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بالإحاطة والعلم لا بالذات ، لأنّ الأماكن محدودة تحويها حدود أربعة ، فإذا كان بالذات لزمها الحواية» (١).

وقال أحمد بن محمد البرقي ـ في حديث رفعه ـ سأل الجاثليق أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ وذكر الحديث إلى أن قال : ـ فأخبرني عن الله عزوجل ، أين هو؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «هو ها هنا وها هنا وفوق وتحت ومحيط بنا ومعنا ، وهو قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا)(٢).

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، ص ٩٨ ، ح ٥.

(٢) الكافي : ج ١ ، ص ١٠١ ، ح ١.

١٠

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «نزلت هذه الآية في فلان ، وفلان ، وأبي عبيدة بن الجراح ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسالم مولى أبي حذيفة ، والمغيرة بن شعبة ، حيث كتبوا الكتاب بينهم ، وتعاهدوا وتوافقوا : لئن مضى محمد لا تكون الخلافة في بني هاشم ولا النبوّة أبدا ، فأنزل الله عزوجل فيهم هذه الآية» (١).

وقال أبو إبراهيم موسى بن جعفر عليه‌السلام : «إن الله تبارك وتعالى كان لم يزل بلا زمان ولا مكان ، وهو الآن كما كان ، لا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مكان ولا [يحل في مكان ، ما] يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، ولا خمسة إلا هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ، ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، لا إله إلّا هو الكبير المتعال» (٢).

وفي الحديث المعروف (الإهليلجة) نقرأ عن الإمام الصادق عليه‌السلام : إن الله تعالى سمي السميع بسبب أنه لا يتناجى ثلاثة أشخاص إلا هو رابعهم. ثم يضيف يسمع دبيب النمل على الصفا وخفقان الطير في الهواء ، لا يخفى عليه خافية ، ولا شيء مما تدركه الأسماع والأبصار ، وما لا تدركه الأسماع والأبصار ، ما جلّ من ذلك وما صغّر وما كبّر» (٣).

٣ ـ أقول : أن الحديث في نهاية الآية يتجاوز النجوى ، حيث أن الله مع الإنسان في كل مكان ويطّلع على أعمال البشر في يوم القيامة ... وتنتهي الآية بالإحاطة العلمية لله سبحانه ، كما ابتدأت بالإحاطة العلمية بالنسبة لكل شيء.

__________________

(١) الكافي : ج ٨ ، ص ١٧٩ ، ح ٢٠٢.

(٢) التوحيد : ص ١٧٨ ، ح ١٢.

(٣) نور الثقلين : ج ٥ ، ص ٢٥٨ ، ح ٢١.

١١

* س ٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨)) [سورة المجادلة : ٨]؟!

الجواب / ١ ـ قال علي بن إبراهيم ، في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) ، قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسألونه أن يسأل الله لهم ، وكانوا يسألون ما لا يحل لهم ، فأنزل الله عزوجل : (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) ، وقولهم له إذا أتوه : أنعم صباحا ، [و] أنعم مساء ، وهي تحية أهل الجاهلية ، فأنزل الله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أبدلنا بخير من ذلك : تحية أهل الجنة ، السّلام عليكم» (١).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : «دخل يهوديّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعائشة عنده ، فقال : السّام (٢) عليكم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليكم ، ثم دخل آخر ، فقال مثل ذلك ، فردّ عليه كما ردّ على صاحبه ، ثم دخل آخر ، فقال مثل ذلك ، فرد عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما رد على صاحبيه ، فغضبت عائشة ، فقالت : عليكم السّام والغضب واللعنة يا معشر اليهود ويا إخوة القردة والخنازير.

فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عائشة ، إن الفحش لو كان ممثلا لكان مثال سوء ، وإن الرفق لم يوضع على شيء قط إلا زانه ، ولا يرفع عنه قطّ إلا شانه.

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٥٤.

(٢) أي الموت. «النهاية : ج ٢ ، ص ٤٠٤».

١٢

فقالت : يا رسول الله ، أما سمعت إلى قولهم : السام عليكم؟ فقال : بلى ، أما سمعت ما رددت عليهم؟ قلت : عليكم ، فإذا سلم عليكم مسلم فقولوا : سلام عليكم ، وإذا سلم عليكم كافر فقولوا : عليك» (١).

٢ ـ قال الشيخ الطوسي : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) قال كانوا يقولون : إن كان نبيا صادقا هلا يعذبنا الله بما نقول من النجوى وغيره. فقال الله تعالى لهم (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) أي كافيهم جهنم (يَصْلَوْنَها) يوم القيامة ويحترقون فيها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي بئس المرجع والمال لما فيها من أنواع العقاب (٢).

* س ٦ : ما هو سبب نزول قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩)) [سورة المجادلة : ٩]؟!

الجواب / قال أبو سعيد الخدري : كانت أمارة المنافقين بغض علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [في المسجد ذات يوم في نفر من المهاجرين والأنصار ، وكنت فيهم ، إذا أقبل علي عليه‌السلام فتخطى القوم حتى جلس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] وكان هناك مجلسه الذي يعرف فيه ، فسار رجل رجلا وكانا يرميان بالنفاق ، فعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أرادا ، فغضب غضبا شديدا حتى التمع وجهه ، ثم قال : «والذي نفسي بيده ، لا يدخل عبد الجنة حتى يحبني ، وكذب من زعم أنه يحبني ويبغض هذا». وأخذ بكفّ علي عليه‌السلام ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية في شأنهما : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) إلى آخر الآية (٣).

__________________

(١) الكافي : ج ٢ ، ص ٤٧٤ ، ح ١.

(٢) التبيان : ج ٩ ، ص ٥٤٩.

(٣) الأمالي : ج ٢ ، ص ٢١٧.

١٣

* س ٧ : ما هو سبب نزول قوله تعالى :

(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠)) [سورة المجادلة : ١٠]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كان سبب نزول هذه الآية أن فاطمة عليها‌السلام رأت في منامها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم همّ أن يخرج هو وفاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم‌السلام من المدينة ، فخرجوا حتى جازوا من حيطان المدينة فعرض لهم طريقان ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات اليمين حتى انتهى بهم إلى موضع فيه نخل وماء ، فاشترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاة ذرآء ـ وهي التي في أحد أذنيها نقط بيض ـ فأمر بذبحها ، فلما أكلوا ماتوا في مكانهم ، فانتبهت فاطمة عليها‌السلام ، باكية ذعرة ، فلم تخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك.

فلما أصبحت ، جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحمار ، فأركب عليه فاطمة عليها‌السلام ، وأمر أن يخرج أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم‌السلام من المدينة كما رأت فاطمة في نومها ، فلمّا خرجوا من حيطان المدينة عرض لهم طريقان ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات اليمين كما رأت فاطمة عليها‌السلام حتى انتهوا إلى موضع فيه نخل وماء ، فاشترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاة ذرآء كما رأت فاطمة عليها‌السلام ، فأمر بذبحها ، فذبحت وشويت ، فلما أرادوا أكلها قامت فاطمة عليها‌السلام وتنحّت ناحية منهم تبكي مخافة أن يموتوا ، فطلبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى وقع عليها وهي تبكي ، فقال : ما شأنك يا بنية؟ قالت : يا رسول الله ، إني رأيت البارحة كذا وكذا في نومي ، وفعلت أنت كما رأيته ، فتنحّيت عنكم لأن لا أراكم تموتون.

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلّى ركعتين ، ثم ناجى ربه فنزل عليه جبرئيل عليه‌السلام ، فقال : يا رسول الله ، هذا شيطان يقال له : الرهاط ، وهو الذي أرى فاطمة هذه الرؤيا ، ويؤذي المؤمنين في نومهم ما يغتمون به ، فأمر جبرئيل [أن يأتي به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] ، فجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له :

١٤

أنت الذي أريت فاطمة هذه الرؤيا؟ فقال : نعم يا محمد ، فبصق عليه ثلاث بصقات ، فشجّه في ثلاث مواضع.

ثم قال جبرئيل عليه‌السلام : قل يا رسول الله ، إذا رأيت في منامك شيئا تكرهه ، أو رأى أحد من المؤمنين ، فليقل : أعوذ بما عاذت به ملائكة الله المقربون وأنبياؤه المرسلون وعباده الصالحون من شرّ ما رأيت من رؤياي ، ويقرأ الحمد والمعوذتين وقل هو الله أحد ، ويتفل عن يساره ثلاث تفلات ، فإنه لا يضره ما رأى ، فأنزل الله على رسوله : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) الآية» (١).

* س ٨ : ما هو معنى قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١)) [سورة المجادلة : ١١]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم ، في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل المسجد يقوم له الناس ، فنهاهم الله أن يقوموا له ، فقال : (تَفَسَّحُوا) أي وسعوا [له] في المجلس (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) يعني إذا قال : قوموا ، فقوموا (٢).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا دخل منزلا قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل» (٣).

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٥٥ ، بحار الأنوار : ج ٤٣ ، ص ٩٠ ، ح ١٤.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٥٦.

(٣) الكافي : ج ٢ ، ص ٤٨٤ ، ح ٦.

١٥

وقال الطبرسي في (الاحتجاج) : روي عن الحسن العسكري عليه‌السلام : «أنه اتصل بأبي الحسن علي بن محمد العسكري عليهما‌السلام أن رجلا من فقهاء شيعته كلم بعض النصاب فأفحمه بحجته حتى أبان عن فضيحته ، فدخل على عليّ بن محمد عليهما‌السلام وفي صدر مجلسه دست (١) عظيم منصوب ، وهو قاعد خارج الدّست ، وبحضرته خلق من العلويين وبني هاشم ، فما زال يرفعه حتى أجلسه في ذلك الدّست ، وأقبل عليه فاشتد ذلك على أولئك الأشراف ، فأما العلوية فأجلوه عن العتاب ، وأما الهاشميون ، فقال له شيخهم : يا بن رسول الله ، هكذا تؤثر عاميا على سادات بني هاشم من الطالبيّين والعباسيّين؟

فقال عليه‌السلام : إيّاكم وأن تكونوا من الذين قال الله تعالى [فيهم] : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ)(٢) ، أترضون بكتاب الله عزوجل حكما؟ قالوا : بلى. قال : أليس الله يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) إلى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) ، فلم يرض للعالم المؤمن إلا أن يرفع على المؤمن غير العالم كما لم يرض للمؤمن إلا أن يرفع على من ليس بمؤمن؟ أخبروني عنه ، هل قال : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) ، أو قال : يرفع الله الذين أوتوا شرف النّسب درجات؟ أو ليس قال الله : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٣) ، فكيف تنكروه رفعي لهذا لما رفعه الله ، إن كسر هذا لفلان الناصب بحجج الله التي علمه إياها لأفضل له من كل شرف في النّسب.

فقال العباسيّ : يا بن رسول الله ، قد شرفت علينا وقصرتنا عمن ليس له

__________________

(١) الدّست : المجلس ، أو الوسادة ، «أقرب الموارد : ج ١ ، ص ٣٣٢».

(٢) آل عمران : ٢٣.

(٣) الزمر : ٩.

١٦

نسب كنسبنا ، وما زال منذ أول الإسلام يقدم الأفضل في الشرف على من دونه فيه.

فقال عليه‌السلام : سبحان الله ، أليس العباس بايع لأبي بكر وهو تيمي ، والعباس هاشمي؟ أو ليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطاب وهو هاشمي أبو الخلفاء وعمر عدويّ؟ وما بال عمر أدخل البعداء من قريش في الشورى ولم يدخل العباس؟ فإن كان رفعنا لمن ليس بهاشمي على هاشمي منكرا ، فأنكروا على العباس بيعته لأبي بكر وعلى عبد الله بن العباس خدمته لعمر بعد بيعته ، فإن كان ذلك جائزا فهذا جائز ، فكأنما ألقم الهاشمي حجرا».

قال : وروي عن علي بن محمد الهادي عليه‌السلام أنّه قال : «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه‌السلام من العلماء الداعين إليه ، والدالّين عليه ، والذابّين عن دينه بحجج الله ، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ، ومن فخاخ النواصب ، لما بقي أحد إلّا ارتد عن دين الله ، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها ، أولئك هم الأفضلون عند الله عزوجل» (١).

وقال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : «... وأمّا الخبير فالذي لا يعزب عنه شيء ، ولا يفوته شيء ، ليس للتجربة ولا للاعتبار بالأشياء فتفيده التجربة والاعتبار علما لولاهما ما علم ، لأنّ من كان كذلك كان جاهلا ، والله لم يزل خبيرا بما يخلق ، والخبير من الناس المستخبر عن جهل المتعلم ، وقد جمعنا الاسم واختلف المعنى» (٢).

__________________

(١) الاحتجاج : ص ٤٥٤.

(٢) التوحيد : ص ١٨٨ ، ح ٢.

١٧

* س ٩ : ما هو معنى قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣)) [سورة المجادلة : ١٢ ـ ١٣]؟!

الجواب / قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : «لقد علم المستحفظون من أصحاب النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه ليس فيهم رجل له منقبة إلا وقد شركته فيها وفضلته ، ولي سبعون منقبة لم يشركني فيها أحد منهم».

قال مكحول : قلت : يا أمير المؤمنين ، فأخبرني بهنّ؟ فقال عليه‌السلام : «إن أول منقبة ـ وذكر السبعين وقال في ذلك ـ وأمّا الرابعة والعشرون ، فإن الله عزوجل أنزل على رسوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) فكان لي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتصدّق قبل ذلك بدرهم ، وو الله ما فعل هذا أحد غيري من أصحابه قبلي ولا بعدي فأنزل الله عزوجل : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) الآية ، فهل تكون التوبة إلا من ذنب كان؟» (١).

وقال ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) ، [قال : إنه حرم كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم رخص لهم في كلامه بالصدقة] فكان إذا أراد الرجل أن يكلمه تصدق بدرهم ثم كلمه بما يريد ، قال : فكفّ الناس عن [كلام] رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبخلوا أن يتصدقوا قبل كلامه ، فتصدّق علي عليه‌السلام بدينار كان له ، فباعه بعشرة دراهم في عشر كلمات سألهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يفعل ذلك أحد من المسلمين

__________________

(١) الخصال : ص ٥٧٤ ، ح ١.

١٨

غيره ، وبخل أهل الميسرة أن يفعلوا ذلك ، فقال المنافقون : ما صنع علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي صنع من الصدقة لا أنه أراد أن يروّج لابن عمه ؛ فأنزل الله تبارك وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ) من إمساكها (وَأَطْهَرُ) يقول : وأزكى لكم من المعصية (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) الصدقة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَأَشْفَقْتُمْ) يقول الحكيم : ءأشفقتم يا أهل الميسرة (أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ) يقول قدّام نجواكم ، يعني كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (صَدَقاتٍ) على الفقراء (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) يا أهل الميسرة (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) يعني تجاوز عنكم إذ لم تفعلوا (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) يقول : أقيموا الصلوات الخمس (وَآتُوا الزَّكاةَ) يعني أعطوا الزكاة ، يقول : تصدّقوا ، فنسخت ما أمروا به عند المناجاة بإتمام الصلاة وإيتاء الزكاة (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بالصدقة في الفريضة والتطوّع (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [أي بما تنفقون خبير](١).

قال شرف الدين : ونقلت من مؤلّف شيخنا أبي جعفر الطوسي (رحمه‌الله) : أنه في جامع الترمذي وتفسير الثعلبي بإسناده ، عن علي بن علقمة الأنماري يرفعه إلى علي عليه‌السلام ، أنه قال : «[بي] خفف الله عن هذه الأمة ، لأن الله امتحن الصحابة بهذه الآية ، فتقاعسوا عن مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان قد احتجب في منزله من مناجاة كل أحد إلا من تصدق بصدقة ، وكان معي دينار فتصدقت به ، فكنت أنا سبب التوبة من الله على المسلمين حين عملت بالآية ، ولو لم يعمل بها أحد لنزل العذاب ، لامتناع الكل من العمل بها».

قلت : الروايات في ذلك كثيرة يطول بها الكتاب من الخاصّة والعامة (٢).

__________________

(١) تأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٦٧٤ ، ح ٦.

(٢) تأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٦٧٥ ، ح ٧ ، سنن الترمذي : ج ٥ ، ص ٤٠٦ ، ح ٣٣٠٠ ، غاية المرام : ص ٣٤٩ ، ح ٤.

١٩

* س ١٠ : ما هو معنى قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١)) [سورة المجادلة : ١٤ ـ ٢١]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم : نزلت في الثاني ، لأنه مر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو جالس عند رجل من اليهود يكتب خبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنزل الله جلّ وعزّ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) فجاء الثاني إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له رسول الله : «رأيتك تكتب عن اليهود وقد نهى الله عن ذلك؟». فقال : يا رسول الله ، كتبت عنه ما في التوراة من صفتك ، وأقبل يقرأ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو غضبان ، فقال له رجل من الأنصار : ويلك ، أما ترى غضب رسول الله عليك؟ فقال : أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ، إني إنما كتبت ذلك لما وجدت فيه من خبرك؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا فلان ، لو أن موسى بن عمران فيهم قائما ثم أتيته رغبة عما جئت به لكنت كافرا [بما جئت به] وهو قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي حجابا بينهم وبين الكفار ، وإيمانهم إقرار باللسان فرقا (١) من السيف ورفع الجزية».

__________________

(١) الفرق : الخوف. «لسان العرب : ج ١٠ ، ص ٣٠٤».

٢٠